غُصن!

20 4 10
                                    

هاد قد ودّعنا عامٌ آخر وعانقنا الرّبيع من جديد! ها قد نفضت الأرض ثوبها الأبيض الرثّ وأبدلته بثوبها الأخضر الخلّاب المطرّز بالزّهور العطرة. وها هي الطّيور ترتفع عاليًا لتعانق السّماء بعد طول انتظار وأشعّة الشّمس الذّهبيّة تغسل البرد عن أجنحتها. ولكنّ الأجمل من هذا كلّه، هو أن شجرة الكرز الّتي أحضرها لي والدي حين كنت طفلةً، والّتي كنت أعتني بها وأعتزّ بها أكثر من نفسي، قد أزهرت أخيرًا ولأوّل مرّة! لكن ما أثار دهشتي هو أن غصنًا واحدًا فقط قد أزهر بخلاف بقيّة الأغصان العارية الهشّة! بتّ أستيقظ كلّ صباحً بنشاطٍ وأفتح نافذة غرفتي حيث يمتدّ ذاك الغصن الوردي، ثمّ أحتسي كوب قهوتي إلى جانبها أثناء تمعّني ومراقبتي للغصن بحبٍّ وحبور.

مرّ يومٌ بعد يوم والحال لم يتغيّر ولم يزهر أيّ غصنٍ آخر. وفي أحد الأيام بينما كنت غارقةً في عالم الأحلام، استيقظت على صوت همسٍ جميلٍ ينادي باسمي، ففتحت عينيّ وإذا بالغصن قد امتدّ إلى داخل غرفتي لأجده فوق رأسي وبضع بتلاتٍ من زهور الكرز الّتي عليه تتناثر على وجهي وتلامسه بحنانٍ ودفء. كنت لا أزال غير قادرةٍ على فتح عينيّ بالكامل إذ أنّ النّعاس قد نال منّي فأنا لم أنم وقتًا كافيًا تلك الّليلة. ولكن قبل أن أغلق عينيّ مجدّدًا، سمعت الصّوت نفسه يصدر من ذاك الغصن، يقول لي: "أياكا... أياكا... فلنذهب في رحلة معًا... أياكا..." ثمّ راح يتلاشى الصّوت شيئًا فشيئًا بينما تغفو عيناي! مرّ الوقت، وحين استيقظت واستعدت نشاطي وحيويّتي وجدت أنّ الغصن لا زال ممتدّا إلى غرفتي ولكن ليس إلى الحدّ الّذي يكون به فوق رأسي مباشرةً. فابتسمت وتوجّهت نحوه، ثمّ رحت ألامس بتلات الأزهار بخفّةٍ ورقّةٍ بينما أقول مبتسمةً: "أتعلم أيّها الغصن؟ لقد رأيت حلمًا غريبًا اليوم! لكنّه نوعًا ما يشعرني بالسّعادة والدّفء لسببٍ ما... لقد كان هناك صوتٌ عذب يخرج منك جعلني أشعر بالدّفء والطّمأنينة. هههه لو سمعني أحدٌ أقول هذا ولغصنٍ أيضًا، سيظنّ أنّني قد فقدت عقلي ههه!" وما هي إلا لحظاتٍ حتّى اهتزّ الغصن بهدوءٍ وتساقطت منه بضع بتلات بين يديّ. وفجأةً بدأ الغصن يلتفّ حول خاصرتي، ثمّ سطع ضوءٌ غريبٌ من حيث لا أدري فأغمضت عينيّ والذّهول يتملّكني وشعرت أنّ المكان حولي وإحساسي به يتلاشى شيئًا فشيئًا!

