الفصل الثانى والعشرون

1.6K 36 0
                                    





الفصل الثاني والعشرين



لقد كان يوما خريفيا آخر ...
أشرقت فيه الشمس كالعادة .. وصحت العصافير تزقزق منذ ساعات النهار الأولى بفرح وجذل ... الناس خرجوا لقضاء حاجاتهم بين طالب وموظف .. الحياة استمرت ... لم تتوقف .. فقط لأن فتاة كدنيا قد ماتت !!
قاد عصام سيارته بين طرقات المدينة ساهما .. واجما .. إنما واعيا تماما لسكون الفتاة الجالسة إلى جواره .. كانت تراقب الشوارع والأرصفة عبر النافذة بجمود شخص كانت المشاهد تتخلل عينيه وتعبر دون أن يستقر منها شيءٌ في عقله .. وهل يلومها ؟؟؟
لو عاد الأمر إليه لفعل المثل .... وقد فعل حقا خلال الأيام القليلة الماضية .. إلا أنه أدرك بأن بكاءه أطلال إنسانيته لن يعود عليه بشيء .. لن يعيد دنيا إلى الحياة ... لن يعود بالزمن فيغير من مسار حياته ... لن يجعل منه رجلا آخر .. ولن يمحي الوقت الذي قضاه مع يارا وكأنه لم يكن ... وكأن الكلمات التي نطق بها لم تقال .. وكأن لحظات ضعفه النادرة تلك لم تحدث ...
اشتدت أصابعه حول المقود وهو يشعر بصدره يضيق ... لقد سمح لامرأة بأن تشهد ضعفه .. بأن تعرف عاره الأكبر .. ثم اعترف لها بحبه ... غبي عصام ... غبي .. غبي لأنك بعد كل هذا تعرف بأنك قد خسرتها إلى الأبد .. وبأنها لن تكون جزءا من حياتك بعد الآن ..
وماذا كان بإمكانك أن تفعل ؟؟ أنت تعرف بأن امرأة كيارا تستحق فرصة حقيقية للسعادة مع رجل يستحقها ... لا معك أنت .. رجل عاجز عن تجاوز تاريخه المخزي .. رجل لن يستطيع أن يقدم لها ما تريد .. إذ أن فاقد الشيء لا يعطيه ..
لقد تقبل عصام قدره منذ سنوات طويلة ... لقد عرف بأن الفراغ الروحي الذي يعيشه طوال حياته كان ضريبة عليه أن يدفعها مقابل حياده عن الطريق لفترة طويلة ... لقد كان يجد في مساعدته للآخرين مسكنا لآلامه .. لعقده .. لماضيه الأسود .. وموت دنيا بتلك الطريقة كان ما أيقظه من سباته العميق وذكره بكل ما جاهد لينساه ... من الغريب كيف أنه كاد ينسى خلال انغماسه في رثائه لذاته واجباته حتى اتصل به طارق منصور في بادرة لم يتوقعها أبدا ... يذكره بطريقة غير مباشرة بواجباته وتعهداته لنفسه ... ينتزعه من عمق الذكريات القاسية وهو يستنجد به طالبا المساعدة في إخراج أمل من الحالة التي أغرقت نفسها فيها منذ عرفت بوفاة دنيا .. الحالة التي يعرفها عصام جيدا إذ كانت تلجأ إليها في كلما شعرت باستنزاف عاطفي ... تلك الحالة التي كانت تغيب فيها عن الوعي لساعات .. حالة إغماء إرادي .. فلا تعود تأكل أو تشرب أو تتحدث عن يخرجها أحدهم منها ...
