بارت 23 (هل أنا خائفة؟!!)

626 43 5
                                    

تخرجنا في الثانوية سوية بمعدلات جيدة ، و جلسنا في البيت مدة طويلة ننتظر نتائج القبول المركزي ، نادية في جامعة بغداد و أنا في الجامعة التكنولوجية، هذه أول مرة سنبتعد فيها عن بعضنا ، إنشغلت هي بمراجعات القبول و التسجيل و أنشغلت أنا كذلك و صارت لقاءاتنا قليلة.
في أحلامها الجديدة يتكرر مشهد جديد لتصاعد دخان حرب باتت على الأبواب ، دخان يحجب مستوى الرؤية و يشوش المشهد و يفقدنا فرحة الإنتقال للحياة الجامعية التي إنتظرناها سنوات طويلة.
هذه السنة هي سنة الأناشيد الحماسية الجديدة أو (عام الحسم) كما يسمونه ، بدأت أجواء الحرب تفرض نفسها من جديد على حياتنا ، هذه الحرب ليست كالحرب السابقة ، لأنها حرب تحمل الموت و الخراب و بعض الأمل أيضاً ، الأمل بنهاية الحصار الذي هو أكثر قسوة من الحرب نفسها هو الموت البطيء الذي نعيشه دقيقة دقيقة.
لم يكن الحصار سلاحاً لتجويعنا فحسب ، لقد خرب معنى حياتنا و قضى على الكثير من عاداتنا و سلوكنا و سلب منا روح الأمل ، و عندما يختفي الأمل تصير الحياة مجرد عادة ننتقل فيها من يوم تعيس لآخر أكثر تعاسة ، وفي الحياة التعيسة لا يحب الناس بعضهم ، حتى أنهم لا يحبون أنفسهم ، شاهدت بنفسي امرأة تنتحر و هي ترمي نفسها في نهر دجله من الجسر ، كان ذلك في فصل الشتاء حيث مياه النهر الباردة ، و يقول الناس الذين تجمعوا قريباً من المكان الحادث إنها و أطفالها لم يذوقوا الطعام منذ ثلاثة أيام و إن زوجها مسجون لأنه صار لصاً ، و هذه الحادثة بقيت في ذاكرتي كإنها فكرة الحصار كلها ، الحصار في معناه عندما يعمل أحدهم لصاً و يذهب الى السجن ثم تنتحر زوجته و تترك أولادها في الشارع ، كنت أقول مع نفسي ماذا لو لم تنتحر هذه المرأة؟ كيف ستجلب الطعام لصغارها ؟ ماذا سيعمل هؤلاء الصغار عندما يكبرون ؟ في كل مرة اتذكر فيها هذه الحادثة ،
أطلق على الفور سراح زوجها من السجن و أبحث له عن وظيفة ، أعيد المرأة من النهر و أضع يدها بيد صغارها و أجعلهم يتمشون في نزهة على الجسر و هم يرتدون أجمل الملابس و أعطيهم بيتاً من البيوت المتروكة في محلتنا ، أمنحهم واحداً من هذة البيوت التي تركها أهلها و هاجروا ، ثم أقول مع نفسي لماذا هاجروا !؟! هل كان أبو سالي سيعمل لصاً لو أنه لم يهاجر ؟ و هل ستنتحر أم سالي من الجسر بينما بناتهم يعيشن في الشارع ؟
كنت خائفة أن أرى إحداهن أو أحدهم يرمي نفسه من الجسر مرة أخرى ، أحياناً اتخيل الناس يقفون طابوراً طويلاً أمام الجسر و ينتحرون مجموعة بعد أخرى ، ولكن ما الذي ستفعله الحرب ؟ هل ستنهي الحصار ؟ وهل سيعود الذين هاجروا إذا إنتهى الحصار ؟ هل سيعود عمو شوكت رجلاً أنيقاً ببذلته الغمقة و قميصه الأبيض و ربطة عنقه و حذائه ؟ هل سيختفي برياد من حياتنا ؟ أم إنه سيحبنا أكثر لاننا سنعطيه طعاماً كثيراً؟
في التلفزيون طائرات عدوة على متن بوارج حربية عملاقة و جنود من كل دول العالم في طريقهم ألينا و نحن نستقبلهم بالأناشيد الحماسية و باليأس و الأنتحار من الجسر الى المياه الباردة .
