دِيــسَـمـبـر

897 14 11
                                    


《مُـغـتـرِبـة》

▪︎▪︎

إنتشيليني من ظُلمتي
إلي نورِ عيناكِ

▪︎▪︎



في ليلة من ليالي ديسمبر الباردة بعد منتصف الليل
 
قليل من الانوار تنير المدينة وكثير من الثلج يكسوها
 
هناك من هو دافئ على سريره في منزله المليء بالطمأنينة والدفء
وهناك من يصارع وحشة لياليه الباردة وحده على سريره وفي منزله الدافئ الذي لا يشعر بدفئه
  وهناك من هو مستلقٍ على ارصفةِ الشوارع، يلملم آخر ما تبقى له من هذا الفراش المتهالك يحاول تدفئه جسده به وتغطيته من الثلج والبرد الذي لا يرحمه
 
  وهناك ذلِك الطفل الذي يحاول كبح صوته الباكي خلف باب غرفته الذي قد أُغلق جزء كبير منه ماعدا تِلك الفتحة الصغيرة التي يرى والداه من خلالها
 
والداه اللذان لا يتوقفان عن الصراخ والمضاربة
 
والداه الذي اراد في كل الليلة الهروب منهما وإليهما
 
لطالما أراد الخروج من تِلك الغرفة والمرور من بابها
ليرتمي بين احضان أمه
 
أمه التي لم تحتضنه مرة واحدة
 
أمه التي لا تهتم لأمره، والتي تتضارب يومياً مع والده بسببه
 
   أمه التي تريد التخلص منه ولا تريد تحمل مسؤوليته، قد قررت بالفعل التخلص منه ومن حِمله الذي يُثقل ظهرها ويفني شبابها وصحتها ويأخذ من وقتها التي تريد تكريسه للعمل وجني المال!
 
طفل لم يبلغ عمره العشر سنوات بعد لا ينبغي ان يرى هذا ولا ان يستمع الي صراخهم ذاك
 
ولكِنه سمِع
 
سمع ما جعله ولأول مرة لا يريد الفرار الى احضانها، اراد ملجأ اخر غيرها
كيف لها ان تبوح بتلك الكلمات القاسية
تلك الكلمات التي جعلته لا يستطيع كبح بكائه أكثر ليرتفع صوت نحيبه وشهقاته
 
والذي لم يحرك للمرأة التي امامه ساكنًا
 
لم تحاول حتى الاقتراب منه وتهدئته او حتى محاولة شرح انها لا تقصد
 
بل تركته هو ووالده الغاضب لتدخل غرفتها غير مبالية لبكائه
 
 
..
 
مرت السنوات ولم تعد الديار نفس الديار
ولا الليالي بنفس الليالي
ولا الملجأ هو نفس الملجأ
 
كان هجرها رحمة له وخيرًا، وجد الطمأنينة التي لم يجدها يوماً في دياره القديمة
 
وجد الدفء بين احضان اخرى
نعم وجد أضلع اخرى تحتوي حزنه وبكائه
وجد احضان اخرى يرتمي بها
 
البلد مختلفة والمدينة مختلفة والديار مختلفة
 
في ديسمبر الباردة وبعد مرور عدة سنوات
بعد منتصف الليل
ارتمى على فراشه يبحث عن الدفء به
 
المدينة مظلمة قليل من الانوار تضيئها
وكثير من الثلج يكسوها
 
ولكن تلك المرة بدون بكاء ولا نحيب وبدون صرخات
 
   مستلقٍ على ظهرِهِ يفكر قبل نومه ويخطط كيف ستسير رحلته غداً وكيف سيتعامل معهم عِندما يصل، ما الذي جعله يكمل دراسته الجامعية بالقرب ِمنهم
وما الذي يجبره كل عام على الذهاب إليهم ورؤيتهم
لقد عافاهم وتبرأ منهم ولا يريد أيا منهم في حياتِه بعد الآن
يشعر بالرضا على عيشته الآن حتى وان كانت ابسط من ذي قبل
اعتمد على نفسه ولا يقبل مالاً من والداه
يعمل ويكسب من تعبِهِ ويحيا حياة طيبة لا يحتاج بها الى أحد غير امه وحاضنته ومُربيتُه
ظل يفكر في عدة امور إلى ان انقطع حبل افكاره بإغلاق عينيه سابحاً في احلامه
 
..
 
اشرقت الشمس واخترقت النافذة وتوسطت غرفته ليستيقظ
بتململ وهو يحاول ان ينام مرة اخرى غير واعياً بمهام اليوم واحتمالية تأخره
 
ولكنه وعى فجأة ليجلس سريعاً باحثاً عن هاتفه
 
لا يعلم كم الساعة الآن، هل فاتته الطائرة؟
 
ظل يحرك يده على السرير وتحت الغِطاء بحثاً عن الهاتف
، وقع يده عليه ونظر في الساعة ليجدها لم تتخطى السابعة صباحاً
 
لازال هناك الكثير من الوقت ليتجهز
 
قام من مكانه وخرج من الغرفة متجهاً نحو المطبخ
ليجد والدته تعد له الطعام ليأكل قبل ذهابه
 
