الفصل التاسع

5.8K 231 17
                                    


(( ميثاق الحرب والغفران ))
_ الفصل التاسع _

وقعت أثر كلمة أبيه الأخيرة عليه كالصاعقة وسرعان ما تقوست ملامحه بسخط شديد وقال بنبرة رجولية مخيفة :
_ إيه اللي بتقوله ده يابوي .. أتجوزها إيه !
إبراهيم بنظرة قوية ونبرة رخيمة يحاول إقناعه :
_ مؤقتًا ياعمران تتجوزها وبعدين ابقى طلقها .. ولا أنت عاوزهم يقتلوك ياولدي
صرخ بأبيه منفعلًا :
_ يقتلوني لو أنا غلطت مع بتهم صُح ووقتها ابقى لازم اتجوزها واتستر عليها وادفع تمن غلطتي .. لكن لما أكون معملتش حاجة يبقى هما اللي يخافوا مني
تأفف إبراهيم بنفاذ صبر وقال في غيظ :
_ افهم الكلام زين وبلاش عند .. متستهونش بيهم ياولدي هما مش ساهلين برضك وأنا خايف عليك، اسمع كلامي وخليني اكلمهم واقولهم أنك هتتجوزها وتستر عليها مفيش حاجة غير دي اللي هتخليهم يهدوا بعد الصور اللي شافوها

التزم عمران الصمت وهو يشتعل من فرط الغيظ والغضب فتابع أبوه وهو يترجاه بلطف :
_ مفيهاش حاجة ياولدي لما تتجوزها كام شهر وبعدين طلقها .. عشان سمعتنا وعشان قيمتك وسط الخلق، اسمع كلامي ياعمران

مازال الصمت يستحوذ عليه وهو يفكر بما يقوله والده وحين تأنى في التفكير لدقائق شعر أنها فكرة ليست بكل هذا السوء فقد تكون فرصة سنحت له للانتقام منها على محاولتها لقتله .. سينقذ عائلته ونفسه من العار وسينتقم .
تنهد بقوة وقال في صوت غليظ يحمل في ثناياه غموض مخيف :
_ طيب يابوي موافق خلاص
ابتسم إبراهيم براحة وقال :
_ زين .. بكرا هروح واتكلم مع حمزة وجلال ومنصور عشان نفضوا الموضوع ده ونشوف هيتم الجواز ميتا
ضغط على كف يده بعنف حتى لا ينفجر من فرط الغضب .. بداخله يتوعد للجميع وبالمقدمة آسيا التي هي سبب كل هذه الأزمات .
                                   ***
اندفعت داخل غرفتها وهي عبارة عن جمرة مشتعلة من النيران.. رغم كل ما حدث لها وما فعلوه بها مازالت تهددها، تلك ساحرة لا يؤثر بها شيء وكأنها تتغذى على المصائب بل وتجعلها أقوى .. كانت تتوقع أنها حين تدخل غرفتها ستجدها ضمن عداد الموتى لكنها كالقط بسبعة أرواح ! .
ستظل تنتظر بقية العقاب الذي سيطولها منهم.. فهي لم تتلقى سوى الدفعة الأولى فقط من سطوة رجال العائلة .. عل المرة القادمة يكسّروا اضلعها كلها حتى تعجز عن الحركة تمامًا .
كانت كلها أفكار يملأها الغل والحقد تدور برأس خلود التي تقف أمام المرآة بغرفتها وبيدها قطنة صغيرة تمسح دماء رأسها أثر اصطدامها بالفراش ولسانها لا يتوقف عن السب واللعن على آسيا .. لكنها انتفضت بفزع والقت القطنة من يدها حين رأت باب الغرفة ينفتح وتدخل أمها التي فور رؤيتها لجرح رأسها صرخت وهرولت إليها تهتف :
_ إيه اللي عمل فيكي إكده يابت ؟!
تلعثمت ولم تعرف بماذا تجيب فإن اخبرتها أنها دخلت لغرفة آسيا خلسة وسرقت المفتاح من غرفة جلال حتمًا لن تسلم من توبيخها وربما عقابها أيضًا، فلجأت بآخر الأمر إلى الكذب كاسلم حل حيث قالت بنبرة عادية :
_ مفيش حاجة ياما ده أنا وقعت واتخبطت في راسي بس
إنصاف بقلق وتعجب :
_ وقعتي وين وكيف ؟
ابتسمت بتوتر واشارت على الفراش هاتفة بإيجاز لكي تتهرب من أسألتها :
_ في الأوضة إهنه وقعت واتخبطت في حرف السرير .. متقلقيش أنا زينة ده جرح خفيف      
تطلعت بتمعن في رأسها فرأت أنه جرح بسيط بالفعل فتنهدت بارتياح وقالت في فضول ولهجة ماكرة :
_ متعرفيش حاجة عن عملة آسيا ولا هيعملوا فيها إيه ؟!