ماذا يريد منا هذا العالم المتقدم ؟!
ماذا تريد هذه الدول السعيدة بأساطيلها الهائلة من الشعب جائع و بائس و منهك القوي؟!
-لقد خربوا بلدنا و أفرغوه من الطبقى الوسطى ، كانت مدرسة اللغة العربية تكرر علينا كل يوم هذه العبارة الغامضة .
ماهي الطبقة الوسطى ؟ كيف نعرف أن احدهم ينتمي للطبقة الوسطى ؟ هذه واحدة من الغاز التي تحيرني ، حتى عندما سألت أبي ...هل نحن من طبقى الوسطى ؟! قال لي :نعم ...لأنني استاذ جامعي و أمك تحمل ماجستير في الهندسة ونحن لينا أغنياء و لسنا فقراء في الوقت نفسه ، نحن أبناء الدولة ، وأذا أختفت طبقتنا أصبحت الدولة ماكنة عاطلة ، ماذا عن الفقراء يا أبي أليس هم أبناء الدولة أيضاً ؟ سكت قليلاً ثم نظر الى وجهي مستغرباً من هذا السؤال ، لأن الأباء يجب أن تكون لديهم إجابه عن أي سؤال ، قال لي: الفقراء أبناء الوطن .
أنا لا أفهم في سياسة ، ولا أريد أن افهم عنها شيئاً ، لكنني لا أحب حياة في الملجاء مرة آخرى ، لا أحب أن أرى البنايات تتهدم فوق بعضها ، لا أريد للجسور أن تسقط قتيلة في الماء ، لا أريد أن يهتز بيتنا من وقع إصطدام الصواريخ بالأرض ، لا أريد أن أموت ، ولا أريد أن يموت غيري .
هل أنا خائفة ؟؟
نعم أنا أخاف ، أخاف كثيراً من الحرب ، أخاف حتى من بياناتها و أغانيها و موسيقاها و قصائدها الحماسية ، فكيف لا أخاف أذا وقفت الطائرات في السماء وهي توزع الموت بخطوط مستقيمة ؟
لماذا على أن أشهد كل ذلك في حياة واحدة ؟ حرب في طفولة ، و حصار في المراهقة، وحرب جديدة باسلحة ذكية و متطورة و أنا لم أبلغ العشين بعد ، كيف يمكن لإنسان طبيعي أن يروي سيرته الشخصية عندما يكبر وهو ينتقل من حرب الى الأخرى ؟
هل هناك ماهو أقبح من الحرب ؟ كم هو قبيح هذا العالم الذي يتفاهم بالحروب و الحصارات ، ما معنى الحضارة ونحن نجوع الأطفال الكبار ثم نرميهم بالصواريخ ؟
ما معنى أن تتقدم البشرية وهي ما تزال تبتكر أكثر وسائل الموت الجماعي فظاعة ؟
هذة ليست أسئلة سياسة المعقدة ، هذة ببساطة أسئلة الإنسان الذي يخاف ، نعم أنا أخاف ، أخاف بشدة و أرتجف من شدة الخوف ، من هذا الخوف نفسة تشرق إنسانيتي التي تكره حاملات الطائرات ، من هذا الخوف وحدة تتأسس حضارتي شخصية ، التي تكره الحروب ، من هذا الخوف أنا أحب الناس كلهم ، الناس الذين يرتجفون خوفاً من أخبار الحروب .
تم قبول أحمد في قسم الهندسة المعمارية في جامعة الموصل ، و فارووق في تربية الرياضية جامعة بغداد ، و صرنا كل واحد يعيش في  جهة.
في الليلة التي سبقت يومي الأول في الجامعة ، فتحت الدرج القديم في صالة بيتنا و نبشت فية أبحث عن صور أمي يوم كانت  طالبة في جامعة البغداد ، تناولت من بينهما صورة واحدة و صعدت بها الى حجرتي ، صورة أعرفها و قد دققت في تفاصيلها عشرات المرات ، كانت أمي في هذة الصورة تجلس مع مجموعة من زميلاتها و زوملائها في الحديقة الكلية ، قريباً منها تتخذ صديقتها فاتن مقعدها وهي تنظر للأمام بتسريحتها و أناقتها و سحر حضورها .
