الفصل الثاني والعشرون

8.2K 359 29
                                    

أطاعته متعجبة من ردة فعله غير منتبهة لما يدور حولها.. مد يده نحو القلنسوة يرفعها سريعاً ليغطي شعرها بالكامل.. مثبتاً نظراته على زمرديتيها بحديث إستشفت منه نار مستعرة داخل صدره.. يأمرها أن تعيد لثامها كي لا تطالعها عين بشر ولا ينظر لها غيره بإفتتان.. تلك الجنية الساحرة.. الشهية للغاية .. المُذيبة لأعصابه لكن إياها وأعصاب الآخرين.. إنها حِكره وخصوصيته.. مُلكه وملكيته.. أرضه الضائعة وبلاده التي لايعلم اي طريق مؤدي لها سوى شفتيها.. حبة الكستناء المغوية التي لا يحق لمخلوق أن يُغوَى بها غيره لأنها بكل مايمتلك من أنانية وحبٍ للذات أفروديت خاصته.. أمسكت هيلينا طرف اللثام بأصابع مرتجفة تثبته مرة أخرى على وجهها.. وبحركة أجفلتها سحبها من مرفقها ليبتعدا عن هذا المكان قبل أن يفقد سيطرته على نفسه ويقوم بإراقة دماء من إختلس النظر إلى قدها القتال .. بينما هما على هذه الحالة الصامتة من الشد والجذب كان هناك زوج من العيون يراقبهما بحسرة.. نار غيرته التي تضج بها أوردته المنتفخة أضرمت في قلبها حريقاً .. إمتدت ألسنة لهبه لتردي آخر أمل لها في إمتلاكه حطاماً.. حبست أوريانا دموعها داخل محجريها بشق الأنفس.. رؤيتها لهيلينا بعدما كشفت عن وجهها وشعرها ألجمتها .. من كانت تظنها أقل جمالاً منها تمتلك فتنة سبعة أكوان وجمال ألف قبيلة.. لا يضاهي بهائها أنثى ولن تستطيع منافستها بأي شكلٍ كان .. سحبت نفساً مرتجفاً تعبأ به رئتيها المحترقتين ثم زفرته على مهل مُحَدِثة نفسها بألم : بِمَن تقارنين نفسك يا إبنة آجنوس؟ .. إنها الأميرة سليلة الملوك والأمراء وها هي تجذبه بدمائها التي تجري في شريان وتينه... إبتلعت غصتها الممتزجة بكرامتها المتورمة ثم نفضت شعرها الأسود الثائر كمشاعرها الغجرية وقررت اللحاق بهما حتى ترشدهما إلى المنطقة الثالثة ... أما عنهما فكانت الأجواء متوترة بينهما .. هو يشدد قبضته على رسغها طاحناً عظامها الرقيقة تحت أصابعه بغيظ وهي تتألم لكنها سعيدة.. تتطاير الفراشات الملونة في صدرها.. عينيها تفجران قلوباً حمراء كلما وقعت على وريده البارز بجانب عنقه يهتز وينفر من فرط غيرته.. تحاول كتم ضحكة متسلية تتسلل إلى مبسمها الملثم.. تتحدث هامسة لنفسها : إنه يغار.. و ما أجمله حين يحترق بنار الغيرة.. توقف فجأة عندما وصل صوتها الضعيف إلى مسامعه وإلتفت يحدجها بنظرات مُحَذِرَة أن تكف عن العبث بما تبقى لديه من صبر على التلذذ بأكل جمالها حتى لا يضطر لقتل أحدهم.. وأثناء عراكهما البصري إقتربت منهما أوريانا تلملم أذيال هزيمتها هاتفة بصوت تجاهد على إخراجه طبيعياً : إنتظرا من فضلكما
إستدار چايدن ناحيتها ولم يستطع التحكم في وجوم ملامحه لكنه أجابها بنبرة هادئة نوعاً ما : معذرةً أوريانا.. غادرنا دون أن نعلمكِ
إبتسمت إليه قائلة : لا عليك.. صمتت لثواني ثم تابعت بلهجة عملية متسائلة : ألن تكملا جولتكما؟
رد عليها بثبات زائف : بالطبع سنكمل لكننا لا نعلم الطريق
أشارت أوريانا للجهة المقابلة له  : هذا الممر يؤدي إلى المنطقة الأكبر والأهم في إيبريوس ..أستطيع مرافقتكما هناك
أومأ لها بموافقة يجيبها ممتناً : شكراً لكِ ..
تقدمته في السير ملقية نظرة خاطفة على هيلينا بطرف عينيها.. لاعنة الحظ الذي أوقعها في هذه المنافسة الغير منصفة بينما كانت الأخيرة ترغي وتزبد في سرها من إصرار هذه الغجرية على التواجد في محيطه بلا مبرر.. إنتظر چايدن إبتعاد أوريانا ثم أحاط خصر هيلينا بذراعيه ليلصقها به بشكل مُلفِت للأنظار يسألها بهمس محترق : أتغارين؟
صكت أسنانها بغيظ تجيبه بصوت مكتوم : إبتعد عني قليلاً .. ستثير إنتباه المارة لما يحدث بيننا
أطبق جفنيه بشدة ثم تحدث بنبرة مخيفة : إخرسِ هيلينا.. إخرسِ ولا تفقديني صوابي في هذه اللحظة حتى لا أرتكب جريمة
رفرفت بأهدابها تسأله متعمدة ترقيق صوتها : لِمِ كل هذا الغضب ياسمو الأمير؟
أجابها بأنفاس مضطربة : ستعلمين السبب حينما نعود إلى المنزل
لاحت إبتسامة شقية على زمرديتيها ولم ترد بينما هو أشاح بوجهه بعيداً عنها يعض على شفته السفلى محاولاً إستجماع شتات نفسه حتى لا يتهور ويشبعها تقبيلاً أمام الناس مُعْلِناً ملكيته لها .. زفر تنهيدة من أعماق نار غيرته وأمرها أن تسير أمامه نحو أوريانا التي كانت تقف على مقربة منهما بملامح متجهمة ..
**********
دخل چايدن و هيلينا المنطقة الثالثة بترقب شديد لما سيقابلهما من أسرار لم يكتشفاها بعد.. تلفتا حولهما بأعين جاحظة و الصدمة تعتري وجهيهما .. المكان عبارة عن حانة ضخمة.. أرفف خشبية معلقة فوق بعضها البعض بمسافات متساوية .. تمتد أفقياً دون حواجز بطول الجدران .. تُرَص عليها زجاجات النبيذ المُخَمَّر بجميع أشكاله وأنواعه.. الأمر إلى هذا الحد ليس بغريب لكن ما أثار إستيائهما هو وجود عدد كبير من الناس المنغمسين في شرب الخمر بشراهة يترنحون من فرط سُكْرِهم.. يبدو على هيئتهم الثراء.. كما أنه من الواضح عدم إنتمائهم للمزارعين أو العاملين في المَعْصَرَة العملاقة.. إستدار چايدن إلى أوريانا يسألها بتعجب : ماذا يحدث هنا؟.. ولماذا أشعر بشئ غامض في هؤلاء السُكََارى؟
أجابته أوريانا : إنهم حاشية الملك وأقربائه.. لا وظيفة لهم سوى إحتساء الخمر و اللهو هنا في الحانة.. يستعبدون مزارعي البساتين لتلبية رغباتهم ولا يعطون لهم أي أجور على عملهم ومن يعترض يقطعون رأسه لما يمتلكونه من صلاحيات مُطْلَقة
سألها چايدن مرة أخرى بصدمة : هل تعنين أن مجهود هؤلاء المزارعين والعمال يذهب سُدى؟ .. صمت للحظات يبتلع فيها طعم مُر إستقر داخل حلقه ثم تابع بنبرة مُشْفِقَة : هذا أسوء ما رأيته في حياتي
نظرت إليه هيلينا تقول بألم مماثل لألمه : الوضع هنا لا يثير الإستياء وحسب.. لقد تخطى هذا الملك هو وحاشيته حدودهم كثيراً
ردت عليها أوريانا بنبرة هازئة : لا تتحسرِ هكذا ياصغيرة هناك أمور أسوء بكثير من ذلك
سألتها هيلينا بأعين مشتعلة : وهل يوجد أسوء من الحُكم الجائر الذي يستنزف دماء الرعايا وجهودهم من أجل هوس مريض؟
جاوبتها أوريانا ومعالم الألم بادية على صوتها : يوجد لكنك لا تعلمين عنه شيئاً
قاطعهما چايدن منهياً جدلهما تجنباً للصدام بينهما : على كل حال لن يستطيع أحد تغيير هذا الوضع المزري لأنهم يرتضون المهانة على أنفسهم .. التغيير يجب أن ينبع من داخلهم
أومأت أوريانا برأسها موافقة على حديثه ثم قالت : أنت محق رفضنا وإستياءنا من أجلهم ليس له معنى طالما هم لا يتخذون موقف رادع يعيد كرامتهم المسلوبة على يد من يدعس على جهدهم ويسحق آمالهم تحت أقدام رغباته
مسح چايدن على رأسه مغمضاً عينيه حتى لايبكي من فرط الألم الذي إختلج صدره شفقةً وحسرة على هؤلاء المُسْتَضْعَفِيِن وبعد دقائق من الصمت تحدث بصوت يقطُر حزناً : أتمنى أن يحدث بعد ذلك أمراً ينجيهم من هذا الظلم والاستبداد
أمسكت هيلينا كفه قائلة بضيق من مجاراته لأوريانا في الحديث : الشمس إقتربت من المغيب ويجب أن نعود إلى المنزل الآن
نظر إليها بحاجب مرفوع ولم يرد عليها مكتفياً بابتسامة متلاعبة وترتها كثيراً ثم إستأذن من أوريانا بلهجة عملية وبالفعل إنصرف معها ملبياً لرغبتها وسط أنظار تلك التي أضنى الهوى روحها.. تتابع تحركهما بعيون غائمة.. تستعيد كلمات الأم ريڤا عندما حذرتها من الوقوع في غرام منقطع الأمل.. والآن فهمت مدى صحة قولها لكنها مترددة مابين محبتها وإنسحابها والقرار أصبح بين رُحى قلبها وعقلها وإما أن تستسلم وتُسَلِم بواقعية هزيمتها أو تتدبر حيلة للفوز في المعركة التي لم تكن على علم بحتمية خوضها من أجل رجلٍ صعب المراس .. مستحيل المنال.. والأسوء مما سبق أنه مُغْرَم بأخرى تفوقها جمالاً وحُسناً..
