بارت 28

461 26 8
                                    

أخرج عمو شوكت معطفة الشتائي من الخزانة و لبسه فوق ملابسه ، خرج الى حديقة بيته الخلفية و سرح البلبل من قفصة ، حرر طيور القبج بعد أن وضع لها طعامها في الساقية .
من دون أن ينظر لهيئته في المرآة كما تعود في كل سنوات حياته ، خرج الى الشارع يتبعه برياد ، الذي أصبح الآن كبيراً و يتصرف بمسؤولية ، يجري أمام صاحبه يؤمن له الطريق ، مر على بعض البيوت المتروكة ، ثم توجه نحو دكان أبي نبيل ، أنضم الى حلقة من رجال المحلة القدماء الذين أعتادوا الجلوس مساء في هذا المكان ، بينما جلس الكلب بعيداً عنهم بخطوات و هو ينظر الى عيني صاحبه .
عانى أبو حسام كثيراً من إلحاح عمو شوكت ، لكي يعيد على مسامعة حكاية قديمة سمعها منه مرات عدة في السابق ، حصلت معه أثناء عمله مديراً في السكك الحديد ، كان أبو حسام في هذه الأيام قليل الكلام ، وهو يعيش بداخله أحزان مقتل ابنته و هروب شقيقها ، لكنه يحب عمو شوكت فراح يعيد عليه الحكاية بصوت متعب ، ولكن عمو شوكت لم يسمعها جيداً ، لأن سمعه أصبح ثقيلاً ، ظل أبو حسام يكررها مرة بعد مرة وهو يرفع صوتة لكي يسمعها له ولكن بلا فائدة.
تأسف باقي الرجال في دواخلهم على الحال التي بلغها جارهم المعروف بعنايته الفائقة بصحتة ، وأناقة هندامه وهو بهذا المنظر المزري الذي لا يليق به ، شعر هو بنظراتهم الحانية نحوه ، التي حملت معها نوعاً من العطف يشبه الشفقة التي لا يقبلها على نفسه .
- أنا شوكت ابراهيم أوغلو عشت حياتي كريماً و سأموت كريماً .
قالها مع نفسه ولكن بصوت سمعه الجميع ، نهض وغادرهم يتقدمه كلبه بخطوات من دون أن يضيف كلمة واحدة .
لم ينزعج أحد منهم ، بل على العكس ، راحو يستذكرون فيها بينهم مواقف جارهم و أخلاقه الرفيعة و سيرته المشرفه مع كل الجيران ، وهم حزينون على تدهور حالته ، كان عمو شوكت أكثر الرجال في المحله انشراحاً و طيبة قلب، كما أن مظهرة الخارجي كان مثالاً في حسن الذوق .
من جهته هو ، كان يخمن أن الحديث سيدور عنه عندما غادر مجلسهم ، يعرف من أعماقة كم يحبه الآخرون و يقدرون له تلك العلاقه الطيبة التي استمرت لسنوات طويلة :
- لا أمل في هذه الحياة ، لقد انقضت الأيام الجميلة بغير رجعة ، لم تعد المحلة كما كانت منذ أن غادرتها أول عائلة و هاجرت بعيداً ، أنا في هذا الوقت ، لا عمل لي سوى أن أعد الأيام غير المهمة في الحياة و أعيشها بحكم العادة ، لولا مسؤوليتي عن البيوت المهجورة لتركت المكان ، و ذهبت أقضي سنواتي الأخيرة في قريتي بمدينة كركوك .
دخل الى بيته ، و أخرج بساطاً ثقيلاً فرشه خلف سيارته المعطلة ، وقرر أن ينام هنا هذه الليلة ، لقد تعب من النوم في الغرفة المعتمة، صار يختنق من الجدران و السقوف ، تمدد على ظهره ووضع الراديو على صدره وهو يتأمل النجوم في السماء.
تمدد برياد قريباً منه وفي عينيه حزن عميق ، كان الطقس معتدلاً في أول المساء ، ولكن نسائم باردة مصحوبة برذاذ مطر خفيف ، هبت عليهما بعد منتصف الليل ، حمل البساط الى داخل البيت ، كوره تحت السلم من دون ترتيب و تمدد على الأريكة .
قبل أن تغفوا عيناه ، تذكر برياد الذي تركه في الخارج نهض و خرج يناديه ، أدخله لينام معه في صاله ، انفجرت أساريره لهذه الخطوة الرحيمة تجاه رفيق حياته .
