منزله الشهداء

3.6K 190 8
                                    




واصلنا سيرنا في وسط صحراء مترامية الأطراف، ولم تخف حرارة الجو أبداً واستولى عليّ الإرهاق ولم يبق فيّ قدرة على مواصلة الطريق.

في تلك الأثناء سمعت أصواتاً فأدرت برأسي نحو يمين الصحراء ، فشاهدت منظراً مثيراً ،إذ رأيت مجموعة من الناس قد اخترقت الصحراء ومضت بسرعة فائقة ولم يخلّفوا وراءهم سوى الغبار ، فتوقفت متعجباً وأخذت أنظر إلى الغبار المتطاير ، ثم حركني ( حسن ) فانتبهت على نفسي ، وأردت أن أسأله فسبقني ( حسن ) وقال : هل شاهدت المنظر ، قلت : ومن هؤلاء ؟
قال : هؤلاء زمرة من الشهداء .
قلت مذهولاً: الشهداء.
قال: نعم الشهداء .
قلت : وأين يريدون ؟
قال : وادي السلام .

فأدرت برأسي نحو ( حسن ) متعجباً وقلت: وادي السلام !
قال: نعم، وادي السلام.
قلت : لقد ذللنا هذه المسافة الطويلة بما فيها من مشقات ومحن كي نسعد يوماً بالوصول لوادي السلام ، وها أنت تقول أن هؤلاء يتوجهون نحو وادي السلام بهذه السرعة ، فهل هنالك فارق بيننا وبينهم ؟

فطبعت ابتسامة على شفتي ( حسن ) وقال :
بين قمري وجرم القمر **** فرقٌ بين السماء والأرض

ثم واصل كلامه : لقد عبدت الله في الدنيا على عجل فعليك الآن أن تقطع الطريق بمشقة وصعوبة ، أين أنت من الشهداء فالشهيد ذنوبه بمجرد أن تسقط أول قطرة من دمه على الأرض وتذلل له الطريق .
وفي يوم القيامة أيضاً أول من يدخل الجنة الشهداء ، فإنهم قطعوا طريق مائة عام في ليلة واحدة ، وهاهم اليوم يقطعون وادي برهوت في طرفة عين .

فغبطت الشهداء على منزلتهم وأخذت أردد : طوبى لهم

لشدة ما انتابني من حسرة وغم جلست وأخذت أحدث نفسي : أية درجة ومنزلة هذه ؟ منذ مدة وأنا أدور في هذه الصحراء وواجهت الكثير من العوائق والمصاعب ولا زلت لم أصل بعد إلى نتيجة .

لكن هؤلاء بلغوا مقصدهم بهذه السرعة ، فحقاً طوبى لأولئك الذين مضوا شهداء .

سالت الدموع على وجنتي وبلغت روحي حنجرتي .
بكيت وبكيت بصوت عالٍ حتى أخرجت ما في فؤادي من عقد الدنيا ... لكن الحسرة والغبطة لموكب الشهداء بقيت في قلبي ، وهل يمحوها البكاء ؟

جاءني ( حسن ) بهدوء وأخذ يهدئ من روعي ويشجعني على مواصلة الطريق الذي كان طويلاً مضنياً.

رغم قطعنا لمسافة طويلة من الطريق لكن لم تلح في الأفق نهاية للصحراء .
وعلى بعد رأيت عموداً أسوداً ما بين عمق الأرض والسماء يتصل بنيران السماء ودخانها وهو يتحرك ، ولما اقترب ظهر أنه يشبه الغبار يدور حول نفسه ، ولما رأيته التصقت بـ ( حسن ) ولفني الرعب والهلع فسألته : ماهذا العمود ؟
قال : إنه غبار الشهوات يدور حول نفسه بسرعة مذهلة .
قلت له مضطرباً : وما العمل في هذه الحالة ؟ فالغبار يتجه نحونا بسرعة لا توصف وهو يلف كل ما يحيط به .
قال ( حسن ) : أحط بيدك حول ظهري ، وانتبه لئلا يفصلك الغبار عني .
أخذ الغبار يقترب منا شيئا فشيئا بصوته المرعب ، وأخذ اضطرابي يزداد ويزداد حتى أصبح الجو مظلماً خلال طرفة عين .
لقد أحاط بنا الغبار وحاول لفنا إليه غير أن (حسن ) قد التصق بالأرض كالطود ، وقد استطعت السيطرة على نفسي بصعوبة بالغة في حين قبضت بيدي على ظهر ( حسن ) .
كنت بين الحين والآخر أسمع صوت ( حسن ) وسط ضجيج الغبار وهو ينادي : انتبه لا يفرقك الغبار عني !
كانت لحظات غاية في الصعوبة وكنت أخشى أن يفرقني الغبار عن ( حسن ) لقد وهنت يداي وتثاقلت أذناي فلم أعد أسمع صوت ( حسن ).
وفجأة فلتت يدي عن ( حسن ) ، وبطرفة عين ابتعدت عن ( حسن ) عدة كيلو مترات وألقي بي نحو الأعلى .
كان الغبار يدور ولشدة الضجيج وارتفاع درجات الحرارة فقدت والوعي ، ولما فتحت عيني شاهدت الشبح الأسود الموحش للذنب واقفاً فوق رأسي وكانت رائحته الكريهة تؤذيني فنهضت بسرعة وحينما حاولت الهرب قبض على يدي بقوة وجذبني نحوه وقال : إلى أين أيها الصديق عديم الوفاء ؟ أتفضل مرافقة ( حسن ) على مرافقتي ؟ في حين إنك اخترتني رفيقاً في الدنيا .
نظرت إلى وجه الذنب نظرة سريعة فلمست أن هيكله قد صغر قليلا .
ودون أ ن أنتبه إلى كلامه سألته : ما الخبر ، فقد أصبحت ضعيفاً ونحيفاً ؟
قال منزعجا : كل ما أتجرعه هو بسبب ( حسن ) .
فسألته متعجباً :بسبب ( حسن ) ؟
قال : نعم ، فلقد فرقك عني ليؤذيك قليلاً من خلال مرورك من طرق معقدة وصعبة .
قلت : حسنا ، وما علاقة أذيتي بضعفك ؟ فأجاب منزعجاً : كلما يزداد عذابك يصيبني الضعف أكثر فأكثر وتذوب لحوم بدني وإذا ما وصلت إلى وادي السلام لن يبقى لي أثر ، ثم عظّ على نواجده وقال : الآن الدور لي فلا بد أن ترافقني .

