السابع والثلاثون

20.6K 464 6
                                    

الفصل السابع والثلاثون
............
ترفع رأسها من بين احضان تقي عن سماعها صوت شادي يقول:
"انا اتصلت بهشام صاحبي وبيدور عليه في الأقسام والمستشفيات وهو وعدني انه هيلاقيه ...."
تقول ببكاء :
"محدش هيلاقيه ..يوسف اختار يبعد ..انا السبب ..."
يامن مهدئا اياها:
"ماتحمليش نفسك ذنب ..تلاقيه راح هنا ولا هنا ..هو بس يفتح تليفونه وهنوصله ..."
عامر بهدوء:
"طيب انتو سألتوا معارفوا واصحابه يمكن يكون عند حد منهم ..."
للحظات تتذكر شيئا ما لتقول بلهفة :
"نانسي ؟؟؟؟...انتو سألتوا نانسي ..اكيد تعرف مكانه......"
فتلاحظ نظرات يامن وشادي المبهمة لبعضهما ليقول شادي :"نانسي!!!!!....هو يوسف مقالكيش ......"
فتقف مواجهه له بوجه احمر من شدة البكاء:
"هو لسه متجوزها صح ؟؟..هو ممكن يكون عندها مش كدة...."
شادي بحزن ظاهر :"نانسي للاسف .....ماتت وهي بتولد ابن يوسف ........"
صفعة ..صدمة...لم تشعر بحالها الا وهي مسنده بين ذراع احدهم بسبب الدوار الذي اصابها عند سماع كلمات شادي ...
وتسمع صراخ ملك التي لم تتوقف عن البكاء عند رؤيتها وهي تسقط ...تمالكت نفسها حتي لا تفقد وعيها ....
تقول بصوت مبحوح من كثرة النحيب:
"ماتت ؟!!!!!!......"
فتسمع يامن يكمل :
"ولادتها كانت متعثرة ولدت في السابع ..."
لتسأل غزل بفضول :"وابن يوسف؟؟؟..."
تسمع شادي يجيب بتأثر :"الولد كان مشوه وبعدها بيومين مات ...ساعتها يوسف قال "حق غزل رجعلها اعتبر ان ده قصاص ربنا منه...."
غزل لاتستطع استيعاب ماسمعته للتو ..تذكرت عندما أخبرته انها تريد الانتقام منه وقتها سألها لما لم تسأله عن نانسي ؟!...كان يريد أخبارها ان الله انتقم منه ابشع انتقام ...
....
............
مستلقية بإرهاق فوق الأريكة ...يحاول الكل بث الطمأنينة بقلبها رغم فقدهم لها لقد بحثوا في كل الأماكن التي يمكن ان يلجأ لها ...تحاول استرجاع ذاكرتها للمرة الخمسون تراجع حياتها معه لحظة بلحظة منذ ان رأته للمرة الاولي بالطريق ..
ولكنها تفشل كل مرة لعدم تركيزها وقلة تناولها للطعام وأدويتها التي اهملت في الفترة الاخير من تناولها ظننا منها انها أصبحت افضل بدونها ...
تحت قدميها تفترش بيسان رسوماتها وأقلام تلوينها مع غزل الصغيرة ابنة ملك ..
علمت من الجميع مدى تعلق يوسف بابنة اخته وكيف كان يمطرها بهداياه رغم القطيعة التي حدثت بينهم اثناء اختفائها ..تسمع بيسان تحدث ابنة عمتها تقول بنعومة :
"انا رسمتي احسن منك ..."
لتغضب غزل وتقول بطفولة :
"انا احسن ..انا راسمة شجرة ومراجيح ...انتي رسمة بيت وحش ومش ملونة الرسمة .."
فيزداد بكاء بيسان الطفولي :
"انتي وحشة مش لعبة معاكي تاني .."
ويزداد صرخها مما يجعل غزل تغمض عينيها بقوة اثناء استلقائها بغرفة المعيشة امام التلفاز معتقدة انها ستنال بعض الراحة لتقول لابنتها بلوم:
"في اَي يابيسان ؟..بطلي صريخ عندي صداع..."