لوت فمها بقرف وقالت بغل :
_ لا معرفش أنا زي زيك .. ياكش يقتلوها ويريحونا منها
هتفت إنصاف باسمة :
_ أبوكي وجدك وجلال مش شايفين قصادهم من وقت ما عرفوا .. هاين عليهم يقتلوها صُح كيف ما بتقولي .. ياخوفي لحد يعملها فيهم !
همست لنفسها باشمئزاز وتمنى :
_ يارب يعملوها قريب
قالت عبارتها بينها وبين نفسها ثم اندفعت لخارج غرفتها تقصد الحمام حتى تغسل وجهها وتركت أمها بمفردها في غرفتها .
                                 ***
اعتدلت فريال في نومتها وهبت جالسة فور سماعها لصوت طرق الباب المصحوب بصوت عمران :
_ فريال أنتي صاحية ؟
ردت بصوتها الرقيق مبتسمة :
_ تعالى ياعمران
فتح الباب ببطء ودخل وهو يطالعها بابتسامة دافئة ثم اقترب منها وجلس بجوارها على الفراش ينظر لعيناها المتورمة من فرط البكاء بضيق ثم تمتم بجدية :
_ خير عاد إيه اللي حُصل خلاكي تسبيه وتاجي إهنه ؟!
اجفلت نظرها عنه وتمتمت بأسى :
_ ده اللي كان المفروض يحُصل من زمان ياخوي                
ابتسم لها وقال ببعض السخرية موضحًا أنه لا يصدقها :
_ وراحت وين اللي كانت في المستشفى من كام يوم بتدافع عنه قصادي وبتقولي أنها بتحبه ومتقدرش تبعد عنه !
لمعت عيناها بالعبرات وقالت في صوت مبحوح :
_ ولساتني بحبه قوي ياعمران
عمران بعدم فهم وحزم :
_ طب أمال سبتيه ليه عاد ؟!!
لم تقوى على الإجابة واكتفت بالصمت ودموعها التي انهمرت بغزارة فوق وجنتيها .. ليتنهد عمران بقوة ويضمها لصدره في حنو متمتمًا :
_ طب متقوليش خلاص براحتك لما تهدي تبقى تفهميني اللي حُصل .. بزيادة بكا ياحبيبتي
هزت رأسها بالإيجاب ثم ابتعدت عنه وكفكفت دموعها مبتسمة لتقول بمرح غامزة له :
_ أمها دعيالها اللي هتكون من نصيبك ياخوي .. مهتلاقيش في حنيتك ولا حبك ليها
سكت للحظة وجال بعقله حديثه مع والده قبل أن يأتي لها فتجهم وجهه وأظلمت عيناه ليقول بوعيد :
_ قصدك داعية عليها
رمقته باستغراب وعدم فهم لكنه سرعان ما تدارك الأمر وابتسم لها وهو يملس على شعرها برفق متمتمًا :
_ قومي اغسلي وشك وصلي ركتين لله واقري شوية قرآن وهتهدي وبعدين نامي
اماءت له بالموافقة وهي تبتسم فاستقام هو واقفًا متجهًا لخارج الغرفة يتركها تتابعه بحيرة من عبارته التي تفوه بها .. لوهلة شعرت بالخوف من ملامح وجهه وعيناه حين ذكرت الزواج وزوجته المستقبلية ! .
                                       ***
بصباح اليوم التالي داخل منزل خليل صفوان تحديدًا بغرفة الصالون الكبيرة كان يجلس إبراهيم مع كل من حمزة ومنصور وجلال وهم يرمقونه بنظرات مميتة .. فقد سمحوا له بالدخول لمنزلهم فقط لأنه أخبرهم أنه لديه ما سيقوله وهو مهم وأنه وجد حلًا لتلك الكارثة التي اصابتهم هما الأثنين .
قال منصور ساخرًا بنظرة قاتلة :
_ إيه يا إبراهيم جيت للموت برجليك ؟!  
تنفس مطولًا وقال بحزم :
_ محدش فينا عاوز موت تاني يامنصور .. ومحدش عاوز يخسر أحبابه
ثم التزم الصمت للحظة وتابع على مضض :
_ اللي صور الصور دي حد قاصد يأذيكم ويأذينا .. وأنا معاوزش دم ولا أنتو عاوزين الفضيحة .. عشان إكده أنا جاي اقولكم أن ولدي مستعد يتجوز بتكم ويصلح الغلط وكمان نبقى نفدنا احنا الاتنين من العار والفضيحة
استشاط جلال غيظًا وصاح منفعلًا :
_ ولدك يعمل عملته ويضحك عليها وبعدين يقول هتجوزها ! .. واحنا هنوافق بكل سهولة صُح !!