في صباح اليوم التالي ، شاهده الجيران عند باب بيت أم ريتا ، وهو يجثو على ركبته و يطلق صراخاً مبحوحاً ، بعدما أكتشف أن البيت قد سرقت أثاثه بالكامل ، ولم يترك فيه اللصوص سوى تمثال صغير للسيدة العذراء مرمى بشكل حزين في مدخل الصالة وعلى رقبته تلتف مسبحة سوداء .
أجتمع حوله الجيران ، ممسكين بذراعه في محاولات منهم لثنيه عن البكاء ، لكنه التصق بباب البيت ، وواصل الشكوى بقلب يتفطر ألماً ، ألتفت الى الكلب وراح يشتمه بحرقة ، لأنه لم يقم بواجبه جيداً ، هرب برياد بعيداً عنه وراح يبكي هو الآخر .
في المساء ، حمل فراشه و أغطيته و بعض الأدوية و جهاز الراديو و قرر أن ينام عند مدخل بيت أم ريتا متحدياً اللصوص .
من هذه الحادثة ، لم يعد عمو شوكت يثق بالكلب كثيراً ، أصبح هو شخصياً بمثابة حارس ليلي طوعي للسهر على البيوت التي هجرها أهلها ، يراقب حركة الغرباء بريبة و حذر ، و يتابع خطواتهم من بعيد ، يطلق صوت صافرة رياضية منحها له فاروق . كان يحاول جاهداً حراسة الماضي من الزوال .
يوماً بعد يوم ، تدهورت صحته و ضعف بصره ، وصار يجرجر قدميه في الطريق بصعوبة ، لم يتخل عن معطفه الشتائي الثقيل حتى في الأوقات الحارة في منتصف الظهيرة ، نسي عادة الأستحمام اليومي ، وصار لا يدخل بيته إلا لقضاء جاجاته الطبيعية ، أو لإعداد صعامة و الشاي الذي يسكبه في الترمس لحفظ حرارته طول اليوم لقد اضحى بيته شبه مهجور هو الآخر .
كان الجيران من الوافدين الجدد ، يحسبونه رجلاً مجنوناً ، أما نحن ابناء الجيرة القديمة فقد ترسخت في أعماقنا صورة عمو شوكت الأنيق ببذلته ، و حذائه ، وربطة عنقه ، بوجهه الحليق ، و طلته البهية وهو يرسم بأسنانه الساعات المدورة على أيدي الأطفال ثم يوزع بينهم الحلوى ، كنا نعتقد أن حلته هذه ، هي حاله طارئة ، مثل كل شيء طاريء في حياتنا ، أزمة عابرة ستمر حتماً و سيستعيد بعدها عافيته .
قبل وقوع الحرب بشهر ، تم إعتقاله من جانب الحكومة ، للإشتباه بسلوكه و التغير المفاجيء الذي طرأ عليه ، الحكومة تهتم كثيراً عندما يتغير سلوك أحدهم ، إنهم يشكون حتى بالمرضى اذا تغيرت أحوالهم مت جراء المرض ، أخذوا عمو شوكت من دون ذنب و من دون مراهاة لحالته الصحية .
عاش برياد في هذه المدة شبه مشرد ، ويرفض دعوات الجيران له بالمبيت داخل بيوتهم ، لم يعد يأكل طعام الذي نضعه أمامه ولا حتى يقترب منا .
ندم الكلب كثيراً على ماكان يعتقد إنها غلطته ، رغم أنها لم تكن كذالك ، عمو شوكت هو الذي دعاه لينام معه تلك الليلة في الصالة ، الأمر الذي استغله اللصوص و سرقوا بيت أم ريتا .
أطلق سراح عمو شوكت بعد سبعة أيام ، وهو في حال أكثر تعاسة من التي كان عليها ، لا يزيد مظهره سوءاً ، إلل منظر الصورة التي علقها على صدره للرئيس ، وهو يطلق النار في الهواء ، فرح برياد بعودته كثيراً وعاد يرافقه مثل ظله .
تصاعدت أناشيد الحرب بشكل جدي ، وتأكد الجميع أن موعد هذه الحرب بات وشيكاً ،حمل عمو شوكت سلماً خشبياً متحركاً ، و أسنده الى جدار بناية عالية في رأس الشارع ، صعد على السلم بصعوبة ، و ثبت بمسامير طويلة على واجهة البناية ، قطعة كارتونية كبيرة متب عليها :(المحلة للبيع أو للايجار ).
