الفصل الثاني عشر

53 1 0
                                    

عبير:
الغربة التي تجعلنا نشعر بضياع اهدافنا هي الغربة الحقة ! مهما كنت تمتلك من اقارب واصدقاء وإخوة فالغربة تظل عي المسلك الوحيد لوحدتك ، في الغربة تتعرف على نفسك ، تتعرف اخيرا على ضعفك ، تواجهه ثم إما تُقاتلها أو ترميك قتيلا ! في الغربة أدركت كم كان يجب علي أن أُعدّل من قراراتي  وأُغيرها ، وهنا علمت كم هو صعب أن تُغير من بعض الامور وتحافظ على مبادئك التي بنيت عليها حياتك ، ومع كل انهيار لمبدئ من كل تلك المبادئ تنهار الدنيا فجأة !
كانت حادثة العائلة هي من جعلتني أبدأ بإقصاء القليل من شخصيتي فبالتالي التنازل عن مبدئي . هل كان يجب أن أختاز في الرّتبة الأولى مسح كل هذا والبدء بالإنتقام ! ماكنت أظن أن القلب ينيل إلى مايُريحه إلا عندما جرّبت هذه الحرقة !
اليوم اتصلت بها لأسأل عن أحوال الأسرة ، كان هذا هو البلاء بعينه :أن تخسر العائلة مبدءا بعد الآخر بسبب خسارة متعتها في الحياة . إنتظرت وليتني لم أفعل ! كان صوتها قد تغطّى بالبحة المتحسّرة والصبر المنكسر ، أمي أنتِ الوحيدة التي لم تتهشم مبادئها وبقيت صامدة أمام مل هذه اعواصف !
-"كيف حال أصيل ؟
-"تتكيّف شيئا فشيئا .
أُهنّئها سرا على صمودها هذا ! مرت سنة منذ أن تعرضت لتلك الحادثة ولكنّها تعلمت كيف تتأقلم مع حالتها ، لو كنت أنا لما عرفت كيف اتصرف !
التنازل الخطير الذي ترضى به هو التأقلم ، أصيل لينة ومتساهلة لذا فحادثتها مانت بلاء لي أمثر منها ! سألت أمي عنها وعن إمكانية تحدثها معي لكنها أجابتني بالرفض التام .فقط اعلم ان مرور كل هذه الاشهر كفيل بان يقنعها بعد دخلي في كل هذا .
أطرقت في صمت وانا أعلم علم اليقين أنه مهما فعلت فلن تُسامحني ومهما حاولت فأنا بنفسي لا أستطيع أن أقتنع بأنها مانت تريدني العودة ،ولكنني عاندت وسببت خسارتها !
اغلقت الخط وانا منكسرة ، اليوم هو الذكرى لتغيّرها وتحول وضعنا المادي الى الهاوية ، قبل عام فعل ابي مل ما يجب فعله من اجل ان تُعيد اصيل حركتها وحياتها ، لكن الاطباء أجمعوا على عجزهم أمام حالتها ، اختي ستبقى مُقعدة طيلة الحياة ! وانا سابقى فيًنظر الجميع السبب!
———————
هذه الافكار التي اصبحت افكرها مؤخرا تُقلقني وترميني في شك قاتل ، وضعت المنبه جانبا بعد ايقافه ثم رميتها جانبا ،موعدنا هذه الليلة ككل ليلة !
اليوم هو الذي سيُحدّد مدى صبري واتزاني ، وفطنتي وذكائي ، كنت كمن يخطو أول خطوة في حياته ، وكأنني للمرة الاولى التي ألج فيها هذا المبنى الضخم ، وما إن دخلت حتى أحسست فجأة أنني لم أمر من هنا قط ، وأن هذا المكان ماعاد لأحلامي وطموحاتي وبه أدركت أنني من حفر لنفسي حفرة عميقة ومنها يجب النجاة أو دفني !
ملامحها الحادة الصارمة تُنذرني بالكثير من التحديات التي ستواجهني، السيدة سميرة ، الوزيثة  الثانية والوحيدة الآن -بعد وفاة السيد آدم -لآل مُرابط ، طالعتني بنظرة صارمة ثم خاطبتني بتعالي :"هل انت المتدربة الجديدة ؟"
استعددت لإجابتها لكنها استدارت في لمح البصر وهي تشير بسبابتها  علامة تتبعها قائلة ":اراكِ بالطابق التاسع الآن ! "
هذه اول دقات القلق والهلع التي تُصيبني منذ بداية هذا الصباح ، اتبعتها دون تفكير وانا اشعر بخليط من الرهبة يضغط على صدري، وما إن وصلنا حتى استدارت نحوي قائلة بتحدّي :" هل تستطيعين تخمل كل متطلبات الشركة بالاضاقة الى متطلباته ؟ لا تتحمسي كثيرا يا صغيرتي فربما الطريق الاصعب لم يبدأ بعد ، فقط دعيني اذكركِ بحجم المسؤولية على عاتقك ! منذ اليوم ستكونين تحت مراقبة أحمد وامير وريم !
