==============


جلست مع أخواته يتسامرن حتى عودته، جميلة ما زالت تنظر لها بكره لا تعلم سببه ونيفين الشفقة لا تفارق عينيها بينما فتون أكثرهن قرباً منها، تحدثها وتداعبها باستمرار.
وصل شادي أخيراً، استقبلوه بترحاب، بعد بعض الوقت طلبت منه حياه أن تحادثه على إنفراد.
صحبها إلى غرفة المكتب، وقف ينتظر حديثها لكنها شعرت بهروب الكلمات من فوق لسانها كلما جمعت بضعة كلمات حتى قالت: شادي .. أنا ...
- إنتي إيه ؟
- أنا مش عايزه أكمل معاك
انتصب في وقفته مرهفاً مسامعه وسألها بهدوء حذر: إزاي يعني مش فاهم ؟
ضمت قبضتيها بشدة قائلة بارتباك: بص يا شادي .. أنا كنت فاكره نفسي بحبك بس .. بس قعدت مع نفسي وفكرت كتير لاقتني مش كدا
بغضب مكتوم سألها: وإنتي قدرتي توصلي لكدا إزاي ؟ بين ليلة وضحاها ؟
- لا أنا كنت بأقول لنفسي إنك لو مش عايز تتجوزني أنا هأمشي ومش هأتقل عليك أكتر من كدا .. يعني فكرت ف الفراق ومع ذلك...
هزت كتفيها متابعة: ماحستش بحاجه .. ماحستش إني ممكن أموت لو بعدت عنك أو إني مش هأتحمل بُعدك
ضيق عينيه بشدة وهو يكز على ضروسه: والعمل دلوقتي ؟
قالت بحماس دون أن تلحظ ردود أفعاله: ترجعني البلد عند أهلي تاني، ولو مش هتقدر وصلني لأقرب محطة وأنا هأتصرف
اقترب منها رويداً بخطوات هادئة متساوية كما يفعل الأسد قبل الإنقضاض على فريسته وعينيه تطلق شراراً أصابها بالشلل، همس: إنتي فاكره إنه دخول الحمام زي خروجه ؟ .. ولا فاكره إني ممكن أسيبك تطلعي م البيت دا ؟؟؟
نظرت إليه برعب حقيقي لأول مرة تشعر به في حياتها، تمتمت بصوت متحشرج: قصدك إيه ؟
أغلق باب الغرفة بالمفتاح ثم استدار إليها مقترباً منها: قصدي إن إنتي خلاص بقيتي ملكي، بتاعتي وبس .. دا بيتك من هنا ورايح
هزت رأسها بهستيرية وهي تتراجع للخلف: بس أنا مش عايزه
قبض على ذراعيها بقوة، رجها بشدة قائلاً بعنف: ما هو مش بمزاجك يا قطة !
جذبها إليه بعنف وبدأ في تقبيلها بأماكن مختلفة من وجهها، حاولت دفعه ولكن هيهات أن يتأثر الثور الهائج بخربشات قطة.
نزع عنها حجابها بالقوة، أمسكته تكافح للتشبث به لكنه بالنهاية استطاع أن ينزعه، دفعها أرضاً مثبتاً ذراعيها فوق رأسها، تصرخ بأعلى صوتها وما من مجيب.
ضحك بقوة ووحشية: مهما صرختي ماحدش هيساعدك، كل اللي هنا ماحدش منهم يقدر يقولي لا .. ولا حد فيهم يقدر يمنعني عنك .. فالأحسن تقبلي بمزاجك بدل ما يبقى غصب عنك !
تضرعت إليه باكية دون التوقف عن المقاومة: حرام عليك، سيبني .. بص خليني أمشي وأنا هاعتبر إنه مافيش حاجه حصلت ومش هأقول لحد على حاجه .. بس سيبني
سجن فكها بين أصابعه وقال مشدداً على كل حرف من كلماته حتى يضمن أنها استوعبت حديثه بشكل كامل: إنتي خلاص ما بقالكيش خروج من هنا
تابع ما كان يفعله وعاد صرخاتها للتصاعد من جديد، مزق ملابسها وهي تحاول الفكاك من بين قبضته.
بدأ جسدها يتهالك من المجهود الذي مارسته عليه ولكنها أبت التوقف عن المقاومة، دموعها تزداد إندفاعاً وظلت تردد بقلبها كلمة "يا رب" حتى لم يبق في وسعها قوة لتمتمة خافتة حتى...