خالة فاتن ، كما كنت أسميها في طفولتي ، هي نموذجي في الحياة الذي أريد أن أكونه ، يخيل لي على الدوام إنني عندما أكبر سأكون شبيهتها ، سأقص شعري مثلها، وأتزوج رجلاً يشبه زوجها ، يعمل سفيراً و أعيش معة في عواصم و مدن الجميلة ، ألتقي مثلها بزوجات السفراء والدبلومانسين ، أضع يدي فوق ركبتي و أسحب قدمي الى الداخل و ألتفت نصف ألتفاته نحو سيدة أفريقية تجلس الى يميني و نتحدث عن بلدنا ، أحدثها عن عراق و تاريخه و فولكلورة و أزيائه ، و تحدثني هي عن بلدها ،أصغي لها بأحترام و أهز رأسي مع كل كلمة تقولها .
تأملت الصورة جيداً ، تمنعت في كل شيء ، في قميصها ،في تنورتها ، في جواربها و حذائها ، تمعنت طويلاً في جلستها و يداها تتشابكان عند ركبتها و هي تبتسم مثل أميرة من زمن أنيق ، كانت فاتن طالبة جميلة من زمن أمي الجميل ، ذلك الزمن الذي يتنفس الكبرياء و الثقة بالنفس ، حين كانت طالبة الجامعية تعني الفتاة الذكية المتسلحة بالمعرفة و قوة الشخصية ، تعني إعتدادها بنفسها و بالعالم من حولها ، حشرت الصورة في الحافة مرآتي من جهة اليمين ، ورحت أرتب ملابسي و أعدل تسريحتي تحت إرشاداتها ، أريد أن أكون مثلها .
لبست تنورتي ووجدتها أطول من تنورتها ، لبست جواربي و كانت أكثر قتامة من لون جواربها ، لبست حذائي و كان خجولاً متردداً،
عدلت تسريحتي لكنها لم تأتي كما أريدها ، بيني و بين خالة فاتن زمن بعيد ، زمن تغيرت فية الأشياء و تباعدت فيه دروب الحياة ، صورة فاتن تنتمي الى المستقبل ، الذي تركته المدينة خلفها ، المستقبل الذي توقف هناك يراوح في مكانه على هيئة البوم صور قديمة منسية في الأدراج .
تركت ملابسي على حافة المكتبة و نمت .
في صباح اليوم الثاني استيقظت على شمس الجديدة ، شمس دافئة ترسل أشعتها الى روحي ، أصبحت هذا اليوم طالبة جامعية ، أصبحت جزءاً من الحياة الحقيقية ، من النهارات اللذيذة كما كنت اتخيلها ،أذهب بعيداً عن أهلي لوحدي ، أعيش في عالم جديد يتسع أمامي دفعة واحدة .
الحياة الجامعية ليست المرحلة دراسية متقدمة ، أنها الحياة بكل جديتها ، تتفكك فيها العلاقات القديمة و يعاد تشكيلها ، يختلف بداخلها معنى الزمالة الدراسية ، و سيختلف أيضاً معنى العلاقة بالآخرين ،ستكون الأمور أكثر وضوحاً، و الأخطاء ليست بريئة، الحق في الخطأ سيغدو منذ البداية هذا الصباح أمراً غير مفهوم ، ألحق في التلقائية سيكون غيو مسموع ، الحق في عدم تحمل  المسؤلية عن سلوكنا سيظهر بدورة غريباً .
دخلت بوابة الجامعة بخطي خجولة ، خيل الى ساعتها ان كل العيون تتجه نحوى و تراقبني ، كل الأفواه تتحدث عني في هذه اللحظة ، كما لو أنني أولد فجأة في عالم غريب،اسمع وقع حذائي
على الرصيف الطريق ،أركز نظري الى الأرض و أنسى توازني .
كلما تناهت الى مسامعي قهقهة عابرة تتألم روحي و أختنق ، أخشى أن تتعثر قدماي و أسقط في حفرة على الرصيف ، نسيت مشيتي القديمة التي تعلمتها منذ أول خطوتين على سجادة بيتنا ، كيف كنت اركض في درورب المحلة كل هذة السنوات و أنا لا أخاف من السقوط ؟
كان اليوم الأول في الجامعة هو الفاصلة الأولى بين زمنين في حياتي، زمن اللهو البريء والطفولة الساذجة و والمراهقة المرحة ، و زمن الجديد تنكمش فية دواخلي كما لو إنني أنطعج و تتصلب أعصابي وهي تتهجى الوجوه و الأفعال وردود الأفعال، لم يعد لدي جواب جاهز على كل سؤال ، لابد من التفكير جيداً قبل كل كلمة أنطقها ، لابد من مراقبة الخطوات و أفتعال الهدوء و الجلوس بحذر على مقعد الدراسة .