بيسان تجري لتجلس بجوار امها ببكاء:
"غزل بتقولي رسمتك وحشة ..الرسمة مش وحشة ..."
تحاول غزل ارضاء ابنتها فتقول بمداعبة :
"وريني كدة ....الله !!...ايه الرسم الجميل ده .."
لتشير بأصبعها علي الرسمة متسائلة :
"بس قوليلي بقي مين دول ؟..."
فتجيبها بيسان بطفولة:
"دي انا وانتي وبابا يوسف ..."
فتشير غزل مرة اخري الرسمة وتقول:
"وايه اللي ورانا ده ؟...."
بيسان وتلعب بخصلات شعرها البنية:
"ده البيت اللي بابي يوسف قالي عليه هيبقي يلعبني فيه انا وانت لما تصلحيه وقالي انه كبييييييير اوي وقدامه بحر ازرق ..."
تشعر بشلل اطرافها تريد التحرك ولكنها عجزت عن الحركة لا تجد سوى صوتها يصرخ مناديا باستغاثة :"ياااااااااامن !!!!....."
................
اثناء الطريق تناجي ربها ان يكون هناك علي الرغم من ان هذا البيت يمثل لها اسوء الأماكن الا انها لم تفكر مرتان عندما سألت يامن والجميع هل بحثوا بشالية الساحل ام لا ؟!...وكانت الإجابة غير متوقعة ...
لتقول وهي تفرك أصابعها:
"بسرعة يايامن ..انت بطيء ليه؟..."
يخفض نظرة لعداد السرعة قائلا:
"بطيء؟!.....انا سايق على ١٤٠ الرداد لقطني مرتين ....."
تضع أحلامها في إيجاده باخر مكان تتمني ان يجتمعا به فتسأله :
"تفتكر هنلاقيه هناك ؟!....انا مش قادره استحمل فكرة انه مش هناك...."
يامن بعقلانية:
"ان شاء الله هنلاقيه ..وبعد من نلاقيه ليا كلام تاني معاكي ...بخصوص عامر .....افتكر الخطوبة مابقاش ليها معني بعد اللي انا شايفه منك ..."
........
وقفت امام بابه بأرجل مرتعشة يمسك يامن بكفها يبثها الأمان والأمل يشعر بارتعاشها ..فهذا البيت له ذكريات سيئة معها اكثر من السعيدة ...
فينظر لعينيها ليقول بشجاعة :
"مستعدة تدخلي .؟...."
لتهز رأسها بسرعة بالموافقة ....يفتح باب البيت فيقابله الظلام المحيط بالمكان يفتح ويغلق كلاهما عينيه حتي يعتادا علي ظلمة المكان وتتضح الرؤية ليلاحظا ان المكان خالي .....يصدح صوت يامن مناديا بقوة:"يووووسف!!!...يوووسف!!"
فتقول له لعلها لم تفقد الأمل بعد:
"الاوض!!...."
يصعدا بسرعة يبحثا بالحجرات ليجدنها فارغة فتقف امام باب الحجرة الأخيرة التي كانت تشاركه فيها والتي شهدت اسوء لحظاتها ...ترفع يدها بشجاعة تمسك مقبض الباب وتدفعه ..فتجول بنظرها حول اركان الحجرة التي شهدت ألمها وتعذيبها ....لتقع عينيها علي شئ ما ساقط ارضا غير واضح بسبب الظلمة الجزئية بالحجرة تقترب بخطوات متمهلة ..تتتسارع ضربات قلبها كأن سهما ضرب به وتجحظ عينيها بشدة مما شاهدته ...صرخة جرحت حنجرتها وقلبها ..صرخة باسمه عندما وجدته ملقى علي جانبه الأيمن والدماء تخرج من فمه وأنفه ..كان مشهدا يشل العقول ..لتجلس علي ركبتيها بجواره تسحبه الي أحضانها تحاول إفاقته متوسلة إياه أن يجيبها ويطمئنها ..تقول بصراخ :
"يوسف ...رد عليا...رد ياحبيبي ..انا جيت اهو ..مش انت كنت عايزني أكون معاك .....قوم كلمني ارجوك ..متعملش فيا كدة .......يوووسف ......."