استجمعت بعض قوتها وضربته بساقيها بينما يحبس ذراعيها في كفه، ما من جدوى مما تفعله فقد سيطر عليه الشيطان وجعله لا يتأثر ولا يشعر، يحاول الوصول لهدفه فقط.
تعالت صرخة مدوية على حين غرة ... فلقد تم الأمر ولم يعد هناك من مرجع.
***
رصت طعام العشاء تتشاركه مع جدتها لكن عقلها مازال شارداً في تلك الطفلة التي جار عليها الزمان، تتجرع كؤوس الوجع قبل أن تتعلم طريقة إمساكه بكفوفها الدقيقة.
لاحظت الجدة شرودها ولكنها لم تحاول الاستفسار منها عن السبب، إذا أردت ستأتي لتروي لها دون ضغط.
كانت خيالاتها تأخذها إلى أي مدى ستعاملها زوجة والدها بقسوه، لِمَ توقف القوي عن رحمة الضعيف والكبير عن العطف على الصغير؟، صار الظلم منطق الحياة والقهر سر لذتها.
لقد قرأت ذات مرة أن الظالم يظلم لأنه يحس بالمتعة في ظلمه كهتلر الذي كان عاشقاً للسيطرة والتحكم.
عندما توقف الناس عن استشعار مراقبة الله في كل عمل يقومون به، انتشرت جميع الصفات التي جعلت مجتمعنا في طريقه أن يصبح شبيهاً بديستوبيا .. هذا إذ لم يكن قد صار بالفعل.
خطر على عقلها فجأة .. ماذا إذا كانت ابنتها تشعر بنفس تلك المعاناة، تحيا الآن بين أشخاص فاسدون، تتجرع الظلم وتتذوق مرارة الألم.
لحسن الحظ أنهم انتهوا من العشاء، هربت لغرفتها تعبث بأحد الأدراج تخرج منه ثوباً زهري اللون، ضمته بشوق ولوعه إلى صدرها، تتلمس رائحة صغيرتها بين أنسجته، انكبت دموعها تغرقه وقلبها يتضرع إلى ربها .. "فلتحفظ طفلتي أينما كانت، أرزقها من يحبها ويحميها، يحنو عليها ويسقيها العاطفة التي لم أستطع أن أمنحها إياها".
لماذا يا الله تحرمني من طفلتي بينما الآخرين ينعمون بدفئ ضمتهم، لقد تزوج خليل بأخرى لما هي تقبل خد صغيرتها كلما شاءت وأنا حُرمت من بهجة رؤيتها ؟؟
استفاقت إلى حالها، استغفرت ربها راكضة مسرعة إلى حمامها تتوضأ والاستغفار لا يترك لسانها، سجدت إلى ربها باكية متأسفة، تتوسل إلى ربها أن يسامحها، لقد أضعفها شيطانها ولكنها قفزت عائدة لرشدها.
بدأت تدعو متضرعة: أسفة يا ربي ... سامحني وأغفر ذلتي، لا أعترض على مشيئتك فأنت أرحم الراحمين، أرؤف بقلب أم مكلومة حزينة لفراق طفلتها، فتك الشوق بقلبها الضعيف.
أنتهت راقدة على سجادة صلاتها وثوب صغيرتها يستكين بين أحضانها كأن الملابس تعبر عن شوق صاحبتها في الحصول على هذا الحضن الدافئ.
***
التوتر يملئ جو الحجرة كذلك الصمت هو السائد، استمر شادي في الذهاب والمجئ ثم توقف فجأة قائلاً: أنا هأدخل أشوفها
اندفعت نيفين ناهضة: لا خليك أنت .. أنا هاروح
جميلة: ما تخليه هو يروح يشوف البرنسيسة
وضحت نيفين: هو لو راح هترجع تتعصب ومش هنقدر نهديها .. علينا من دا بإيه ؟
أيدتها فتون وسمح لها شادي بالدخول إليها.
طرقت الباب عدة طرقات بهدوء لكن ليس هنالك من رد، دفعت الباب متمهلة، نظرت حولها ولم تجد حياه بالغرفة، اشعلت النور لتتأكد فزعة وأعدت تمر ببصرها في أنحاء الغرفة.
