الفصل السادس

6.3K 227 13
                                    

((ميثاق الحرب والغفران ))
_ الفصل السادس _

توقف عمران وتحرك بخطوات ثابتة تجاهه وكان بشار يتابعهم بصمت دون أن يتحرك من مقعده ، بينما خالد فكان يرتجف رعبًا من الداخل لكنه يتصنع الثبات ويقف بشجاعة مزيفة .
وقف عمران أمامه مباشرة وطالعه بتمعن لملامح وجهه، وحين اخترقت نظراته داخل عيناه رأى الخوف السابح بهم رغم محاولاته لإخفائه فضحك بسخرية وتمتم بصوت رجولي غليظ :
_ تعچبني شجاعتك وأنت عارف أنا ممكن أعمل فيك إيه بعد ما حاولت تقتلني
هدر خالد بقوة متصنعة وصوت مهزوز يفضح زيفه ويظهر رعبه الحقيقي :
_ أنا مليش صالح يامعلم عمران .. أنا نفذت اللي اطلب مني
مازال عمران يحتفظ ببرود أعصاب غريب حيث هتف باستهزاء ونظرة مخيفة :
_ لا أنت منفذتش اللي اطلب منك زين .. والدليل إني واقف قصادك أهو مش ميت
ازدرد خالد ريقه باضطراب وسأل بترقب :
_ طب وأنت هتعمل فيا إيه دلوك يامعلم عمران
ابتسم بنظرات شيطانية وقال بنبرة قاسية لا تحمل الشفقة :
_ فكر إكده وقولي تتوقع اللي يعمل كيف اللي عملته ده هيكون عقابه إيه عندي!
استقرت نظراته على عمران حاملة كل أشكال الرعب وابتلع ريقه بصعوبة، لكن سرعان ما تبدلت ملامحه من الخوف للحيرة حين رأى الابتسامة المريبة تشق طريقها لثغر عمران وبعيناه نظرة غامضة حاول فهمها لكنه فشل، فسمعه يكمل بلهجة تحذيرية لا تحمل المزح :
_ بس لو قولتلي مين اللي وزك سعتها الكلام هيختلف

طالت نظرات خالد المترددة له، هو بين شقين إما أن يفصح له بالفاعل الحقيقي أو ينال عقابه العسير منه .. لعن نفسه بتلك اللحظة الف مرة أنه توغل بين عائلتين لا تعرف الرحمة والشفقة طريق لقلوبهم ، وبكلتا الحالتين لن يسلم منهم سواء اخبره أو لا .

اظلمت نظرات عمران وأصبح صوته مرعب حين صاح به :
_ هتقعد تفكر كتير إكده ولا إيه .. انطق وقول مين اللي وزك

اخذ نفس عميق قبل أن ينقل نظره بين بشار المترقب بنظراته لسماع اسم الشخص الذي حاول قتل ابن عمه، وبين عمران الذي كان يرمقه بنظرة تدب الرعب في القلوب ولم يكن فضولي كحال ابن عمه مطلقًا بل بدا كأنه يعرف الفاعل ولكنه ينتظر إجابة التأكيد، لكن خالد متيقن أن الاسم الذي سيسمعونه سيصيبهم بالذهول وسيفوق توقعاتهم بالكامل ! .
خرج صوت خالد بنظرات مترقبة لردة فعلهم :
_ آسيا
ارتخت عضلات وجه عمران وظهر الذهول عليها بينما بشار فهب واقفًا وقال بعدم استيعاب :
_ آسيا مين ؟!!
دار بنظره بين وجوههم المصدومة وقال :
_ بت خليل صفوان
نظر بشار بذهول لعمران الذي كان ساكنًا تمامًا لا يبدي أي ردة فعل .. ثم اندفع نحو خالد وجذبه من تلابيب قميصه يصيح به :
_ تعرف لو طلع حديتك ده كدب هتبقى چنيت على روحك
دفع خالد يد بشار عن ملابسه وقال بخنق في صدق :
_ أنا بقول الحقيقة الست آسيا هي اللي طلبت مني اقتل المعلم عمران وكمان هي اللي ورا حوار السمك اللي حُصل في المخزن إهنه
 