حين فتحت عينيّ، وجدت نفسي في مكانٍ غريب. كان ذاك المكان عبارةً عن أشجارٍ عملاقةٍ بأغصانٍ ضخمةٍ طويلةٍ تتشابك ببعضها البعض لتصنع لوحةً فنيّةً أخّاذة! كانت تتدلّى من تلك الأغصان شتّى الأنواع من الأزهار الغريبة الّتي لم يسبق لي رؤيتها في الواقع أو الكتب! كانت تتحلّى بألوانٍ غريبةٍ متلألئة، وكانت الأغصان بدورها تتزّين بحليٍّ كالّلؤلؤ وأحجارٍ كريمةٍ خلّابةٍ يعجز الّلسان عن وصفها! وكان من بين الأغصان يخرج ماءٌ صافٍ تتلألأ قطراته وكأنّني أنظر للوحةٍ من عالم الخيال! وكان في ذلك المكان أيضًا شتّى الأنواع من الفراشات والجنّيات الصّغيرة ذات الألوان الزّهيّة. وبينما أنا تائهةٌ في خيالي وأفكاري، وإذا بي أسمع صوتًا مألوفًا، كان الصّوت ذاته الّذي سمعته من الغصن في غرفتي! قاطعني ذاك الصّوت قائلًا:
- أياكا؟ أياكا، لمَ أنت شاردة الذّهن هكذا؟
- ها؟!!
حين نظرت إلى يساري وجدت شابًّا في مقتبل العمر، ذا جمالٍ لا يمكن وصفه بالكلام البتّة. كان لديه بشرةٌ صافيةٌ بيضاء، وعينان حادّتان بلونٍ فيروزيّ، تلمعان كالأحجار الكريمة، ورموشٍ طويلة كثيفة حالكة السّواد، وشعرٍ حريريٍّ حالك السّواد يتدلّى لحدّ كتفيه، وعلى رأسه حُليٌّ فضّيّةٌ تزيده فوق الجمال جمالًا! وكانت ثيابه كثياب فارسٍ من قصّةٍ خياليّة! حين نظرت إليه لم أستطع أن أشيح بنظري عنه! كان جماله آسرًا وهالته الدّافئة الّتي تحيط به تجعلني في حيرةٍ وذهولٍ أكثر! مرّت دقيقةٌ وأنا لا زلت أحدّق به باستغراب فابستم ابتسامةً ساحرةً لا يمكن مقاومتها، ثم أمسك يدي بيديه الدافئتين وقال بصوته العذب:
- أياكا... أهلًا بك في عالم الرّبيع! لقد انتظرتُ هذه الّلحظة لسنواتٍ طويلة!
- ها؟!
- ألا زلتِ غير مدركةً لما يحدث؟
- أ... أجل! أ.. المعذرة، ولكن من تكون؟ وما هذا المكان؟ وكيف وصلتُ إلى هنا؟!
- ههههه أسئلةٌ كثيرة! لا بدّ أنّك لا زلتِ لم تفهمي الأمر بعد! أنا هو ذاك الغصن الّذي اعتنيتِ به وبشجرته طوال هذه السّنين!
- ها؟ غصن شجرة الكرز المزهر؟؟ ك.. كيف ذلك؟ ههه لا بدّ أنّني أحلم، ظننت أنّني استيقظت ولكن يبدو أنّني أخطأت!
- أياكا... أنظري إليّ جيّدًا! هذا ليس حلمًا، بل هو الواقع!
- هذا مستحيل أنّى لغصنٍ أن يتحوّل لشابٍّ بهذه الوسامة!
عندها نظر إليّ ووجنتيه تحمرّ خجلًا ما زاده جمالًا ووسامة، ولكنّني شعرت بالإحراج حين خرجت تلك الكلمات من فمي واحمرّ وجهي خجلًا بدوري. بعدها، سألته عن كيفيّة حدوث هذا فابتسم وأكمل كلامه قائلًا:
- هنا عالم الرّبيع، هو عالمٌ حقيقيّ بجوار عالم البشر، يعيش فيه الكثير من الكائنات المسالمة، ويوجد به شتّى أنواع النّباتات والأزهار والأحجار الكريمة والكثير والكثير من الأمور الّتي لا يمكن للبشر تخيّلها. في الحقيقة لم يسبق لبشريٍّ أن أتى إلى عالمنا، لكنّني كنت قد قرأت في صغري عن العديد من الأساطير حيث تقول أنه ذات مرّة أتى بشريٌّ إلى هنا وعاش حياته مع باقي الكائنات بسلام وتناغم لكن في الحقيقة لا أحد يعرف كيف، لأن طرق التّواصل بين البشر وبيننا مجهولة، ولا يوجد طريقةٌ معروفةٌ للانتقال بين العالمين.
- واااااااه! أهذا حقيقي؟!! إذًا كيف أتيتَ لأخذي من عالمي وجئت بي إلى هنا؟ وإن لم تكن بشريًا فما هي حقيقتك؟
- في الواقع نحن هنا لسنا صنفًا واحدًا من المخلوقات، هناك الجنّيات والحيوانات الغريبة وغيرها، وهناك صنف يشابه البشر في كل شيء، إلّا أنّه يطلق عليهم اسم "الربيعيّون" في هذا العالم، والفرق بيننا وبين البشر أنّه يمكننا التّحوّل لزهرة، شجرةٍ أو غصنٍ ما. لذلك في أحد الأيام حين كنت طفلًا في التّاسعة من عمري، بينما كنت في المكتبة الضّخمة الّتي تضمّ جميع الأساطير والمعلومات حول العالمَيْن، سطع ضوءٌ غريب، فذهبت لأتحقّق من أمره، عندها شدّني ذلك الضّوء وسحبني إلى عالمكم. عندها سقطت في عالمكم على هئية جذع شجرة كرز صغيرة، فوجدني والدك صدفةً على أحد الطّرقات وحدث ما حدث...
- لكن لماذا لم تعد إلى عالمك وانتظرت كلّ هذه السنوات؟
- لم أكن قادرًا على ذلك...
- لماذا؟
- كان هناك شروطٌ عليّ اتّباعها لأتمكّن من فتح البوّابة والعودة.
- وما هي الشّروط؟
- ممممم سأخبرك لاحقًا. الآن دعيني آخذك في جولةٍ في هذا العالم لتعتادي عليه.
- ها؟ لم؟ ألن أعود لعالمي؟
- ماذا؟ ألا تريدين التّعرّف على هذا العالم أوّلًا؟
- ب... بلى، لا ضير من ذلك!

غُصن~🌸🍃Where stories live. Discover now