وجدتها متكومة في ركن بعيد تضم ركبتيها إلى صدرها، الدموع تنهمر بلا توقف وجسدها يهتز ويرتعش .. اقتربت منها ولكن أبقت على مسافة ضيقة بينهما سألتها: عامله إيه دلوقت ؟
لم تجبها حاولت تتبع اتجاه نظراتها لتجدها تنظر لنقطة ما على الجدار المقابل، نقطة واهية .. لمست كتفها وكان ذلك كأنها اضرمت فيها اللهيب، بدأت تصرخ وتزيد انكماشها.
ابتسمت نيفين قائلة: ما تخافيش، دا أنا ... أنا نيفين
هدأت قليلاً ولكنها حافظت على صمتها، تنهدت نيفين واستندت ظهرها إلى الحائط بجوارها جالسة وبدأت تتحدث: ما تفتكريش أنك لوحدك اللي حصلك كدا، كلنا مرينا بنفس لحظتك دي
أضافت ضاحكة: إلا جميلة طبعاً، كله كان بمزاجها
إلتفتت إليها حياه بانتباه لكن ما تزال تحافظ على صمتها، تشجعت نيفين لمتابعة الحديث لعله يخفف عنها ولو القليل، شردت في نقطة أخرى على نفس الجدار الذي شردت فيه حياه.
- هابدأ بحكايتي أنا، أصل الواحد مش بيعرف يحكي صح إلا الحكايات اللي تخصه، أنا كنت عايشه لوحدي أبويا وأمي ماتوا وأنا عندي خمس سنين وخالي هو اللي خدني قال إيه عشان يراعيني، ما كانش عندي أعمام لإنه أبويا وحيد وأصلاً كل أهله ماتوا ... مقطوع من شجرة يعني، المهم خالي أصلاً ماكانش تمام، كنت بأشك فيه ساعات كتير، شغله مش معروف له قرار ... يوم يغيب وعشرة قاعد ف البيت، عدت السنين وأنا يادوب أخدت الثانوية وقعدني في البيت .. قالي كفايه عليكي علام لحد كدا يعني اللي اتعلموا كانوا خدوا إيه، طبعاً ما قدرتش أقوله لا ... دا هو اللي بيصرف عليا وكفايه حملي كل دا عليه ... ما كنتش أعرف أنه بيفكر ف حاجه تانيه ... إنه يجوزني لحد عشان يرتاح من مصروفي ويلاقي حد يديه كل فترة قرشين، والله ما كنت بأكل أيام عشان ما أحسسوش إني حمل تقيل لكن نقول إيه! ... فعلاً كان هيجوزني لواحد متجوز تلاته وأنا الرابعة .. عنده منهم تلاتاشرعيل وعمره فوق الستين، كتمت ف قلبي وعيطت على أحلام طفولتي ودعت الفارس وحصانه الأبيض ... بس ف أخر لحظة جت مراته التالته وقلبت الجوازه، وقتها حسيت إنه أخيراً خلصت ... بس خالي هو اللي ما هديش، حاول يجوزني كذا مرة بعد كدا لكن للحظ السئ أو الكويس ما بقتش فارقه ... ما نفعش، اللي ما أجيش على هواه واللي تحصل حاجه معاه فيلغي الجوازه كدا يعني ... خالي بقى يشرب حشيش والذي منه .. اتقلب حاله والقرشين اللي كان بيجبهم بقوا يطيروا ع الكيف، أخرت ما زهق مني جه وسلمني لشادي، قاله أهي عندك أعمل فيها اللي يريحك
ضحكت بوجع: وأهو عمل فيا اللي يريحه ... قال إيه يقولك الخال والد .. قطيعه
سألتها: يعني أنتوا مش أخواته زي ما قولتولي ؟
نظرت لها نيفين بجدية: وإنتي لسه ما فهمتيش؟ .. لا إحنا مش أخواته، هو إحنا لو كنا إخواته كان عمل فينا زي ما عملك فيكي من شوية ؟
سالت الدموع على وجنتيها متسائلة بألم: طب وهو ليه بيعمل كدا ؟
- عشان ينفع يشغلك
رفعت رأسها بحيرة: يشغلني إيه ؟
تحسرت على براءتها لكنها أجابتها لتفهم حقيقة الحياة التي ستعيشها الآن: بنت ليل يا حياه ...