قامت الحرب بعد أيام ، وأخذت الصواريخ تسقط منذ الفجر ، عادت الأجواء نفسها التي عشناها عام 1991، ولكننا هذه المرة تعودنا عليها ، لم نعد نخاف كثيراً ، كما أن حياتنا لا تستحق أن نخاف ، في داخلنا رغبة قوية للوصول الى نهاية معروفة مهما كانت نتيجة هذه النهاية ، الصواريخ تسقط هناك و هناك و الطائرات تحوم في النهار و الليل ، لكننا لم نذهب الى الملجأ، ولم نتكور تحت السلالم في بيوتنا .
الناس يجلسون أمام أبواب بيوتهم ، و يستمعون من الراديو لآخر الأخبار ، أستطيع أن أقول إن الحياة كانت عادية ، ولكن الجميع بإنتظار النتيجة ، كان الجو جميلاً هذه الأيام ، رغم الدخان الأسود الذي يتصاعد من كل الجهات ، كانت فرصة لنجتمع في المحلة ، لان الدوام معطل في المدارس و الجامعات و الدوائر ، الكل لديهم وقت جيد للخروج الى الشارع و الحديث مع الآخرين ، كنا أنا و نادية و بيداء نلتقي في حديقة بيتنا ثم نخرج الى الباب نراقب الحياة التي بدت هادئة ، كيف كانت الحياة هادئة مع كل هذه الصواريخ و الإنفجارات ؟
أحياناً و في اللحظات العصيبة يأتينا السلم من الداخل ، تشرق في أرواحنا طمأنينة غير مألوفة يأتي بها اليأس أو الرغبة في الحياة أو شيء آخر لا أعرفه .
سقطت بغداد ......
اندلعت الحرائق في كل مكان و تصاعد الدخان في الأرجاء ، إلتهمت قطعة الكارتون السميكة التي علقها عمو شوكت في رأس الشارع و تفتت في الهواء الى غبار أسود .
هربت مع عائلتي الى بيت جدتي في الريف ، عشت هناك شهراً من الراحة النسبية بعيداً عن الفوضى التي ضربت كل شيء ، تكيفت مع حياة الطبيعة و الطيور و خرير مياه السواقي ، تغيرت ملامحي ، كما تغيرت ملابسي و طريقة نومي و أكلي و شربي، تغير كل شيء في حياتي .
في ساعات الغروب . أشتاق لنادية و بيداء و فاروق و بيتنا و محلتنا ، أجلس وحيدة عند ضفة النهر قريباً مت النواعير ، أراقب الأمواج الصغيرة و هي تدفع قوارب الصيادين تحت الجسر .
قبل سنوات ، كنت طفلة صغيرة ، عندما جئت الى هذا المكان هرباً من حرب قديمة ، وها أن الآن أعود إليه هرباً من حرب جديدة ، الطائرات نفسها ، والصواريخ نفسها تطاردني بعد أثنتى عشرة سنة من الحصار .
ماذا كان يريد بوش الأب من حياتي ؟
وما الذي يطلبه بوش الأبن منها ؟
كيف سأروى هذه الحكايات لأطفالي في المستقبل ؟ وكيف سيصدق أحفادهم أن رئيسين لدولة عظمى كانا يطاردان حياتي بالصواريخ ؟ لكن من جانب آخر ، على أن اشكرهما ، بدونهما ما كنت أزور مدينه جدتي ، هذه الجنه الساحرة ، التي تغفو على نهر الفرات ، حيث قبور أجدادي و أرواحهم تملئ المكان .
لم تعد جدتي كما كانت تتمتع بكامل صحتها و نشاطها ، لقد أخذت منها الأيام مأهذها، و صارت تتوكأ في مشيتها على الجدران ، لم تعد تنام في غرفتها القديمة ، التي تدخلها النجوم من النافذة ، سهرت الى جانبها اتوسلها ان تحكي لي قصة ، أريد ان أعود صغيرة في حضنها، أريدها أن تكرر علي إنها أمي :
- لقد ولدتك من بطني قبل ان الد أمك .
تبتسم جدتي بوجهي وهي تصارع الآلام في جسدها ، كنت أفكر و أنا أنظر الى ملامحها المتعبة بإنها ستغادر هذه الحياة في يوم ما ، و تنقطع علاقتي نهائياً بهذا المكان الذي يحميني من الحروب .
هذه البقعة الرحيمة من الأرض ليست سفينة راسية بإنتظار إشارة الإنطلاق ، هذه أرض حقيقية ملتصقة بذاكرتها ، قريبة من طبيعتها الأولى ، حتى نخلة هنا، هي سليلة نخل تجذر في هذا المكان منذ الآف السنين ، و الطيور هنا لا تبني لصغارها أعشاشاً جديدة ، إنها ترمم القديمة و تستقر فيها ، الأسماك هنا تعاند مجرى نهر ، تحتال عليه لتراوح في مكانها و تلهو مع النواعير ، قبلت النخلات ، قبلت الأشجار ، قبلت الأرض و الماء ، قبلت الهواء قبلت كل شيء يحبة جدي ، دخلت الى غرفة جدتي المعتمة نظرت في صورته التي كانت تحميني من اللصوص :
- لقد قبلت لك كل ماطلبته مني ياجدي ، هل تريد مني شيئاً اخر ؟ أبتسم لي جدي من صورته ، رفع سدارته من على رأسه ثم وضعها جانباً .