صمتت لوهلة بينما اطرقت في تفكير وحيرة : هل هذه السيدة تحاول اهانتي ام مازِلتُ لم أتلقى الإهانة بعد؟ ومادخل كل من امير وريم بالموضوع ؟ ما دخلي أنا بمل هذا ؟
زفرت بامتعاض قبل ان تُكمل :" هل تعلمين من يكونون ؟" أومأت بوجهي إيجابا لكنها حركت رأسها علامة الرفض وهي ترد بسخرية "عزيزتي انت لا تعلمين اي شيء ! فقط تعلمين الاسماء والأوجه اما الاسرار فأنت بعيدة كل البعد !فقط يجب ان تعرفي انهم إخوة وابناء عمومة .... لا تحاولي ان تتدخلي ان حصلت مشاكل بينهم ، وإن وجدتك أو أحسست بعلاقتك بالأمر قستتلقين عقابك مني شخصيا ! فقط ركزي بعملك !"
تسمرت بمكاني وانا اتلقى كلمات صريحة وواضحة عن مدى قلقها من تواجدي هنا ، واقل ما يُقال عن كل حرف يخرج من شفتيها هو تهديد صارخ ومتوحش ! للمر الاولى أشعر فيها بضرورة صمتي والتريث بشأن ردي ، وللمرة الأولى التي اشعر فيها بمدى ضعفي وبضرورة ردي مهما كان الامر ، ظللت عالقة تحت وطأة الحيرة، كاد الرد يخرج مني لولا دخول ريم الى المكتب وهي ترسم على شفتيها إبتسامة مُبهمة ، لا أعلم لها نية ، ها هي مستاءة أم انها خائفة مثلي ! تيقنت انني انا الوحيدة هنا وسط هذه القطعة وبأنها استاءت من أمها في تمريرها هذا الكلمات الصلبة نحوي. سلّمت على كلتينا ثم لمحت لامها بان تتبعها الى مكتب احمد .
ها أنا أجلس بسلام للمرة الاولى بعيدة عنها ولن تكون لمرة الاخيرة التي اراها فيها ، ستكون خيالي الثاني الذي يُطاردني . وسط تيه العجز الذي اعيشه داخل اسوار هذه البناية ،لم أستطع تمالك احزاني وآهاتي التي تسبب بها كل من احببت وقدرت ، في اوج اقسى الاوقات تُباغتك عبراتك لتحرجك امام من استرخصوك وغدوا ارخص ! ظل واقفا امامي بجبروته قبل أن يرمي بأوراق تجارية فوق مكتبي  ويستطرد بجفاء:"أحتاجها في غضون ساعة !"
اطّلعت على الأوراق بتركيز لأتفاجئ من استحالة ما يطلبه ،هذه الاوراق تحتاج يوما على الاقل لإنهاءها !  طالعته بدهشة واستنكار وانا لا اعلم ما الحل لكنه لم يعبئ لي ولم ينتظر مني الرد ، وفي المقابل دخل الى مكتبه قبل ان يظهر بعد برهة ويشير الى المكتب بيده قائلا :"من سمح لهما بالدخول ؟" ،كنت على وشك الرد لولا مُقاطعته لي قائلا بمزيج من التحذير والتهديد ":آخر مرة أجد احدهم بمكتبي قبلي ،وإلا تحمّلي ما سيقع فيما بعد! "
-"لكنني لم أُدخلهما..."رفع سبابته نحوي علامة السكوت ثم اختفى عن انظاري داخل مكتبه للمرة الاخيرة . يومها،ولحظتها شعرت بحرارة تسري داخل عروقي ،وبألم يعتصر قلبي وبطني من شدة الإحساس بالذل والظلم داخل هذه البناية ،ورغم ضخمها وفخامتها فقد شعرت بسخافتها للمرة الأولى مقارنة بسخطي الذي اخذ يتزايد ومعاملتهم الفضة معي! ما الذي غيره هكذا ؟!
لم تمر بضع ثواني من اكتساح الغضب لجوارحي قبل ان يظهر أمير بدوره ويُعيد لي آلامي الغابرة ،و ليذكّرني بفشلي في الانتقام لأختي من فعلته ايضا ،وقبل  ان ينطق باول حرف صحت به قائلة :"هل أتيت لتعيد نفس الحكاية ؟"
أطرق في تفكير وهو يراقب الارضية بسرحان ثم تنهد بعمق كمن يستعد لإلقاء خطابه وبعد ثواني جلس امام المكتب ثم شبك أصابعه ببعض ،  طالعني بغموض وبنظرات مِلؤها الشك ، كيف فرّقت في التشبيه بينه وأحمد؟ لا يملك عينين زرقاوين كأخيه ،لكنه يملك نفس الملامح الأخرى ، نفس الابتسامة الساخرة ،نفس الإمائة ،نفس الغموض ،نفس المعاملة !