***
ألم الفراق لا يصيب فقط من فارق محبوبته، إنه يكون أكبر وأعظم عندما يفارق الأب ابنه والأم طفلها، الأخ أخاه أوأخته .. لكننا اعتدنا أن نحصر بعض الكلمات على الحب فقط .. فعند ذكر كلمة فراق أول ما يخطر ببالنا هو فراق المحبوب وعندما نذكر الشوق نقصرها على شوق الحبيب لحبيبته؛ كأن الشوق لا يصير إلا لهما وليس من حق غيرهما .. فالأم تشتاق لولده بل إن القلب ليشتاق لقاء ربه والروح تشتاق للسلام النفسي .. وهناك الكثير من الكلمات الأخرى التي تخضع لنفس القاعدة لدى البعض.
كانت جدران المنزل تضخ حزناً كحزن أهل البيت، لقد أختفت الضحكة ورحلة الحياة عن المنزل مع رحيل حياه، من يرى المنزل يعتقد أن لا أحد يقطنه لكن ما يدل على وجود من يسكنه هو صراخ التوأمين الذي لا ينقطع منذ رحيلها كأنهما يعبران عن فهمهما لما يدور.
زهرة بعد انتهاءها من أعمال المنزل اليومية وإعداد الطعام الذي لا يمسسه أحد تتجه إلى غرفتها وتغلق على نفسها، تدعو وتبتهل أن يصون الله شقيقتها ويحميها من كل سوء لكن الأجل مكتوب ولا يرده إلا علام الغيوب .. أما الدعاء فيخفف وطأة الأقدار على صاحبها، فيشتد بأسه وتقوى عزيمته.
استمر محمود في حياته اليومية معتبراً شقيقته في عداد الأموات، لقد أساءت لسمعتهم بين الناس وكسرت كلمتهم ولم تقم لهم مقام، عائشة مشتتة تخفف عن هذا وتحاول أن تزرع العطف في قلب هذا بدلاً من القسوه كما أن حمل الوليدين ليس بالهين.
انزوى أنس بعيداً، لا يخاطب أحد إلا لماماً، شعر بالذنب عندما ساعدها فأخبر زهرة التي أطلعت محمود ليتصرف، أسرع إلى حيث يقطن شادي لكنه لم يجده لقد سافر ...
توقف عن متابعة الأمر ولم يحاول اللحاق بهما، لقد شاءت الذهاب إذا فلتذهب لم يعد لها مكان بينهم، حاولت زهرة أن تقنعه بالبحث عنها لكنه لم ينصع لتوسلاتها، إن رأسه يابسة كالحجر الصوان وإذا وضع شيئاً برأسه لا يزحزحه أحد.
أما كبير العائلة فاروق فقد شعر أن تربيته قد ضاعت هباءاً، لقد كانت أقرب أولاده إلى قلبه لذا فإن خطأها ترك أثراً ليس في نفسه فقط بل في صحته، تدهورت صحته يأكل ما يقيم صلبه، يتناول الدواء قهراً نتيجة لإصرار زهرة عليه دون رغبة في الشفاء.
هكذا صار الحال بين مدعيّ اللا مبالاة وبين الحزين المشتاق، تابينت المشاعر ولكن الأثر واحد فلا يمر يوم دون بكاء ولا تمر ساعة دون ألم وأنين .. لكن إلى متى سيستمر هذا الحال ؟؟
***
بعد أن غطتها بمفرش لطاولة في المكتب لتخفي ثيابها الممزقة أو بالأصح لتداري عريها، أوصلتها إلى غرفتها وتركتها ترتاح كما طلبت منها، تشعر بالشفقة عليها فقد مرت بما مرت هي به من قبل.
تقوقعت حول نفسها تنتحب، لم تصدق أذنيها عندما أخبرتها عن غايته منها، إذا لم يكن للحب بينهما وجود، أراد استغلالها فحسب لكن أن تكون نهايتها العمل كعاهرة !
