الفصل السابع والعشرون

1.4K 47 1
                                    



الفصل السابع والعشرين




:- أبي ..
قالتها بصوت هامس ... إلا أن صداها تردد في أنحاء المكان وكأنها صرخة مدوية جعلت والدها يجمد مكانه ..و وجهه الذي بدا لها أكبر سنا شحب فجأة والجمود اعتلي ملامحه .. بينما تشنج جسده الذي كان أكثر نحولا مما تذكر ...
مرت دقائق لم تحسبها وهي واقفة أمامه .. تفصل بينها وبينه أمتار قليلة .. نظراتهما متشابكة وكأن المكان المحيط بهما قد اختفى تماما .. بينما أحست بصوت خفقات قلبها يعلو حتى كاد يطغى على السكون من حولهما .. جسدها يرتجف .. وساقاها تبذلان جهدا كبيرا كي تحافظا على ثباتهما ..
قال والدها بهدوء مخاطبا الفتى :- لم لا تخرج وتتمشى قليلا يا منير ؟
لم يناقشه الفتى الذي كان ينقل نظراته بينهما بفضول ... مر إلى جوارها دون أن يرفع رأسه بينما حافظت على ثبات نظراتها نحو الرجل الذي أنجبها .. رباها .. ثم تخلى عنها في أمس حاجتها إليه .. إلا أنها كانت تتحرق شوقا لأن تركض إليه ... تختبي بين جانبي سترته كما كانت تفعل في طفولتها .. أن تستمع إلى دقات قلبه وهو يضمها ويخبرها بأنها ستظل دائما حمامته الصغيرة
الرجل الواقف أمامها كان مختلفا ... كان ينظر إليها بطريقة جعلت جسدها يتوتر ... وبالخوف من القادم يبث رجفة لا إرادية على طول أطرافها .. وبالحيرة والعجز وهو يتركها وقفة بتلك الطريقة ... رافضا الاستعجال في إنهاء عذابها .. عيناه تنظران إليها ... تتفحصان وجهها وملابسها الأنيقة التي اختارتها متعمدة من ضمن المجموعة التي اشترتها خلال زواجها بجواد كي تكون جديرة المظهر به ... تلك التي تظهرها كامرأة ناضجة .. قوية .. ومستقرة ........ وسعيدة ..
قال أخيرا بعد مرور دقيقة كاملة على خروج منير :- لماذا جئت ؟؟
صفعها السؤال رغم أنها أتت بدون أي توقعات مسبقة لما سيحدث بينها وبين والدها
:- ما الذي تريدينه ؟؟
ما الذي تريده ؟؟؟؟ أيسألها حقا عما تريده ؟؟؟ ألا يعرف ؟؟
:- ليس هناك ما يقوله أحدنا للآخر ... من الأفضل أن تذهبي الآن
ثم أدار لها ظهره وانهمك في إتمام عمله وكأنها غير موجودة ... مما جعل ذهولها ... وصدمتها يستحيلان تدريجيا إلى مزيج من الألم .. القهر .. الغضب .. والثورة .. قالت بصوت جامد :- لقد طرحت علي أسئلة تتطلب إجابة واضحة عنها ... أنا لن أتحرك قبل أن أرد عليها واحدا واحد ........... يا أبي ..
توتر ظهره ... دون أن يحاول حتى الاستدارة نحوها مجددا ... وكأن رؤيتها بحد ذاته تزعجه .. فقالت :- سألتني لماذا جئت ؟؟؟ وأنا أجيبك بأنني جئت لأنك أبي ... لأن الجدار الذي تقف أمامه هو ما يفصل بيننا وبين ما كان يوما منزلي .. منزل عائلتي .. حيث أمي وأخوتي .. أنت تتذكر هذا .. صحيح ؟؟؟ أنني ابنتك ... هديل ... الفتاة التي أنجبتها منذ ست وعشرين سنة !!
قال بجمود :- ابنتي هديل ماتت منذ فترة طويلة ..
:- حقا ؟؟ هذا غريب ... إذ أنني لا أذكر أنك كنت موجودا في جنازتها ... تلك الجنازة التي رقص فيها الناس فوق جثتها دون ان يتعبوا أنفسهم بالسؤال عمن قتلها ... عن سبب مقتلها ..
