12- ولماذا أعيش ..؟!

39.8K 1.4K 112
                                    

12ـ ولماذا أعيش ....... ؟

ـ أنت عبقرى ، لقد أفقدت رسوماتك الرجل صوابه
هتف شوقى بهذه الكلمات فى إعجاب شديد وهو يجلس قبالة ممدوح فى مكتبه بالأسكندرية ، ولكنه عاد ليغمغم فى حسرة :
- آهٍ ... لو تبتعد عن النساء ، فهن الحاجز الرئيسى بينك وبين مستقبل رائع
نظر إليه ممدوح فى ضيق قائلاً :
- هات ما عندك بلا نصائح
هز شوقى رأسه وهو يتأمله ثم ما لبث أن زفر قائلاً :
- لقد أعجب الثرى الفرنسى بتصميماتك إعجاباً شديداً كما أخبرتك ، لذا فقد قرر أن يمنحك فرصة قلما تتاح لمهندس فى مثل عمرك
تنهد ممدوح وهو ينظر إليه فى صبر نافد فتابع الأخير قائلاً :
- لقد وقع اختياره عليك لتصميم قرية سياحية كاملة فى الساحل الشمالى
قال ممدوح فى لا مبالاة :
- وأنا قبلت
نظر إليه شوقى وهتف مستنكراً :
- هكذا بهذه البساطة ؟
قدم إليه ممدوح علبة سجائره قائلاً :
- عمولتك محفوظة
ـ أنا لا أتحدث عن هذا
ـ ماذا تريد إذاً ؟
ـ أعلم أنك ليس في حاجة إلى المال ولكن ......
- متى سنبدأ العمل ؟
تأمله شوقى بدهشة قائلاً :
- إن كان الحافز المادي لا يسعدك ، فماذا عن الحافز المعنوي ؟
نفث ممدوح دخان سيجارته صامتاً بينما غمغم شوقي وهو يتفرس في ملامحه :
ـ لم أرك من قبل مهموماً بهذا الشكل ، هل يتعلق الأمر بامرأة ؟

نظر إليه ممدوح بضيق وقبل أن يعلق دق جرس التليفون فتناول سماعته وما أن سمع صوت محدثته على الجانب الآخر من الخط حتى أسرع كالبرق يغادر مكتبه غير مكترث لنداء شوقى الذى قارب الصراخ

******

ـ ليلى تحتضر يا ولدى
ـ كيف بلغت حالتها هذا السوء دون أن أعلم
ـ لقد امتنعت عن تناول الطعام منذ عشرة أيام ، واضطر الأطباء إلى تغذيتها بالمحاليل ، لكن هذا لم يعد يفلح الآن ، يقول الأطباء أن لا رغبة لها فى الحياة
ـ لماذا لم تعلمينى بهذا من قبل ؟ ألم تخبرينى حتى الأمس أنها بخير ؟
ـ كنت أعلم أنك تتعذب ولم أشأ أن أزيد عذابك
غمغم فى سخرية مريرة :
- أتعذب !! ومن أدراك أنت بعذابى ، حتى هذه البلهاء الغبية التى تحاول قتل نفسها دون أن تدرى بما تفعله بى ، أنا ...........