تذكرت كوخه في مدينة النور ، تذكرت رائحة الجنة التي يسكن فيها  . تذكرت حبه للارض و نزلت من عيني دمعة .
في الليل ، جلست أقبل جدتي من جبينها و أحتضنها و نمت الى جانبها ، غداً سنعود إلى بغداد ، الأمور تتدهور ولا أمل في إستقرارها ، لابد ان نقبل الأمر الواقع و نتكيف معه ، يردد أبي هذه الكلمات و تهز أمي رأسها موافقة .
نهضت صباحاً و أعددت لها فطوراً يشبه تلك الفطورات التي كانت تعدها لي في طفولتي ، تناولته معها من دون ان أنبس بكلمة واحدة ، قبلت يدها و نهضت الملم حقيبتي .
عدنا الى بيتنا في بغداد ، تعاونا جميعاً على تنظيفة و مسح الغبار المتراكم في كل مكان ، أحكمنا إغلاق النوافذ و المداخل بأشرطة حديدية سميكة و نمنا من التعب .
بيتنا الواسع المريح ، بهوائة النقي ، حيث تدور الشمس عليه من كل إتجاه ، صار كئيباً و معتماً ، تتحرك على سقوفه أطياف غريبة . راحة البيوت من راحة أهلها ، لم يكن بيتنا سعيداً هذه الأيام ، كان يتألم من الوحشة ، كان يتنفس الهواء الملوث و يختنق بالبكاء . هل رأيتم بيوتاً تبكي ؟ انا سمعت كثيراً أنين جدران بيتنا ، ورأيت بعيني دموعاً و بكيت معها .
في هذا البيت ولدت ، وفيه نطقت الحروف الأولى ، هنا قلت أول (بابا) و أول ( ماما). على هذه البلاطات تعلمت ان اقف و اخطوا ، و اسقط ثم انهض و أخطوا . عندما خطوت نحو الباب لأول مرة ، انكشفت أمامي ضوء العالم و دخلت منه الحروب . في هذا البيت ، كنت ارى الأشياء كما هي في حقيقتها ، أرى الباب باباً ، و الشارع شارعاً ، و النافذة نافذة . أرى الشجرة شجرة ، و الوردة وردة ، أين ذهب ذالك الوضوح القديم ، الذي كانت تحملة الأشياء الصلده ، لماذا فقد الباب قوة وجودة والشجرة حضورها و الوردة ملمسها . في طفولة ، نحن نرى الأشياء كما هي بدرجة و ضوحها العالي، نعيشها عن قرب كأشياء حقيقة ، نتحسسها و نفطن لقوة أنبثاقها أمامنا ، لماذا تغيرت هذه الأشياء و أصبحت غريبة و مشوشك و فقدت ثقلها ؟
باب ، شباك ، بيت ، شجرة ، كلب ، قطة ، عصفور ، مدفأة ، كرسي ، منضدة ، الأشياء عندما نقولها منفردة نشعر بثقل روحها ، وعندما نضعها في جمل مفيدة نقتل هذه الروح . لماذا تعلمنا ان نقول الأشياء في جمل مفيدة ؟ الأشياء بحد ذاتها تكون مفيدة بلا جمل .
في هذه الأيام العاطلة عن المعنى ، عثرت على رواية ( معة عام من العزلة ) في مكتبة والدي ، و سافرت خلالها من محلتنا الى قرية ماكوندو ، التي أصاب أهلها نفس الأرق الذي نعيشة هنا . نحن أيظاً لم نعد ننعم بالنوم . بدأ النسيان يمسح سبورة ذاكرتنا المشتركة . نمر على عمو شوكت ، و كأننا لا نعرفة كما كنا نعرفة . نمر على البيوت و ننسى اسماء ساكنيها . تغير شكل الأشياء ، و أصبح الشيء الواحد يمتلك اسماء كثيرة . لم تعد تتمتع بصحة جيدة : تحرير . سقوط .احتلال . غزو . أجتياح ، حواسم .