**************
على صعيد آخر /
وصل چايدن وهيلينا إلى المنزل بعد وقت ليس بقليل.. ولم يخلُ الطريق من بعض المشاحنات الغاضبة الممتزجة بالغيرة من جانبه.. والمشاكسة الشقية من جانبها .. وقفا أمام الباب ينظر كلاً منهما للآخر .. هو يتوعد لها وهي لم تستطع إخفاء إبتسامة مقلتيها.. أشار لها أن تتقدمه للدخول دون أن يتفوه بكلمة صاكاً  أسنانه بغيظ من ردود أفعالها المثيرة لأعصابه..إمتثلت لأمره الصامت بصمت مماثل لكنه صمت مشحون .. لا تعلم ماذا يخبئ وراءه.. اتجهت نحو الفراش تجلس عليه بترقب شديد.. بينما هو وقف أمامها متخصراً ..يطرق برأسه لأسفل ووريده المنتفخ في جانب عنقه يزداد إرتجافاً.. صدره يعلو ويهبط بأنفاسٍ متسارعة .. أما هي مكثت في مكانها تفرك أصابعها بتوتر.. تنتظر هبوب عاصفته التي أنذزتها بها نظراته المشتعلة وما أن همت بالحديث حتى رفع عينيه إليها هادراً : أصمتِ هيلينا.. لا أريد أن أسمع صوتك
صوته الجهوري عقد لسانها لكنها أجفلت من إقترابه المفاجئ يمسك مرفقها لتنهض من مقعدها متسائلاً بغضب : كيف؟
إبتلعت ريقها بخوف تجيب سؤاله بسؤال متلعثمة : ماذا تقصد؟!
مد يده نحو القلنسوة يزيحها بعصبية جعلت خصلاتها الناعمة تنساب خلف ظهرها بطول يصل حتى منتصف وركيها ثم سألها مرة أخرى بلهجة أقل حدة لكنه مازال يتنفس ناره غيرته المتأججة داخل صدره : كيف إستطالت خصلات شعرك إلى هذا الحد؟.. وكيف لي ألا أنتبه لمدى جمالها؟.. وكيف ينظر إليكِ هذا الوغد مفتوناً بها؟
حاولت إخفاء إبتسامتها التي بدت واضحة على زمرديتيها تجيبه بهدوء : ليس لدي إجابة واضحة على تساؤلاتك الغير مفهومة سوى أنني لا أعلم
إقترب منها خطوة يسألها مجدداً بخفوت خطر : لا تعلمين ماذا؟
تراجعت إلى الخلف بينما هو إستمر في الإقتراب بنظرات غامضة ثم رفع يده نحو اللثام ليميطه عن وجهها يقول بأنفاس ملتهبة : أنتِ لئيمة جداً .. وماكرة جداً و... صمت لثواني يبتلع ريقه وقال بصوت مرتجف : وجميلة جداً .. وفاتنة جداً .. وشهية جداً ..و... بُتِرَت كلماته بواسطة هيلينا التي لم تدري بنفسها إلا وهي تلثم شفتيه مبتلعة حروفه الآسِرة في جوفها بقبلة جعلته يفقد صوابه أكثر.. إبتعدت عنه تلتقط أنفاسها الهادرة واضعة جبينها على جبينه مغمضة عينيها تسأله بهدوء : وماذا؟
أجابها بصوت هارب من أثر قبلتها المخملية : ومغوية جداً .. و... وأحبكِ جداً .. وأغار عليكِ جداً
إحتضنته بشدة قائلة بابتسامة من خلف ظهره : وأنا أيضاً أحبك يا أمير روحي
أحاطها بذراعيه يقربها منه أكثر متسائلاً بنبرة هادئة لكنها تحمل الكثير : وماذا عن غيرتي وغضبي وإحتراقي من الداخل؟
إبتعدت عنه قليلاً تنظر إليه بشقاوة قائلة بنبرة متسلية : تستطيع طلب أي تعويض يرضيك ياقرة عيني
أجابها ناظراً داخل عينيها وكأنه يرسم زمرديتيها بمقلتيه : أريد رؤية شيئاً تخصيني وحدي به .. شيئاً لم يراه منكِ رجلاً غيري
رفرفت بأهدابها الكثيفة ثم سألته بخجل : شيئاً مثل ماذا؟
مرر عينيه على ملامحها ولم يرد مكتفياً بنظرات فهمت منها مقصده.. تصلبت أنظارها الخَجِلَة على تعابيره المُلِحِة ولم تجد مفر من تلبية رغبته على إستحياء..إبتعدت عنه برفق متحدثة بخفوت : چايدن
أجابها بصوت واهٍ : ماذا؟
أطرقت برأسها لأسفل ثم ردت عليه بخجل شديد : من فضلك أنظر للجهة الأخرى أو إعطني ظهرك
لاح شبح إبتسامة متلاعبة على ثغره لكنه أطاعها في صمت يترقب ما ستقوم به من أجله.. بينما هي وقفت خلفه تفرك أصابعها بتوتر.. خائفة أم خَجِلَة لا تعلم.. لكنها بالتأكيد ستفعل مايرغبه حتى لو سلبها روحها أو أفقدها المتبقي من أيام عمرها القصير.. فلتذهب الروح وينقضي العمر فداءً له .. أخذت نفساً قوياً ثم عضت على شفتيها وقامت بخلع ملابسها لينكشف جسدها الغض برداء أبيض قصير ذو حمالات رفيعة لا يغطي الكثير من مفاتنها.. وبهمس متداعي نادت عليه : چايدن! .. إستدار لها لتصطدم عينيه بجمالها.. فغر شفتيه غير مستوعب لما يراه.. شعرها الذهبي الذي يصل إلى مابعد رداءها بكثير والرداء نفسه بلونه الذي يتماشى مع بشرتها المخضبة بحمرة خفيفة .. زمرديتيها المُهْلِكَة ومبسمها القاني كل هذا جعل منها فتنة تمشي على قدمين .. شعر بقلبه يضرب عظام صدره بعنف أوجعه وإرتجافة شديدة دبت في جميع أوصاله من أثر رؤيتها بهذا المنظر الشهي .. حمماً سائلة ملتهبة تسري بين دماء أوردته لن يخمدها إلا شيئاً واحداً حُرَّمَ عليه كما حُرِمَ من نهد والدته في صغره عنوة ..مسح على رأسه يحاول تهدئة إنتفاضة جسده الذي إتخذ وضعية الهجوم على من إستفزت خلاياه التي يكبتها بصعوبة وهي مغطاة بالكامل فما باله برؤيتها هكذا؟.. وبعد صمتٍ متخاذل خرجت الكلمات من فمه ككرات لهبٍ محمومة يقول وسهم عينيها مغروس في كبده : لم تفعل بي اللعنات ما أنتِ فاعلة الآن بجسدك ولا لقاء عدوي مثل لقياكِ
أشارت له بطرف العين أن يقترب .. إشارة صامتة محزونة على حالته ولم تتكلم حتى لا تزيدها عليه.. أما هو فقد بلغ منه الوَصَبُ مبلغه.. روحه تؤلمه وصدره مليئ بالكدمات من الداخل نتيجة قرع خافقه المستمر في الإزدياد.. ولم تجد هيلينا بُداً من إتخاذ المبادرة.. تحركت نحوه تنظر لقدميها الصغيرتين خيفة الإقتراب حتى أصبح لايفصل بينهما سوى النَفَس.. وقفت قبالته تتفرس في تقاسيم وجهه الجميل ثم مدت كفها الرقيق تمسح على وجنته متسائلة بقلق : أنت بخير؟
حرك رأسه نفياً يجيبها بألم : كلَّا ولن أكون أبداً
سألته مجدداً بحزن : لماذا؟!