نقل إبراهيم نظره بين حمزة ومنصور منتظرًا منهم رد لكن الصمت كان إجابتهم فعاد ينظره لجلال وقال في جدية :
_ ده أفضل حل ياجلال .. قتلكم لولدي مش هيفيدكم بحاجة ومش هيداري على الفضيحة لا ده هيخلي الخلق كلها تعرف .. والعار هيلبسكم .. لكن الجواز هو اللي هيحل كل ده والموضوه هيتقفل وينتهى على إكده
انتصب منصور في جلسته وكان على وشك أن يثور عليه بعصبيته لكن حمزة قاطعهم وهتف بصوت مختنق وقلب منفطر :
_ عنده حق ياجلال ياولدي .. الجواز هو احسن قرار في الوضع ده، لو مدريناش على الفضيحة دي مش هنقدر نرفع راسنا قدام الخلق تاني
صرخ منصور بعدم رحمة منفعلًا :
_ يبقى نقتلهم هما الاتنين ونغسل عارنا بيدنا يابوي
ضرب حمزة بعصاه الغليظة على الأرض صائحًا بلهجة صارمة :
_ خُلص الكلام يا منصور .. وقولت الجواز هيتم
كان جلال يجلس ودمائه تغلي في عروقه .. فبرغم رفضه لتلك الزيجة إلا أنه لا يستطيع الاعتراض فما يقوله جده صحيح .. هو لن يستطيع قتل شقيقته مهما فعل ولذلك يجب أن يوافق على زواجها منه لكي ينقذ نفسه وعائلته من العار . 
تنهد إبراهيم الراحة وشعر بالسعادة الداخلية ليقول بحزم :
_ الوقت اللي تحبوا الجواز يتم فيه احنا معاكم أن شاء الله لو بكرا
هتف حمزة بقوة بلهجة لا تقبل النقاش :
_ بكرا زين .. خلينا نخلصوا قبل ما حد يدرى بالموضوع .. بكرا تعالى وهات ولدك والمأذون عشان يكتب
لم يتعجب إبراهيم من استعجالهم بل بالعكس فهذا المتوقع .. ليتوقف أخيرًا وهو يومئ بالموافقة هاتفًا :
_ بالأذن ياحج حمزة
والتفت يسير تجاه الباب لكن فور مروره من أمام جلال قبض على ذراعه بعنف واوقفه هامسًا له بغل :
_ ولدك اتكتبله عمر جديد أحمد ربك أن قتله مش هيفيدنا بحاجة صُح وإلا كان زمانك بتجهزله كفنه دلوك  
لم يجيب عليه واكتفى بنظرته المطولة والغاضبة لجلال قبل أن ينزع ذراعه من قبضته ويكمل طريقه لخارج الغرفة ومنها من المنزل بأكمله .
                                 ***
نهضت من فراشها واستقامت واقفة على قدميها حين سمعت صوت طرق الباب وقادت خطواتها ببطء تجاهه.. ثم فتحته بكل هدوء وإذا بها تقابل أولادها أمامها وهم يتطلعون إليها ببسمة حانية كلها شوق، اتسعت عيناها بصدمة وسرعان ما جثت على ركبتيها أمامهم وفردت ذراعيها لتضمهم لصدرها هاتفة بصوت بمحوح يغلبه البكاء :
_ حبايب قلبي .. اتوحشتكم قوى
هتف عمار باسمًا في دفء وهو بين ذراعين أمه :
_ وأنتي كمان ياما وحشتينا قوي
ابتعدت فريال عنهم وأخذت تتمعن النظر في وجهيهم وأناملها تتحرك بعفوية على شعرهم ثم همست في قلق وحب أمومي صادق :
_ طمنوني أنتوا كويسين .. بتاكلوا زين وفي حد ضايقكوا ولا لا ؟
خرج صوت معاذ وهو يهز رأسه بالنفي ويقول بجدية لا تليق على طفل أبدًا :
_ احنا بخير ياما .. بس جينا عشان ناخدك ونرجع بيتنا
ظهر العبوس على ملامحها وانطفأ بريق عيناها من جديد، فأخذت تتنقل بنظرها على معالمهم فرأت الحزن والتوسل في عين ابنها الصغير والضيق والإصرار في عين الأكبر، شعرت بغصة مريرة في حلقها وقالت بأمل :
_ أبوكم اللي بعتكم عشان تجيبوني ؟!
للمرة الثانية يهز معاذ رأسه بالنفي هاتفًا في صدق :
_ لا أبويا ملوش صالح احنا اللي جينا عشان ناخدك .. هو قالنا بس أنك هملتي بيتنا عشان زعلانة منه
أطرقت رأسها أرضًا محاولة السيطرة على زمام دموعها التي تجمعت بمُقلتيها وبعد برهة من الوقت رفعت رأسها لطفليها وسألتهم بشوق :
_ مقالكمش أنه هياجي ياخدني ؟
هنا تحدث عمار بدلًا عن أخيه الكبير وهو يهز بالنفي لأمه ويسألها بحزن :
_ هو أنتي مش هترجعي معانا ياما ؟!