القوة التي أحستها في هذه اللحظة وهي تهاجم والدها كانت جديدة عليها .... غريبة عليها ... تذكرت جواد وهو يهاجم والدته ... عندما لامته على قسوته وصرامته معها ... ربما كان جواد محقا ... ربما هناك جروح تستحق أن يصرخ المرء حين يحس بألمها ..
استدار أخيرا وهو يقول بخشونة :- لم لا تخبريني أنت عن السبب ... ها ... لم لا تخبريني عما فعلته ... عم ارتكبته في حق نفسك وزوجك وعائلتك ..
أطلقت ضحكة مريرة وهي تقول :- ولماذا أفعل في حين يبدو من الواضح أنك تتبنى بالفعل ما أخبرك به مالك قبل سنتين ... ألم تتساءل للحظة واحدة إن كان ما أخبرك به زوجي السابق بعيدا تماما عن الصحة ؟؟ أنت لم تتعب نفسك حتى بالقدوم إلي وسؤالي عن حقيقة ما حدث ..
اغرورقت عيناها بدموع الألم والحاجة وهي تقول بصوت متهدج :- ألهذا الحد كنت مستعدا للتخلي عني دون حتى أن تمنحني حق الدفاع عن نفسي .. ألهذا الحد كنت عبئا في حياتك فتخلصت مني عند أول فرصة ... كان من حقي عليك أن تسمعني أبي .. كان عليك أن تستمع إلي ..
قال بقسوة :- ما كان هناك ما أرغب بسماعه ... ما من سبب يدفع زوجك للكذب وافتعال فضيحة يوصم نفسه بها أمام الناس إن لم تكن أسبابه حقيقية ..
:- حقا ؟؟ ما الذي أخبرك به بالضبط ؟؟ هل أخبرك بأنه قد باعني لمديره كتعويض عن المبالغ الطائلة التي اختلسها منه أثناء عمله لديه ؟؟ هل أخبرك بأن وافق على أن يمنحني له لمدة ساعتين بدلا من أن يقضي هو سنوات في السجن لقاء فعلته ..
هتف والدها بغضب :- اخرسي .... اخرسي وإياك أن تكذبي أو تبرري أفعالك الشائنة أيتها العاصية ... أنا ووالدتك ربيناك على الأخلاق والقيم التي رميتها بكل صفاقة مدمرة حياة كل من حولك ... ولأجل ماذا ؟؟ أخبريني لماذا ؟؟
هتفت بانفعال وأعصابها تقف على حافة الانهيار :- لم يحدث شيء .... لم يحدث شيء أبي ... مالك كذب .. كذب عليك وعلى الناس جميعا كي يغطي على فعلته هو ... ذلك الرجل لم يلمسني أبي ... أقسم لك بأنني لم أدنس نفسي إطلاقا أثناء زواجي مالك ... لم أمنحه أي سبب ليشك بي .. أنا بريئة .. أقسم أنني بريئة أبي ..
هز رأسه وهو يشيح بوجهه وكأنه يعجز عن النظرفي وجهها :- لقد ألغى ديون مالك في النهاية .. صحيح ؟؟ ما كان ليفعل لو لم يحصل على شيء في المقابل ...
هتفت بعنف :- ثم تزوج بي بعد مرور سنتين ... ما كان ليفعل لو أنني رخصت له نفسي كما ادعى مالك ..
نظر إليها مستنكرا ... مصدوما وهو يهتف بها بغضب :- أنت ... أتمنى لو أنني لم أنجبك قط ... أنت لم تأت علي وعلى عائلتي إلا بالوبال .. أتمنى لو أنك مت قبل أن تقفي أمامي وتجاهري علنا بفسقك وفجورك .. بارتباطك بالرجل الذي تسبب بفضيحتك وكأنك تؤكدينها للجميع ..
