نِقمَة

672 87 215
                                    

من مقعدي الدراسي أنظُر لما وراء النافذة الشفافة، لا أشجار، لا لون أخضر، ليسَ سوى مساحة متوسطة الامتداد، مفروشة بالقرميد، تُجسّد الحرَم المدرسي. واضعًا يدي المغطاة بالقفاز الصوفي الأسود أسفلَ ذقني، وممسكًا قلمي بيدي الأخرى، وأنا أُديرهُ بضجَر.

"أَوس.."

سمعتُه، ولكنني تجاهلتُه لأنّني أعلمُ غايتَه من مناداتي. بيدَ أنّه يعلم كيفَ يستفزُّ عنادي ويخرجني من لا مبالاتي هذه.

"يا أُوَيْس!"

عندَها التفتُّ لأستاذي بنظرةٍ ناريّة، أستطيعُ احتمال كل شيء إلا تحريف اسمي بهذا الشكل المُريع.

-"ماذا؟"

="اذهب لزيارة جاركَ، خذ هذه الملاحظات معك فهوَ لم يحضر سوى يومينِ هذا الأسبوع، وإن بقيَ على هذا الحال فسيصعب الأمر عليه"

-"ليسَ ثانيةً." هسهستُ بها وأنا أرطمُ رأسي بالطاولة بانزعاج.

="افعلها، سأعفيكَ من واجبات يومينِ كاملين في المقابل.

-"أسبوع!"
="ثلاثة"
-"لن أذهب."
="طيب، أربعة."
-"اتفقنا."
="واشرح له بعضَ الدروس أيضًا." ورطمتُ رأسي بالطاولة مجددًا.

بعدَ انتهاءِ الدوامِ المدرسي أوظب أغراضي بداخل حقيبتي، أشدّ وشاحيَ الأسود حولَ رقبتي، أعلقُ حقيبتي على كتفي وأمضي. عندَما أصل للمنزل تستقبلُني هيَ، كالعادة، واقفة على عتبة باب المنزل بقبضَتينِ مضمومتين لصدرِها قلقًا عليّ. أبتسمُ حالَ رؤيتها، وتقتربُ هي متفحّصةً ملامحي عن قُرب. لا شيء يفزعُ أمي أكثر من بُكائي بلا سبب. أتأمّلُ عينّيها الرماديّتين الفاتنتين. كم كنتُ أثيرُ قلقَها دومًا في صغري.

لا أزال أذكُر كيف كنتُ آتي للمنزل باكيًا بلا سبب حالَما يلامس أحدهم جلدي العاري. لم أفهم شيئًا وقتَها، لم أعلم أي نقمة كُتبَ لي أن أعيش، ولم أفهم كيفَ يعقل أن أكون وعاء حزنٍ بشري، يستقبلُ هموم الناس إن لامسوا جلدَه، ويجتاحُهُ الكمدُ هكذا، بلا عذرٍ قبيحٍ ولا ذنْب.

لا أزالُ أذكر، يومَ وفاة والدي، لمْ أبكِ أمام أحدٍ لأنّ أمي لم تفعل. وبعدما صرنا لوحدِنا، احتضنتني أمي بقوة، وانهارَت باكية. بكيتُ معها، واجتاحَني حزنها كموجٍ هائل، بهيئة دفعاتٍ متقطّعةٍ، منتظمة، ومحمّلة بحُزنِ أمّةٍ. أي بما يكفي لصهر قلبي ألف مرة في اليوم، قلبي الذي لم يكن أكبر من وردةِ جوري يومَها، وأنا ذو الأعوامِ السبع.

نقمَتي هذه لم تكُن يومًا فيَّ أنا، ولا في غرقي حزنًا. النقمة في علمي بهمومِ من هم حولي وأنا بلا حول ولا حيلة. وإن جئتُ أصيغُ حالي بصيغةٍ أشدّ بؤسًا، فسأقولُ أنني أُعاني عبثًا. هذا الهم وسحق فؤادي المتتابع لا يغني عن مَن حولي من همومِهم شيئًا.

أبتسمُ بوجهِ أمّي مُطمئِنا، أخبرُها أنها اليوم أجملُ من العادة، فتضحكُ وهي تخبرني أنني أقولها دائمًا، أتغزّل بجمال عينَيها وثآليلها حتى تضربَني بكامل اللطفِ على مؤخرة رأسي مُداريَةً خجلها.

نقمَة | TroubleOn viuen les histories. Descobreix ara