الفصل الثاني: صَخَبٌ

48 7 0
                                    

في جهَةٍ مغايرَة، دَخَلَ غرفتهُ مُثقّلاً بالألَمِ، مملوءً بالخَيبَاتِ، مزدحمًا بالأفكَارِ الصاخبَة، جَرّ نَفسهُ حَتَّى السرير، جَلَسَ عَلىَ طرفهِ بهدوءٍ، تَنَفّسَ بقوّةٍ

رَامشًا عدّةَ مَرّاتٍ، مقاومًا رغبتهُ الجنونيَة في البكَاءِ، لَكن هَيهَات، لَم يقدر.

شعرَ بدموعهِ تَحرقُ مقلتيهِ وَتلهبُ جفونَهُ طلبًا منهُ أن يطلقَ سراحَهَا، لَكنّه يأبى ذلكَ، يقاومُ، إنّه يقاوم فقط، أمسكَ رَأسهُ بقوّةٍ، وَأغمَضَ عينيهِ ينظم أنفاسه المتذبذبة، محاولا التخلص

 منَ الغصّة التي تَخنقُه وَتُضيق عليه.

لَم يعد قادرًا عَلىَ ابتلاعِ ريقهِ، لقد باتت حنجرتهُ توجعهُ بشَكلٍ لاذعٍ، رَفعَ رأسهُ للسقفِ وَفتحَ عَينَاهُ وَإذ بتَمَرّد كُلّ مَا كَانَ يكبتهُ وَيكتمهُ من كلمَاتٍ عَلىَ شَكلِ دموعٍ متتالية، انبثقَ الدمع وَانبتَّ الكَلامُ وَمَا عادَ في مَقدورِ الرّوحِ سوَى نَهشُ الداخلِ وَإلهابُ الصدرِ عَسىَ أن توصلُ ألمهَا إلىَ مَالكهَا، فَفعلت وَبشَكلٍ مبالغٍ فيه.

بقيَ عَلىَ هاته الوَضعيَّةِ لمَدّة ثمّ أنزل رأسهُ بينَ ركبتيهِ وَأكمَل نَحيبهُ هَكَذا، كُلّ تخيلاتهِ وَكُلّ أفكَاره حَولَ أن يبدأ بدايَةٍ جَيّدَة وأن يخطو نَحوَ وَالدهِ تبخّرت وَبشَكلٍ مريعٍ.

مَسحَ وَجهه بكَفّه ثمّ قامَ من مَضجَعهِ نَحوَ حمّامِ

الغُرفَةِ، تَوَضّأَ ثمّ صَلَّى فَسَجَد طويلاً إلَىَ أن أحَسّ بالإرتواء، ثمّ عاوَد السجود حَتَّى ارتاحَ وَشَعرَ بانطفاءِ لهيبِ صَدرهِ، وعندمَا أكمَلَ دعَا رَبّهُ بدعاءٍ كَانَت دَومًا مَا تَنصَحهُ بهِ وَالدتهُ وَالذي هوَ: " اللهُمَّ إنّي وَكَّلتكَ أمري فإنّكَ خَير وَكليل وَدَبّر أمرِي إنّي لا أحسنُ التَدبيرَ " وَخَتمَ الدعاء بِـ : "الحَمدُ لله، اللهم رضَاكَ وَالجنَّة".

نَهَضَ من عَلىَ السَجّادةِ وَأخذَ يطويهَا ثم توَجهَ نَحوَ لَوحَةِ الرّسمِ، جَلسَ عَلىَ الكرسيّ وَأَخَذَ بقلم الرصاص وَالفرشاةِ وَالألوَانِ المَائيَة وَبدأَ يلعبُ بينَ أصابعهِ بالقلم، يَخط بهِ هنَا تارَةً وَهناكَ أخرَى، ثم أعادَ عَلىَ الرسمَةِ باللونِ الكُحليَّ بعدَ مَزجهِ مَعَ الرّمَاديّ، فتلونَت مجسّدَةً في النهايَة صورَة شخصٍ يصرخُ، صرخَةً صامتَة.

هَكَذا كَانَ دَومًا كلمَا أَرهَقتهُ مَواقفهُ مَعَ والدهِ

يصلي وَيرسم فقط، لا يُفضفضُ، لا يشكُو 

وَلاَ يصرخُ، فقط يَكتِمُ وَيَكبتُ وَ يصبرُ..دَومًا.

قَاطعَ انشغالهُ في اكمَالِ الرَسمِة دخَولِ السيّدة فاطمَة، فقد كَانَ قلبهَاَ مَعهُ منذُ البدايَة، أرادت تركَهُ بمفردَهِ لكنّهَا لَم تَستطع، قلبُ الأمّ الطَيّبُ مَهمَا ادعى القوَّة يضعفُ أَمَامَ ذَويهِ.

الأبلقحيث تعيش القصص. اكتشف الآن