فتشعر بيد يامن يسحبه من احضانه وسط دموعه يناديه ويتحسس أوردته للتأكد من وجود نبض ..فتجده يسرع بسحب هاتفه من سرواله لطلب الإسعاف .......
خلال فترة نقله اصرت الركوب بجواره ..تمسك كف يده لاتريد ان تفلته لتتفاجأ في بداية الامر بضم قبضته علي شئ ما بصرامة ..فتحاول فك قبضته
لتجد سلسالها اللامع الذي فقدته من مدةكبيرة ....
فترفعها أمام اعينها بتأثر فتنقل نظرها اليه ..توعده بانها لن ترتديها الا بيده ....
.........
وقف يامن يراقبها وهي جالسة أمامه تنظر للفراغ بشرود غريب وبثبات اغرب ..ليرفع عينه على حجابها ومظهر ملابسها الغير مهندمة بداية من حجابها الذي ظهر من أسفله بعض
الخصلات البنية الهاربة منه ووجها الأبيض الحليبي المختلط ببعض الحمرة من شدة توترها رغم شحوبها وضعفها ...يخاف من سكونها وثباتها فهي لم تذرف دمعة واحدة كأنها تتحدى اعينها ان تضعف ....يقترب منها بهدوء ليجلس بجوارها ولكنها لم تهتز لاقترابه ثابتة كالتمثال الصخري ليجلي صوته :
"غزل .!!!...قعدتك هنا مش هتفيد ..قومي أوصلك عشان كمان بيسان ....."
عندما طال ثباتها وصمتها ظن انها لن تجبه فيسمعها تقول:"عايزني امشي!!!...امشي واسيبه ..بعد اللي سمعناه من دكتوره ....!!مش هسيب يوسف يايامن ..كفاية ......كفاية بعد مابقاش في وقت "
ليتنهد بألم لايستطع أخبارها بما قاله له الطبيب ليقول :
"يوسف ...هيطول هنا ..ومش معقول هتفضلي بلبسك ده على طول ،.حتى روحي غيري هدومك وأنا هنا...."
"أنا عارفة كل حاجة يايامن ..سمعت الدكتور وهو بيتكلم معاك ...عرفت انه مصاب من مدة ورفض العلاج ..عارف رفض ليه يايامن ؟!...عشان أنا السبب ..السبب انه يرفض الحياة ..أنا قولتله انت ميت يايوسف وفعلًا كان بيموت وانا غبية ماحستش بيه ...."
يامن بتأثر وحزن :
"هيبقى كويس صدقيني ...هو خد اول جلسة ..وهيبقى كويس ..."
"يارب"
............
تجلس بجواره فوق الفراش تتأمل ملامحه الشاحبة وذقنه الغير حليقة تداعب خصلات شعره الطويلة السوداء ..اول مرة تدقق في ملامحة بهذا الشكل فتخفض نظرها لشفتاه لتلاحظ تشققهما وجفافهما الشديد ..لترفع اعينها مرة أخرى لوجهه لتجد عينان صقريتان ينظران اليها نظرة جديدة وغريبة لم تراها بهما من قبل ...نظرة خزي وانكسار ..نظرة ضعف وألم.لتقول بسعادة لإفاقته:
"يوسف ...يوسف اخيرا فوقت ....الحمد لله "
لتجد ظهور غلالة من الدموع المنحبسة مع احمرار طرأ على عينيه لتسقط دمعة من جانب عينيه بصمت ...فتسرع لمسحها بأناملها وتمسك وجهه بين كفيها تقول :
"أنا جنبك ومش هسيبك ...أبدا...وإياك اشوفك ضعيف بالشكل ده ..يوسف الشافعي ما يكونش ضعيف أبدا..انت فاهم"
لتجد انفراج شفتاه الجافتان لينطق بأصعب الكلمات التى ألمتها:
"ربنا بياخدلك حقك مني ..ياترى دلوقتي سامحتيني ...وغفرتي لي "
"اسكت ...اسكت ..انت مش فاهم حاجة .."قالتها بترجي بوجهه ...