اتجه إليها ووضع قبلة على رأسها
 
ابتسمت وقالت:
"اذهب واغتسل هيا وتعال لتأكل وتذهب كي لا تتأخر"
 
تململ وعبس ثم قال
"تدرين، لا اريد الذهاب"
 
نظرت له وهي تطبخ ثم اعادت نظرها للطعام الذي تطهوه وقالت وهي تحرك رأسها:
"أدرى يا عزيزي ولكنها السنة الاخيرة، تحمل لننتهي من تلك المشاكل"
 
صمتت قليلاً ثم ظهر بعض القلق على وجهها وقالت:
"عدني الا تتشاكل مع أحد هُناك"
 
تململ مرة اخرى
يبدو انه لا يجيد فعل شيء اليوم سِوى التململ
"لن افعل، لن افعل"
قال وهو يتركها ويذهب ليستحم
 
كان منظره غاية في العبثية
شعره المسترسل لم يعد كذلك فقد أصبح كأعواد الكهرباء التالفة إثر نومه كثير الحركة
 
يتململ ايضاً وهو نائم
هذا غير ملابسه التي ليس لها ملامح وبنطاله الذي رُفع منها قدم إلى ركبته
وسيره الغير متزن بعد وهو يفرك شعره بعشوائية ليزيد مظهره عبثية أكثر
كل ذلك تحت انظار امه التي تضحك على مظهره
ولكنها اعتادت عليه
 
قالت بصوت مرتفع وهو يسير
"لا انصحك بالزواج اخاف على من ستتزوجك عندما تُفزعها كل صباح"
 
..
 
في المطار
تقف ليل تنظر حولها
مشاعرها مضطربة خوف وقلق وسعادة وحزن
 
تقف امام والديها، عليها الان توديعهم للمرة الاخيرة قبل ذهابها
احتضنت ليل والِدها ووالِدتها التي لا تتوقف عن البكاء
 
وضعت ليل يديها على كتفي والدتها وقالت لها:
"كُفّي عن البكاء يا امي ارجوكِ
انا سأتصل بكِ كل يوم وسأطمئنك علي، سأرتدي جيدا واتناول وطعامي وسأحافظ على صلواتي وورد قرآني"
ابتسمت ليل وهي تقول
فهي تعلم جيداً بماذا ستوصيها والدتها
احتضنت ليل والدتها مرة اخرى
"انتِ وعدتِّني"
قالت ام ليل
 
"لا تقلقي يا امي"
 
  نظرت بعدها لوالدها الذي ضمها اليه ولم يقل شيء سوى: "اعتني بنفسك جيداً واحذري من الناس هُناك ولا تضعُفي امام شيء ولا تغُرك حياتهم وجاهِدي نفسك"
 
دمعت عينا ليل وقالت: "لا تقلق يا أبي"
 
ابتعدت ليل عن والدها ثم سارت في طريقها وهي تحاول كتم شهقاتِها
 
ولكن تبكي عيناها ولا تستطيع التحكم بها
 
  بعد ان سارت خطوات للأمام نظرت خلفها لهم وهي تبكي ثم لوحت لهم بيدها وبادلوها هم ايضاً، نظرت بعد ذلك إلي صديقاتها الاتي يسِرن بجوارها وهم يبتسمن لتضع يُمنى يدها على ظهر ليل وهي تسير بجانبها وتقول:
"هيا يا ليل هيا كفاكِ بكاء"
 
..
 
يصعد ثلاثتهم على الطائرة
 
كانت ليل تحاول الاستمتاع بكل لحظة لها بداية من صعودها
   نسمات الهواء الباردة تضرب خديها لتزيد شعور السعادة لديها مع تِلك الدمعات التي لازالت متعلِقة على خدها
وحجابها الذي يتطاير من خلفِها يجعل لها رونقاً جميلاً
 
دخل الثلاث فتيات الطائرة وقامت المضيفة بمساعدتهن لمعرفة امكانهن
 
ولحسن الحظ كانت ليل بجانب النافذة
والذي زاد هذا من سعادتِها
 
  جلست وبجانبها احدى صديقاتِها والثالثة خلفهن، صعدت الطائرة بعد مرور وقت قليل من صعودهن
كانت ليل تحاول التقاط الصور لكل شيء وتحاول الاستمتاع بكل لحظة
 
تلتقط الصور مع صديقاتها وللسماء
تلتقط صورة لأول وجبة لها في اول رحلة لها بالطائرة
ولكتابها الذي اخرجته لتقرأ منه
ولكل شيء
 
كانت ليل قليلة الكلام قليلاً فلم تكن تكسر ملل الرحلة
بالحديث مع إحدى صديقاتها بل كانت تكسر ذلك الملل بالقراءة
 