أجابها باكياً : لأنني حتماً سأضعف أمامك يوماً ما.. إن لم يكن الآن سيكون فيما بعد وسأرى دمائك تسيل بين ساقيك إذا ما تحاشيت النظر إليهما
إحتضنته بقوة ولم تستطع كبح دموعها تقول بنشيج متألمة لألمه : أنا راضية.. راضية بأن أفديك وأتلقى كل مايؤلمك في صدري.. راضية بأن أموت لتحيا ..ياليت كل هذا الوجع كان من نصيبي ولم يمسسك ضراً ياقرة عيني
أحاطها بذراعيه مشدداً عناقها يقول ببكاء : كفى.. أتوسل إليكِ كفى.. هذا الحديث يؤذيني ويؤلمني أكثر مما أنا فيه
دفنت وجهها في حنايا عنقه تنتحب بمرارة أوجعته فأبعدها عنه برفق ينظر لعينيها الدامعتين يسألها بصوت متحشرج : لِمَ كل هذه الدموع؟ .. المشكلة عِندي والألم يكمن في رغبتي الملعونة.. صمت للحظات ثم تابع بثبات زائف : سأطلب منكِ طلب وأتمنى ألا ترديني فيه
مسحت دموعها بجانب كفها متسائلة بعدم فهم : أي طلب هذا؟
أغمض عينيه لثواني يستجمع رباطة جأشه وقال : إتركيني وشأني.. إبتعدِ عني وتجاوزي وجودي في هذه الحياة المشؤومة.. أرجوكِ  يا هيلينا.. إبحثِ عن الحب في مكان آخر أنا لا أصلح.. ولن أتحمل تأثير جسدك ورائحتك وتفاصيلك بالقرب مني والنهاية ستكون فاجعة لي... يكفيني أن أراكِ حية.. تتنفسين.. وسعيدة بمن يستحقك
جحظت عينيها بشدة من كلماته التي طعنتها في منتصف كرامتها ولم تدري بنفسها إلا وهي تدفعه بقبضتيها صارخة به : أنت تهذي؟.. هل ستتركني أرحل بعيداً عنك؟.. هل ستتحملها ياسمو الأمير؟
هدر بها عالياً والألم يكسر ضلوعه : لا أتحمل إقترابك .. عيناكِ تنال مني مالم يناله لوكا والآنجيوس وكل التعاويذ السوداء التي تقطْر من أيامي والأسوء أنني لن أقوى على فراقك .. في كل الأحوال أنا أموت ببطأ.. ببطأ يا هيلينا.. وهذا البطأ يسحقني ليتني أتخلص من هذه المعاناة وأقابل شيئاً يزهق روحي ويريحني ..
إنتهى من كلماته بأنفاس مضطربة وكأنه يعدو مئات الأميال ليبتعد بعقله وقلبه عنها حتى لايؤذيها .. بينما هي مكثت في مكانها تستمع إليه والدموع تغرق وجهها.. تبكي حالهما.. تتسائل في نفسها ماذا إقترفا من أخطاء ليتم معاقبتهما بقسوة هكذا؟.. أيعقل أن يشوب حياة أميرة وولي عهد كل هذا الوجع؟.. تعالت شهقاتها أكثر عندما تكرر صدى صوته وهو يطلب منها أن تبتعد عنه.. الأمر تخطى حدود العذاب وهي الآن عالقة على حافة الهاوية.. إذا إقتربت ستموت .. وإذا إبتعدت ستلاقي مصيراً أسوء من الموت.. حاولت لملمة شتات نفسها وأمسكت بملابسها ترتديها سريعاً وسط أنظاره المتلهفة لمعرفة قرارها متمنياً أن تبقى.. فقط تبقى حتى وإن مات شهيداً لهواها.. إنتهت هيلينا ثم نظرت إليه والدموع تظلل زمرديتيها متحدثة بصوت مهزوز : معذرةً سيد چايدن.. أنا مضطرة لتلبية رغبتك .. سأبتعد ولن ترى وجهي مجدداً
لم تمهله فرصة للرد وتركته متجهة نحو الخارج راكضة لتختفي من أمامه تماماً صافقة الباب خلفها بقوة.. وما أن وجد نفسه وحيداً حتى جثى على ركبتيه يبكي بإنهيار .. يضرب بقبضته على صدره صارخاً بأنفاس متهدجة : آه يا هيلينا... آه ياقلب چايدن المشتعل بين ضلوعه
خرجت هيلينا من المنزل بخطوات راكضة لا تعلم إلى أين ستكون وجهتها لكنها توقفت عندما سمعته يصرخ بإسمها.. نداءه إجتث وريدها بلا رحمة..صرخته سددت لصدرها طعنة قوية وجعلت من ساقيها شيئاً هلامياً لا يقوى على حمل ريشة وسط عاصفة هوجاء فسقطت.. نعم سقطت متعثرة في أنفاسها التي تأبى الإبتعاد عنه.. مكثت مكانها لثواني تستجمع قوتها حتى تتخذ القرار.. وبعد تفكير مزقها لأشلاء توصلت إلى حل وسط هو أن تبقى بجوار جذع الكرمة علَّه يحن عليها ويطيب ندوب روحها المجروحة.. أما هو لم يكن أفضل حالٍ منها بالعكس كانت حالته مُوجِعَة.. يحترق بنارٍ من إختياره.. يؤنب نفسه على ماتفوه به .. يحاول إستيعاب فكرة إفتراقه عنها و يشعر برجفة خوف تحوَّل مع مرور الوقت إلى ذعر بل وصل إلى الرهاب.. رهاب إبتعاد هيلينا.. إستقام في وقفته يمسح دموعه بجانب راحتيه ثم إتجه إلى الخارج راكضاً ليبحث عن تلك التي تطيعه حتى في الجنون.. وقف أمام المنزل يتلفت يميناً ويساراً كالملسوع.. إنتبه لوجود طيف لشئ متكور على نفسه كالجنين يجلس مستنداً على جذع الكرمة.. إقترب منه بتوجس ليتأكد من شكوكه حول هويته لكنه تسمر مكانه عندما إستمع لتمتمات باكية تهمس بألم : ترك الديار وسكن شرياني.. حتى أصبح داري ووطني ومملكتي وقبيلة السلام.. قلبه يؤلمه ليت الألم يحل على قلبي ويتركه ..
زفر بإرتياح عندما وجدها وبرغم مايشعر به من وجع إبتسم لأنها لم تبتعد وبسرعة ركض إليها.. هاتفاً بإسمها وكأنها غابت لسنوات وليس لبضع دقائق.. إحتضنها بشدة متحدثاً بنبرة مهزوزة : كنت أعلم أنكِ لن تفرطِ بي
ضربته بقبضتها الضعيفة على ظهره تقول ببكاء : أيها الوغد القاسي .. دعني وشأني لماذا أتيت ورائي؟
ضمها إليه أكثر ضاحكاً على حركاتها اللذيذة رغم دموعها التي أغرقت سترته ثم قال : لن أدعك وشأنك.. هل تظنيني نذلاً مثلك وسأفلت يدكِ بسبب حديث متهور في لحظة ضعف؟
حاولت التملص من بين ذراعيه قائلة بغضب : أنت الذي طلبت مني أن أبتعد
حاول السيطرة عليها صاكاً أسنانه من عصبيتها الزائدة : أنا خائف عليكِ يابلاء الرأس.. لا تحاسبِ شخصاً خائف على حديثه .. فالخوف لا يجتمع مع رجاجة العقل أبداً
إستكانت قليلاً لكنها مازالت تبكي قائلة : أنا لا أخاف على نفسي منك ولو قضيت بجوارك دهراً ..