تبادل بشار نظراته المندهشة بينهم ليلاحظ الهدوء المزيف الذي يعتلي وجه عمران على الرغم من الأعصار المدمرة بداخله، ذلك الجمود مريب ولا يدل على الخير ابدًا .
اندفع عمران نحو باب المخزن فلحق به بشار وامسك بذراعه يوقفه هاتفًا بحدة :
_ رايح وين .. اهدى ومتعملش حاجة تندم عليها .. دي برضك واحدة ست
سحب عمران ذراعه بقوة بسيطة وقال بوجه محتقن بالدماء :
_ رايح اخلص حاجة مهمة وبعد إكده هبقى أشوف أعمل إيه .. اطمن دي زي ما قولت حُرمة برضك بس أنا عارف هتصرف معاها كيف
تنهد بشار وقال بجدية مشيرًا بعيناه على خالد :
_ وده هنعملوا معاه إيه ؟!
عمران بعين نارية :
_ ريبه زين الأول وبعد إكده سيبه يغور
القى عباراته واندفع للخارج يترك بشار يتابعه بنظراته في قلق وضيق .. مازل عقله لا يستوعب أن تلك الفتاة فعلت كل هذا .
                                    ***
كان جلال يقود خطواته تجاه غرفته بعد عودته من عمله لكن توقف حين مر من أمام غرفة أولاده فقرر أن يلقي نظرة ويطمئن عليهم، غير وجهته نحو غرفة طفليه وحين فتح الباب وجد ابنه الصغير عمار يجلس على الأرض وبيده جهاز تحكم الخاص بألعاب ( البلايستيشن ) .. يلعب أحد العاب كرة القدم باستمتاع وبشغف، تابعه من الخلف وهو يبتسم حتى قال باسمًا :
_ أخوك وين ياعمار ؟!
التفت الصغير تجاه أبيه وهز كتفيه بجهل هاتفًا :
_ معرِفش هو نزل تحت باينله قاعد مع چدي حمزة
تنهد جلال وقال بحزم بسيط :
_ خلص الدور ده وبزيداك قوم ذاكر وخلص الواجب اللي وراك
استقام واقفًا وهرول نحو أبيه يقول بحماس طفولي :
_ خلصته حليته أنا وأمي الصبح بدري
ملس على شعر ابنه بحنو وانحنى عليه يلثم رأسه هامسًا بغمزة جميلة :
_ چدع خليك إكده علطول .. ذاكر زين عشان كل ما تچيب درچات عالية في الامتحانات هچيبلك كل اللي تعوزه
لمعت عين الصغير بسعادة وحماس ليهتف :
_ صُح يابوي ؟
ابتسم جلال وعاد يقبَّل شعر ابنه مجددًا هاتفًا بتأكيد :
_ صُح الصُح ياحبيب أبوك هو أنا عندي إيه اغلى منك أنت وأخوك
عانق الصغير والده هاتفًا بحب وفرحة :
_ ربنا يخليك لينا يابوي
قبل أن يجيب على ابنه صك سمعه صوت صرخة منبعثة من غرفته المجاورة لغرفة أطفاله .. فاندفع بسرعة مفزوعًا وعمار يلحق به بفضول طفولي وخوف بعدما أدرك أن الصرخة كانت لأمه .
فتح جلال الباب فوجد فريال جالسة على الأرض ممسكة بقدمها وتتألم بقوة وبجوارها المقعد الخشبي ساقط على الأرض ففهم أنها سقطت من فوقه .. اسرع نحوها وانحنى عليها هاتفًا بقلق :
_ إيه اللي حُصل ؟!
قالت متألمة بعنف :
_ كنت برتب الدولاب ووقعت ياچلال .. آااااه
أصدرت ذلك التأوه وهي ممسكة بقدمها .. فمد هو يده وحاول مسك قدمها رغم رفضها وخوفها من أن يزداد الألم  لكنه هدأ من روعها بأنه لن يؤلمها وحين تفحصها بنظره التفت نحو ابنه وقال بجدية :
_ انزل لستك ياعمار وقولها أبوي بيقولك هاتي المرهم بتاع الالتواءات
أماء الصغير رأسه بالموافقة وهرول للخارج يقصد جدته كما قال أبيه ليخبرها بما يحتاجه لقدم أمه .
انتصب جلال واقفًا وانحنى بجزعة للأمام ثم حمل زوجته بين ذراعيه واتجه بها نحو الفراش يضعها برفق فوقه وسط تألمها، وحين نظر لعينيها رأى العبرات متجمعة بهم فملس على وجنتها بحنو هامسًا :