إزداد بكاءها، لا .. لا تريد أن تكون زانية، أن تكون ملعونة تُطرد من رحمة الله، أن يتمتع أي كان بملامسة جسدها .. لقد كانت تصون نفسها لتهبها لمن يستحقها لكنها توقفت عن ذلك منذ عرفت شادي، كيف تكون صائنة لذاتها وقد قابلته سراً خفية عن الأعين المتلصصة دون علم أهلها .. لقد بدأت هي في إضاعة نفسها وما كانت النتيجة إلا ما تعيشه الآن .. "لكني لا أريد أن يكون هذا مصيري .. ماذا أفعل؟؟"
فكرت وفكرت حتى تذكرت .. لقد أخبرتها والدتها ذات مرة عندما أفاقت ليلاً مرعوبة من أحد الكوابيس أنها إذا شعرت بالخوف والفزع، وأن الدنيا بدأت تضيق من حولها وتكتم على أنفاسها تذكر الله وتسجد له، تتلو آياته وقتها ستحصل على السلام الداخلي الذي يجعلها ترى الأمور على حقيقتها ويلهمها التدبر في حل كربتها ومقاومة مخاوفها.
نهضت مسرعة تستحم وتغتسل مما أجبرت على تحمله، أبدلت ملابسها الممزقة بعباءة وحجاب، صلت وصلت حتى لم تعد قدميها قادرة على حملها فأنتهت ساجدة تبكي وتدعو الله أن يمنع عنها شر هذا البلاء، أن يبدلها خيراً.
فُتح الباب ودخل شادي ناظراً لها بسخرية: إزيك دلوقتي يا ستنا الشيخة ؟؟
نهضت من سجودها ونظرت له بعيون مغروقة بدموع الظلم مرددة: حسبي الله ونعم الوكيل فيك، حسبي الله ونعم الوكيل فيك
كز على أسنانه بقوة واقترب قابضاً على ذراعها يرجها بعزم ما فيه: بتحسبني ف مين يا بنت الـ ...
اندفعت نيفين إلى الغرفة تشد يده ليفلت ذراعها صارخة: سيبيها يا شادي .. سيبها
شادي بغضب جامح: خليني أعرف هي بتحسبن على مين بنت الـ... دي !
حاولت نيفين إمتصاص غضبه: يا شادي هي لسه مصدومة وبعدين ما تقنعنيش أنك متأثر أوي بالدعوة دي .. ما اعتقدش أنك أول مرة تسمعها يعني
حول نظره إليها ونفض ذراعها التي كانت تتشبث بها لتمنعه من التفكير في ضرب حياه، اندفعت أرضاً من قوته بينما غادر لا مبالاياً: إلهي تولعوا أنتوا الإتنين .. بلا قرف
استقبلته جميلة بدلالها على باب الغرفة فقد كانت تتابع الموقف بصمت منذ بدايته: معلش يا حبيبي سيبك منهم .. تعالى أن هابسطك وانسيك كل حاجه
ابتسمت نيفين بسخرية: حلة ولاقت غطاها .. ولا إيه رأيك ؟
نظرت إليها حياه ممتنة: شكراً إنك دافعتي عني
ثم أضافت بشك وتردد: بس إنتي ليه بتعملي معايا كدا ؟
لوت شفتيها فيما يشبه الإبتسامة: يمكن لإني لما كنت مكانك كنت بأتمنى حد يقف جنبي يساعدني .. يدافع عني
- طب ليه ما حاولتيش تهربي وتخرجي من هنا ؟
نهضت تنفض يديها مجيبة بسخرية: هأروح فين يا حسرة، عند خالي اللي أصلاً هو اللي رماني هنا ؟
بتفكير: تقدري تبني حياتك من جديد لوحدك من غير حد
ملست على رأسها المغطى بالحجاب قائلة بشفقة: إنتي يا طيبة أوي وبريئة لدرجة السذاجة يا إما غبية أوووي .. وفي الحالتين ماكانش ينفع يبقى اسمك حياه لإنه الحياة لا هي تعرف معنى الطيبة ولا هي تعرف معنى السذاجة
أردفت: هنا زيه زي السجن بالظبط يا حياه .. اللي يخرج من هنا دا لو قدر يعني .. بتفضل نقطة سوده ف حياته .. لا هو بيقدر ينساها ولا اللي حاوليه أصلاً بيسمحوا له ينساها .. نقطة سوده معاكي لحد ما تموتي .. لو اللي قدامك ما ذلكيش بيها هتشوفيها ف عيونه من غير كلام
تمتمت حياه بحزن: بس دا ظلم
- وإيه ف حياتنا ما بقاش فيه ظلم ؟
تمتمت: إنتي فعلاً طيبة أوي يا حياه وساذجة ف نفس الوقت، كأنك اتولدتي على هنا على طول .. قولتي عندك كام سنة ؟
- 23 سنة
ضحكت: 23 سنة مرة واحدة، دا اللي عنده 3 سنين دلوقتي بيعرف أكتر منك
استفسرت حياه محتارة: هي الطيبة بقت عيب ؟
- لا مش عيب، بس زيها زي الوردة الملونة اللي بتجذب النحل عليها عشان ياخد رحيقها، إنتي بقى بتجذبي مش النحل .. بتجذبي الدبابير اللي هتفضل وراكي تمص دمك لحد ما تخلص على براءتك دي
تركتها لحيرتها وتساؤلتها، لقد كانت تظن أن الطيبة ميزة ولكن بعد حديث نيفين شعرت أنها أكبر جريمة.