إستند بذقنه على كتفها مغمضاً عينيه ثم قال بهدوء زائف : وأنا صرت لا اخشى شيئاً سوى فقدانك.. أنتِ مصدر قوتي ونقطة ضعفي .. قربكِ عذاب وبعدكِ هلاك وبين هذا وذاك أموت من فرط حبي لكِ
وضعت كفها فوق قلبه تجيبه صوت واهٍ : أنا في أمان هنا
أمسك كفها الآخر يلثم باطنه بقبلة عميقة ثم قال : لا تطيعيني مجدداً ياحمقاء.. كلما طلبت منكِ الإبتعاد.. إقتربِ أكثر.. شُدِ أزري وأعينِ روحي على سُقامها حتى أُشْفَى
أحاطت رقبته بذراعها الحر قائلة بإبتسامة متوجعة : وهل كنت تظن أنني سأخطو خطوة واحدة أبعد من هذه الكرمة؟.. أنت قدري ولا يمكنني التخلي عنك مهما بدر منك
أبعدها قليلاً عنه يحتوي وجهها بين راحتيه ثم نهض يحملها قائلاً : دعينا نكمل حديثنا بالداخل.. أريد رؤية خصلاتك الماكرة
خبطته على كتفه تقول ضاحكة : وقح وثقيل الظل
داعب عنقها بأنفه يمازحها : وأضيفِ على ذلك أنني مُفْسِد اللحظات السعيدة
ضحكت بشدة على دعابته قائلة : وأخيراً إعترفت أنك لا تطاق
رمقها بنظرات ضيقة قائلاً بشقاوة : سنناقش هذا الأمر في الداخل يابلاء الرأس
عضت على شفتها السفلى بخجل ولم ترد .. بينما هو تنهد براحةٍ ثم إتجه بها إلى المنزل سريعاً ليراضيها على طريقته الخاصة.. أغلق الباب خلفه ينظر إليها مبتسماً  : لنعيد الحديث من حيث بدأنا
زمت شفتيها بعبوس مصطنع : كلّا أنا مازلت غاضبة منك
طبع قبلة خاطفة فوق ثغرها ثم أنزلها لتقف على قدميها قائلاً وهو يمد يده نحو سترتها يخلعها عنها : لا تقلقِ سنصل إلى ترضية مناسبة لسموك
سألته بهدوء حذر : ماذا تفعل؟
أجابها وهو يلقي بالسترة جانباً : أحاول إصلاح ما أفسدته
همست بخفوت خَجِل : چايدن!
رد عليها ويده منشغلة في خلع باقي ملابسها لتظهر أمامه برداءها الخفي المُهْلِك : ماذا يا مُعِذِبَة لعنتي؟
تخضبت وجنتيها بحمرة قانية لذيذة وأشاحت بوجهها للناحية الأخرى تحاول الخروج من حصار نظراته الوالهة مكتفية بابتسامة بريئة من ثغرها المكتنز لكنها أجفلت عندما حملها سريعاً لتستقر بين ذراعيه.. وضعت كفيها على صدره وجدته خلع سترته العلوية فمالت برأسها علي كتفه تسأله بنبرة خافتة : لماذا خلعت سترتك؟
رفع حاجباً متسلياً يقول بعبث : لأنني سأنام.. هل لديكِ مانع؟
حركت رأسها نفياً ولم ترد.. أما هو قام بوضعها على جانبها فوق الفراش مستلقياً خلفها.. يحاصرها بذراعيه واضعاً ساقها بين ساقيه قائلاً بتنهيدة حارقة : أُحِبُّكِ حُبَّيْنِ
سألته مغمضة عينيها بانتشاء من قربه الأثير : كيف؟
أجابها بخفوت مغوي : أُحِبُّكِ حُبَ الهوى والشهوة.. وأُحِبُّكِ حُباً لأنكِ أهلاً له وتستحقين أكثر من الحُب
داعبت ذراعه بأناملها الرقيقة قائلة برقة مازحة : هذا كثير على بلاء الرأس ياسمو الأمير
ضمها إليه بقوة مبعثراً قبلاته على كتفها العاري قائلاً بهُيام : لو تعلمِ يا مُنية نفسي إنني قتيل عشقك ولا أجد من الكلمات مايصف ولهي بكِ .. ساد بينهما صمتاً ثقيلاً مشحون بالتفكير .. ثم قطعه هو يقول ممرراً أطراف أصابعه على منحنياتها ببطأ جعل القشعريرة تدب في أوصالها : ما كل هذا الحُسن يا قلب چايدن؟.. أراهنكِ أن أفروديت لم تصل إلى بهائك أبداً.. يا أفروديت خاصتي
ضحكت هيلينا قائلة : أخشى أن تسمعك أفروديت الحقيقية وتصب جام غضبها عليك
قال لها ضاحكاً : ماذا ستفعل بي أكثر مما أعانيه؟.. ثم أن قصة أفروديت وأدونيس أسطورة قديمة للغاية والحقيقة أنني لا أعترف بالأساطير
أسندت رأسها على صدره قائلة : كيف لا تعترف بالأساطير وأنت أكبر أسطورة عرفتها في حياتي؟
ضحك بشدة على حديثها يجيبها من وسط ضحكاته : وما ذنبي في كونكِ حمقاء تؤمنين بأشياء خرافية؟
خبطته بكوعها ترد عليه بغيظ : أنا لست حمقاء.. أنت بالفعل أسطورة
تأوه من خبطتها قائلاً بمزاح : أنا أسطورة اللعنات والحظ العثر يا بلاء الرأس .. چايدن أمير التعاسة الأبدية
ضحكت على دعابته قائلة : چايدن مُفْسِد اللحظات السعيدة
أزاح خصلاتها من الخلف طابعاً قبلة رقيقة أسفل عنقها ثم قال  : صدقتِ في هذا يا قلب چايدن.. وأثناء مداعبته لبشرتها الغضة إنتبه لإسمها الموشوم خلف رقبتها.. صمت لثواني ثم سألها بترقب : هيلينا!.. هل لديك وشماً أسفل رقبتك من الخلف؟
مدت كفها تتحسس حروف إسمها البارزة  : هذا وشمي الملكي.. أمراء وأميرات عائلتنا الحاكمة في ليبرا يُولَدُون بهذا الوشم كتمييزٍ لهم
سألها مرة أخرى مُسْتَفْهِماً بفضول : عائلتنا الحاكمة؟.. هل لكِ علاقة بعائلة والدي؟
أجابته مبتسمة : أجل.. تربطني علاقة دم وطيدة بعائلة والدك
فغر شفتيه غير مصدقاً : هذا يعني أنني أملك مثل هذا الوشم ايضاً
ردت عليه بأسف : بالطبع كنت تملك مثله بصفتك الوريث الشرعي للعرش لكنه طْمِسَ بعد زرع الآنجيوس داخل وريدك.. لأن سحر ليبرا لا يجتمع مع السحر الأسود داخل جسد واحد
سألها مجدداً بألم : هل سأستعيده يوماً ما؟
إستدارت له ثم أمسكت كفه ترفعه خلف عنقه ليتحسس الحروف التي ظهرت بالفعل من وشمه الطبيعي قائلة بعيون لامعة : لقد بدأت في إستعادته يا ولي العهد وأعدك أن تستعيده كاملاً في أقرب وقت
إبتسم إليها متحدثاً بحب : إذن أفروديت خاصتي تحمل دمائي بين أوردتها
مسحت على وجنته بحنان قائلة : أفروديت خاصتك تحملك كلك داخل قلبها حتى أصبحت القلب والروح يا أمير روحي
لثم باطن كفها يجيبها بخفوت : الأفضل أن ننام الآن.. لأنني بعد هذه الكلمات لن أقبل بأقل من وصلاً حقيقياً
أولته ظهرها تقول ضاحكة : على رسلك يافتى قلب أفروديت خاصتك لن يتحمل كل هذا الدلال
أزاح خصلاتها مرة أخرى يقبل حروف وشمها حرفاً حرفاً قائلاً من وسط قبلاته : أفدي أفروديت خاصتي وآكلها وأقبلها وأقبل وشمها
تحسست من أنفاسه المدغدغة لبشرتها قائلة بميوعة غير متعمدة : چايدن!.. بشرتي تتحسس كثيراً
تأوه ضاحكاً : نامِ هيلينا.. نامِ ودعِ هذه الليلة تمر بسلام
إقتربت منه تدفن نفسها أكثر بين ذراعيه قائلة :تُصْبِح على خير يا سمو الأمير
أجابها مطبقاً جفنيه يستجدي النوم في هذه اللحظة الخطرة قائلاً بصوت ناعس : وأنتِ الخير كله يا روح سمو الأمير
وسرعان ما أنتظمت أنفاسهما بعد هذا اليوم المشحون بالضغوط النفسية والعصبية لكلاهما.. وأثناء نومه الهادئ وجد چايدن نفسه يقف فوق سفح هضبةٍ مرتفعة .. تمتد مساحتها إلى مئات الكيلومترات ولها قمة مثل الجبال.. على درجة من التجانس في الارتفاع بين أجزائها المختلفة ويحيط بها جانب منحدر حائطي الشكل.. تلفت حوله بأنظار مذعورة يهتف بملأ صوته على هيلينا ومن العدم ظهر له رجلاً يجلس على قمة الهضبة.. يشير له بيده أن يكف عن الصراخ.. هدر چايدن به عالياً : من أنت؟
