آلة الحرب

208 28 2
                                    

من آلةِ الحرب البائسة، إلى هيلينا.
" مساءُ الخير، أم صباح الخير؟ لا أعلم بما يجب ان ابتدِئ، فـهنا في الخنادِق يطوِينا الليل حتّى عند بزُوغ الضياء..

أكلّمكِ الآن وأنا أستمِع لأصوات الرصاص المُتقاذف بخشونةِ.. ترجيّات الاستغاثة تطرقُ أذنِي بعنفٍ كما يُطرق مسمار على جدار متهاوٍ، أيادٍ تتراقصُ على حلبةٍ من طينٍ وجلُودٍ منهشّة منسلِخة..
تتهاوى أمامِي الأجسادُ المتخمة بالنّدوب، وصرخات جنُودٍ يافعين ينادون أمهاتهم، أوامر القائد الصّارمة التِي تشوشها بحّة موجعة تتقيأها حناجر الجرحى ورفاقهم اليائسين..

في الحقيقة ليس لدينا ما نتقيأ سوى بقايا الخبز الخشِنـة التي تقدّم لنا كأننـا كلابٌ ضالّة تتضور جوعًا..

مساء الخمِيس فقدت رفيقي غيلبرت غارقًا في كومة من الطّين مثخنًا بقذِيفةٍ عالقةٍ عند حنجرته، لم يستطع أن يحدّثني، أعلم بأنه كان سيوصيني بأمّه المُرهقة، ويخبرُني بأن أعتني بأختهِ الصغرى الّتي تقف كلّ مساءٍ عند عتبة المنزل منتظرةً إياه، كان سيحتضنني مخبئًا إياي تحت أضلعه وهو يتلُو نصًا وداعيًا أو لكان ألقى بعض النكات السوداء مقاومًا دموعهُ الساخنة التي تجرحُ خده المُتلحف بسائل كثيف قرمزي، لكنّه لم يستطع أن يناضل لينطق بجملةٍ أطول من
" أرِيد أن أعيش"

لقد أقنعتُ نفسِي بأنه ما زال حيًا وأنا أستلقي قربَ جثته المُنتزعة بصعوبةٍ من كومة الوحل، لأخبره عن إرهاقي وأنني لم أنم منذ ثلاثة أيام سوى أربعُ ساعات، وكيف أنها لم تكن كافية لأستريح خارجًا من تلك الحلقة المفرغة وأحطّ بخفّة على حشائش منزلِنا.
طارقًا الباب وبيدي أرغِفة الخبزِ الحارّة ومرطبان مُربّى التفاح، لـتأمرِيني بنزع حذائي المتّسخ والانتظار على مائدة الطعام.. أراقبكِ تسكُبين الأطعمة الشهيّة وتدندنين ألحانً كلاسيكية وعلى محيّاك ابتسامةٌ عذِبةٌ تدنُو لتجلِس قربًا مني، فأشعرُ كل مرة بأن قلبي يسقطُ في حجري بينما تحيطُني الملائكة شمالًا وجنوبًا.

ثمّ نختلفُ بشأن اسم طفلتنا القادِمة وينتهي الأمر ككل مرّة بقرعةٍ تربحين بها، الآن لا يسعني سوى التذكّر، اتذكر اسم طفلتنا التي لم أرها، وأتذكر أيامّنا المطويّة في إطارٍ من الدِفء المقدّس، أتذكر زندكِ الرقيق الّذي يلتف حول نحرِي، ويدكِ التي تكفكف دموع محجري، وشجرة الكرزِ الّتي نجلسُ قربها محتسين أكواب الشاي الساخِنة ونحنُ نستمع لقضمات بسكويتِ الشوكلاتة المقرمشة.

أخبرِي ابنتي بأنني أحبها، وبأنّني لو كنتُ معها لأحضرتُ لها المربى في الصّباح، ولـ قدمتُ لها السكاكر بدون علمكِ.. ولرافقتُها في أول يوم مدرسي يدًا بيد، ولقضينا المساءات نتحدّث عن القصص الطائشة الطفولية خاصتي، لتنتهي أمسيتنا بقبلةٍ على الجبين وكلمة " أحبّك"، كنت سأحملها فوق ظهري في نُزهةٍ كلّ مساءٍ ونحنُ نتجاذب أطراف الحدِيث.. يجبُ أن أنهي حديثي..

احتلّ العدو أراضينا، نهاية متوقعة لبائسٍ ليس لديه ما يورّثه غير نصفُ علبة جعّة رخيصة وسيجارةٍ مشتعلة.. والكثير الكثير من الحبّ والبؤس، ..
ستنتهِي مسيرتي برصاصةٍ إن كان عدوّي رحيمًا، كانت معكِ آلة الحرب الراحلة،. وزوجكِ.. سابقًا

عزف نابضي الجزء الثاني | play of my heartTempat cerita menjadi hidup. Temukan sekarang