كيف يمكن ان يكون ليوم واحد كل هذه الأسماء ؟
الأيام التي ليس لها اسماً واضحاً ، هي الأيام التي ينتهي معها الأمل ، هي الأيام الرخوة التي ليست لديها قوة كافية لمواجهة المستقبل .
انتقلت عدوي تعددية الاسماء الى الناس انفسهم . صار الاسم لا يعني الشخص نفسة ، صار هويتة طائفية. غدد كبي  من الشباب عاشوا أياماً صعبة باكثر من اسم ولقب و عنوان ، عندما تتخلى عن اسمك كيف ستعرف الآخرين ؟
وحده فاروق لم يستطيع تغير اسمة ، فهو لاعب مشهور و يعرفه الجميع . جاء في ظهيرة أحد الأيام ، استجمع شجاعتة و طرق باب بيتنا ،لما لم يفتحها أحد له ، رمى في الكراج البيت رسالة قصيرة يودعني فيها، قال إنه سيسافر بعد ساعة من الآن الى الأردن . عثرت أمي على الرسالة و حملتها بيد مرتعشة ، لقد حسبتها واحدة من تلك الرسائل التي تتوعد الناس و تهددهم بترك بيوتهم . قرأت الرسالة بسرعة و هدأ خوفها ، و بدل ان تمزقها كما هو متوقع منها، دخلت علي الصالة و رمتها بوجهي ، دون ان تنبس بكلمة واحدة . تناولت الورقة و صعدت بها الى غرفتي أقرأها و أبكي :
حبيبتي الغالية ......
انا مضطر للسفر مع منتخب الشباب ، كنت أحب ان أراك في هذه الساعة الحزينة . ألم أقل لك : ان الحرب ستحرمنا من اجمل الأشياء . هل تتذكرين ذلك ، عندما كنا نراقب شقوط الشمس في دجلة . أحبك .....
        فاروق.
بعد الغداء ، طلبت من أمي أن تأخذني الى بيت نادية ، لقد اشتقت اليها ، اريد ان اذرف دموعي على كتفها ، فتحت أمي بال البيت ، نظرت بعيون خائفة تتفحص المكان يميناً و يساراً ، عندما شاهدت برياد يتجول في الشارع عاقفاً ذيله الأبيض ، تأكدت حينها ان شارعنا خال من الغرباء ، وضعت العباءة على الرأسي و هذه أول مرة أرتدي فيها عباءة في الأصل لأمي ، مشينا مسرعتين باتجاه بيت نادية ، كان شقيقها مؤيد يجلس على كريي عتيق عن مدخل باب البيت ، نهض يرحب بنا ، عادت أمي أدراجها و دخلت انا من دون ان أطرق الباب الداخلي لصالة البيت كما كنت أفعل ذلك في طفولتي ، فزت نادية من مقعدها و عانقتني بدهشه تشبه سقوط مدينة ، هذه أول مرة ألتقيها بعد سقوط بغداد .
صعدنا الى غرفتنا و انهمرت دموعي على كتفها ، بكت معي هي الأخرى ، بقيت عندها حتى ساعة غروب الشمس ورجعت الى بيتنا برفقة مؤيد ، الذي أطمأن على وصولي ثم و دعني و عاد .
تحولت زيارتي لبيت نادية الى عادة يومية في هذا الزمن البطيء ، كل يوم تقريباً أضع العباءة على رأسي و أذهب أليها ، في اليوم الذي غازلني فية جندي أمريكي هو أحد أفراد دورية تطوف المحلة ، توقفت عن ذهاب الى بيتهم ، وصارت هي من تزورني بشكل يومي ، بعد أن يصحبها شقيقها حتى باب بيتنا ، أحياناً تقضي ليلتها معي نتسامر حتى موعد شروق الشمس ثم ننام .
أعرتها رواية ماركيز و أعادتها لي في اليوم التالي :
- طويلة و الأسماء فيها معقدة ولم أفهم منها شيئاً .
بالنسبة لي ، أعدت قرأءة الرواية اكثر من مرة ، لقد شكلت لي عالماً سحرياً مازياً أهرب اليه من ضغط الأيام الصعبة التي تعيشها محلتنا .
أعتقل الأمريكان والد نادية ، ثم جاؤوا ليلة ثانية و أعتقلوا شقيقها ، بعد أيام أطلق سراح الأب ، وبقى الابن أكثر من اسبوع ثم اطلق سراحة بتدخل من مروة ، التي صارت تعمل بصفة مترجمة مع الجيش الامريكي ، و أضطر أهلها على حفاظاً على حياتهم على مغادرة بيتهم الى جهة مجهولة .

(الكاتبة /شهد الراوي )

ساعة بغداد حيث تعيش القصص. اكتشف الآن