إبتسم له الرجل من بعيد ثم أجابه : إقترب لتعرف
سار چايدن نحوه بخطوات مرتعشة حتى أصبح قريباً منه بمسافة إستطاع من خلالها تبين ملامحه.. فغر شفتيه مصدوماً عندما لاحظ الشبه الشديد بينه وبين هذا الرجل مع بعض الفروق الطفيفة كخصلات فضية ولحية أكثف توضح تقدمه في السن لكنه ليس عجوزاً .. إبتلع ريقه بصعوبة بالغة ثم سأله بخوف : من تكون؟
أجابه الرجل بابتسامة مطمئنة : أنا السر والطلسم الأعظم
رمقه چايدن قائلاً بعدم فهم : أنا لا أفهم شيئاً
مد الرجل كفه إليه متحدثاً بنفس إبتسامته : أعطني يدك وأعدك أنني سأشرح لك كل شيء
أمسك چايدن كفه متوجساً وبحركة سريعة من الرجل رفعه ليعتلي قمة الهضبة بجواره قائلاً : لا تخف ياولدي أنت آمن في محضري
تحدث چايدن بخوف من تقارب شكله مع هذا الغريب : أنا لا أعرفك حتى أثق بك.. كما أنني خائف من التشابه بيني وبينك
ضحك الرجل قائلاً : وأنا أثق بك تمام الثقة كما أنني أشعر بأمان لتشابهنا
إبتلع چايدن ريقه بصعوبة ثم سأله بنفاذ صبر : من أنت لتشبهني بهذا الشكل المتطابق؟
رفع الرجل كفه نحو وجه چايدن ماسحاً على وجنته بحنان قائلاً : بل أنت الذي تشبهني.. لأنك ظلي المفقود.. ونبوءة فك قيدي وتحرير أسري
نظر چايدن إليه بلسان معقود لكن مئات الأسئلة تدور في رأسه.. بينما أمسك الرجل كفه يقول بنبرة رزينة : أنت أقوى من أنجبت ليبرا.. تخوض معركتك بشجاعة وإستبسال رغم حداثة سنك ياولدي.. وجميعنا ننتظر عودتك المنشودة لكن يجب عليك أن تقوم بالمهمة التي كُلِفْتَ بها
سأله چايدن بفضول : عن أي مهمة تتحدث؟.. أنا مازلت لا أستوعب مهمتي مع الشيطان الذي يسخرني للوصول إلى غايته الحقيرة
رد عليه الرجل بأسى : هذا الشيطان هو مَرْبَطُ الفرس .. لولا مافعله والده الخائن لما عانينا ولا أْخْرِجْنَا من ديارنا
تسائل چايدن مجدداً بحيرة أكبر : لماذا تتحدث بصيغة الجمع؟ .. ومن تكون بالنسبة لي؟
جاوبه الرجل بتعابير ثابتة : أنا ڤيالوس الحكيم ..جدك من ناحية والدتك..ساحر مملكة ليبرا المسجون
فغر چايدن شفتيه ببلاهة ثم سأله : أنت والد والدتي؟.. لماذا تبدو أصغر سناً من المفترض؟
مسح ڤيالوس على وجنة حفيده متحدثاً بابتسامة مشرقة : لأن علامات تقدمي في العمر تظهر على وجه شخص آخر
بادله چايدن إبتسامته بأخرى بريئة قائلاً : أنا سعيد لرؤيتك
أحاط ڤيالوس كتف چايدن بذراعه قائلاً بحب : وأنا فخور بك ياصغيري.. أنت تتحمل من أجلي الكثير لكنني أعدك بأن أعوضك عمَ تعانيه آجلاً عندما أخرج من محبسي
سأله چايدن بترقب : لماذا حُبِسْتَ ياجدي؟
أجابه ڤيالوس بتنهيدة حارقة : هذه قصة طويلة ياولدي سأرويها لك عندما نلتقي على أرض ليبرا في الواقع .. لكنني الآن أريدك أن ترى شيئاً أهم
إبتعد عنه چايدن قليلاً يسأله : ما هذا الشيء؟
أشار ڤيالوس نحو بوابة كبيرة ظهرت أمامهما ..مكتوب عليها بحروف مشتعلة كلمة ( ڤينكولا) يقول بتأكيد : أريدك أن ترى مصير من يقع تحت وطأة الشيطان لوكا.. صمت لثواني ثم سأله بهدوء : مستعد لرؤية هذا الجحيم المجهول؟ ..أومأ له إيجاباً ولم يرد بينما أمسك ڤيالوس كفه قائلاً : إذن هيا بنا
وفجأة وجد چايدن نفسه يقف أمام البوابة من الداخل.. طاف المكان بأعين جاحظة مما يراه.. إنه ليس بسجنٍ عادي.. عبارة عن مساحة فضاء واسعة يحيط بها عدد كبير من أشجار (اللونجاڤيا) المعمرة ذات الأفرع البنية الخالية من الأوراق الخضراء.. يلف جذوعها أفاعي عملاقة ذات فحيح عالي تخرج ألسنتها المشقوقة بشكل مثير للرعب .. تمتلئ الأرض من حولها بأوراق شجر ذابلة .. تساقطت لتجعله قابضاً للنفس بإصفرار ذكره بالأحراش الكئيبة في غابة الأوكانا لكن مع لمسة لوكا الخاصة وهي الأفاعي الصغيرة المنتشرة على الأرض وبين الأشجار وفوق فروعها وكأنها ثمار نبتت من قلب الجحيم.. إنتفض چايدن من مكانه ذعراً عندما وصل إلى مسامعه صوت صرخات عالية لأشخاص يتلقون تعذيباً شديداً .. نظر إلى ڤيالوس متسائلاً بخوف : من يصرخ هكذا ياجدي؟
أجابه ڤيالوس بحزن : إنهم مسجوني قوارير (الريچيس) .. صمت للحظات ثم أشار له أن يتجه يساراً متابعاً بتأثر : تعالى لنتفقدها سوياً لكن عِدني ألا تفزع مما ستشاهده
طسحرك چايدن رأسه موافقاً ثم سار نحو إشارة جده ليدخل مكان آخر عبارة عن قوارير زجاجية عملاقة تحمل لافتات مكتوب عليها أسماء المحتجزين بداخلها .. كل قارورة يعتليها أفعى ضخمة يبلغ طولها ستة أقدام ..وكل أفعى تمتلك خمس رؤوس كبيرة ..وكل رأس تحتوي على أنياب طويلة مجوفة .. جحظت عينيه بشدة حتى كادت أن تخرج من محجريها عندما إنتبه لقارورة تحمل لافتة مكتوب عليها إسم (ڤيكتور).. وأخرى تخص (چانوس).. وكلاهما يصرخان من هول مايحدث لهما.. الأفاعي الضخمة تهاجم أجسادهما بلدغات متفرقة.. تصيبهما بتشنجات عصبية لدقائق تجعلهما يتألمان ألم الموت ثم يهدئا قليلاً ليلتقطا أنفاسهما وبعدها تلدغهما الأفاعي مجدداً ليتكرر نفس المشهد وهكذا دون توقف
بكى چايدن شفقةً على الملكين المنكوبين حتى أغرقت الدموع وجهه وتوجه بالحديث إلى ڤيالوس الذي يراقب ردود أفعاله في صمت قائلاً بصوت مهزوز : الأمر مُفْجِع للغاية ياجدي.. لماذا لا يقتلهما لوكا ويخلصهما من هذا العذاب؟
أجابه ڤيالوس بحزن عميق : هذا الشيطان ورث عن أبيه ميزة لعينة..وهي ألا يقتل لكنه يفعل الأبشع من القتل
مسح چايدن دموعه بجانب راحتيه ثم قال بضعف : حقاً هذا أبشع من القتل بمراحل
تحدث ڤيالوس وهو يشير إلى جانب مواجه لهما : أنظر أمامك يا سمو الأمير.. هناك شيئاً مهماً يجب عليك رؤيته وإمعان التفكير به
إمتثل چايدن لطلبه لكنه شعر بقبضة تعصر صدره عندما رأي قوارير (ريچيس) فارغة مصفوفة بجوار بعضها.. كل قارورة يعتليها لافتة تحمل إسماً معيناً .. الأولى تخص (كاسيوس) ملك إيبريوس الذي لم يقابله بعد.. والثانية تنقسم إلى نصفين بواسطة حاجز زجاجي سميك ولافتتها تحمل إسمين لملكين شقيقين وهما (لوريس ومارسيل) .. والثالثة خاصة بـ (الأم ريڤا).. أما الأخيرة فأرعبته بشدة حيث أنها الأكبر والأكثر عنفاً يقف فوقها زوجين من الأفاعي الضخمة ذات الرؤوس الخمسة وكأنها تُعَدْ لمضاعفة العذاب لمن سَيُحْبَسُ بها .. إنتفض چايدن بذعر عندما وقعت عينيه على إسمه الذي يظلل لافتتها بأحرفٍ من نار.. إبتلع ريقه بصعوبة قبل أن يتوجه بالسؤال لڤيالوس : ماهذا ياجدي؟..