لقد كانت طعنة له ان يعرف بأن تعب سنوات في محاولاته لمساعدة أمل قد ذهبت هباءً .. بأن الجلسات النفسية التي رتبها لها والدعم المعنوي كانت مجرد مخدر موضعي سرعان ما يزول تأثيره عند أول كبوة .. ما الخطأ الذي ارتكبه معها .. أين كان موضع تقصيره معها بالضبط فأدى إلى فشله ؟
عاد ينظر إليها وهي منكمشة إلى جواره... صامتة وشاردة كما كانت منذ ذهب لرؤيتها في منزل عائلة منصور صباحا .. بعد أن تأكد من خروج يارا إلى عملها .. استقبلته السيدة ملك ... والدة يارا ... والتي كانت تنتظر حضوره وقد أخبرها به طارق .. الشبه ين الأم وابنتها ضربه في الصميم .. فلم يستطع وهو يدخل إلى الصالة الكبيرة أن يمنع نفسه من النظر حوله وتخيلها في كل زاوية من زواياه ..
السيدة ملك كانت مجموعة كبيرة من التناقضات ... كانت تمتلك فوقية فطرية بدت نابعة عن جيناتها الوراثية لا من وضعها كسيدة مجتمع ثرية ومن عائلة نبيلة .. ذكرته بابنها .. طارق منصور .. الذي حظي بنفوره التام في لقائه الأول به .. قبل أن يدرك إلى أي حد كان مستعدا للبذل في سبيل ابنة خالته الصغيرة ..
السيدة ملك كانت تشبهه كثيرا في ترفعها الذي لم يخفي قلقها الشديد على ابنة شقيقتها .. قالت له وهي تدعوه للجلوس في غرفة الضيوف :- لقد أخبرني طارق بأنك الشخص الوحيد القادر على التأثير بها وإخراجها من عزلتها ... في البداية ظننت بأن صدمتها ستزول مع مرور الوقت .. إلا أن أسبوعين قد مرا منذ وفاة تلك الفتاة وأمل رافضة تماما لأي تفاعل مع العالم الخارجي ..
ثم تأملته بتفحص جعله شاكرا للجهد الذي بذله قبل مجيئه في الاستحمام وحلاقة ذقنه التي استطالت خلال الايام الماضية .. وارتداء ملابسه المخصصة لللقاءات المهمة .. بالرغم من أنه يعرف بأن لا مستقبل ينتظره مع يارا .. وأن لا مكان له إطلاقا في حياتها .. إلا أنه شعر بحاجة مريضة ويائسة للحصول على إعجاب والدتها ..
قالت بهدوء :- لقد حدثتني يارا عن أعمالك المثيرة للإعجاب ... كما حدثني طارق عن الدور الذي لعبته في مساعدة أمل خلال السنوات الماضية .. لدي رأي متحفظ حول قضاء كل من ابنتي وابنة أختي وقتهما لديك .. ليس أنني أعترض على أشخاص جار عليهم الزمن .. إلا أنني أفضل لابنتاي أن تعيشا حياتهما الطبيعية بعيدا عن مشاكل من النوع الذي تواجهه أنت كل يوم بحكم عملك ..
قال بهدوء :- مادام الأمر كذلك .. أنا لا أفهم سبب قبولك طلب السيد طارق بمجيئي إلى هنا !
:- قلت بأنني أتحفظ على الأمر لا أكثر ... يارا امرأة ناضجة .. ولا أستطيع التحكم بأفعالها .. وأمل ..... لا أحد إطلاقا يستطيع التحكم بأفعالها .. وتحفظي لا يمنعني من احترام ما تفعله يا سيد عصام .. وإن كنت قادرا على إعادة أمل إلينا من جديد ... فأنا لن أتردد في وضع يدي في يدك كي تساعدها ..
