الروح

170 6 0
                                    

من هنا لا يصح القول بالحتميات في المجال الإنساني أمثال حتمية الصراع الطبقي و الجبرية التاريخية لأن الإنسان مجال حر و ليس مسماراً أو ترساً في ماكينة . و كما لا يمكن التنبؤ بما يأتي به الغد في حياة فرد فإنه يستحيل القول بالحتم أو الجبر في مجال المجتمعات و التاريخ .. و كل ما يمكن القول به هو الترجيح و الاحتمال بناء على مقدمات إحصائية .. و هو ترجيح يخطئ و يصيب و يحدث فيه تفاوت في طرفيه .. فمعدل عمر الإنسان في انجلترا مثلاً هو ستون سنة .. و هذا المعدل معدل إحصائي مأخوذ من متوسطات أرقام .. و هو غير ملزم بالنسبة للفرد , فقد يعيش فرد مثل برناردشو في انجلترا أكثر من تسعين سنة و يتجاوز المعدل . و قد يموت في سن العشرين في حادثة . و قد يموت و هو طفل بمرضٍ معدٍ .. ثم إن المعدل ذاته قابل للتذبذب من طرفيه صعوداً و هبوطاً من سنة لأخرى .. فلا يصح القول بالحتمية و الجبر في هذا الموضوع .. و لا يجوز إخضاع المجال الإنساني سواء كان فرداً أو مجتمعاً أو تاريخاً لقالب نظري أو معادلة أو حسبة إحصائية أو فرض فلسفي . إنما تأتي فكرة الحتمية الخاطئة من التصور الخاطئ للإنسان على أنه جسد بلا نفس وبلا روح وبلا عقل ..واعتبار النفس والعقل مجرد مجموعة الوظائف العليا للجهاز العصبي. ومن الواقع المشاهد من خضوع الجسم للقوانين الفسيولوجية يستنتج المفكر المادي أن الإنسان والإنسانية بأسرها مغلولة في القوانين المادية. وهكذا يجعل من الإنسان كتلة مادية أشبه بكتلة القمر محكومة في دورانه حول الأرض والشمس بالحتميات الفلكية. وينسى أن الإنسان يعيش في مستويين. مستوى الزمن الخارجي الموضوعي المادي.. زمن الساعة..وفي هذا الزمن يرتبط بالمواعيد والضرورات الاجتماعية ويعيش في أسر القوانين والحتميات. ومستوى زمنه الخاص الداخلي ..زمن الشعور وزمن الحلم ..وفي هذا المستوى يعيش حياة حرة بالفعل .. فيفكر و يحلم و يبتكر و يخترع و يقف من كل المجتمع و التاريخ موقف الثورة .. بل يستطيع أن ينقل هذه الثورة الداخلية إلى فعل خارجي فيقلب المجتمع و يغير التاريخ من أساسه كما حدث في كل الثورات التقدمية . هذه الثنائية هي صفة ينفرد بها الإنسان . وهذه الحياة الداخلية الحرة يختص بها الإنسان دون الجماد وهذه النفس التي يملكها تتصف بصفات مختلفة مغايرة لصفت الجماد..فهنا نحن أمام وحدة لا امتداد لها في المكان.. هي الـ ((أنا)) تتصف بالحضور و الديمومة و الشخوص و الكينونة و المثول الدائم في الوعي .. ثم هي تفرض نفسها على الواقع الخارجي و تغيره .. و تفرض نفسها على الجسد و تحكمه و تقوده و تعلو على ضروراته .. فتفرض عليه الصوم و الحرمان اختياراً . بل قد تقوده إلى الموت فداء و تضحية .. مثل هذه النفس لا يمكن أن تكون مجرد ناتج ثانوي من نواتج الجسد و ذيلاً تابعاً له و مادة تطورت منه . مثل هذه النظريات المادية لا تفسر لنا شيئاً .. و إنما لا بد لنا أن نسلم (....) النفس عالية على الجسد متعالية عليه و أنها من جوهر مفارق لجوهر (....) فهي في واقع الأمر تستخدم الجسد كأداة لأغراضها و مطية لأهدافها كما يستخدم العقل المخ مجرد توصيلة أو سنترال . و لا بد أن يتداعى إلى ذهننا الاحتمال البديهي من أن هذه النفس لا يمكن أن يجري عليها ما يجري على الجسد من موت و تآكل و تعفن بحكم جوهرها الذي تشعر به متصفاً بالحضور و الديمومة و الشخوص في الوعي طوال الوقت .. فلا تتآكل كما يتآكل الجسد و لا هي تقع كما يقع الشعر و لا هي تبلى الأسنان . و إنه لأمر بديهي تماماً أن نتصور بقاءها بعد الموت . فإذا نحن تأملنا ما يصاحب أفعالنا من تردد قبل اختيار القرار ثم شعور بالمسئولية في أثناء العمل ثم ندم أو راحة بعد تمامه .. فنحن نستنتج أننا أمام حالة مراقبة فطرية و فكرة ملحة بالحساب و بأن هناك خطأ و صواباً . و إننا نعلم بداهةً و بالفطرة التي ولدنا بها أن العدل و النظام هو ناموس الوجود و أن المسئولية هي القاعدة . و يفترض لنا هذا الشعور الفطري القهري أن الظالم الذي أفلت