رفعت أناملها تمسح الدموع المتجمعة في عيناها وحاوطت ابنها بذراعيه هاتفة في بسمة حانية :
_ مش هينفع ياعمار .. بس أنت وأخوك هتيجوا تقعدوا معايا صُح
علت ملامح الصغير اليأس وقال في جزع :
_ بس احنا مش بنحب نقعد إهنه ياما .. تعالي معانا ونرجع بيتنا ابوس يدك
ألم بسيط اخترق صدرها واستقر في قلبها بعدما أوضح صغيرها عدم رغبتهم في البقاء بمنزل جدهم معها، ونقلت نظرها بين عمار ومعاذ بلوعة، لتهز رأسها بالتفهم بعد وقت طويل نسبيًا رغم أن دموعها حصلت على حريتها أخيرًا لتنطلق فوق وجنتيها وقالت في خفوت مؤلم :
_ مش هقدر ارجع ياعمار دلوك .. خليكم أنتوا مع أبوكم لغاية ما ارجع طالما مش عاوزين تقعدوا في بيت جدكم إهنه 
انزعج معاذ وقال بخنق :
_ بس ياما أاااا.....
اقتربت منه واحتضنت وجهه بين كفيها متمتمة ببسمة تحمل من الحب والدفء ما يجعل أي طفل ينصاع خلف أمه :
_ اسمع الكلام ياحبيبي وبلاش عند، أنت الكبير وأنا بقول عليك فاهم وعاقل .. ان شاء الله هرجع قريب لكن دلوك أنت مهمتك تاخد بالك من أخوك وتاجوني كل يوم عشان اشوفكم اتفقنا
غامت عين عمار بالدموع وراح يرتمي على أمه بين ثنايا صدرها يعانقها بقوة هاتفًا :
_ أنا زعلان منك ياما عشان هتسبينا وحدينا
لمعت عيناها بالعبرات مجددًا وضمت ابنها لصدرها أكثر متمتمة بلطف :
_ أنا مش هسيبكم وحدكم ياعمار بعدين أنتوا رجالة وميتخافوش عليكم وهتقعدوا مع أبوكم لغاية ما ارجع
قال معاذ بعين دامعة ووجه بائس :
_ يعني مش هتطولي ؟
فردت ذراعها الآخر وجذبت معاذ لصدرها أيضًا مجيبة عليه وهي تقبل شعره :
_ أن شاء الله مش هطول 
سكنوا الطفلين بين ذراعين أمهم متلذذين بشعور يدها الناعمة وهي تملس فوق شعرهم بحب .. بينما هي فعيناها كانت لا تتوقف ذرف الدموع .
                                    ***
بعد مرور ساعات قليلة داخل منزل ابراهيم الصاوي كانت العائلة كلها متجمعة داخل غرفة المجلس الكبيرة بعدما طلب إبراهيم من الجميع أن يحضروا وينتظروه في الغرفة لرغبته في اخبارهم بأمر هام و كانوا جميعم يتبادلون اطراف الحديث باستمتاع فيما بينهم باستثاء إخلاص وفريال حيث كانت نظراتهم عالقة على عمران الصامت، عيناه تحدق في الفراغ بشكل مريب وملامحه شرسة ومخيفة، كأنه يجلس مجبرًا وفقط ينتظر وصول أبيه لكي يبدأ ويخبرهم وبعدها يغادر فورًا .
وقفت إخلاص وتحركت نحوه ثم جلست بجواره وانحنت عليه تسأله بقلق :
_ في إيه ياعمران .. هو أبوك عاوز يقولنا إيه وأنت مالك متعصب إكده ليه ؟
رمق أمه بنظرة قوية وقال مقتضبًا :
_ لما ياجي هتعرفي ياما عاوز يقول إيه الحج
ضيقت عيناها من أسلوبه الغريب وراحت تلتفت برأسها تجاه ابنتها ترمقها بعدم فهم لتهز فريال كتفيها بجهل مثلها وتشير لها بيدها أن تتركه وتعود بجوراها .. ففعلت مضطرة ونهضت لتعود إلى مقعدها من جديد وراحت تهتف بأذن ابنتها :
_ في حاجة كبيرة حُصلت يافريال .. أخوكي مش طبيعي وأبوكي مش هيجمعنا إكده إلا لو كان الموضوع كبير صُح
تنهدت فريال بخوف وهتفت :
_ ربنا يستر ياما أدينا مستنين أبوي لما ياجي ويقولنا في إيه !

رواية ميثاق الحرب والغفران Where stories live. Discover now