بداية

12 3 0
                                    

كل ما تبقى ليَ من حياتي السابقة هو هذه الورقة الصغيرة التي أعطتني إياها آريا. مجموعة رسوم غير مفهومة...

تناغمت خيوط النور الأولى مع كلماتها المضطربة، بعد جلسة طويلة أجاب مالك فيها عن أسئلتها حول رحلته، وأجابت هي عن أسئلته حولها، دون أن يجد في أيّ من تلك الإجابات مهرباً من واقع جهله بكل ما يجري في هذا العالم.

سيطر التعب عليهما، ولكن ذِكر الورقة والرسوم الغريبة عليها أثار اهتمام مالك بشدّة ولم يرغب بالخلود للنوم قبل معرفة المزيد عنها.

هل يمكنني النظر للورقة؟

من النظرة الأولى للورقة الصغيرة بدأت الابتسامة تتسلل لشفتيه وصمت قليلاً قبل أن ينفجر بالضحك.

ما المضحك بأمر الورقة؟! كنت أعتقد أنك ستفهم ما فيها...

في الحقيقة، أنا أضحك لأنني أفهم ما فيها. هذه أحرف عربية، لم أكن أعتقد أنني سأجدها هنا.

أحرف عربية؟

لكل لغة محكيّة أحرف خاصة بها. لا أدري ما اسم اللغة التي نتحدثها الآن، ولا أدري كيف تعلمتها أصلاً. ولكن يبدو أنها قابلة للكتابة بأحرف لاتينية، كما في الأوراق الموجودة مع غارج هناك... اللغة العربية هي لغة والديّ وأجدادي... ولغتي الأم. فقط لم أتوقع رؤيتها هنا.

ما المكتوب في الورقة إذاً؟

"هل ستغيّر هذا العالم؟"

وما الذي يعنيه هذا؟

عاد الصمت لجلستهما من جديد... أمعن مالك النظر بالورقة الصغيرة وقلّبها ليرى إن كان فيها أيّ رمز مخفيّ أو علامة تدلّه على "تغيير العالم" ولكنّه لم يجد أي شيء من ذاك القبيل...

ماذا ستفعلين لاحقاً؟

سأسألك المزيد من الأسئلة، أريد معرفة كل شيء عن هذا العالم الذي تتحدث عنه وبعدها سأعود لعيش حياتي بعيداً عن هراء الساحرات. ماذا عنك؟ ماذا ستفعل لاحقاً؟

سأسألك المزيد من الأسئلة، أريد معرفة كل شيء عن هذا العالم. وبعدها سأجد طريقاً للرحيل ربما. أما بالنسبة للورقة، سأجيبك عنها عندما أجد الإجابة.

وهنا كانت بداية رحلة الثلاثة، شجرة متكلمة، ساحرة خارقة، وشاب قادم من عالم آخر، وفي كل ليلة قبل النوم، وبعد مسير معروف الأجل، جلس الثلاثة تحت النجوم ويمضون آخر لحظات يومهم في الحديث.

شعرت كارين بنوع من الأسى كلما سمعت كلام مالك عن حياته الجديدة وكلما لاحظت استغرابه من بديهيات هذا العالم، أما غارج فلم يكن بنظرها "شخصاً" في البداية، ولكن بعد سرده لبعض التي حكاها له مالك عن عالمه أصبحت تنظر له بشكل مختلف، بدا أكثر حياة من أيّ من القبعات التي رأتهم من قبل، بدا "كشخص" وليس كشيء يمكن التخلص منه في أي لحظة دون أدنى ندم.

وبعد أن وصلت قصة غارج ومالك لنهايتها، لم تكن كارين قد اكتفت من سماع قصصهما، أرادت معرفة المزيد وحاولت دفع مالك لمتابعة الحديث، ولكنّه امتلك فضولاً حاول كبحه طوال تلك الفترة وكان قد حان وقت إشباعه: ونحن نريد معرفة المزيد عن الساحرة الهاربة. أجابها مع ابتسامة لطيفة محاولاً تشجيعها على المشاركة...

بدأت كارين في الحديث بعد تفكير مطوّل أشعر مالك بأنها لن تنطق أبداً، واستمرت في سرد قصتها لليال طويلة... وكأنها تزيح عن صدرها أثقالاً تكاد تسحق قلبها. بدأت حكايتها بالحديث عن اللحظات الأولى التي تذكرها، اللحظات الأولى لولادتها في هذا الكون، بعد أن رماها طائر اللقلق في ساحة المدينة، على عكس الفتيات الأخريات اللواتي تُرِكن بعناية أمام أبواب منازل الساحرات البالغات.

في نفس العام التي هربت فيه الساحرة المشؤومة من المدينة، وفي نفس اليوم الذي اندلعت فيه الحرب الكبرى بين الذئاب... في نفس الشهر الذي سقط فيه ذاك الجرم السماوي ناشراً الذعر بين كائنات هذا العالم... فوضى مرعبة أحاطت بالعالم في تلك الأوقات، وفوق كل ذلك، طائر يرفض تقديم ساحرة لأيّ من العائلات كان ذاك نذير شؤم حول تلك الفتاة...

أذكر شعوري بالرياح تحرّك شعري عندما كان ذاك الطائر يحملني، وأذكر أيضاً سقوطي من فمه، اذكر ارتطامي بالأرض... لم أشعر بالألم حينها، ولم تسل أي دماء، لم يكن هناك شيء، فقط صراخ وخطوات أقدام... لم أكن أعلم إن كنت قد وٌلِدت أو مُتّ...

قالت آريا أنه عليّ نسيان كل هذه الأشياء، والتظاهر بأنني لا أعرف ما حصل حينها، ولكن لم يكن بإمكاني ذلك... عزلت نفسي عن بقية الساحرات، تعلمت كل ما يجب عليّ تعلّمه لأكون الأقوى في مجتمع لا يعترف إلا بوجود الأقوى، وأبقيت نفسي على قيد الحياة لسنوات بنفس الطريقة.

ولهذا عندما سنحت لي الفرصة الأولى للهروب من ذاك الجحيم، أخذتها، ولو اضطررت للعودة والاختيار مجدداً بين البقاء مع آريا في لحظاتها الأخيرة أو الهرب والعيش بحرية، لاخترت العيش بحرية مائة مرة.

لست نادمة على ما فعلت...

لم تستطع إنهاء قصتها تلك الليلة، ولم يرغب مالك بدفعها للحديث عن ماضيها المؤلم مرة أخرى.

حافة العالم: أخضر قاتمحيث تعيش القصص. اكتشف الآن