والتقينا (5)

689 33 7
                                    

5_الحقيقة

الخوف يا صاحُ على عزيزٍ أن سكن قلب المرء دمره إلىٰ فُتَات تناثرت شظاياه ولم تطمس أثره الرياح، فيظل يؤلم صاحبه.
ــــــــــــــــــــــــــــ
غضبٌ عظيم نما في جسد بلال، وأترع قلبه.. كظمه في داخله، وهو يدخل للدار وقد نوى في جنبات نفسه أن يُخرجها من منزله، لم يكن ذلك هينٌ عليه..
ممثلة في منزله؟ وسط عائلته! ربما قد تدمر المنزل الذي مضى عمره يرممه ويبنيه لُبنة لُبنة.
ما بالِ الفتن لا تتول عنه رغم توليه عنها؟
تلتفت إليه رغم إنه يحاول تجنبها قدر استطاعته وهو يستعين بالله العلي العظيم.
ولج (بلال) للداخل، وغضبٍ هائلٌ يتدفق من عيناه، وأول ما وقعت عيناه عليه هو والدته بوجهها البشوش، ورنت ضحكتها على أوتار قلبه فأزالت كل غضبٍ حل فيه..
وكل حزنٌ خامره..
وكل خوفٍ زاره
وكل وجعٌ سكنه
كأنما رؤية والدته سحرًا محى كل عصبيته، وإذا بوجههِ يلين، ويستعذب الضحكة الأنثوية الرقيقة التي ندت من (إسراء)، وتنبه لصوت أخته (سهير) تقولُ وهي تضع كفها على منكبه في حيرة:
_بلال، مالك واقف كده ليه؟ وإيه رجعك بدري كده! في حاجة حصلت معاك، أنت كويس؟
فتفرس (بلال) النظر في عينيها بشك ملأ لُبه.
أخته لا ريب تعلم من تكون إسراء حق العلم، لذا فجذبها من مرفقها وسحبها وراءه لأقصى مكانٍ في الصالة، وانحنى على رأسها والشرر يتاطير من عيناه، وسألها في غلظة، وهو يضغط على مرفقها بقوة ألمتها:
_أنتِ تعرفي مين هي صح؟