أجابه ڤيالوس بخوف : إنه مصيرك ومصيرنا إذا ما تخاذلت ياولدي.. لذا يجب عليك المثابرة للنهاية حتى تنقذ نفسك وإيانا معك
تسائل چايدن مجدداً بشفتين فاغرتين : لِمَ كل هذا الشر؟ .. ألا يمتلك لوكا ذرة رحمة في قلبه تمنعه من إيذاء الآخرين هكذا؟
تحدث ڤيالوس بنبرة مُتَعَقِلَة : ذلك إن كان يمتلك قلباً من الأساس .. الشر شيء قبيح وقبحه يكمن في شراسته والأسوء من ذلك إذا إجتمع الشر والشراسة داخل عقل أحمق حينها يزداد عدوانية وعنف
رفع چايدن أنظاره إلى جده قائلاً باستفهام : أين يقع هذا السجن الملعون؟
جاوبه ڤيالوس بلهجة مؤكدة :  أسفل كهف آنتروم .. مدخله خلف العرش العاجي الذي يجلس عليه لوكا وللأسف لا يُفْتَح إلا في حالتين.. الأولى بواسطة لوكا نفسه والثانية إذا مات
تنهد چايدن بألم ثم سأله مجدداً : وماعلاقتي أنا بكل هذا؟.. وماذا فعل والدي لينتقم منه لوكا في شخصي؟..
أجابه ڤيالوس بحكمة : أنت الخطر الذي يهدد عرش الشيطان ..
تسائل چايدن بتعجب : لماذا؟
رد عليه ڤيالوس بابتسامة مؤكدة : لأنك القاضي العادل.. نبوءة لابيدوس المُخَلِّصَة .. والمسئولية الملقاة على كاهلك كفيلة بأن تصنع منك ملكاً عظيماً وأسطورة يتغنى بها البشر طيلة حياتهم
إبتسم چايدن قائلاً : لكني صغير و سنوات عمري لم تتخطى الثانية والعشرون
ربت ڤيالوس على كتفه قائلاً بنبرة رخيمة : العظماء يولدون بمقامات أكبر من أعمارهم وأنت عظيم ياولدي
أطرق چايدن برأسه لأسفل وعاد لتساؤلاته مجدداً : معذرةً ياجدي.. حديثك غاية في الجمال لكنني لا أفهم ماذا فعل الملك لوريس حتى يضمر له لوكا كل هذا البغض الدفين؟
أجابه ڤيالوس بإبتسامته الهادئة : لا تتعجل يابنيّ ستفهم كل شئ في آوانه ومن الأفضل أن تسمع السبب من صاحب السمو بنفسه
زم چايدن شفتيه : حسناً كما تشاء
مد ڤيالوس يده يمسك كف حفيده متحدثاً بلهجة آمرة : هيا بنا لنخرج من هذا المكان القميئ
أطاعه چايدن وخرج معه بنفس الطريقة التي تخطى بها البوابة لكنهما لم يعودا إلى الهضبة مرة أخرى .. تلفت حوله بذهول متسائلاً  : ماهذا المكان؟
نظر ڤيالوس إلى قصر لابيدوس بحبورٍ شديد ثم أجابه  : إنه تاريخ ليبرا المجيد.. أتمنى أن تعيد صياغة عامودي المطموس بداخله
أنهى ڤيالوس حديثه وإتجه نحو بوابة القصر المقدس التي فُتِحَت له على مصراعيها لكن سارعه چايدن بسؤال مفاجئ : جدي أنت لم تخبرني أين محبسك؟
إبتسم ڤيالوس  بغموض : أنا حبيس الخيال ياولدي.. إفعل مابوسعك لنلتقي على أرض الواقع
لم يمهله ڤيالوس فرصة لسؤال آخر ودخل من البوابة ليختفي تماماً وتظهر مكانه الأم ريڤا واقفة بجوار الأب بيتر يلوحان  بصوت مُتَحِد : إلى أن نلتقي قريباً يا سمو الأمير
إنتفض چايدن من نومه شاهقاً بفزع أيقظ هيلينا.. إستقامت في جلستها تنظر إليه بقلق ثم سألته بصوت ناعس : ماذا حدث؟
مسح على وجهه يجيبها بتوتر : رأيت حلماً غريباً
تسائلت مجدداً بخوف : هل عادت الكوابيس تراوضك مرة أخرى ؟
حرك رأسه نفياً يقول بخفوت : لا لم يكن كابوساً
جذبته من ذراعه برفق ليتوسد صدرها قائلة بحب : لا تقلق يا قرة عيني.. بالتأكيد سيكون خيراً
أغمض عينيه قائلاً بهدوء : من فضلك هيلينا ساعديني في إرتدء سترتي.. أنا أشعر بالبرد
طبعت قبلة رقيقة على رأسه ثم عدلت من وضعية نومه قائلة : حسناً يا روح هيلينا .. نهضت سريعاً من مرقدها لتجلب له السترة وساعدته في إرتداءها و جلست بجواره تراقبه حتى تأكدت من إنتظام أنفاسه في النوم وقبل أن تصعد مرة أخرى إلى الفراش إنتبهت لصوت والدتها تناديها : هيلينا حبيبتي.. إذا كان يصلكِ صوتي رجاءً أخرجِ من المنزل حتى أوافيكِ بالجديد
زفرت هيلينا بضيق ثم إرتدت ملابسها سريعاً وإتجهت نحو الخارج .. إبتعدت مسافة لا بأس بها حتى تستطيع الرد على والدتها : حسناً يا أمي.. أستطيع الحديث معكِ الآن
سألتها سيلڤيا باهتمام : كيف حالك حبيبتي؟.. أشتقت إليكِ كثيراً
ردت هيلينا بابتسامة داخلية ولا تنكر على نفسها اشتياقها لوالدتها : وأنا أيضاً مشتاقة إليكِ بشدة
تنهدت سيلڤيا بحزن : صبراً يابنيتي لقد فات الكثير تلك الأيام الصعبة ستنقضي.. حتماً ستنقضي
توجست هيلينا من نبرة والدتها المُقْلِقَة ثم سألتها : أمي!.. مابكِ؟.. لِمَ يبدو صوتك حزيناً بهذا الشكل؟
جاوبتها سيلڤيا بنبرة مرتجفة : أنا بخير يا عزيزة والدتك لا تقلقي.. صمتت لثواني قبل أن تتابع متصنعة المرح : من الواضح أنني أمر بنوبة إشتياق تشملكِ أنتِ ووالدكِ
مازحتها هيلينا لتخفف عنها : والدي؟!.. قولي أن جلالة الملك يستحوذ على تفكيرك ولا تلصقيها بي يا صاحبة السطوة الملكية
ضحكت سيلڤيا بشدة على حديث إبنتها تسألها من وسط ضحكاتها : من أين علمتِ بهذا اللقب؟
بادلتها هيلينا الضحك ثم أجابتها بمرح : أخبرني به أبي ياعاشقة مارسيل المدلل
تعالت ضحكات سيلڤيا أكثر قائلة : حتى هذا أيضاً لم يخفيه عنكِ .. تباً لك يا مارسيل مازلت لا تبتلع سراً في معدتك
ردت هيلينا بنبرة متسلية : لقد كشف لي الكثير من الأسرار حول علاقتكما.. سنناقشها سوياً عندما نعود إلى ليبرا
تحدثت سيلڤيا بصوت فقد المرح : سنفعلها ياصغيرتي.. سنفعلها وچايدن يعتلي عرشه المفقود..