من عقاب الأرض و القاتل الذي أفلت من محاسبة القانون البري الأرضي .. لا بد أن يعاقب و يحاسب .. لأن العالم الذي نعيش فيه يفصح عن النظام و الانضباط من أصغر ذرة إلى أكبر فلك .. و العبث غير موجود إلا في عقولنا و أحكامنا المنحرفة . و فكرة العدل و النظام و ضرورة العدل عالم آخر يتم فيه العدل و النظام و المحاسبة . كل هذا علم نولد به .. و حقيقة تقول بها الفطرة و البداهة . و لا غرابة في أن يعترف مفكر غربي ألماني و هو ((عمانويل كانت)) بهذه الحقيقة في كتابه ((نقد العقل العلمي)) . و لا غرابة في أن يصل إلى هذه النتيجة السليمة دون أن يقرأ قرآناً . إنها الفطرة و البداهة التي تقوم عليها جميع العلوم . و لا حاجة لأن يقرأ العقل السليم الكتاب المقدس ليكتشف أن له روحاً و أن له حياة بعد الموت و أن هناك حساباًَ .. فالفطرة السليمة تضيء لصاحبها الطريق إلى هذه الحقائق . و هذا العلم الذي نولد به .. و هذه البداهة التي نولد بها .. تقوم شاهدة على جميع العلوم المكتسبة و ملزمة لها .. فجميع العلوم المكتسبة يجوز فيها الخطأ و الصواب .. أما العلم الذي نولد به فهو جزء من نظام الكون المحكم .. وهو الحقيقة الأولى التي نعمل على ضوئها نرى جميع الحقائق الفرعية .. و هي المعيار و المقياس .. و إذا فسد المعيار فسد كل شيء و أصبح كل شيء عبثاً في عبث و هو أمر غير صحيح . و إذا اتهمنا بالبداهة فإن جميع العلوم و المعارف سوف ينسحب عليها الاتهام و سوف تنهدم لأنها تقوم أصلاً على البداهات . فنحن هنا أمام أصل من أصول المعرفة و مرجع لا يجوز الشك فيه ( لأن هذا المرجع شأنه شأن الحياة ذاتها ) نحن أمام متن هو لحم المعرفة و دمها . و كما نأتي إلى الحياة مزودين بعضلات لنتحرك بها و ندافع عن أنفسنا كذلك نولد مزودين بالبداهات الأولى لنحتكم إليها في إدراك الحق من الباطل و الصواب من الخطأ . و أعلى درجات المعرفة هي ما يأتيك من داخلك , فأنت تستطيع أن تدرك وضعك ( هل أنت واقف أو جالس أو راقد ) دون أن تنظر إلى نفسك .. يأتيك هذا الإدراك و أنت مغمض العينين .. يأتيك من داخلك .. و تقوم هذه المعرفة حجة على أية مشاهدة . و حينما تقول .. أنا سعيد .. أنا شقيّ .. أنا أتألم .. فكلامك يقوم حجة بالغة و لا يجوز تكذيبه بحجة منطقية .. بل إن تناول هذا الأمر بالمنطق هو تنطع و لجاجة لا معنى لها .. فلا أحد أعرف بحال نفسك من نفسك ذاتها . و بالمثل شهادة الفطرة و حكم البداهة هي حجة على أعلى مستوى .. و حينما تقول الفطرة و البداهة مؤيدة بالعلم و الفكر و التأمل .. حينما تقول بوجود الروح و النفس و بالحرية و بالمسئولية و المحاسبة , و حينما توحي بالتصرف على أساس أن في الكون نظاماً .. فنحن هنا أمام حجة على أعلى مستوى من اليقين . و هو يقين مثل يقين العيان أو أكثر .. فالفطرة عضو مثل العين نولد به . و هو يقين أعلى من يقين العلم .. لأن الصدق العلمي هو صدق إحصائي و النظريات العلمية تستنتج من متوسطات الأرقام .. أما حكم البداهة فله صفة القطع و الإطلاق 2 × 2 = 4 هي حقيقة مطلقة صادقة صدقاً مطلقاً , لا يجوز عليها ما يجوز من نسخ و تطور و تغير في نظريات العلم لأنها مقبولة بديهية . 1 + 1 = 2 مسألة لا تقبل الشك لأنها حقيقة ألقتها إلينا الفطرة من داخلنا و أوحت بها البداهة . و هي معرفة أولى جاءت إلينا مع شهادة الميلاد . لو أدرك الإنسان هذا لأراح و استراح .. و لوفّر على نفسه كثيراً من الجدل و الشقشقة و السفسطة و المكابرة في مسألة الروح و الجسد و العقل و المخ و الحرية و الجبر و المسئولية و الحساب و لاكتفى بالإصغاء إلى ما تهمس به فطرته و ما يفتي به قلبه و ما تشير به بصيرته . و ذرة من الإخلاص أفضل من قناطير من الكتب . لنصغي إلى صوت نفوسنا و همس بصائرنا في إخلاص شديد دون محاولة تشويه ذلك الصوت البكر بحبائل المنطق و شراك الحجج . و على من يشك في كلامي .. و على هواة الجدل و النقاش و المقارعة المنطقية أن يعودوا فيقرأوا مقالي من أوله .

رحلتي من الشك الي الايمان Donde viven las historias. Descúbrelo ahora