{ماهي الخطيئة؟!}

31 10 3
                                    

أحيانًا تختلطُ الموازين علينا، فلا نميِّز الصواب من الخطأ، ولا يكون هذا إلاَّ لأنَّنا نظرنا بنصف زاوية، ووضعنا سقفًا لمدى إدراكنا بما يحيط بنا، فقد نتعرَّض للظلم أو التطرُّف لأسبابٍ معيَّنة وكل منا يعاني بطريقه ولكنَّ الأحاسيس نفسها، ونُصابُ بالعمى ونُعمِّم الشر على الجميع، فنصير نؤمن بأنَّنا في كلِّ الحالات مظلومين ولو كنَّا ظالمين، لأنَّ الشر أصابنا قبل أن نرتديه كسُترةٍ تقينا من شرِّ الآخرين، وبهذا نعالج الشر بالشر، ونغفل عن الخطيئة...!!

------------

تعالت أصوات ضحكاتٍ لطفلين عبر الزقاق الضيِّق لتتلاشى في الأفق تدريجيًّا وتحتضنها زخَّات المطر الخريفيَّة بصمت، كانا يختبئان تحت صندوقٍ  من الكرتون الغليظ ليحتميا من المطر، صرخ أحدهما يفرض رأيه بأنَّه الفائز، بينما يتهمُّه الآخر بالغش والخداع، بعد جدالٍ عقيمٍ شعرا بالملل فأخرجا رأسيهمَا من تحت الصندوق ليسأل صاحب البشرة السوداء رفيقه بنبرةٍ ممتزجة بالقلق «ها قد هربنا "كيل"، ماذا سنفعل الآن؟!، ألن يجدونا هنا؟!.»

التفت "كيلفن" له يحدِّق في عينيه المتوتِّرتين للحظات ثمَّ أجابه بعبوس :«ألم يكن هذا قرارك؟!، قلتَ أنَّك ستصبح محقِّق مثلي لنقضي عليه.»

أومأ "بيدرو" بتردُّدٍ وقطرات المطر تبلِّل وجنتيه :«نعم، أودُّ أن نكونَ معًا لأثبت لكَ أنَّك صديقي.»

قهقه الآخر بنشوةٍ وكأنَّه يتحدَّاه إذا كان سيقدر على المواصلة أم لا، رغم أنَّه رأى الخوف ينعكس على بنيَّتاه إلا أنَّه تجاهل ذلك وعاد لداخل الصندوق متكمِّشًا لينام ويتمتم :«لستُ أعلم إن كان ما تفعله خطيئة أم لا.»

تبعه "بيدرو" للداخل وسأله عن مقصد كلامه، لكنَّه لم يتلقى إجابة، لأنَّه دخل في نومٍ عميقٍ بسرعة، رغم شعوره بالذنب إلاَّ أنَّه يعتقد.بأنَّ مافعله نبيل ويستحقُّ فخر والده به، «ألا بأس بمواجهة المافيا؟!» سأل نفسه يحاول النوم لحوار صديقه يستند على ظهره، وخارج الصندوق تلوح ابتسامة شيطانية لأحدهم يحمل مسدس وقد أغرقته الأمطار.

تداخلت أصوات السيارات في الازدحام كنغم طبلٍ صاخبٍ يقرع سمعه، فتح عسليَّتاه ببطئ ليجدَ أشعة الشمس تهاجمه ويغلقهما من جديد، فركهما بأصبعيه ونهض جالسًا يلعن "بيدرو" الراقد أمامه للحهة الأخرى لأنَّه رفع الصندوق، لم يستفق الآخر بعد وكأنَّه في سباتٍ شتوي، أداره نحوه يصرخ في وجهه وإذ به يتبكَّم من الصدمة، كانت عينا رفيقه جاحظتين كمن رأى سكرات الموت، ومن فمه تدفَّقت دماءٌ  على الأرض خالطتها مياه المطر، كتم صرخته غير مستوعبٍ ما يحدث له، ليظهر له "يوكيني" وعليه ابتسامةٌ مستفزة يقف خلفه رجلٌ وفي يده مسدس :«الهروب ضعف، الدرس الثاني.»