_ لما يجيب المرهم واحطلك منه الوچع هيخف شوي
ابتسمت له بدفء وتمعنته مطولًا .. رغم جدالاتهم المستمرة وعلاقتهم المتوترة إلا أنه لا يقصر في إظهار حبه وحنانه عليها .. فبقت تطالعه بغرام حتى وصل ابنها بالمرهم وأخذه أبيه منه وبدأ بوضعه بلطف شديد فوق طبقة جلد قدمها، والتف الصغير من الجهة الأخرى للفراش ليجلس بجانب أمه ويملس على شعرها بحنان مثل أبيه فضحكت وابتسمت له ثم ضمته لصدرها تلثم شعره ووجنتيه بحنو أمومي .
انتهى جلال واغلق انبوية المرهم ووضعها بالعلبة الخاصة بها ثم مدها لابنه هاتفًا :
_ رچعها لستك خد ياعمار
التقطها الصغير من يد أبيه وذهب لجدته مجددًا حتى يعيد لها المرهم .. بينما فريال فنظرت لجلال الذي كان سيهم بالنهوض حتى يذهب ويغسل يديه وقبضت على ذراعه توقفه بنظرة ساحرة من عيناها .. ثم اعتدلت بجلستها برفق واقتربت منه لتطبع بشفتيها الناعمة قبلة كشفتيها تمامًا فوق وجنته هامسة برقة أنثوية :
_ ربنا يخليك ليا ياحبيبي
انهارت حصونه وارتفعت بسمته لشفتيه، ليرمقها بعشق وشوق ثم يدنو منها لاثمًا جانب ثغرها هامسًا ببحة رجولية تذهب العقل :
_ ويخليكي ليا ويهديكي يافريالي
هتفت بدلال مبتسمة :
_ إيه يهديني دي شايفاني مجنونة قصادك ولا إيه !
ضحك وأجابها :
_ هي الهداية للمچانين بس يعني ! .. ربنا يهدينا جميعًا مش أنتي وحدك
قهقهت بأنثوية طاغية وارتمت عليه تعانقه وتلثم صدغه برقة في سعادة غامرة أن علاقتهم تحسنت من جديد .. رغم أنها مازالت خائفة أن تكون شكوكها بمحلها لكنها قررت ترك كل شيء خلف ظهرها وتصديقه هو حتى لا تدمر زواجهم وعشقهم .. وهو لا يختلف عنها كثيرًا رغم ضيقه وغضبه منها إلا أنه لا يستطيع الصمود أمامها والابتعاد عنها .
                                    ***
بتمام الساعة السابعة مساءًا خرجت آسيا من المنزل تقود خطواتها تجاه الصيدلية ولم تنتبه للخطوات التي كانت تلحق بها وتتعقبها بذكاء .. لكنها لسبب ما لا تعرفه شعرت بشيء غريب فتوقفت والتفتت برأسها للخلف تتفحص المارة من حولها وحين لم تجد شيء مثير للاهتمام أو القلق أكملت طريقها .
خرجت خلود من خلف أحد الجدران التي اختبأت خلفهم وهي تزفر براحة، للحظة كانت ستمسك بها وجميع مخططاتها تذهب هباءًا لكنها لحسن الحظ انقذت الأمر بذكاء ولم تفسده، أكملت طريقها خلفها بحرص أكثر فقد كانت تظن أنها ذاهبة لمقابلة ذلك الشاب مجددًا ولذلك خرجت لتعقبها ولا تعرف أنها فقط في طريقها للصيدلية ! .
انتهت من شراء ما تريده من الصيدلية واستدارت تقود خطواتها للخارج وعيناها عالقة داخل حقيبة يدها تبحث عن هاتفها، وبينما هي منشغلة بالبحث في حقيبتها رفعت رأسها بعفوية تنظر للطريق فور خروجها من الصيدلية فإذا بها تجد عمران أمامها بقامته العريضة والقوية .. انتفضت بهلع وارتدت للخلف هاتفة :
_ بسم الله الرحمن الرحيم
كانت نظراته لها مرعبة تمامًا كجسد بلا روح عاد لينتقم وخرج فحيح صوته يحمل السخرية :
_ متخافيش ده مش عفريتي لساتني عايش ومموتش
رغم اضطرابها البسيط من نظراته إلا أنها لم تكترث وأجابت باسمة بثقة وغل :