وأنا أرتعش من شدة الخوف والرهبة ، سألته : إلى أين ؟ فأشار الذنب إلى جبل إلى يساره وقال : خلف هذا الجبل هنالك وادي جميل أود أن تبقى فيه إلى يوم القيامة .
كنت أعلم أن لا جدوى من العناد واللف والدوران ، فسرت في الطريق الذي أشار إليه ، فتقدم هو مسروراً عجولاً وبين الحين والآخر يلتفت ويشجعني على مواصلة الطريق .
وبالرغم من أنني لم أر خيراً من الذنب لكن بشاراته المتكررة وسروره غير المبرر حفزني على الاستمرار في المسير
أخذت أفكر مع نفسي عسى أن ألتقي بـ ( حسن ) خلف الجبل ، ولعل وادي السلام يقع خلف الجبل وأن الغبار قد أدناني منه ، ولكن هل يمكن الوصول إلى وادي السلام بدون ( حسن )؟
قطعنا منتصف الجبل فتناهت إلى مسامعي أصوات نحيب ، فواصلت الطريق دون أن أكترث لها ، وكلما اقتربنا من قمة الجبل يزداد صوت النحيب حتى استحوذ علي الخوف والرعب فتوقفت وقلت للذنب : ماهذه الأصوات التي أسمعها ، فأجاب الذنب مضطربا : أية أصوات ؟
قلت : هذه الأصوات والصرخات التي تصدر من خلف هذا الجبل فتقطع فؤادي .
قال الذنب : إنني لا أسمع صوتاً لعلها هلاهل وأفراح أهالي تلك المنطقة المنعمين
فقلت له : إنني أسمع أصواتاً وصرخات أشبه ما تكون بالصياح والعويل
فقال الذنب : قلت لك إنني لا أسمع صوتاً فلا تضيع الوقت بلا داعي ، واصل الطريق بسرعة فالوقت ضيق والطريق طويل.
هنا فهمت أن الذنب يخفي شيئاً هو يتظاهر بعدم السماع ، ولم يكن هنالك من خلاص فلقد أبعدني الغبار عن ( حسن ) وأصبحت الآن أسيراً بيد الذنب ، ياليتني لم أترك ( حسن ) ، بيد أن الغبار كان من القوة بحيث أبعدني عنه .
كنت أسير خلف الذنب بين طيات الجبل يعتريني الشك والتردد وإذا بي أسمع صوت ( حسن ) وهو يصيح بي : قف جانباً ، ففعلت وإذا بصخرة كبيرة تسقط بقوة على رأس الذنب ألقت به في قعر الوادي .
عندما شاهدت ( حسن ) مقبلاً علي من أعلى الجبل واحتضنني ، سررت لرؤية ذلك الوجه الجميل والعطر الفواح ووضعت رأسي على كتفه وأخذت بالبكاء .
قال لي ( حسن ) وهو يمسح دموعي والبسمة ترتسم على شفتيه : ماذا تفعل هنا يا صديقي ؟ أتدري أين أنت الآن ؟
قلت : كلا ، فهز ( حسن ) رأسه وقال : إنك على شفا وادي العذاب ، لقد سمعت باسم هذا الوادي سابقاً من ( حسن ) لكنني لم أصدق أبداً إنني سأقترب من هذا الوادي الخطير ، طلبت من ( حسن ) أن يحدثني عن هذا الوادي فاستجاب لي وقال : إنه مستقر الذين يعجزون عن العبور من برهوت ولن تكون لهم القدرة على العبور من الصراط يوم القيامة وبالتالي فإنهم سيسقطون في قعر جهنم ، وهنا تلفحهم لفحة من نيران جهنم ، أما في القيامة فإنهم سيستقرون فيها .
لقد أرعبني وادي العذاب ووقوفي على شفيره ، وبعد أن هون ( حسن ) من روعي دعاني للاستراحة قليلاً لرفع التعب .


يتبع......
@layan_92

مسير الأرواح في عالم البرزخحيث تعيش القصص. اكتشف الآن