أراد أن يصرخ، أراد أن يلعن كلَّ شيئ ويتمرَّد عن هذه الحياة للأبد، كانت عيناه الفارغتان من اللمعان كفيلة بأن تعكس كميَّة اليأس والمهانة خلفهما، آخر أملٍ له في النجاة من وحدته وضياعه انقطع وتحطَّم أمامه وحرمه من عائلته، أهو شريرٌ لهذه الدرجة؟!، تذكَّر اقتباس جملةٍ قرأها في إحدى الجرائد لكاتبة لم ينسى إسمها كونه بدا عليه غريبًا « لا يستوعب المرء اللحظات ذات الأهمية الحقيقية فى حياته إلا عندما يكون الأوان قد فات. [أجاثا كريستي]»، لعلَّه تذكَّرها الان وفي هذه اللحظة لأنَّه سخر منها قبلاً ظنًّا منه أنَّ مثل هذه اللحظات غير موجودة، لكنَّه الآن نادمٌ على عدم فهمها كما يجب، تسلَّل الفزع إلى عينيه حين بدأ "يوكيني" يمدُّ يده له ببطئ وكأنَّه سيخطفه، تسارعت دقَّات قلبه لتخطف أنفاسه ويحاول إخراج الصرخة من جوف حلقه، يشعر بهذه الكميَّة من الانهزام والضعف لأوَّل مرة في حياته، تقابلت نظراتهما وخضعت نظراته لزرقاوتيْ الآخر بانكسارٍ يكاد يفقد رباطة جأشه لينهار باكيًا.

------------

انتفض من فراشه يأخذ أنفاسه والعرق بلَّل جبينه، وضع يده على صدره يتلمس  خفقان ما بين اضلاعه، ووجهه الشاحب المنهك ترتسم عليه تقاسيم الخوف والرهبة، استعاد أنفاسه بعد أن تجرَّع حبَّةً مهدِّئة مُشعلاً المصباح بزر خلف ظهره، هذه الكوابيس ليست بالجديدة عليه، هي عبرات ذكريات تزوره بين فينةٍ وأخرى وكأنَّها تذكِّره بالجحيم الذي خرج منه بهيئته الحالية، تناول دفترًا كان عند رأسه، وأخذ يكتب بنهمٍ يُفرغ الكلمات والمشاعر المختزنة بداخله.

تلاطمت الأفكار في عقله كلٌّ منها تريد فرض نفسها كأمواجٍ عاتية في ليلةٍ عاصفة، أهي الخطيئة التي أودت به لهذا الحال؟!، أيُّ خطيئةٍ هذه؟!، هو لم يُذنب ولا يرى نفسه مذنبًا، يقتل لأنَّه مجبرٌ على ذلك، حياته مرهونة على أرواح الآخرين، هذا ليست ذنبه وليست خطيئة، فلا يد له فيها، صدحت في عقله كلمات "يوكيني" له قبل سنوات «القويُّ هو المسيطر دائما، ولا يهمُّ مصدر قوتِّه وإن كانت على حساب حياة الآخرين.»، أحقًّا لا يد له فيما يحدث؟!، ومض في ذاكرته اقتباسٌ من كاتبته الموقَّرة يواجه الكلمات السابقة "إعلم أن الخطيئة ستظلُّ ترافقك دائمًا"، تشابكت عليه أفكاره كما جرت العادة، ليسأل نفسه أخيرا، لكن، ماهي الخطيئة؟!.

ترددت في دخيلته جملة حفظها عن "يوكيني" لتناقض تلك العبارة وتستولي مكانها وكأنها معركة أفكار جنونية «الشرُّ ليس سيِّئًا لتلك الدرجة، هو أسلوب حياة فقط»

ردَّ على الصوت ضاحكا يسخر من الحرب التي يخوضها مع نفسه :«حياة؟!، هه، لست مهتمًا إن بقيتُ حيًّا أو متّ، ففي كلتا الحالتين أنا غير موجود.....»
٫«...مع ذلك، لسبب ما أريدها!!»

-------

ملاحظة: هناك فصلين محذوفين بسبب بشاعة المشاهد، سأقوم بحول مستقبلا نشرهما كفصول جانبية فقط لمن يريد الاطلاع عليهما.

king bossWhere stories live. Discover now