لم يستطع أن يكمل عبارته ، نظر إلى أعلى الدرج فى تردد ثم ما لبث أن قال فى حسم :
- سأصعد إليها ، لابد أن أتحدث معها ولا ظنى أنها ستكون أسوأ حالاً مما هى عليه
فوجئت الممرضة التى تقوم برعاية ليلى بدخول ممدوح إلى الحجرة ، أغمض عينيه فى ألم وهو يحدق فى وجهها الذى حاكى وجوه الموتى ، اقترب منها ، احتضن كفها الصغير وراح يقبله وقد تحجر الدمع فى عينيه للمرة الأولى فى حياته هامساً باسمها فى مزيج من اللوعة والرجاء ، حاولت الممرضة أن تعترض لكنها هتفت فجأة وهى تحدق فى ليلى التى تحرك جفناها للمرة الأولى منذ وقت طويل :
ـ يا إلهى ، وكأن روحها معلقة بك
حدقت ليلى فى ممدوح بنظرات زائغة قبل أن تشيح بوجهها بعيداً فى ألم ، فتصنع هو ابتسامة قائلاً :
ـ لا أصدق أنك تريدين الموت
تحولت إليه وغمغمت بصوت واهن :
- ستصدق قريباً
ـ لماذا تريدين الموت ؟
ـ ولماذا أعيش ؟
تنحنحت الممرضة قبل أن تغادر الغرفة قائلة :
ـ لابد أن أتصل بالطبيب ، هناك تطورات بالغة الأهمية يجب أن أخبره بها
سحبت ليلى كفها من بين يديه قائلة :
- ما الذى آتى بك إلى هنا ؟
ـ لا أريدك أن تموتى
ـ لم تترك لى شيئاً أعيش لأجله
ـ هل كل هذا لأننى منعتك عن العمل ؟
ـ العمل !! العمل فقط ؟
عادت الممرضة و بين يديها بعض المحاليل التى حاولت بها إسعافها ولكن ليلى كانت ترفضها بإصرار وحزم ولم تنجح المحاولات المستمينة التى قامت بها الممرضة بمعاونة ممدوح فى إقناعها بالعدول عن قرارها المجنون بالانتحار ، همس ممدوح أخيراً فى مزيج من الجزع والتوسل :
ـ أيتها العنيدة ، ما تفعلينه الآن ذنباً لن يغتفر
ـ لا أريد سوى أن يغفر الله لى زواجى منك ، هو يعلم أنك قاتلى
ابتسم بمرارة قائلاً :
- حسناً ، دعينى أبرئ نفسى إذاً ، اخبرينى بما تريدين وسوف أنفذه لك مهما بدا مستحيلاً
ـ طلقنى
ـ ماذا ، أطلقك ؟
ـ لا ظنى أننى طلبت المستحيل
ابتسم فى عصبية قائلاً :
- ألا يوجد حل آخر ؟
ـ الموت
ـ يا إلهى ، هل تكرهيننى إلى هذا الحد ؟
أشاحت بوجهها صامتة بينما أردف فى ألم :
- حسناً ، أعدك أن أنفذ كل ما تريدين ما ان تستعيدى عافيتك
ـ هل تتوقع منى أن أصدقك ؟
ـ ألم تعرفى بعد أن الصدق ربما كان حسنتى الوحيدة ؟
ـ اقسم
ـ اقسم برأس أبى أن أفعل كل ما تريدينه
نظرت إليه فى بعض الريبة وعدم التصديق ، لكنها ما لبثت أن استسلمت للممرضة التى حقنتها بالمحاليل تمهيداً لإطعامها فيما بعد
******
أقبلت والدة ممدوح نحوه متهللة وهى تهتف فى سعادة :
- حمداً لله ، لقد بدات ليلى تتعافى ، لقد كانت ترفض مجرد النظر إلى الطعام لكنها ما أن رأتك حتى أقبلت عليه وتحسنت حالتها ، هل تعرف لماذا ؟
أجابها ساخراً وهو يغادر الغرفة :
- لأننى وعدتها بالطلاق عندما تسترد صحتها
ضربت المرأة صدرها بعنف وهى تغمغم :
- طلاق !!!

