والتقينا (2)

833 38 8
                                    

2_لقاءُ القلوب.

"لُقاءك كنسمة هواء، انعش القلب من رقاده، وأعاد له الحياة."

"مستحيل.. لإنه خطيبي"
دوت العبارة كالصاعقة علىٰ مسامع (بِلال)، وكف لسانه عن لهج الذكر في صدمة طغت علىٰ ملامحه الرجولية..
أبلالٍ هو؟! إمَّا يوجد أحد أخر يُدعى بلال!
أيُّ خطيب! عمَّ تهذي تلك الساذجة!
إنه لم يفكِر بإن يخطب قط، وهكذا فجأة يُصبح مخطوبًا؟!
دون عِلمه، ولا إدراكه!؟
ومن خطبته فتاة دون حتى استئذان!
غضبٍ هائل تشبعت بهِ ملامحهُ، وهو يرفع بصرهُ إليها..
إليها هي بالذات..
لم يكن قد تنبه لمغادرة الضابط من صدمته التي بدت له كمطرقة هوت فجأة على رأسه فغيبته عن العالم لردحٍ من الزمن.
أكثر ما يكرهُه في حياته هو الكذب! وتلك المرأة تبدو بارعة في إختلاق المعاذير، و تهوى الكذب كعينيها..
ازدردت (إسراء) لُعابِها في خوف ملأ جُم جوانحها، وطل الذعر من عينيها، وهي ترمقه في توتر، أرادت أن تُحسن من صنيعها الذي اقترفته، فأستحضرت أكثر شيء تجيده..
التمثيل..
وهل يوجد شيء تجيده مثله!
فاستمطرت عينيها بكاءً حارقًا يُدمي القلوب، وأبدعت في التمثيل، فبدت كأنما تلعب دورًا في إحدىٰ مسلسلاتها ينقصه فقط الجمهور ليصفق.
وتفاجأ .. تفاجئ بِلال من بكائِها، وتسمر مكانه مبهوتًا ولم يلبث ببنت شفة، وأن شفت كل خلجة من خلجاته عن غضبٍ عظيم نجح في كظمه بأعجوبة يُحسد عليها لا ريب.
هتفت (إسراء) دون أن تنظر إليه باكية:
_كنت مجبورة أأقول كده! صدقني أنا مجبورة وغصب عني..
وصمتت تختلس النظر نحوه، لترى ردة فعله، لكن ملامحه لم تشف عن شيء ألبتة، فأردفت تقول:
_باين عليك راجل وابن ناس وهتقف جنبي، أكيد مش هترد أيد اتمدت لك، أنا في حد معرفهوش بيحاول يقتلني..
كانت صادقة في آخر عبارتها، وذرفت عيناها دمعًا صادقًا هذه المرة، وهي تسترسل:
_ليه وعشان إيه معرفش! كل اللي اعرفه أني خايفة..
لا يكذب إنه تأثر، وحديثها ترك في نفسه أثرًا عظيمًا في سويداء القلب، ورمقها في أسف عندما استكملت بصوتٍ واهن، وبوجه ممتقع عاده تمثيله:
_خايفة من كل اللي حواليا، إزاي أنام لـ يجيلي الغدر من أأقرب ما ليا، حاولوا يسمموني في نص بيتي ولولا ربنا مكنتش نجيت.. ولا عشت، وحاول حد يخنقني وأنا نايمة وبرضو ربنا نجاني، ودلوقتي الحادثة زي ما أنت شايف.
تزلزل قلبه من حديثها لا شك، واضطربت نفسه، وتهدج صوته، قائلًا:
_طب.. طيب وأنا اعمل إيه دلوقتي؟
كان حائر  .. وحق له أن يحتار، لأول مرة  يجابه موقفٍ كهذا، وتبكي فتاة أمامه ناهيك عن أخته فقط..
لأول مرة يتعامل مع النساء لا سيما أولاء الآتي يقلهم بالسيارة..
_تتعامل كأنك خطيبي عشان الشرطة متورطكش في حاجة أنت مش قدها.. وتاخدني معاك بيتك.
عبارتها الأخيرة دوت علىٰ أذنيه بما يشبه الصدمة فخشبت جسده وهو ينظر لها في بلاهة، وحدجها بنظرة غاضبة وافتر ثغره عن حديث لم يلبس أن احتبس في حلقه، عندما أردفت تقول بنبرة تفيض بالشجن:
_ أكيد مش هتسبني في الشارع، انا مستحيل ارجع مع اهلي وأنا مش عارفه مين عايز يقتلني فالقاتل اكيد حد منهم.
قضقض بلال أسنانه وهو يتميز غيظًا، وغمغم بحدة سرت قشعريرة في جسدها:
_وهو في عيلة ممكن تأذي حد منهم؟ أنتِ الخبطة أثرت على دماغك غالبًا.
( بلال المهيب) هكذا همست في نفسها وهي تنوي منادته دائمًا بينها وبين نفسها بهذا اللقب، فهي باتت تهابه حقًا ولم يحدث إن هابت يومًا رجلًا مثله قط.. بالحقيقة، من كانوا في حياتها هم اشباه رجال، فسيكون خطأٌ جثيم إن فعلت مقارنة بينهم.
ليتها تنفذ في داخله فتسبر أغواره، وتعلم أيُّ الطريق تسلك لقلبه! فتعلم كيف تتود إليه، فيوافق أن يحميها.
وانبعث صوته حادًا، صارمًا، حاسمًا، مهيبًا وهو يجأر:
_أنا همشي وأتمنىٰ مشوفكيش قدامي تاني في أي مكان.
وغادر الحجرة صافقًا الباب بقوة جعلتها أُجفلت وهي تشيعه بنظرات لامعة بالدموع الحقيقية، وبقىٰ بصرها معلقًا علىٰ الباب، كأنما تنتظر أن يعود، وضاقت بها نفسها وهي تشعر إنها منبوذة لا يحق لها العيش، فغطت وجهها بكفيها وانخرطتت في بُكاء يُبكي الحجر..
ما به هذا الرجل لم يحاول أن يستميلها كما يفعل الرجال عادةً، علاوة على غزلهم وملاطفتهم كأنه قُد من صخر  .. ألا يعرف من هي ليرفض لها طلبًا، كان عليه هو أن يدعوها إلى منزله لا العكس.
أواصر الألفة تنبع فجأة من صميم القلب تنبئها إن ذاك الراحل ثمة رِباط بينهما، فحتمًا سيعود ولن ينتهي المطاف، وإن لم يعد فما الضير من السير إليه.
كفكفت أدمعها وهي تمعن في التفكير لحل لهذه المعضلة، وكيفية الوصول إليه، ولم يدُم تفكيرها طويلًا، وهي تبتسم في ظفر وبلمعة ماكرة.