***
دخل إلى منزله متعب من طول طريق السفر، وجد شقيقته مرتمية في أحضان والدتهما تبكي وتنوح، تنهد بتعب محدثاً نفسه: هو يوم باين من أوله .. مافيش راحه إنهارده أنا عارف
لمحه والده فاتجه إليه يستقبله: أهلاً يا ابني .. حمدالله ع السلامة
- الله يسلمك يا بابا، أومال فين مي مي ؟
- بتلعب ف أوضتها
- طب أنا هأدخل أشوفها
هبت شقيقته صارخة: يعني جاي من برا وشايفني مفحوطه من العياط وما كلفتش نفسك تقولي مالك ؟!
رفع جانب شفته قائلاً بملل: هيكون في إيه جديد يعني؟ .. كالعادة خناقة تافهة من تفاهاتك وفادي مالوش ذنب
ضربت بقدمها الأرض كالأطفال: شايفة يا ماما ابنك بيكلمني إزاي؟؟ .. وبيقول عليا تافهة كمان !
نهرته سمية بهدوء: مش كدا يا حمزه، براحه على أختك
أشاح بيده متجهاً إلى غرفته: أنا هأروح أغير وأشوف مي مي أحسن، بس يا ريت يا ماما تواجهيها بعيوبها .. أنا أصلاً مش عارف فادي مستحملها دا كله إزاي ؟
غادر تاركاً شقيقته كالبركان الذي على وشك الإنفجار بل كان يدفع الحمم بالفعل من بواطنه، حاولت والدتها تهدئة انفعالها ملتمسة لولدها العذر: معلش يا بنتي هو من ساعة اللي ما تتسمى دي ما عملت اللي عملته وهو بقى بيقول كلام دبش من غير ما يوزنه ويعقله
نسيت نجلاء حزنها على نفسها وتحولت إلى الحسرة على شقيقها: فين حمزه اللي هزاره كان بيخليني هأموت على نفسي من الضحك ولا نصيحته اللي بتبقى بهدوء وتخليني أعملها غصب عني لأنه بيقنعني بيها مش بيرمي كلام ملوش طعم
تنهد أحمد: ربنا يصلح الأحوال ليه وليكي
***
"لا مُنجي منه إلا إليه" .. لقد رددتها والدتها دائماً تبعتها شقيقتها الكبرى لتخطو خطوات والدتها، هي التي حقاً لم تهتم، كانت المدللة التي تفعل ما يحلو لها، تجد دائماً من يحل لها مشكلاتها، اعتادت على رعاية ودلال الجميع لها .. رغم مقدرتها على الإعتماد على نفسها لكن صدق المثل القائل "اللي يلاقي دلع ومايدلعش يبقى حرام عليه".
لم تكن تدري أن كل من دللها كان يخاف على تلك البراءة التي تملكها من الضياع بسبب أُناس لا ترحم، قلوب كالصخر وضمائر من زئبق تتغير بتغير المصالح والرغبات.
سلمى ... تلك الصديقة الصالحة ، كم من مرة نصحتها بأن تخفف من تصرفاتها اللا مسئولة حتى لا تزيد العاتق على أهلها عن الحد.
