~الفصل الثَّاني:مليكة~

105 22 7
                                    


"الله يسامحك ويهديك ،الله يسامحك ويهديك"

ردَّد هذه الكلمات الحشد الذّّي أحاطَ بنا، في حادثةٍ سابقة ومشابهة ضرب الجِّيران العاق، لكن أنا رُفع عليَّ القلم لأنَّني مجنون.

صحيحٌ أنَّني لا أتذكَّر شيئًا، ولكنَّ الأجواء تظهر بوضوح كوني الفاعل.

تمسُّكي بمليكة اشتدَّ رغمًا عنِّي، وكأنَّ جسدي هو  الوحيد الذِّي يتذكَّر ما حصل، وكمحاولةٍ لتفادي نوبة هلعٍ لا أمتلك ما يكفي من الطَّاقة لتحمُّلها سلَّطتُ تركيزي على محاولة التهام الهواء لإنعاش عقلي.

بعد دقائق معدودة نهضت هي عن الأرض وسحبتني خلفها سحبًا نحو باب البيت دون أن يعترضها أحد أو يتغيَّر شيء، وكأنَّ المنزل مسرح جريمة عفا عنها الزَّمن، كنتُ متأكِّدًا من أنَّه لم يضايقنا أحد خوفًا من التلطُّخ بأوساخنا.

فتحت لي باب السيَّارة المجاور للسَّائق فركبتُها بصمتٍ وبدأت هي بالقيادة بالمثل، لكن بالسُّرعةٍ التِّي أعتمدها في إثارة نشوتي.

أحبُّ القيادَة بسرعة، فبتلك السُّرعة التِّي تجعل النَّاس والسيَّارات يبدون كالأشباح، أشعر بأنَّني فقط واحد من الكثيرين، هناك قصص أسوأ من خاصَّتي ،ليس من المعقول أنَّه ما من مختلّ آخر من بين كلِّ هؤلاء، تمنَّيت ذلك كلَّ مرَّة.

بعد المرور بسلسلة من الجِّبال والهضاب توقَّفت وترجَّلت من السيَّارة ثمَّ سارت نحو مكانٍ مجهولٍ دون دعوتي، فاعتبرتُ أنَّ مجرَّد احضاري معها بمثابة دعوة وتبعتها.

بعد تضحياتي ومقاومة الحجارة الرَّطبة الزَّلقة واستفزاز الحشرات تبيَّن لي أنَّ وجهتها كانت شلَّالًا، ورغم عدم رؤيتي لواحد بعينيَّ من قبل إلا أنَّني لم أتحمَّس أبدًا.

"ألا تمانعين اصطحابي معك إلى مكانك السرِّي؟ إن لم أخطئ الظن"
سألتها بنبرةٍ مُشبَّعة بالضجر بعد أن جلستْ تنظر إلى شلَّالها بصمت عاطفي، ما خطب البشر يتَّخذون من الطَّبيعة أماكن خاصَّة وكأنَّها ملكهم، أو صديقًا وكأنَّها بشر؟

"أنا لا أريد رفقة، وأنت لا تريد أن تعيش أو تُلاحَظ، لذلك اعتقد أنَّك لن تزعجني"
ردَّت عليَّ بنفس نبرتِي قبل أن تناولني كوب قهوة كخاصَّتها، وقد كانت مرَّةً جدًّا، رغم سوداويَّتي لا أحبُّ إلا الأطعمة الحلوة والطيِّبة، ألا يقولون أنَّ الأضداد تتجاذب؟

هي ضحكت دون بذل ذرَّة جهدٍ لإخفاء سخريتها منِّي ومن  تعابير التقزُّز على وجهي، ثمَّ عرضتْ عليَّ علبةً مملوءةً بمكعَّبات السُّكر لآخذ منها القدر الذِّي أحتاجه.

"شخصٌ مثلي لا يعلم ما إذا كان عليه مواصلة التنفُّس في الغد تعطينه خيارات؟"

نعم قلت هذا فقط بسبب السكَّر

"هل قلتَ هذا بدافع المزاح؟لأنَّه لا يمكنني تحديد مزاجك، هل أنت سعيد أو حزين في هذه اللَّحظة؟"

"السَّعادة أو الحزن سيان، كلاهما يحفزَّانني على إلقاء نفسي من السَّطح انتحارا أو احتفالًا"

ضيَّقت عينيها باستغراب أو تقزُّز، ثمَّ تنهَّدت وقطعت الحوار ببعض الكلمات

"لقد جررتك إلى هنا، أليس من العدل تناولك لشيء يناسب ذوقك؟"

بعد ذلك صمتنا لوقتٍ طويلٍ استسغتُ خلاله الهواء أكثر من القهوة، واكتشفتُ أنَّني غفلتُ عن توفير ضرورةٍ حياتيَّة واحدة في محاولتي للموت بسلميَّة دون انتحار ، ألا وهي الهواء، أخشى الموت منتحرًا ليس خوفًا من الجَّحيم، بل لأنَّ كلمة الخلود تنهك عقلي، أو ربَّما لأنَّ اسمي حمَّل عقلي الباطني مسؤوليَّة ضمان عيشي طويلًا، فاسمي هو 'عُمَرْ' في كلمة ، و'من عاش زمنًا طويلًا' في جملة.

عُدنا إلى المنزلِ فاستقبلتني أمِّي بدموعٍ لم تحرِّك لي ساكنًا، لكنَّ عينا أبي كانتا حمراوتان

هل يبكي ذلك الرَّجل؟

كيف يمكن له أن يبكي؟!

ركضتُ نحوَ غرفَتي وآخر ما التقطته أذناي قبل اغلاق الباب هو ضحكتهُ السَّاخرة المعتادة، لكنَّ جسدي استقبل صوتهُ ذاك موضعيًّا فقط، وفي النقيض تمامًا تغلغلت آثار البكاء على وجهه عظامي

بكيت

بكيتُ رغمًا عنِّي

لقد كان لدموعه صوتٌ مدوّي، وكانت لضحكته مشهدٌ صامتٌ رتيبٌ عابر

{قُطبيَّة ثنائيَّة:طُفيْلي}Where stories live. Discover now