"ربنا انتقملك من زمان من زمان اوي ياغزل ...انتقملك يوم ماحكم عليا بموت ابني من نانسي قبل مااحضنه وحرمني منه وحرمني من ان ان اشوف بنتي بتكبر قدام عيني ...انتقملك لما خلاني عاجز برجلي اللي ألمتك ...انتقملك وخلاكي شيفاني دلوقتي والمرض بياكل فيا ...ياترى بعد كل ده لسه ماسامحتنيش ؟!..."..
تحارب دموعها لا تعلم مااصابها هل مازالت تحبه رغم متصدر منه ؟!....ليكمل بإرهاق:
"انت قولتي انت عيشت حياتك ..لا ياغزل حياتي وقفت يوم مافقدتك ..أنا انفصلت عن نانسي بعدها بس حكمة ربنا ان يعطيني ابن ما أفرحش بيه"
غزل في وسط دموعها:
"اسكت ...كفايةً..انت مش فاهم حاجة"
ليغمض عينيه ويرفع كفه يحيط بكفها ليلامس خاتم خطبتها لتنتقل عيناها علي أنامله التى تداعب خاتمها ....
لتسمعه يقول بصوت هادئ:
"حددتوا ميعاد الفرح ؟!..".....
لم تستطع إجابته ..اي فرح يسأل عنه ؟....هل المرض اصاب قواه العقلية أيضًا ..ايعقل ان تفكر في مثل هذه الأمور ....لتقول متوسلة اليه :
"يوسف ...ارجوك تسمعني ...أنا وعامر حكايتنا مكتوبلها الفشل ..أنا هفسخ ال.......ليقطع حديثها فصرامة كلمته
"لا...اياكي تفكري في اللي عايزه تقوليه ....عامر مكتوبلك من زمان من زمان اوي ...وبسببي وبسبب انانيتي فرقتكم عن بعض زمان ...لو ماعملتش كدة كان زمان حياتك احسن معاه ..الوحيد اللي يستحقك هو ...هو هيحافظ عليكي كويس وهيحب بيسان زي بنته من بعدي"
فتنظر لعينيه لعلها تستشعر الهزل بحديثه لتجد اصرارا غريبا مختلط بكثير من الحزن والحسرة ..تعلم ان كل ذلك نتاج حالته الصحية المتدهورة لذا لن تحادله في مثل هذه الأمور الان ..فاكتفت بالصمت على حديثه لتتتكلم :"بيسان بتسأل عليك من وقت ما اختفيت ..وكل يوم بتعيط وقت النوم عشان كنت بتنام جنبها من ورايا"
"بيسان ما تستحق تحارب عشانها؟!..."
ليجيبها بدون تفكير :
"بيسان ماتستحقش يكون في حياتها أب زيي"
لتهز رأسها بالرفض وتمسك وجهه بكفيها تقول بإصرار:"انت اعظم اب وبيسان محتجالك ..."
"أنا أسوء أب !!...ولو فضلت في حياتها هتعيش تعيسة زي امها معايا ....أنا نقمة على كل اللي دخلت حياتهم ...."
"سواء أب سئ أو كويس هتفضل ابوها اللي لا يمكن تشيلوا من شهادة ميلادها...رفضت هي أو رفضت انت"
فيقطع حديثهما رنين هاتفها لتتركه لتجلب هاتفها فتتوتر عند رؤية اسم المتصل لتحوله لوضع الصامت ليقول مبتسما :"عامر مش كدة ؟"
رفضت ان تجيبه ليقول بثبات:
"ردي عليه من حقه يطمن عليكي .."فيشير لها بعينيها لهاتفها مشجعًا إياها للرد ....
ترفع هاتفها ببطء مع ثبات عينيها على المبتسم ابتسامة ألم تجيبه بخوف من مجهول منتظرهم......
يتبع

صماء لا تعرف الغزل (بقلم وسام الأشقر)Where stories live. Discover now