لقد كانت سلمى جارتها وصديقتها، لعبا سوياً منذ كانوا صغاراً .. أقاما سوياً في القاهرة لدى عمة سلمى رغم أنها التحقت بكلية ألسن في حين إرتادت سلمى كلية اقتصاد وعلوم سياسية .. لم يكن ذلك الإختلاف اليتيم بينهما بل كان هناك الكثير من التناقضات الأخرى .. سلمى تتحمل المسئولية منذ الصغر فوالدتها لم تسمح لها بالدلال الزائد خوفاً عليها من الفساد، مقتنعة أنها ذات يوم ستصبح ربة منزل وقتها لن يتقبل أي زوج كان دلالها، دائماً ما كانت قريبة من ربها تناجيه باستمرار تتلمس رضاه في كل عمل تقوم به .. أما هي فكانت علاقتها به وقوفها بين يديه خمس مرات يومياً وصوم شهر رمضان ولا تعرف للمسئولية معنى في قاموسها الخاص وأغلب معرفته بالدين لا تتعدى ما أخذته في الإبتدائي خلال حصص التربية الدينية.
فهمت منطق والدة سلمى في عدم الدلال؛ فلولا دلالها لما تعشمت في حب عائلتها لها معتقدة أنها إذا هربت وتزوجت من أرادت ثم عادت إليهم سيستقبلونها بأذرع مفتوحة واسعة لا تحمل إلا التراحب.
انتحبت حتى جفت دموعها ولا يحمل قلبها الآن إلا شعور بالمرارة والحرمان، لقد حرمت نفسها من حضن شقيقتها الدافئ وعطف والدها عليها، مزاح أشقاءها معها.
مرت بذاكرتها جملة قالتها لها زهرة سابقاً لكن في حينها لم تُلقِ لها بالاً أما الآن فقد تأكدت صدقها .. " ماتنسيش اللي بيحب بجد مش بيفكر حتى يأذي اللي بيحبه ... واقتراحه دا لو عملتي بيه هيدمرك مش هيأذيكي بس! .. خلي الكلام دا حلقة ف ودنك" .. لكنها أسقطته من أذنها.
سجدت تناجي ربها: يا رب، أنا عارفه إني قصرت معاك كتير وبعدت عنك أكتر بس أنت ارحم الراحمين ارحمني واغفرلي، أنا كنت ضالة والمحنه دي هي اللي هدتني، مش معترضة على حكمتك مادام ف الأخر قدرت أرجع لطريق الصح ولطريقك .. لكن يا رب ساعدني .. أنا لو فضلت في المكان دا هأضيع بجد، هيخلوني بنت ليل واعمل حاجات من الكبائر .. يا رب انقذني من هنا، أنا خلاص مش هأضيع طريقي في الوصول ليك من إيدي بعد ما لاقيته .. بس أرجوك خرجني من محنتي وفك كربي
دخلت نيفين بعد أن طرقت الباب بخفة حاملة صينية عليها عدة أطباق، هذه وجبة غداءها، وضعت الصينية على الطاولة التي تحتل مكاناً أمام الأريكة المقابلة للنافذة.
نهضت واتجهت إلى نيفين: اقعدي يا نيفين، عايزه أتكلم معاكي
جلست نيفين وقد ضيقت بين عينيها منتظرة هذا الحديث المهم، تنحنحت حياه ثم قالت بجدية: أنا عايزه أهرب من هنا
أسندت نيفين ظهرها إلى الخلف وعقدت ذراعيها، سألتها بهدوء: وهتهربي إزاي ؟
- هو أكيد هيسافر تاني مش كدا ؟
- حتى ولو .. هتعملي إيه يعني؟
- هأهرب وهو مش هنا أو حتى يوم مايكونش فيه موجود هنا
- إنتي فاكره الهروب بالسهولة دي ؟؟؟
- مادام مش موجود هتبقى سهلة، لا جميلة ولا فتون هيقدروا يمنعوني خصوصاً جميلة اللي مش طايقاني أصلاً دي مش بعيد تطير م الفرحة
استقامت نيفين وقد شدت ظهرها: إنها ما تطقكيش حاجه وإنها تسيبك تهربي حاجه تانية
أردفت عندما رأت علامات التعجب تعلو وجهها: إنتي تعرفي إيه عن شغل شادي ؟؟
هزت كتفيها مشيرة إلى قلة معلوماتها: إنه بيشتغل مع باحثين أثار وبيلفوا البلد يبحثوا ف تاريخ الفراعنة .. أه ونسيت أقولك إنه شغال قواد
أضافت الجملة الأخيرة ساخرة، أعطتها نيفين إبتسامة ساخرة: بقى تهربي مع واحد ودا كل اللي تعرفيه عنه؟
أسرعت مضيفة: على العموم أحب أقولك بعيداً عن الشغلانه الأولى اللي أنا ما اعرفش عنها حاجه .. إنه يبقى قواد مش بالسهولة دي .. مش أي واحد يجيب كام بنت ويشغلهم يبقى قواد
- أومال إيه ؟؟
- الشغلانه دي ليها أصول، زيها زي أي مؤسسه أو شركه أكيد بإختلاف الهدف، القواد دا لازم يبقى له بوص، رئيس أكبر منه يأمنله الحماية من الباقيين عشان ما يتغدوش بيه قبل ما يتعشى بيهم
- وإنتي تعرفيه ؟
- لا، ماحدش يعرفه غير شادي وبس .. حتى مش بيقابله كتير، أوقات الضرورة وبس
- زي إيه الضرورة دي ؟
أشارت إليها: زي إنه يوريه الوجه الجديد اللي هينضم للمجموعة .. أومال فاكرة كل الصور اللي اتصورناها قبل ما يسافر دي كانت ليه ؟؟
- يعني مش هاعرف أهرب؟
وقفت على قدميها ثم سحبت حياه من يدها، أزاحت جزء من الستائر وأشارت إلى نقطة ما في الخارج.