                      ♥ الحمد لله♥

مكالمة هامة أجراها بلال وهو يقف مستندًا بظهره على مقدمة سيارته، غافلًا عن تلك التي ترتدي ملابس المرضى، وتتسلل في خفة منبعها ضئل قدها، وهي منحنية ومخفية وجهها مخافةً أن يدركها، وفتحت صندوق سيارته بكل حذر ودقة، واندست بداخله وأغلقته بذات الحذر، ولم يمض حينٌ من الوقت وكان بلال يستقل سيارته وهو يصل هذه وذاك ويباشر عماله متناسيًا تلك الفتاة العابرة التي مرت في حياته كذكرى نثرها حطام الحياة في مهب الرياح، وفي مخبئها كانت إسراء متكورة في الصندوق الذي بالكاد احتواها وجسدها راح يرتج من سرعة السيارة، وهي تتمتم في غيظ:
_ما براحة بقا أنت سايق طيارة، إيه ده؟ بقى أنا إسراء يحصل فيَّ كده، إن ما وريتك!
ثُم سكتت لهنيهة، وأتبعت تقول في حنق:
_اوريه إيه بس وعليه هيبة تخوف انا هسكت خالص.
وغفت في مكانها من الإعياء، وعندما فتحت عيناها، تثاءبت وهي تفرد ذراعيها الذين ضربا في الصندوق فتأوهت بألم وهي تتذكر أين هي الآن في تلك اللحظة، وتمتمت في مرار:
_أنت لسه موقفتش!؟ هتشل انا كده!
ورفعت غِطاء الصندوق وأطالت النظر من الفرجة الضيقة لتبصر ليلٌ بهيم غشىٰ الدنيا بظلامه، فأغلفت الغطاء وهي تتمتم:
_الليل ليل، مش هيروح ده؟!
ومع همهمتها كان بلال يوقف سيارته ويترجل منها، فلما أحست بذلك رفعت الغطاء، وكان بلال يسير حيثُ منزله، وهي تُخرج ساقها في حذر خفية أن تنصدم في شيء، و وقفت تتلفت حولها حتى وقعت عيناها عليه، وسارت في حذر نحوه.
(يا مصيبتي)
صيحة هادرة فزعة أستوقفتها …

يتبع
#والتقينا
#ندى_ممدوح

والتقيناWhere stories live. Discover now