تجاوزت عقارب الساعة الثانية عشر مساء وليلى تجلس على الأريكة فى الردهة الكبيرة منتظرة عودة ممدوح من الإسكندرية ، لقد اتصل فى الخامسة ظهراً وأخبر والدته أنه سيأتى هذا المساء ، لقد علم أنها غادرت الفراش بالأمس ، لابد أن يأتى لينفذ وعده لها ، لقد أقسم برأس والده ، ستتحررمن قبضته أخيراً ، ستعود إلى حياتها السابقة وإلى عملها الذى تعشقه ، ستضحك وتلهو وتمرح بحياتها كما تشاء ، فلماذا شعورها البغيض هذا ؟ لماذا هذا الحزن الذى يملؤها ؟ ربما لأنها خسرت تجربتها معه ، ستبحث عن أى عنوان آخر لرسالتها وتبدأ من جديد ، لكنها لن تكرر هذه التجربة أبداً .....
انتفضت فى ذعر عندما فوجئت به يحدق فيها وبلغ مسامعها صوته حانياً يقول :
ـ حمداً لله على سلامتك
ابتلعت ريقها قائلة :
- أشكرك
أربكتها ابتسامته وبريق عينيه الذى لن تنساه أبداً ، أشاحت بوجهها وهى تحاول التحكم فى أعصابها قائلة :
ـ الفضل يعود إلى الوعد الذى قطعته لى
حدق فيها قليلاً قبل أن يقدم لها أحد الحقيبتين اللتين عاد بهما من الأسكندرية ويحمل هوالأخرى متجهاً بها إلى الدرج قائلاً :
- برهنى لى أولاً أنك تعافيت واحملى معى هذه الحقيبة إلى غرفتى
دلف إلى إحدى الحجرات فى الطابق الثانى واضطرت مرغمة أن تتبعه ، ألقت بالحقيبة أرضاً وهى تهتف :
- هل صدقت الآن ؟  هيا عليك أن تنفذ ما وعدتنى به
تجاهل نبرتها الغاضبة قائلاً :
- ما رأيك فى غرفتى ؟  كانت لى قبل الزواج ، وها أنا عدت إليها من جديد
تجاهلت بدورها عبارته قائلة فى غضب أشد :
- لقد أقسمت برأس والدك
تأملها صامتاً وقالت عيناه لها الكثير لكنها لم تصدق ، عادت تهتف فيه من جديد :
- طلقنى
أشاح بوجهه قائلاً :
- سأفعل كل ماتريدين ، ولكن ليس الآن
جذبته ليواجهها صارخة :
- لقد خدعتنى ، أنت تتملص من وعدك لى ، لقد أقسمت
أزاحت يديه عندما هم بوضعهما على كتفيها ، فابتسم قائلاً :
- اسمعينى جيداً أيتها الشرسة ، لم يمض على زواجنا سوى شهور قليلة ، لم تتعدى الخمسة أشهر بعد ، لمَ لا ننتظر قليلاً ؟
صرخت فى انفعال :
- إن كنت تخشى على سمعتى يمكنك أن تطمئن
نظر إليها فى مزيج من الغضب والقلق قائلاً :
- هل ستتزوجين ما أن تنتهى شهور العدة كما أخبرتنى ليلة زفافنا ؟
حدقت فيه قائلة فى سخط :
- أهذا ما تخشاه ؟
ظل يتأملها صامتاً فتنهدت قائلة :
- اطمئن ، لقد زدتنى بغضاً للرجال
ابتسم هامساً :
- أيعنى هذا أنك لن تتزوجى أبداً ؟
أشاحت بوجهها قائلة :
- أنا لم أقل هذا
قال فى لهجة زادتها جنوناً :
- لا داع للعجلة إذاً
همت أن تعترض ، لكنه أكمل بسرعة :
- يمكنك هنا أن تفعلى ما شئت ، يمكنك العودة إلى عملك ، ابحثى لك عن أى موضوع آخر واكملى رسالتك
ثم أردف محذراً :
- شرط أن يكون بعيداً عنى وبلا تهور
ـ ها قد بدأت شروطك قبل أن نبدأ
ـ لا تنسى أنك ما زلت زوجتى
ـ هذا ما أريد أن أنساه وعليك أن تساعدنى
أربكتها نظرة العتاب فى عينيه فثارت كطفلة قائلة :
- طلقنى ... طلقنى الآن
ـ إن لم تكفى عن جنونك هذا ، فلن أطلقك أبداً ، لقد أخبرتك بأنك حرة وتستطيعين العودة إلى عملك ودراستك متى شئت ، ومن جهتى فأنا لن أحاول إزعاجك ، طوال إقامتى فى المنزل سأبقى فى هذه الغرفة ، وباستطاعتك أن تمتنعى عن رؤيتى إن شئت
ـ هل أفهم من هذا أنك لن تطلقنى قريباً ؟
زفر بضيق وهو يجلس خلف مكتبه ويمسك بقلمه قائلاً :
- سأسافر قريباً إلى الساحل الشمالى ، وسأبقى هناك لفترة طويلة إلى حد ما ، سأطلقك عندما أعود ، إن رغبت فى هذا ، أما الآن فاذهبى واتركينى لعملى
ـ هل تظن أننى سأتراجع عن موقفى ؟
ـ جربى ، ربما تروق لك الأقامة هنا عندما تتأكدين أننى سأتركك وشأنك ، سيكون هذا أيسر كثيراً من الحياة كمطلقة في منزل أخيك على أية حال .. إلا إن كنت تخططين للزواج قريباً
شردت قليلاً قبل أن تسأله
ـ هل ستأتى للعمل هنا كثيراً ؟
ـ أنا مجبر على هذا ، أمامى مشروع ضخم يحتاج إلى تفرغ تام بعيداً عن ضجيج المدينة
ـ بعيداً عن ضجيج المدينة أم بعيداً عن نسائها ؟
ابتسم وهو ينظر إليها قائلاً :
- لم يعد لك شان بهذا 
ـ لا تنسى أنك ما زلت زوجى
اتسعت ابتسامته حتى ملأت وجهه كله بينما أسرعت فى خجل تغادر الغرفة ، فى قلبها رقصة من سعادة تعجبت لكونها ما زالت تشعر بها

وحدك حبيبتي  (كاملة )حيث تعيش القصص. اكتشف الآن