تفآجئت (سهير) بصنيعه، ومن قسوته التي لأول مرة تذوقها، فهمهمت بتلعثم متصنعة عدم الفهم:
_هـ.. هي مين دي؟
فضغط بلال على مرفقها وهو يقول من بين أسنانه:
_متستعبطيش يا سهير أنتِ عارفة اقصد مين، إسراء الشهاوي مش ممثلة برضو...
وجاءه الرد، لم يكن من أخته، بل انبعث من وراءه بصوت متوتر ناعم رقيق يهمس:
_ ايوة أنا.
وما كاد يلتفت إليها، وقد كانت إسراء تتقمص دور المقهورة، وتستجلب دموعها في يسر إلى مآقيها، وتنهمران على وجنتيها بطريقة مشفقة، وهي تقول بصوتٍ واهي:
_مقولتلكش عشان خوفت مترضاش إني أعيش معاكم.
فجز بلال على أسنانه وأشار لها بطول ذراعه على الباب وهو يهتف:
_طيب بما إنك كدبتي عليَّ فـ يلا اطلعي من بيتي وانسي في يوم إنك شوفتيني.
فترقرق دمع صادق في عينيها، لا تدرِ لمَ يعاملها بهذه الطريقة، ولمَ قلما رآها يتعصب، فدافعت عن نفسها بصوتٍ شاحب وهي مطرقة :
_قبل ما امشي لازم تعرف إني مكدبتش عليكَ لإنك مسألتش، والغلط كان منك لإنك منتبهتش لما كنا في المستشفى لأي حد نادني بـ ( الممثلة إسراء)
ورفعت عيناها تنظر بعمق في عيناه فارتبك
وانتفض قلبه..
عيناها كانت تعاتبه..
تعاتبه كأنه تخل عن مسؤليته تجاه ابنته..
تخبره إنها تكِن له معروفًا لن تنساه..
ومشاعر ستحياها..
أيمكن للقلب أن يعرف تؤمه؟! فيطئمن ويأنس ويسكن!
أسبلت جفنيها هربًا منه وهي توليه ظهرها بعدما ألقت نظرة خاطفة إلى سهير التي بادلتها النظر في إشفاق وعجز، وتحركت في تؤدة جهة الباب فأوقفها صوت والدته:
_استني يا بنتي..
وهمت بالنهوض فهرول بلال إليها وأسندها بكل حنان الدنيا، لكنها شدت على يديه وعاتبته قائله:
_من أمتى وإحنا بنعامل ضيوفنا كده؟! تعالي يا بنتي أنتِ مش هتطلعي من البيت ده غير لما تطلبي بنفسك الخروج منه، واللي مش عاجبه كلامي فـ...
وصمتت، وفهم بلال ما ترمي إليه، كانت تقصده
إن لم يعجبه حديثها فليرحل، فلاذ بالصمت، قُول أمه أمر يجب تنفيذه في الحال.
وتبسمت إسراء في ظفر، وتبادلت نظرة تحد مع بلال، الذي أجلس والدته في حنان آسرها..
فأضحت حبيسة لهذا الحنان
تتمنى لو تطاله..
أن تذقه..
وتتذوقه..
وتحرك بلال للخارج، وما هم بعبور الباب حتى توقف متذكرًا هيئتة إسراء في ملابس المستشفى، فدس يده في جيبه وأخرج من محفظته بعض الأموال، ونادى أخته التي أقبلت عليه سائلةٌ في اهتمام:
_إيه؟
فمال على أذنها، وهو يضع المال في كفها، قائلًا:
_هاتيلها لبس بدل لبسها ده.
ومن وراءهما كانت إسراء تسترق السمع، وتفجر في نفسها الفرح كله..
سعادة لا تدرِ سببها اترعت فؤدها..
ثمة من يهتم لأمرها..
لأول مرة تأخذ مال من أحد، شبت في منزل هي من تعوله، تملك ابٌ دون عمل فقط كل ما يبغيه هو الجلوس والأكل والشراب والنوم فقط وأن يأتيه كل ما يريد حتى لو كان ذلك على حسابها هي..
أو حساب عرضها..
وترقرق دمع الأسى في مآقيها، وانفطر قلبها أين نخوة الرجال الذين يتحدثون عنها في أب باتت هي المسؤلة عنه لا العكس!
لماذا لا تملك احد يرعاها!
لِمَ وُلدت للشقاء؟
غادر بلال، وذهبت سهير لشراء ملابس لها، وقد آثرت عدم الخروج حتى لا يعرفها أحد وتسبب مشاكل لمن آواها في بيته.
وبقت هي برفقة والدته (عايدة) تلك المرأة الكفيفة التي تعاملها بحنان وعندما علا الآذان، قالت لها المرأة وهي تهم بالنهوض:
_هروح اتوضى عشان الصلاة، أنتِ مش هتصلي؟
تساءلت ويا ليتها لم تسأل!
فلم تكن إسراء من المصلين، وتملكها الخجل من رأسها إلى أخمص قدميها، وهي تعاون المرأة على الوضوء، بعدما عللت:
_لا أنا.. انا مش هقدر أصلي.
وصمتت المرأة محتسبة إنها تعاني عذرًا يمنعها من تأديها فرضها، وشرعت في صلاتها، وإسراء تتأملها حائرة..
ذاك الخشوع والسكون الذي غشى المرأة جعلها أسيرة
وقبضة باردة اعتصرت قلبها..
واستمطرت عينيها الدمع بخنقة تكاد تُدميها..
حتى عمرو الصغير أخيه يصلي، لكنه يصلي في الجامع..
الصغير يصلي ويعرف كيفية الصلاة ويؤديها..
وهي لا؟!
أليس هذا خزيًا؟
لكنها لم تملك من يعلمها، لقد درجت في منزلها على جشع أبيها الذي كل همه المال..
والعجيب إنه يُريد المال وهو جالس، مرتاح..