قالت هيلينا بتنهيدة حزينة : أتمنى ذلك بشدة
حاولت سيلڤيا إصباغ صوتها بالثبات ثم قالت : والآن ياسمو الأميرة إنتبهِ جيداً للمهمة القادمة
أجابتها هيلينا بجدية : حسناً  كلِّي آذان صاغية
تابعت سيلڤيا حديثها بتركيز : مهمتك هذه المرة ستقتصر على إيصال چايدن إلى غرب إيبريوس.. ومن وقت دخوله إلى منطقة (الأكوامارين لاكوس) لن يكون لكِ دور حتى تتلقين الأمر مني وإياكِ ومخالفة التعليمات حرصاً على سلامتك أولاً
سألتها هيلينا بقلق : لماذا ؟
ردت عليها سيلڤيا بحزم : لأن الأمر يزداد خطورة وماسيحدث لن تتحمله أعصابك
تسائلت هيلينا مجدداً بخوف : هل سيتألم چايدن مثل المرات السابقة؟
أطلقت سيلڤيا زفرة تعب ثم أجابتها : بل أكثر وأنا أعلم مدى حبك له لذا أقصيكِ من مرحلة العلاج ما قبل الأخيرة لأنها أصعب بكثير من سابقاتها
لم تستطع هيلينا التحكم في دموعها قائلة بصوت متحشرج بالبكاء : إلى متى سيظل يتألم وأنا لا أستطيع فعل شيء للتخفيف عنه..
إبتلعت سيلڤيا غصة مسننة تشق جوفها ثم ردت بصوت حزين : إلى أن يتخلص تماماً من سيطرة اللعنات على جسده وحتى هذا الوقت أرجوكِ يابنيتي لا تنهاري.. أنتِ بالفعل تخففين عنه الكثير.. وجودك بجواره يدعمه ويقويه
مسحت هيلينا دموعها بجانب راحتيها متسائلة : كيف سنصل إلى غرب المملكة؟.. المسافة بعيدة ولن نستطيع قطعها سيراً على الأقدام
أجابتها سيلڤيا بتأكيد : عندما تصلين إلى المنزل ستجدين الفرس مربوطة بجذع الكرمة.. صمتت للحظات ثم تابعت بحماس : هيا ياصغيرتي لا تهدري الوقت وتأكدي أنني دوماً بالقرب منكِ
أومأت هيلينا برأسها إيجاباً ثم قالت : سأتحرك على الفور
******************
سلكت هيلينا طريق عودتها إلى المنزل بخطوات مرتعشة.. حديث والدتها أخافها كثيراً بالإضافة إلى الحلم الذي رآه چايدن أثناء نومه وأيقظه فزعاً لكنها كالعادة قليلة الحيلة.. خائرة القوى أمام التحذيرات المتلاحقة لها بعدم التدخل والتحلي بالثبات والهدوء.. وبعد دقائق من السير المتخاذل وصلت لتجد الفرس الحسناء تقف بإباءٍ وزهو مربوطة من لجامها في جذع الكرمة.. إقتربت منها بابتسامة عذبة تمسد ظهرها الناعم بحنان قائلة : مرحباً بكِ أيتها الجميلة..
مالت الفرس بعنقها الطويل إلى الأمام كنوع من التحية الملكية المُدَرَبَة عليها مما جعل إبتسامة هيلينا تتسع قليلاً وهي تطبع قبلة رقيقة على جبينها متحدثة بمرح : أنتِ مهذبة للغاية ياعزيزتي.. وعلى مايبدو أننا سنتقابل كثيراً الآونة المقبلة.. أنهت هيلينا حديثها ثم إتجهت نحو الداخل لتتفقد چايدن وتوقظه حتى تتم المهمة الأخيرة لها في إيبريوس.. دنت من الفراش ببطأ قاتل لأنفاسها الهادرة وجلست بجواره تمسد على خصلاته المسترسلة قائلة بخفوت : استيقظ ياسمو الأمير .. كفاك نوماً ياكسول..
لم تتلقى منه رداً سوى همهمات معترضة مما جعلها تميل برأسها إلى جبهته تطبع قبلة عميقة عليها قائلة بهمس لحوح : إنهض لأُشْبِعَ ناظريَّ منك.. إشتقت إليك ياقرة عيني
فرق چايدن جفنيه بصعوبة متحدثاً بصوت ناعس :صباح الخير
إبتسمت إليه قائلة : هيا إنفض غبار النوم عن عينيك لأننا سنذهب في جولة جديدة غرب المملكة
جذبها من مرفقها لتنام على صدره يهمس بصوت أجش : هل لي بعناق يدفأ إرتجافة داخلية تحل بي منذ رؤيتك برداءك المثير الذي مازال يأسرني حتى الآن؟
أحاطت رقبته بكلتا ذراعيها تغمره بعناق مُوَّدِع قائلة بنبرة مهتزة : لك ماطلبت يا أمير روحي
إستشعر چايدن حالتها الحزينة من ضربات قلبها التي تتسارع فوق قلبه ثم أبعدها قليلاً عنه لتتقابل اعينهما متسائلاً بخوف : ماذا بكِ يا حبيبتي؟.. لِمَ تُبدين خائفة هكذا؟
إرتعشت شفتيها بإبتسامة مهتزة تجيب سؤاله بسؤال محاولة إخفاء توترها : ومن أين علمت بأنني خائفة؟
مرر أنامله على وجنتها ناظراً داخل زمرديتيها يرد عليها بزفرة قلق : دقات قلبك الهادرة أخبرتني
تنهدت قائلة بمزاح زائف : يالها من خائنة.. ألم تخبرك بأنها تتسارع هكذا لأنها هائمة بك؟
إلتوت زاوية فمه بشبه ابتسامة خائبة الرجا يقول بشك : لا لم تخبرني.. وأعتقد أن هُيامها لن يجدي إذا كنتِ تتعمدين إخفاء شيئاً عني
أطبقت جفنيها تجيبه بقلة حيلة : أعتقد أن كل الأمور المخفية بدأت في التجلي أمامك واحدة تلو الأخرى.. تحلى بالصبر قليلاً حتى تنكشف الحقائق دون الضغط عليّ ..