تطلعت حياه متمعنة لتجد شخصاً مفتول العضلات كأنه يحيا على اللحم فقط وليس أي لحم بل لحم نيئ مما يجعله قادراً على إلتهام شخص كامل.
عادت تنظر إلى نيفين التي أشارت إلى نقطة أخرى لتجد نسخة طبق الأصل من الرجل الأول ولكن بإختلافات طفيفة.
- إزاي ما شوفتهومش قبل كدا ؟؟
- لما جيتي كنتي نايمة وبعدين مراية الحب كانت عمياكي يعني لو واحد فيهم قالك أنا أهو مش هتشوفيه بردو
جلست مجدداً قبل أن تضيف: كمان كانوا مستخبيين لحد ما شادي ...
قطعت جملتها متأكدة من وصول مقصدها، انهارت حياه إلى جوارها: يعني مافيش أمل ؟؟
- مش عارفه ، أنا ما حاولتش عشان أقولك
كأنها تذكرت شيئاً أردفت: على فكرة شادي كان عايز ينزلك معانا إنهارده الشغل أصله شايف إنك بتتدلعي وأخدتي فترة راحة كافية بس جاتله مأموريه فأجلها لحد ما يرجع .. ماينفعش واحدة جديدة تطلع أول مرة ليها ف عدم وجوده .. قوانين بقى
حاولت إحجام ارتجاف جسدها متجاهلة إحساسها الداخلي بالتقزز: مأموريه إيه ؟
- هههههههههه يا بنتي ركزي ف حالك .. ع العموم دي كلمة بيقولها على كل حاجه بيعملها مش عايزنا نعرف عنها حاجه
سألتها: هو أنتوا بس اللي بيـ ...
علقت جملتها لا تدري كيف تصوغها، فهمت نيفين قصدها: من القوانين بردو إنه أكتر من خمس بنات ف نفس البيت خطر .. عشان ما يوزوش بعض على الثورة .. هاهاها سلامات يا ثورة .. شادي مسئول عن كذا فيلا زي دي فيها من 3 لخمس بنات .. بس مش عارفه عددهم ولا مكانهم فين .. لكن بيبقى سايب مكان لوحدة جديدة تنضم ف أي وقت .. ما ينفعش يبقى أكتر من واحدة جديدة ف نفس المكان لإنه بيخلي البت تعصلج والدماغها تنشف أكتر ..
همت تغادر الغرفة قائلة دون أن تستدير إلى حياه: ما تفكريش تهربي إنهارده وإحنا مش هنا، الحراسه هتتشدد بره يعني بدل الإتنين اللي شوفتيهم هيبقوا عشرة فريحي نفسك عشان ساعتها مش هتنولي إلا الــ ...
لم تكمل الجملة التي ترددت أصداءها في جميع أنحاء الغرفة كأن الجدران أيضاً تحذرها من عدم اقتراف مثل ذلك الفعل الذي لن يعود عليها إلا بالمزيد من الضرر.
لكن السؤال الفعلي الآن، كيف عرفت نيفين برغبة حياه في المحاولة تلك الليلة ؟؟.

رُزقت الحلالحيث تعيش القصص. اكتشف الآن