-"لا!"
أطرقتُ في صمت قبل أن أسحب الاوراق اللعينة واقول بمضض"جيد!"
-"أتيت لأضع حدا للحكاية !" كاد صوته يُسمع همسا ، وكدت اغرق تحت الاحزان ،كانت اخر عبراتي قد جفت وشُحّت بفعل أحمد،لكن أمير اعاد لي طوفاني وعصفني بكلماته وصوته .هو يُريد أن نطوي كل شيء ونرميه بعيدا ،وأنا تائهة وسط انتقام ورد اعتبار ووقوعٍ تخت رحمة أخيه!
-"إذا اعتبرها انتهت !" اجبته بمضض وانا  أُقلب الاوراق دون تركيز ،لكنه سحب مني كل شيء حتى حسبتني وسط الهواء أطير ثم في لمح البصر عدت الى واقعي وانا اسمعه  يتحدث معي وهو يضع يدا على طهر يدي :"اليوم بعد دوامك ،كل شيء سيكون واضحا أعدك!"
للمرة الالف أشعر بأنني أخطئ ولا اعلم ما السبب ! وللمرة الاولى شعرت فيها بان أمير ندم أشد الندم ! وبين هذا وذاك أنا للمرة المليون أضيع بين ثلاث زوايا ،بين ثلاث نظرات :أصيل ،وأصيل ،وليس غير أصيل !
كانت ولازالت هي السبب وراء كل شيء،ولازلت أجهل كيف ولماذا أتمتّع بحق الاختيار في قدري وحياتي وسط هؤلاء! هل لأنه من الواجب أن أُوضع وسط هذه الحيرة كلها ،أم لأنني يجب أن اعرف منذ اليوم من يستحق الأحسن !
————————————-
اطول المدد التي مرت بي كانت بالقرب من هذه الاوراق التي كشفت عن مدى عجزي في ترتيب افكاري وعرّت عن تشتيت تركيزي ، حتى بِنت لا أعرف شيئا غيره ، وتناقصت كفائتي كلّما تدكرت موعدنا ،  او ربما موعده!
الان بعد ان اتممت هذه المهمة الصعبة، أوصلت الاوراق اليه ، طرقت الباب ثلاث مرات لكن ما من مجيب ثم فتحت الدفة قبل ان أصعق مما اراه ، كانت النوافذ الزجاجية للغرفة مفتوحة عن آخرها ومجموعة من الملفات قد تطاير محتواها من الورق بفعل الرياح ، أسرعت نحو النوافذ ثم اغلقتها بسرعة لأُنقذ ما يجب إنقاذه ، ثم استدرت أبحث عن السبب ، لأجده متّكئا على اريكته البنية معمض العينين ،تقدّمت نحوه بفزع :"أحمد!!!سيد..."
-"من سمح لك بإعلاق النوافذ ؟"
طالعته بحيرة :هل هذا وقت التوبيخ؟
-"لاتبدو بخير، وجهك شاحب!"
فتح نصف عين ليراني في مجال بصره قبل ان يرد ببروده المعتاد :"كم مرة أُخبرك الا تفعلي ما لا تُؤمرين به ؟ "
-"كل الاوراق ضاعت، كلها طارت !"أشرت بانزعاج نحو المكتب والنوافذ لكنّه رد بسخرية :"وما همك بالاوراق؟"
-"لا تسألني ما همي ؟تعلم  جيدا من سيُعيد ترتيبها وتحديدها ،وهذا ليس أنت !.
حدّق بي بامعان قبل ان يقف على قدميه ويخطو بهما الى وسط المكتب ،حمل الاوراق المُبعثرة ثم أخذ يُرتّبها بتركيز تام وكأنني لست هنا! بقامته الطويلة وبملابسه الفخمة ،يُحاول أن بضع نظامه بنفسه مُتجاهلا وجودي .راقبته بتمعن ،لماذا تغير ؟ كان بسيطا وفاتنا ، فأضحى رجلا مثيرا بنظراته وتركيزه ،نسيتُني ونسيت مكاني ،ونسيتُعالمي قبل ان يُردد قائلاً:"أنهيت!"
عُدت الى واقعي وانا العن لحظة تفكيري به عكذا ،هو صديق قديم !هو أخر شخص سافكر به كشخص اكثر واقل من صديق قديم ،صحيح هو ذو جاذبية لا تقارم لكنه أخ أمير ،ولن يكونا مختلفين بالنسبة لي !