فألقاها هي في طيات الحياة تسعى لجلب ما يحتاج إليه ويأخذه هو على طبقٍ من ذهب، دون ان يسئل عن حالها وما الذي تبتغيه..
ما دام الأمر فيه راحته فتبًا لها بعد ذلك  ..
كان أبٌ يخجل العالم منه، فما بالك بها!؟
لم تمض سويعات قليلة، وعادت سُهير، والحزن يكسى وجهها، حتى إنها لم تنبس معها ببنت شفة، فقد وضعت لها الحقائب التي تحوى الثياب، وسارت تجاه غرفتها كصنمٌ من الشمع يذوب وجعًا دون أن يشعر به أحد لظنهم إنه ما دام متوهجًا فلا يعاني.
فتحير قلبها لأجلها، ونهضت في تأنٍ متجهة إلى حجرتها، فوجدتها قد استلقت على جانبها، وأولت الباب ظهرها، فطرقت الباب في خفوت متوتر، وبحركات بطيئة مرتبكة انحدرت نحوها، وجلست بجوار رأسها..
وتناهى إليها بكاءها الخافت المؤلم، فأوجعتها تلك الدموع، وشعرت بالأسى لإنها لا تدرك ما ألَم بها، وبعد ثوانٍ من التردد، وضعت كفها على منكبها، وهمست بصوتٍ خفيض:
_سُهير، أنتِ  .. أنتِ كويسة؟
وعندما لم تتلقَّ رد، استدركت في قلق:
_هو بلال زعلك بسببي؟!
فهزت سُهير رأسها، واستوت جالسة وهي تنفجر في بكاء ونحيب يُدمي القلب، فأضنى ذلك إسراء وأسرعت تضمها وقد انهمرت دموعها تشاركها الدموع، فأستكانت سهير في حضنها، وهي تقول بصوت متهدج إثر البكاء الذي لم ترقأ عيناها منه:
_هقول لبلال إزاي انا دلوقتي؟! هحمله هم زواجي إزاي! قوليلي إيه الحل؟
في حنانٍ دافق، مسحت إسراء بسبابتيها دموع سُهير، رغم عينيها التي تستمطر الدمع حزنًا لحزنها، وأردفت بصوتٍ حنون مفعم بالاهتمام:
_ اهدي يا سُهير، كل حاجة وليها حل، قوليلي إيه اللي مخليكِ تبكي كده! مين مزعلك؟
شردت سُهير للحظات قبل أن تقول بخفوت:
_خطيبي عايز نقدم الفرح بس المصيبة مش هنا!
سكتت عند هذا الحد، وانفجرت باكية في انهيار وهي تدفن وجهها في حجرها، فرقت إسراء لحالها، ولم تطق صبرًا على بكاءها:
_اهدي طيب عشان افهم، ماله خطيبك؟ ومصيبة إيه؟
ثم رفعت كفها وأدارت وجه سُهير إليها، وغمغمت:
_بطلي عياط عشان افهم وتعرفي تتكلمي.
فلاذت سُهير بالسكوت لفترة، حتى خفت نحيبها، وخمدت شهقاتها، وقالت:
_خطيبي …
ثم قاطعة قولها مستدركة:
_قصدي جوزي يعني لإننا كاتبين كتابنا، طالب مني أكلم بلال عشان نقدم الفرح وكمان..
بترت عبارتها وقد خنقتها الدموع، فأسبلت اهدابها فهطل الدمع في غزارة، مع قولها بصوت خافت:
_عايز يجي يعيش هنا وكمان يكون كل متطلبات الفرح على بلال وإلا  ..
تهدج صوتها وهي تنفجر أكثر في البكاء وترتمي في حضن إسراء:
_وإلا هيسبني ومش هيتجوزني.
طار عقل إسراء من قولها، وتفاجئت مما تفوهت به، فمسدت على ظهرها، وهي تصرح بهدوء:
_متشليش هم حاجة انا مستعدة اتكفل بكل الفرح واعملهولك في احسن مكان لو تحبي، ولو على الشقة أنا هشتريلك واحدة.
فأبتعدت سهير في ضيق، وحدجتها بنظرة خانقة، وغمغمت:
_اسكتي الله يرضي عنك.
ولم تنبس إسراء ولم تحاول قيل ما قالته مجددًا، وفجأة سألتها سؤال حار فيه العقل:
_سُهير، أنتِ بتحبي جوزك ده؟ باين له مش زيكم!
فشردت سُهير طويلًا، واحترمت إسراء ذلك فلم تنبس ببنت شفة، حتى انبعث صوت سهير بحزنٍ دفين كأنما يأتِ من مكانٍ سحيق، وهي لا تزل ساهمة:
_بحبه أو مش بحبه هتفرق إيه؟ مش المهم خلاص سكتت ألسنة الناس ومحدش بيقول عليَّ عانس تاني، هو أنا جالي الأحسن منه وقُلت لأ!
وضحكت في وجع يُفطر القلب وهي تسترسل:
_مفيش غيره المتاح، مين هيرضى بعانس زيي؟!
فعبست إسراء متعجبة؛ عن أي عانس تحكي.
ومن طالها العنوسة!
إنها لا تزال شباب!
ذات ملامح رقيقة!
واسفاه.
على البشر حين يظنون تأخر الزواج عنوسة!
وإن قطار الزواج لا يقف لمن  تخطت الثلاثون!
تبًا لهم! وهل يفوت القطار أحد؟!
هذا القطار بالذات يقف في كل المحطات.
فهتفت إسراء مستنكرة بانفعال:
_نعم!! أنتِ بتقولي إيه بجد؟ مين دي اللي عانس! أنتِ مش بتشوفي نفسك في المراية ولا إيه؟ يا بنتي أنتِ قمر.
لكنَّ سُهير تبسَّمت في سُخرية مريرة، ظنٌ إن إسراء فقط تطيب خاطرها، ثم غمغمت باختناق مؤلم:
_بلال هيتحمل قد إيه دلوقتي؟ لولا إن تمني الموت حرام كنت تمنيته...
فضمتها إسراء ولم تنبس، لم تجد كلمة تواسيها، فآثرت الصمت والطبطيب على ظهرها في مؤزارة.

والتقيناحيث تعيش القصص. اكتشف الآن