ارتدت إلى الوراء وهي ترمش بعينيها غير مصدقة ... لطالما كانت ترى والديها كرجل وامرأة من عصر زال وانتهى .. كانت تراهما تقليديين ... قديمي الطراز .. إلا أنها لم تنظر على الإطلاق إليهما على أنهما أعميان عن أي حقيقة لا تناسبهما
رددت غير مصدقة :- فسقي !! .. فجوري !! .. لأنني تزوجت برجل كان الوحيد الذي عرف يقينا ببرائتي ؟؟؟ أتتمنى لو أنني مت أبي ؟؟؟ أنا مت لحظة زوجتني لمالك دون حتى أن تتعب نفسك بالبحث وراءه لتعرف أي إنسان مريض كان ... أنا مت لحظة جئت إليك باكية في المرة الأولى التي ضربني فيها مالك فصفعتني آمرا إياي بالعودة إلى منزل زوجي وتحاشي إغضابه مستقبلا ... أنا مت ليلة قتل مالك إبني في أحشائي فلم تتحرك عضلة في قلبك القاسي تحفزك على الدفاع عني ... أنا مت حين أدركت بأنني لم أكن ابنتك قط ... بل مجرد عبء لم تكد تصبر حتى تلقيه على عاتق رجل آخر يخلصك منه ... أنا مت حين قتلتني بيدك أنت وأمي عندما وقفتما ضدي في أصعب لحظات حياتي .. عندما أدرتما ظهريكما لي دون أن تتعبا نفسيكما حتى برؤيتي والاستماع إلى دفاعي عن نفسي ... أنا مت حين عرفت بأنكما لم تحباني قط ... لم تحباني قط أبي ... لماذا ؟؟ أخبرني لماذا ؟؟
أجهشت في البكاء وهي تثبت أنظارها نحوه ... ترى ظهره ينحني ... ورأسه الذي ازداد شيبا خلال السنتين الماضيتين يتحرك في إنكار لما يسمع .. ترى في عينيه حزن طغى عليه النفور فزاد ألمها على ألم وهي تقول :- تلومني لأنني قد تزوجت ... أتعرف كيف كانت حياتي خلال السنوات الماضية ؟؟ هل أتعبت نفسك بالسؤال .. بالبحث عني لتعرف إن كنت آكل ما يسد رمقي .. إن كنت أمتلك سقفا يأويني ... إن كنت آمنة أم أن الكلاب كانت تنهشني في وحدتي فتمزق ما تبقى مني إربا ؟؟ أم أنك كنت تأمل طوال الفترة السابقة أن أكون قد مت في حادث ما .. فتتخلص تماما من عبء وجودي أتنفس الهواء نفسه الذي تتنفسه ؟؟ .. تلومني .. تلومني ... ولن تسامحني أبدا .. أنا من ألومك أبي ... أنا من لن يسامحك أبدا أبدا على ما فعلته بي ..
مسحت دموعها وهي تنتصب واقفة في إباء قائلة :- أنا لا أحتاج إليك ... أحبك .. وأشتاق إليك .. أنت وأمي وأخوتي .. أكاد أموت لهفة لأن أعود بين أحضانكم من جديد ... إلا أنني لا أحتاج إليكم .. وأنا لم آت إلى هنا أستجدي منكم أي عطف أو حب أو مساعدة ... أنا جئت فقط لأعتذر ... تخيل هذا !! لقد جئت أعتذر عن الفوضى التي تسببت بها في حياتكم إلا أنني غيرت رأيي ... أنا أبدا لن أعتذر عن ذنب لم أرتكبه ... أنا ابدا لن أستجدي عاطفة لا تمتلكها أبي .. لقد أرسل لي الله أشخاصا كانوا بالنسبة إلي بديلا رائعا عن العائلة التي ظننت نفسي أمتلكها ... أشخاصا أحبوني .. ساعدوني .. دعموني بطريقة كنت أنتظر أن أجدها لديك أنت ... أبي ... لقد عوضني الله عنكم بزوج يحبني .. يحترمني ... يفعل المستحيل لأجلي ... وبطفل قادم أقسم بأنني أبدا لن أسبب له ألما كالذي سببته لي عائلتي أنا .. أنا أتمنى لك السعادة أبي ... أتمناها لك من كل قلبي ... إلا أنني أتمنى أيضا ألا أراك مجددا ...
بدون أي تباطؤ .. استدارت هديل وغادرت المتجر الصغير ...
لدقائق طويلة ظل والدها يحدق في إثرها ... قبل ن يترك نفسه ينهار فوق أقرب مقعد منه ... ويجهش في البكاء


تبكيك اوراق الخريف الجزء الرابع من سلسلة للعشق فصول للكاتبة بلومىحيث تعيش القصص. اكتشف الآن