————————————————-
هذه الامور التي كونتها عن هذا المكان كانت ستنقذها بلا شك ،وضعت كل الخط. اللازمة كيلا انهزم ،لكن عاطفتي ابانت عن ضعفي ومذلتي ،وكم اريد الانسحاب ومواصلة حياتي العادية ،لكن الوصول الى النهاية يحتاج الصبر والصبر حدوده بعيدة وطريقه طويلة .
اغمضت عيني وانا اتخيلها واقفة تبتسم لي من بعيد ،ثم لم تلبث ان مرت تلك الدقيقة لتذكرني بالحقيقة :اصيل ستبقى مقعدة  !وفي كل مرة اتعرف الى هذه المرارة استشعر مدى جدية مواصلتي في جعله يتعلم درسا لن ينساه ،وكلما تناسيت شعرت بضميري يؤنبني !وكأنني أنا المسؤولة عما وقع !وكأنه يجب أن يأنبني ضميري !
اخرجني من سرحاني خروجه المباغت من مكتبه ورميه لأوراق لا تعد ولا تحصى فوق مكتبي ،قبل ان يقول والبرودة ترتسم على محياه :"ها انت ذا ستتعلمين كيف تضبطي تهورك في الحسابات !"
كان  يبو جادا اكثر من كونه ساخرا وهو يوبخني برقي ،ويسخر مني برقي !طالعته بغضب ونار الحقد تتقد في عيني ،كانت اصيل تلوح لي من الافق بان اواصل صبري في سبيلها ،كانت هي الخافز الذي جعلني اتجاهل قراءة عينيه الباردة !واتغاضى عن اهانته لي لتو !
لكنه تفاجئ من ردتي وصعق من ابتسامتي المتحدية ،مددت يدي للاوراق ثم بدات في العمل بها ، وما ان تيقن من قبولي حتى رماني بجملته الساخرة :"لا تملكين النظرة العملية ،على الاقل يجب ان تجيبي المسؤولين بأجل سيدي !"
-"لا اجد احدا هنا يكون سيدا عليّ!"
-"لكن الغرور لن يوصلك سوى بان يخرجك من هذه المكانة!"
-"اية مكانة ؟هذه؟!"اشرت بسبباتي نحوه علامة السخرية ثم راقبت احمرار عينيه من شدة الغضب ،حربا اعلنّاها والتعادل حليفنا! لكنه لم يعد يقدر على تبادل سهام كلماته معي حتى ماعاد باستطاعته سوى ان يمسك بيدي ويعتصرها بعنف قائل :"هل هكذا كنتما ؟هل ربحت ضعفه بحدتك هذه!؟"
جملته كانت هي من افاض كاس صبري ولم احتمل احتماله ،اجبته والدموع تقف حد المقلتين :"لا اسمح لك بان تدخل المشاكل الشخصية هنا !
سحبت يدي المتألمة من يده ثم خرجت مهرولة .آخر شخص توقعته بهذه القسوة كان أمير ،لكنه صدمني بقوة !
بكيت يومها الما اكثر من دمع ،لم القي اللائمة الا على امير ،وما ان تذكرته حتى ظهر امامي من العدم وهو يقول :"لقد وصلتِ باكرا ،هل تأخرتُ ؟
مسحت تلك العبرات ثم صحت به اقول والمزيد من العبرات تذرفها عينيّ :"هل تريد حدا للحكاية ؟اذا اتركني وشأني !أترك ذلك الشخص الذي  رسمته في مخيلتي طاهرا !"
طالعني مصعوقالا يفهم كلماتي ،اردت ان الومه على احمد لكنني ماعدت اعلم من المخطئ بعد اليوم . اقترب مني قبل ان يوقف غضبي ويهدئ من اعصابي ،حاول ردي اليه لكنني قاومته ،ثم استسلم في ان يتركني اقف على بعد ملمترات منه ويقول متأسفا :"كانت حادثة غير مقصودة !اريد ان تصفحي عني رجاء! سأعوضك !"
-"هل تعويضك سيعيد لأختي حركتها ؟ هل تعويضك سيعيد لي اختي التي تكرهني لانني أُغرمت بك ؟هل ستعوض خيانتك لي مع من كانت صديقتي واختا لي !؟"صرخت بقوة وبكيت كثيرا ،الجميع يمر من امامنا مذهولا ،بينما هو مُطئطئ الرأس .مسحت دموع  الظلم التي حبستها لشهور ثم استدرت لاعود لسجني ،وما إن خطوت خطوتي نحو الامام بانكسار حتى وجدت جلادي يقف بشموخ ونظرة الغضب والحقد تعلو عيناه الإسكندنافية !

أنت تشبهني .Where stories live. Discover now