وقد كانت محقة في قلقها ..... أمل كانت شبحا شبيها تماما بذلك الذي أخذه تحت جناحه عد بلوغها الثامنة عشرة ومغادرتها الملجأ ... كان وجهها شاحبا ... عيناها زائغتين وهما تحدقان في الفراغ .. كان جسدها باردا جدا ... ساكنا جدا فوق سريرها .. عندما خاطبتها السيدة ملك .. لم يظهر أي تغير على الوجه الصغير ... أما عندما ناداها عصام ..... باسم ( قمر ) هذه المرة ... رمشت على الفور وهي ترفع رأسها إليه باضطراب ... فوضعت السيدة ملك كفها فوق فمها وهي تكبح دموع الارتياح ... بينما أحس عصام وكأن قبضة قاسية تعتصر قلبه .. هو ليس عديم الفائدة تماما بعد كل شيء ... جلس على طرف السرير وهو يتذكر آخر زيارة قام بها لأمان ... أمل تذكره بأكثر من طريقة بأخته نصف الشقيقة .. بغض النظر عن سنهما .. فقد كانت كل منهما تختزن قوة هائلة أسفل المظهر الأنثوي الهش .. قال لها مبتسما :- أنا عاتب عليك يا صغيرتي .. أسابيع مرت منذ زيارتك الأخيرة لي .. وقد افتقدتك كثيرا ...
نقلت نظرها بينه وبين خالتها الواقفة قريبا منهما وعلى وجهها مزيج من الأمل والتأثر .. وعندما لم تقل شيئا قال بهدوء :- جئت أطلب مساعدتك يا أمل .. الكل مشغول شيء ما ... غادة بعملها .. هديل في بيتها .. أمان في جامعتها .. حتى الشباب كل منهم مشغول بعمل ما ... وأنا أحتاج لمن يرافقني في مهمتي هذه ..
أمسك يدها ونظر إلى عينيها قائلا :- لا أستطيع الذهاب إلى هناك وحدي .. أحتاج إلى شخص أثق به .. مثلك أنت .. فهل ترافقينني ؟؟
وهاهي الآن ... تجلس إلى جانبه في سيارته محتفظة بصمتها وكأنها إن كسرته سمحت لنفسها بالانهيار ..
قاد السيارة لنصف ساعة أخرى خارج المدينة قبل أن يتوقف أمام مبنى قديم محاط بسور عالي .. فلم تملك سوى أن تنظر عبر النافذة إلى المكان الغريب الذي يأخذها إليه للمرة الأولى
قال بهدوء :- هل تعلمين ما هو هذا المكان يا أمل ؟؟؟
عندما لم تمنحه إجابة قال :- إنه ملجأ الأيتام الذي أواني بعد وفاة أمي ... منذ بدأت العمل في المجال الخيري وأنا أتعامل مع عدة منشآت حكومية لرعاية الأيتام .. منها ذاك الذي قضيت فيه عاما قبل بلوغك الثامنة عشرة ... إلا أنني لم أطأ هذا المكان قط منذ خروجي منه قبل خمسة عشر عاما ... وكأنني إن فعلت .. فتحت بابا قد لا أتمكن أبدا من إغلاقه مجددا أمام الذكريات ...
سهم بنظراته لحظات كان الحزن والكآبة هما ما أطلا من عينيه الداكنتين قبل أن يقول بخفوت :- لا أستطيع القيام بهذا وحدي يا أمل .. أحتاج إلى شخص عرف تماما ما أحسست به أثناء إقامتي هنا .. ولا أجد أفضل منك للقيام بهذه المهمة ... فهل تساعدينني ؟؟؟
تحطم جمودها خلال لحظة وهي ترى عصام لأول مرة منذ عرفته مكسورا ... أدركت فجأة بأن المها لخسارة دنيا لا يمكن أن يقارن إطلاقا بألم عصام الذي خص الفتاة بعناية خاصة منذ البداية .. ومن يلومه .. وفقا لتجربتها المؤلمة ؟؟
بدون أن تقول أي كلمة ... فتحت باب السيارة ... وترجلت منها ..



تبكيك اوراق الخريف الجزء الرابع من سلسلة للعشق فصول للكاتبة بلومىحيث تعيش القصص. اكتشف الآن