الجسد

407 14 4
                                    

كلنا من أصل واحد .. من خامة واحدة . و لكن لكل منا فرديته الخاصة به . و الفرق بين مخلوق و مخلوق ليس مجرّد فرق كمي في الذرات , و إنما هناك فرق أكبر و أعقد في العلاقات بين تلك الذرات و في كيفيات الترابط بينها . و نعلم الآن من أمر توليف الجينات الوراثية في الخلية الأولى أن جميع الأجنة الآدمية يتم توليفها من أكثر من عشرين حرفاً كيميائياً من بروتين DNA و RNA كما تتألف جميع الكتب و المؤلفات من الحروف الأبجدية , فيكون لكل كتاب روحه و شخصيته و نوعيته كمخلوق مستقل متفرد مع أن جميع الكتب مؤلفة من الحروف نفسها . و يبلغ هذا التفرد لدرجة أن ينفرد كل واحد ببصمة خاصة مختلفة . لا تتشابه بصمتان لاثنين و لو كانا توأمين منذ بدء الخليقة إلى الآن برغم آلاف آلاف و ملايين ملايين الملايين من الأفراد . و نعلم الآن أن لكل جسد شفرة كيميائية خاصة به بحيث يصبح من العسير و أحياناً من المستحيل ترقيع جسدٍ بقطعةٍ من جسد آخر .. فما يلبث أن يرفض الجسد الرقعة الغريبة كما لو كانت ميكروباً أو جسماً أجنبياً أو استعماراً و هذه هي كبرى المشكلات في جراحات الترقيع و نقل الأعضاء . و أطول مدة عاشها قلب منقول كانت عشرين شهراً و تحت مطر مستمر من حقن التخدير و الأقراص المضادة للحساسية لمنع الجسد من رفض العضو الغريب . و معنى هذا أن الفردية و التفرد حقيقة جوهرية يشهد بها العلم .. و هي حقيقة لم التفت إليها في بداية تطوري الفكري .. و اعتقدت بأن الجوهري و الباقي هو المجتمع و ليس الفرد .. الإنسان و ليس فلاناً , و الحياة و ليس الأحياء .. الوجود لا الموجودات , الكل و ليس الآحاد . و هذا أثر من آثار فلسفة وحدة الوجود الهندية القائلة إن الوجود هو الله و هو الباقي أما جميع الموجودات فهي MAYA و المايا هي الوهم الزائل . و كل فرد مصيره إلى فناء حقيقي لا بعث بعده , و اعتقدت بأن خلود الفرد هو بقدر ما يترك لأولاده من توجيه و تربية و علوم و معارف . أما هو ذاته فإنه ينتهي إلى التراب إلى غير عودة . نصيبنا من الخلود هو ما نضيفه إلى وعاء الكل . أما شخوصنا و أفردنا فمصيرها إلى العدم . و ما الشخصية ؟! لم أفهم من الشخصية قي البداية أكثر من أنها ردود فعل ظرفية على مواقف مؤقتة . و بالتالي حينما تنتهي هذه الظروف و تتغيّر الأوقات لا يبقى من الشخصية شيء .. و مآلها أن تتفكك بالشيخوخة نتيجة تفكك ألياف الترابط الموجودة بالمخ و حين تفسد الأعصاب و تفنى بالموت تفنى الذات الخاصة بها . اعتقدت أن الشخصية ليست سوى انفصال محدد لصفات معينة بتأثير تجارب حية و أفعال منعكسة عصبية .. بعضها موروث في شكل غرائز و بعضها مكتسب عن طريق الممارسة الحسية .. و هذه الممارسة تسجل في المخ و تنطبع على الذاكرة . فإذا انتهى المخ و تعفنت خلايا الذاكرة فلا محل لافتراض بقاء آخر روحاني لهذا الترابط المادي البحت . بهذا الفهم المادي المسطح تصورت الإنسان في البداية , و كنت أقول لنفسي إن الشخصية ليست شيئاً واحداً و إنما هي سيل من الشخصيات المختلفة لا تنقطع عن الجريان .. فشخصيتي في سن العاشرة غيرها في سن العشرين غيرها في سن الثلاثين .. و في كل لحظة هناك شيء يضاف إلى نفسي و شيء ينقص منها .. فأية واحدة من هذه النفوس سوف تبعث و تعاقب ؟ و هؤلاء المصابون بانقسام الشخصية أيهما سوف يذهب إلى العالم الآخر الدكتور جيكل أم مستر هايد ؟ و نسيت بهذا التلاعب اللفظي الحقيقة الأولية البسيطة أننا حينما نطبع من الكتاب طبعة ثانية فإننا لا نطبع صفحةً أو فصلاً , و إنما نطبعه كله في أصوله ليصدر كلّه في أصوله . و هكذا يكون بعث الروح ككل بكل فصولها و أصولها كما تنبت البذرة من ظلام الأرض حاوية لكل إمكانيات الفروع و الأوراق و الثمار . و لكن النظرة المادية التي تميل بطبيعتها إلى التحليل و التشريح و التقطيع كانت هي الغالبة طول الوقت و لهذا كانت تغيب عني دائماً صورة الأمور في كليتها و كنت أتصور أني يمكن أن أفهم الروح إذا شرحت الجسد إذ لا فرق بين الاثنين الروح هي البدن و العقل هو المخ و الشخصية هي ردود الفعل و مجموع الأفعال المنعكسة و العاطفة في نهاية الأمر جوع جسماني . و نقف الآن وقفة طويلة لنسأل : هل صحيح أن النفس ما هي إلا مجرد حوافز الجوع و الجنس و مجموعة الاستشعارات التي يدرك بها الجسد ما يحتاجه ؟ لو قلنا هذا فنحن أمام تفسير مادي متهافت فما هكذا حقيقة النفس و لا حقيقة الإنسان .. و أعود إلى صفحات كتاب لغز الموت و لغز الحياة حيث ناقشت الموضوع بالتفصيل . إن الإنسان ليضحي بلقمته و بيته و فراشه الدافئ في سبيل أهداف و مُثل و غايات شديدة التجريد كالعدل و الحق و الخير و الحرية .. فأين حوافز الجوع و الجنس هنا ؟ .. و المحارب المقاتل في الميدان الذي يضحي بنفسه على مدفعه في سبيل غد لم يأت بعد .. أين هو من التفسير المادي ؟ إننا أمام إثبات قاطع بأن النفس و الذات حقيقة متجاوزة و عالية على الجسد ة ليست مجرد احتياجات الجسد الحسية معكوسة في مرآة داخلية . تلك الإدارة الهائلة التي تدوس على الجسد و تضحي به هي حقيقة متجاوزة عالية بطبيعتها و آمرة و مهيمنة على الجسد و ليست للجسد تبعاً و ذيلاً . و إذا كنت أنا الجسد فكيف أتحكم في الجسد و أخضعه ؟ و إذا كنت أنا الجوع فكيف أتحكم في الجوع ؟ إن مجرد الهيمنة الداخلية على جميع عناصر الجسد و مفردات الغرائز هي الشهادة الكاشفة عن ذلك العنصر المتعالي و المفارق الذي تتألف منه الذات الإنسانية . عن طريق النفس أتحكم في الجسد . و عن طريق العقل أتحكم في النفس . و عن طريق البصيرة أضع للعقل حدوده . هذا التفاضل بين وجود ووجود يعلو عليه و يحكمه هو الإثبات الواقعي الذي يقودنا إلى الروح كحقيقة عالية متجاوزة للجسد و حاكمة عليه و ليست ذيلاً و تابعاً تموت بموته .  

رحلتي من الشك الي الايمان Where stories live. Discover now