ساد صمتاً ثقيلاً بينهما قبل أن يبعدها عنه برفق لينهض متحدثاً بضيق حاول جاهداً أن يخفيه لكنه لم يفلح : إذن هيا بنا لا داعي لإهدار الوقت في تساؤلات حمقاء
إستقامت في وقفتها ثم أعادت اللثام على وجهها قائلة بلهجة عملية : أنت محق.. الوقت بالفعل بدأ في النفاذ
عدل من وضعية ثيابه ثم مشط خصلاته الناعمة بأصابعه متحركاً بآلية تامة نحو الخارج دون حديث.. تهللت أساريره عندما وقعت عينيه على الفرس .. إقترب منها مبتسماً بسعادة بالغة ثم حدثها بعينيه مما جعلها تصهل عالياً بطريقة أضحكته وأثارت الغيرة في نفس هيلينا.. رمقها بنظرة جانبية قائلاً بلهجة لائمة : هل سنتشاركها سوياً أم لسمو الأميرة رأياً آخر؟
أومأت برأسها إيجاباً دون أن تتفوه بكلمة فمد كفه إليها قائلاً بحنق : هيا ياهيلينا.. هيا ولا تثيري غضبي أكثر من ذلك
نظرت لكفه الممدود قائلة بأعين جاحظة : أنا لم أفعل شيئاً لأثير غضبك
أمسكها من مرفقها يجذبها إليه لتقف قبالته متحدثاً بغيظ : سنتحاسب حينما ننتهي والآن إبقي على غموضك ..لن يضير في شيء
إكتفت بإيماءة صامتة من عينيها الدامعة ولم ترد بينما هو أحاط خصرها بكلتا ذراعيه يرفعها لتستقر فوق ظهر الفرس ثم تبعها بخفة قائلاً : حسناً سأحترم صمتك كما تشائين
شد اللجام بعنف جعل الفرس تنطلق كالسهم.. تطوي الأرض طياً كصفحات الكتاب تحت أقدامها الرشيقة.. وسط أجواء متوترة .. يشوبها القلق من ناحيتها .. تشعر بوخز يختلج صدرها كلما تذكرت حديث والدتها ولو كان الأمر بيدها لأخبرته وأرضت فضوله لكنها مضطرة لتوخي الحذر فيما يخص مراحل تخليصه .. أما هو الغضب يسيطر عليه لأنه بالرغم من تعمق علاقتهما وتعلقهما ببعضهما البعض مازال لا يتمكن من سبر أغوار غموضها.. يتسائل في نفسه لماذا الحواجز مستمرة في الحَوْلَ بينهما؟ .. ألا تعلم أنها أصبحت شقيقة روحه و إنقضاء مؤقتاً لهمومه؟.. زفر بحدة محدثاً نفسه : صبراً .. ياهيلينا.. لم يعد لدي سوى الصبر
***************
وصلت الفرس بهما إلى وجهتهما المنشودة بعد وقت ليس بقليل .. وقبل أن يترجلا قام چايدن بإحاطة هيلينا بذراعيه يقربها من صدره بشدة.. مستنداً بذقنه على رأسها قائلاً بصوت مرتجف : ألم نصبح على قدر من التقارب يسمح لكِ بإطلاعي على بعضٍ من أسرارك؟
أغمضت عينيها تكبح غلالة دموع وخزت جفنيها تجيبه : كنت أظنك تثق بي أكثر من ذلك
تنهد بخشونة قائلاً بنبرة معاتبة : هل هذا كل ماوصلك من حديثي؟..وهل لي ألاَّ أثق بكِ ياحمقاء؟.. أنتِ أصبحتِ جزءً من روحي المعذبة إن لم تكوني منذ زمن بعيد لكن أعذري فضولي ياحبيبتي فأنا حيران وقلبي يضجر على أتفه سبب
وضعت كفيها على ذراعيه المحاصرين لجسدها تمسدهما بحنان ثم قالت : أعدك أن أصل بقلبك وروحك إلى بر الأمان.. فقط إمنحني بعض الوقت
دفن وجهه في طيات ملابسها يستنشق رائحتها بشغف متحدثاً باستسلام : لكِ ماطلبتي يا قلب چايدن
تنفست هيلينا الصعداء عندما إستشعرت هدوءه وقالت بثبات زائف : هيا لتتفقد المكان بنفسك ياسمو الأمير
سألها بتعجب : أتفقد؟.. ألن تأتي معي؟
أجابته نفياً : كلَّا لكن ربما نلتقي بالداخل
هتف عليها بهمس مترجياً : هيلينا!.. أرجوكِ لا تتركيني بمفردي
ردت عليه بحزن : لن أتركك ياقرة عيني .. سأكون دوماً بالقرب منك.. والآن دعنا نترجل سوياً
أطاعها بصمت تام ومالبث أن لمست قدميه الأرض حتى وجد نفسه محاطاً بسياج عالي من أشجار كروم ذات جذوع وفروع فضية براقة تتدلى منها عناقيد عنب تشبه كرات الماس الأبيض يحيط بها أوراق ندية عبارة عن ظلال زبرجدية الهيئة يميل لونها إلى الأخضر الفاتح بلمعان آسر.. وقف چايدن يتأمل هذا المنظر العجيب فاغر الشفتين متناسياً وجود هيلينا خارج السياج.. وأثناء وقفته المنشدهة بما يشاهده ظهر من العدم خمس طوواويس بيضاء تشكل دائرة حوله نافشة ذيولها المروحية بشكل إستعراضي مبهج للغاية.. تميل بها إلى الأمام والخلف كتحية إستقبال لسمو الأمير الشاب.. إتسعت إبتسامة چايدن عندما بدأوا بالتحرك نحوه واحداً تلو الآخر يصافحونه بأجنحتهم الناعمة بزهو ملكي لطيف وبعد إنتهائهم عادوا مجدداً للإلتفاف يرفرفون حتى إرتفعوا تماماً عن الأرض متحولين إلى خمس ملائكة من أطفال كيوبيد ذوي أجنحة صغيرة يمسكون في أيديهم أقواس رماية حاملين على ظهورهم جعبة من سهام لها رؤوس دقيقة من الذهب الخالص.. يحلقون فوق رأسه بشكل دائري.. مطلقين ضحكات عذبة جعلته يبتسم تلقائياً .. توقفوا فجأة ممسكين بأيدي بعضهم البعض ثم تناول كلٍ منهم سهماً وبحركة منظمة أطلقوا السهام دفعة واحدة نحو مرمى معين .. إلتفت چايدن نحو ما أصابوه وجد بحيرة كبيرة تتدرج ألوان مياهها من الأزرق المائل للخضرة الفاتحة يطوف على سطحها بتلات لزهور النيلوڤر المائية تتجمع حول بعضها لتشكل حروف كلمة ( أكوامارين لاكوس) والتي تعني باللاتينية (بحيرة حجر الزبرجد) .. بدأت الزهرات الملونة في التفرق نحو الشاطئ متقافزة على الرمال حولها لتتحول إلى فتيات حسناوات فائقات الجمال لكنهن غريبات الهيئة.. تنقسم أجسادهن إلى نصفين .. الجزء العلوي يتمتع بكامل صفات البشر من الرأس إلى السرة.. بينما الجزء السفلي جسم سمكي ذو حراشيف ملونة وزعانف ممتدة حتى نهاية ذيولهن.. جحظت عيني چايدن بشدة مأخوذاً بمنظر هذه الكائنات الأسطورية التي طالما سمع عنها .. إتسعت حدقتاه أكثر عندما إنتبه لوجود هيلينا بينهن لكنها بهيئة بشرية كاملة.. ترتدي فستان أبيض شفاف جعلها تفوقهن جمالاً وفتنة.. أشارت له من بعيد أن يقترب بابتسامة خلابة فركض نحوها سريعاً يحتضنها بشدة قائلاً : كنت أعلم انكِ هنا يا قلب چايدن
إبتعدت عنه برفق واضعة كفها فوق شقه الأيسر ثم أجابته بصوت رخيم : أنا هنا دوماً بالقرب من قلبك
هم أن يقتنص شفتيها بقبلة عاصفة من شدة جمالها لكنها أوقفته قائلة بابتسامة : تمهل ياسمو الأمير
جذبها لتستقر بين ذراعيه بقوة أكبر ثم أجابها بخفوت أجش وأنفاسه الساخنة تمر على شفتيها : لا أستطيع التحمل.. أريدك بكل مايحمل جسدي من رغبة
أبعدت رأسها عنه قليلاً تقول بصوت يغوي الحجر : لك ماطلبت لكن عليك أن تشرب ثلاث غَرْفَات من ماء البحيرة أولاً
أطاعها على مضض وانحنى لينفذ أمرها.. مغترفاً بكفه من المياه العذبة ثلاث مرات متتالية يشرب متعجباً من مذاقها الأشبه بالعسل المُصَفَى.. رفع أنظاره إليها قائلاً بابتسامة : طعمها رائع
بادلته ابتسامته وقبل أن يستقيم إتجهت إليه تغمر شفتيه بقبلة رقيقة حتى غاب كلياً عن الوعي ومن قاع البحيرة ظهرت ذراع أخطبوطية إلتفت حول جسده لتختفي به داخلها في أقل من الثانية

***************
يتبع....... إلى اللقاء مع الفصل الثالث والعشرون

خادم الوشم (Jayden)..(مكتملة)حيث تعيش القصص. اكتشف الآن