_ عارفة أنك لساتك عايش .. بس كلنا مسيرنا يچيلنا يوم ونموت صُح ولا إيه !!
ضغط عمران على قبضة يده بقوة محاولًا تمالك أعصابه ثم هتف بنبرة منذرة ولهجة آمرة لا تقبل النقاش :
_ تعالى ورايا
ضحكت بسخرية ورمقته بقرف قبل أن تهم بالرحيل وكأنها لم تسمع شيء لكن صوته الذي لا يحمل المزاح أوقفها :
_ تعالى ورايا بالذوق يابت خليل، ده لمصلحتك لو مش عاوزة يكون موتك أنتي اللي قريب 
انهى عبارته واستدار يسير مبتعدًا عنها، ظلت هي واقفة مكانها تتابعه بنظرها في غيظ شديد وبالأخير اضطرت لإتباع طلبه أو بالأدق أوامره، وقبل أن تسير خلفه تتبعه تلفتت حولها تتأكد من عدم وجود أحد يتابعهم بنظراته .
على الجانب الآخر شهقت خلود بذهول وهي تقول بعدم تصديق :
_ وه ده عمران .. بتعملي إيه معاه يابت چليلة وقعتي ومحدش سمى عليكي
ثم اسرعت تلاحقهم بحذر دون أن يلاحظها أحد، ترى عمران يسير بخطوات واسعة وآسيا تسير خلفه بكل عنجهية وثبات .. وهي تلاحقهم بابتسامة شيطانية تلوح فوق ثغرها وعيناها تلمع بالحقد والترقب .
                                   ***
توقف عمران بأحد الشوارع الجانبية الخالية من المارة حتى يتمكن من الحديث معها على راحة دون أن يراهم أحد .. بينما هي فكانت تسير خلفه ببرود استفزه أكثر ولولا أنها فتاة لكان مكانها الآن بجانب ذلك المتسكع خالد وتولى هو بنفسه مهمة تلقينها الدرس الذي تستحقه، وقفت أمامه بجبروت يليق بها ثم قالت بهدوء تام يحمل الاستهزاء:
_ حمدلله على السلامة المرة الچاية ابقى خد بالك زين، محدش عارف الضربة ممكن تچيلك من وين
لم يجيبها واكتفى بنظراته القاتلة، كان وجهه كجمرة نيران ملتهبة ويتمالك زمام انفعالاته بصعوبة أمام تلك الساحرة التي ابتسمت وتابعت بكل جرأة :
_ كنت عارفة أنه مش هياخد في يدك غلوة ويقر ويقولك إني أنا اللي عملت إكده .. هو حتى معرِفش يعمل اللي طلبته منه زين وأديك واقف قصادي مفكش حاچة
تقدم منها بخطوة وهتف بعين نارية تحمل الوعيد لها :
_ تعرفي لولا إنك حُرمة كان زماني دلوك حابسك معاه في المحزن وطبعًا مش محتاج أقولك هو بيحصل فيه إيه دلوك .. وأنتي كان هيكون ليكي استثناء عشان أنا بنفسي اللي هربيكي من أول وجديد، لأنك كيف ما قولت ناقصة تربية وعاوزة تتربي من أول وجديد     
استشاطت غيظًا ورفعت سبابتها بوجهه تصيح به منفعلة :
_ أتكلم زين وباحترام معايا .. اوعاك تفتكر أني هسكتلك وهخاف منك
اظهر عن أنيابه الشرسة وبحركة مباغتة منه قبض على يدها التي ترفعها بوجهه وانزلها بعنف لدرجة أنها تألمت بشدة وقال بعين حمراء مخيفة :
_ من إهنه ورايح هتخافي مني .. أنا هعتبر اللي عملتيه غباء وبسبب حرقتك على أبوكي ومش هچيب سيرة لحد وعندي استعداد انساه كمان.. بس اقسم برب العزة لو فكرتي تلعبي بالنار معايا تاني يا آسيا هحرقك بيها ومن غير ما يرفلي چفن .. لو أنا عامل حاسب أنك حُرمة دلوك وهادي بعد إكده مش هعمل حساب لحاچة وانصحك متختبرنيش عشان هتندمي قوي .. وهقولهالك للمرة الأخيرة خليكي برا مشاكل الرچالة واحذري مني

رواية ميثاق الحرب والغفران حيث تعيش القصص. اكتشف الآن