هل أحمل كتبي بيدي اليمنى أم باليسرى ؟ هل أضع حقيبتي على الأرض أم أبقيها الى جانبي ؟هل اتكيء على مقدمة المقعد، أم استند الى الخلف ؟ هل أسرح يدي طليقتين أم أحبسها عند جلوسي فوق الحجاب الحاجز ؟ لماذا نسيت أن أسأل أمي كل هذه الأسئلة ؟ لماذا صدقت تلقائيتي و أعتمدت عليها ؟
جميع هنا لديهم أصدقاء جاؤوا معهم من المدرسة نفسها أو من المحلة نفسها التي يعيشون فيها ، ألا أنا وحيدة ، أمشي وحيدة ، أجلس على دكة صغيرة في الظل ، أخجل أن أشتري طعاماً و أرتبك أذا نظر الى أحدهم .
بعد أيام ، إكتشف مصادفة أن بيداء تدرس في جامعة نفسها لكنها في قسم الآخر ، تعلقت بها روحي و صرت أقصدها بين درس و أخر ،أجلس معها في النادي بعيداً عن الأخرين تغني لي بصوت لا يسمعه سواي و تسحبني الا ذكرى .
بيداء هي الشيء وحيد من محلتنا الذي جاء معي الى هذا المكان ، هي العلامة التي تأتيني من الماضي الأمن ، بيداء في هذه الأيام كانت تعني بالنسبة لي تسع عشرة سنة هي سنوات حياتي كلها ، كنت معها كمن تمسك بيد أمها و تدفع قدمها نحو مياه عميقة الباردة ، كأن الجامعة نهراً بارداً اتحسس برودته بأطراف أصابعي قبل أن أرمي بنفسي أليه .
عونه الكاعد هسة كبالك ،، يا محبوبي شلون أحوالك .
أحبس دمعتى و أتمتم :
-شكد مشتاقة لأيام الثانوية .
-راح يجي يوم تشتاقين لأيام الجامعة .
أسرح في البعيد مهووسة بالأيام القديمة و بالذكريات ، ينتهي الوقت ،أقبلها كما لو أني أقبل  في خدها محله كامله ، أقبل تسع عشرة سنة من هواء الطفولة ، و أركض فوق عشب الحديقة نحو بناية القسم .
بيداء شابه بملامح طفولية و بشرة صافية و عينين رماديتين بحاجببن الكثيفين ينعقدان فوق أنفها الصغير ، طيبة القلب و تعشق الحياة و كريمة في مشاعرها ،في الأيام التي أنشغل فيها عن زيارتها تأتي الى قسمي و تتفقدني مثل أم لديها صبية واحدة مدللة ، تخشى عليها حتى من الهواء ، تقبلني بحنان ألف جدة و هي تقبل روح حفيدها الوحيد ، معها وحدها صرت أشعر إنني مازلت أعيش في محلتنا في الشارعنا ، في مدرستي القديمة .
قبل نهاية الوقت ، تنهض بيداء معي و نسلك طريق الضيقة التي طبعتها أقدام الطلاب على العشب الرطب ، نتوقف في وسط المسافة بين قسم المعمارة و قسم بناء و الأنشاءات ، بيننا خطوة واحدة ، لكنها تعني بالنسبة لي طفولتي و مراحقتي .
مرة وأنا أودعها بتلويحة من يدي تعثرت قدماي ووقعت على الأرض مدت أحدى الطالبات يدها و ساعدتني على الوقوف ، نظفت تنورتي بيدي ،شكرتها وواصلت طريقي و في عيوني دمعة جديدة .

(الكاتبة /شهد الراوي )
💋💋💋💋💋💋💋💋💋💋💋💋💋💋
اتمنى تعملوا صوت و الكومنت لأن هواي تعبت

ساعة بغداد حيث تعيش القصص. اكتشف الآن