هديه من الدنيا

Start from the beginning
                                    

قلت وماذا كنت تريد مني هناك ؟
قال : أردت المرور بك من ذلك الوادي .
فصرخت منزعجاً : يعني إنك كنت تريد تكبيلي حتى قيام الساعة !
قال : كلا ! لقد كنت أريد إيصالك إلى مرامك بأسرع وقت ، ولكن لا بأس ، فإنني أعرف طريقاً سهلاً لا يعرف به أي شخص آخر .
قلت : وحتى ( حسن ) ؟
قال : كن على ثقة لو كان على علم به لما أخذ بيدك عبر هذا الطريق الصعب ، وهنا تذكرت ( حسن ) حيث تقدمني متصوراً إنني أسير خلفه .

ضاق صدري وطلبت من ( الذنب ) أن يتركني، لكنه في هذه المرة هددني واحمرت عيناه فأصبحتا كبؤرتي دم وقال: إما أن تأتي معي أو أعيدك إلى حيث جئت.

لما سمعت هذا الكلام ارتعد بدني واضطررت لمرافقته شريطة أن أتقدمه وهو يدلني من خلفي لأن مجرد رؤيته كانت تمثل عذاباً بالنسبة لي.

وهكذا تقدمت في الطريق المتجه يساراً وبعد فترة من المسير وصلنا كهفاً كبيراً، دون أن التفت إليه سألت الذنب: ما العمل ؟
قال: إنك ترى أنه لا طريق آخر أمامنا ولا بد من المرور من داخل الكهف.
دخلت الكهف لكن ظلمته التي تفوق التصور أرعبتني فسمعت صوت الذنب وهو يصرخ: لماذا توقفت ؟ الطريق ممهد ويخلو من الأخطار. واصل طريقك براحة بال .

تقدمت خطوات ثم توقفت ونظرت إلى ما حولي فلم يعد باب الكهف يرى.

كان الظلام يخيّم على كل شيء، رعب عجيب على كياني، فناديت الذنب لكنني لم أسمع جواباً، ثم ناديت مرعوباً، لكنني لم أسمع سوى صدى صوتي. لم تنفك عني الرهبة والاضطراب، فأدرت رأسي لأرى ما يحيط بي لعلي أعثر على منفذ للهروب، لكنني لا أعرف أين بداية الكهف ولا نهايته.

جلست متحيراً نادماً غمر قلبي الحزن والألم وبكيت لفراق صديقي الحميم الوفي ( حسن ) وإذا بي في تلك الأثناء أسمع صوت شخص يمر قد نبهني ، ففتحت مسامعي عسى أن أعرف جهة الصوت ، فانشرح فؤادي لعطر ( حسن ) الأخاذ ، فترقرقت في عيوني دموع الشوق .

فتحت أذرعي وضممته إليّ مسروراً ورويت له ماجرى لئلا ينزعج مني . فقال ( حسن ) : لما شعرت بعدم وجودك على أثري رجعت من نقس الطريق وعرفت بالأمر من خلال الرائحة الكريهة التي كانت تنبعث من الطريق المتجه نحو اليسار فسرت في نفس الاتجاه لكنني لم أعثر عليك رغم بحثي عنك ، حتى وصلت قرب الغار فشاهدت الذنب ولما رآني ولّى هارباً . حينها عرفت أنه قد خدعك ، وعندما دخلت الكهف سمعت عن بعدٍ صوت بكاء ونحيب فسررت وهرعت نحوك

وبعد صمت واصل ( حسن ): لقد كان هذا الطريق مقدر لك سلفاً لكن جرى استثناؤه وذلك لتوبتك، رغم محاولات الذنب في إعادتك إلى ذلك الطريق. قلت : كانت توبتي من الذنوب الكثيرة التي أرتكبها صغيرها وكبيرها . قال : إنه طريق رهيب للغاية كان عليك قطعه لولا توبتك وهو بالإضافة إلى طوله ومنعطفاته ومعابره الضيقة والمظلمة ، فإنك لا تأمن مافيه من حيوانات وحشية ، ثم أخذ ( حسن ) بيدي وقال : هيا بنا نعود إلى طريقنا السابق .

قطعنا ما تبقى من الطريق حتى وصلنا مكانا فسيحا يشبه المستنقع ولما وضعت قدمي فيه بركت فيه حتى الركبة . وكان ( حسن ) يسير بسهولة، فلما رآني تراجع إلى الخلف وطلب مني أن أمسك بيدي على رقبتي ليعينني . غطست في المستنقع حتى فمي ولم تعد لديّ إمكانية الصراخ وطلب المعونة، وإذا بذلك الملك يطلّ علينا وناول ( حسن ) حبلا وقال له: هذا الحبل كان هو قد أرسله سلفاً فأعنه كي يتخلص. ذهب الملك وألقى ( حسن ) بالحبل إلي فاستطعت الإمساك بالحبل والتخلص من تلك الهلكة ، ولما تجاوزنا المستنقع سألت ( حسن ) : ما هو مراد الملك من القول : هذا الحبل كان هو قد أرسله ؟

قال ( حسن ) : لو أنك تتذكر ، قبل عشر سنوات من موتك قمت بتشييد مدرسة يتعلم فيها الأطفال الآن ، فخيراتها هي التي أدّت إلى خلاصك من هذه المحنة وحضرت عندك لتنقذك .

أيدت ما قاله ( حسن ) ثم قلت متبختراً : قبل خمس سنوات قمت بتشييد مسجد ، فأين أصبحت خيراته ؟ ابتسم ( حسن ) وقال : بما أن بناء المسجد كان رياءً ومن أجل الشهرة وليس في سبيل الله فإنك قد تلقيت الأجر من الناس . قلت : وأي أجر ؟

قال: المدح والثناء من قبل الناس ، تذكر ما كان يدور في قلبك حينما كان يمدحك الناس ، لقد كنت تقدم رضاهم على رضى ربك ، واعلم أن الله إنما يتقبل الأعمال التي تؤدى لأجله وحسب .

استحوذت عليّ حالة من الحسرة والندامة من ناحية ، ومن ناحية أخرى شعرت بالخجل وأخذت بتوبيخ نفسي : أرأيت كيف ضيعت أعمالك بالرياء وحب الذات في حين كان باستطاعتها إغاثتك في مثل هذا اليوم؟

يتبع.....

مسير الأرواح في عالم البرزخWhere stories live. Discover now