"القراءة شيء تافه، إنه مضيعة للوقت"
قالت صديقة ليل بابتسامة ساخرة
 
 صديقة ليل تِلك لا تراعي مشاعِر أحد ولا تأبه لشيء وتقول ما يجول بخاطِرها حتى وإن كان قاسياً، حتى وإن اغاظ الذي امامها او ضايقه او جرح مشاعره، لا تستطيع ليل فهم طبيعة شخصيتها الحقيقة، إن بينار أحيانًا تكون لطيفة وأحيانا أخرى لا تكن كذلك، أحيانا أكثر تحاول استفزاز ليل بالكلام وأحيانًا أقل تكون ودودة، حاولت ليل كثيرا تجنبها ولكن لم تستطع؛ ربما لأن ليل نقية لا تحب جرح مشاعر أحد حتى وإن كان مؤذيًا لا ولا يكُف عن جرح مشاعرها "مثلك عزيزي القارئ" ،او ربما لأن شخصية بينار متناقضة لا تستطيع ليل فهم طبيعتها الحقيقة، او ربما لأن ليل ساذجة.
  هذا وأن يُمنى أيضًا لم تسلم منها.
لم تهتم ليل لها بل ابتسمت بتكلف دون الرد عليها
مما اغاظ هذا صديقتها
ليل تعرِفها جيداً ولهذا لا تريد افساد جوها بالاهتمام بما تقوله الأخرى
 
..
 
مرت ساعات الرِحلة وحان الوقت للخروج من الطائرة للمطار
سارت ليل نحو الباب هي وصديقاتِها
 
وفور الخروج من الباب لامس الهواء البارد وجهها وعيناها
 
شعرت انها تريد البكاء ودمعت عيناها بسبب الهواء البارد
 
شعور غريب لم يسُرّها ولا تعرِف لم!
 
شعرت بغربة موحشة
لم تخطو حتى ثلاث خطوات خارج الطائرة ولكن هذا ما شعرت به
ماذا ستشعُر إذا عندما تقضي اياماً وليالي هُنا!
 
سار الثلاث صديقات في المطار وخرجوا منه
واستقلوا سيارة اجرة
قد حجزت ليل بفندق في مكانٍ راقٍ بالفعل عن طريق الإنترنت
 
بينما الصديقتين سيمكثون بسكن الجامعة
 
نزلت ليل اولاً بالفندق لأن الفندق كان أقرب ثم اكملت الصديقتين طريقهما إلى الجامعة بالسيارة
 
وبينما ليل ترتجل من السيارة قالت نفس الصديقة التي تُدعى "بينار":
"هل هذا هو الفندق"
بينما نفس ذات الابتسامة الساخرة على وجهها ولكِن هذه المرة بقليل من الحقد الواضح بالفعل
 
قالت ليل وهي تزفر الهواء وبقِلة صبر
"نعم يا بينار"
 
قالت تزامناً مع إغلاق باب السيارة لتستدير بظهرها وتسير إلى بوابة الفندق
 
وما إن تحركت السيارة قالت الصديقة الأخرى التي تدعى "يُمنى":
"ماذا بكِ يا بينار توقفي عن مضايقتِها"
 
زفرت بينار بغضب وقالت:
"ماذا؟ انا لم اقل شيء فقط سألتُها إن كان هذا هو الفندق"
 
لم تقتنع يُمنى ولكن تجاهلت الاخرى ثم ادارت وجهها بعد ذلِك لنافذة السيارة
 
..
 
يقف امام الباب
باب منزل أقل ما يقال عنه بكل شفافية -قصر-
 
لا يريد ان يدخل
 
قدم إلى الامام وقدم إلى الخلف
يتذكر انها السنة الأخيرة
وأنه لن يراهم بعد ان تنتهي إن صبر فقط هذا العام
يحاول ان يصبِّر نفسه بأي شيء فقط لكي يتقدم ويدخل
 
دخل من بوابة القصر ثم توجه إلى الباب الاخر الذي يُدخله للمنزل
 
طرق الباب لتفتح الخادمة
 
دخل ليجد تلك المرأة تنتظره
قامت من مجلِسها وأتجهت إليه تقترب منه لتحتضنه
ولكنه لم يبادلها
 
زفر وتأفف بصوت منخفض جداً
 
"كيف حالُك يا عزيزي هل انتَ بخير؟"
قالت
 
ابتسم بسخرية ثم قال:
"متى ستنتهي تلك التمثيلية؟"
 
ابتعدت عنه وعبس وجهها وقالت:
"ماذا؟"
 
قال بقلة صبر:
"توقفي ارجوك فكل الذي تفعلينه الآن لن يُجدي نفعاً
اقول لكِ لكيلا تبذُلي مجهوداً، لن تنجحي في كسبي، لقد خسِرتِني منذ زمن طوييل"
 
قال وهو يبتعد عنها بكل هدوء وبرود ليصعد على السلالم قاصداً غرفته
 
بينما هي واقفة مكانها، لم تتحرك ولم تُعطي أي ردة فعل
 
بدأت عيناها تدمُعان بقلة حيلة
 
لتشعر حينها بيد تربِت على كتِفِها
نظرت لترى بِكرها
 
ارتمت في احضانه باكية.
هي نادمة بالفِعلِ نادمة ولكن ماذا يفيد الندم الآن
هذا الذي اخترتِه انتِ، ولكل فعل رد فِعل ولكل غلطة عاقبة.


يـتَّـبِـع.

مُغتربةWhere stories live. Discover now