صِحَاف وزمر

بواسطة CreativeAcademia

13.3K 1.4K 1K

لأن العلم تراكمي، ولأنه كان لزامًا علينا أن ننقل المعلومة بتصرف، وبرونقٍ إبداعي! صِحَاف وزمر، إنه البوابة ال... المزيد

|•افتتاحية•|
|•فئة من الذكرى•|
|•دار الخُلاصة•|
|•بين الماضي والحاضر•|
|•دور النشر•|
|• الأدب الاجتماعي •|
|•أدب المسرح•|
|•جائزة نوبل•|
|• كُتّاب الظل•|
|•الرواية والسينما•|
|• فن المقامات•|
|•الأدب الإغريقي•|
|•اليوم العالمي للقراءة والكتابة•|
|°نظرة نحو التابو الأدبي°|
|°ورقة وأخبار°|
|° اليوم الذي تكتب فيه الآلة°|
|°أدب الرحلة°|
|°المغزى في الرواية°|
|° اليوم العالمي للغة العربية°|
°|الأدب العاطفي°|
°|الكتب الصوتية°|
|•إنّها تحتضر•|

|°شعب من الشعراء°|

154 28 77
بواسطة CreativeAcademia

كان هناك رجل عربي يتنزه ذات مساء مع ابنه  ذي التسعة أعوام في وادٍ مخضر، وبينما هما يعبران جدولًا صغيرًا كانا يسمعان نقيق الضفادع؛ فأمر الأب ابنه قائلًا: أجز البيت.

تنق ضفادع الوادي

فقال الابن:

بصوت غير معتاد

ثم أكمل الأب:

كأن نقيق مقولها

فأتبع الابن:

بنو الملاّح في الوادي

تبسم الأب في حبور، وانشرح صدره، وأرخى أذنيه لسماع أصوات الطبيعة لينشدها أبياتًا شعرية مع ابنه الصغير، لكنه عوضًا عن ذلك وصله صوت هدير وانفجار عنيف. هرول الرجل نحو مصدر الصوت؛ فإذا بشاب ينهض عن الأرض بفتور متأوهًا  وينفض الغبار عن جسده، ومن خلفه، بدا مثل بيضة، باذنجانة، كمثرى، من يدري، المهم كانت معدنية جبارة نفثت دخانًا كثيفًا وشرارات كهربية.

-نجوت بأعجوبة.

قال الشاب ماسحًا جبينه المتسخ بالتراب.

كان ذلك الشاب غوركي، وذاك الرجل أبو بكر المنخل، لا يهم من هو سوى أنه عندما رأى غوركي ومركبته الغريبة سقط فكه فزعًا.

-المعذرة أيها العم، هلا أرشدتني لطريق قرطبة؟

-أبي، ما ذاك الشيء الغريب؟

كانت لحظة أسرع من لمح البصر عندما امسك الرجل بيد ابنه وهرول مبتعدًا عن المكان كأنه رأى شبحًا. حك غوركي رأسه في حيرة، ثم استدار نحو آلة الزمن المعطوبة، همس لنفسه "يبدو أنها ستكون ليلة متعبة" ولم يملك سوى اتباع أثر الرجل عله يصل إلى عاصمة الأندلس، قرطبة.

التمعت أنوار الفوانيس العنبرية، وبانت قباب بصلية ومآذن رفيعة تجاورها كاتدرائيات عريقة، تلك كانت مشارف قرطبة الأندلس، وما إن وطأت قدمه سمع استلال السيوف، وذاقت حنجرته برودة المعدن.

-حسبك أيها الغريب، من أنت وما غايتك هنا؟

هتف شرطي في ثياب فضفاضة بلكنة أندلسية فريدة.

-حسنًا، أدعى ماكسيم غوركي، وأنا خبير إبداعي ضمن مشروع أدبي ثقافي يسمى الربي…

-اسمه غير مريح كما يبدو كالجواسيس ارموه في السجن فورًا.

-مهلًا لحظة!

ثم ذاك هو في زنزانة مظلمة بسجن قرطبة يلعن اليوم الذي سافر فيه بالزمن.

-والآن كيف أخرج لإتمام بحثي اللعين؟

سمع أحدهم من الزنزانة المجاورة:

-أنت أيها الغلام، ما سبب حبسك هنا؟

-لا أدري.

-لابد وأنك هجوت أمير المؤمنين فحبسك.

-لست بشاعر حتى.

-خسئت أين هي رجولتك، كيف تنطق مثل هذا القول القبيح.

-اخرس! لست في مزاج لسماع محاضرة منك، كل ما أريده الخروج من هنا لإنجاز مهمتي.

-وما هي مهمتك؟

-دراسة تأثير الأدب على حياة الأديب الأندلسي.

قهقه الرجل من الزنزانة المقابلة بقوة جعلت غوركي يستغرب فعله وينتظر توضيحا منه.

-أتيت إلى المكان المناسب، دعني أخبرك بحكايات الأدباء هنا.

أترى ذاك الأعمى هناك، حسنًا إنه ليس أعمى فحسب؛ بل جزء من لسانه مقطوع أيضًا، يلقبونه بأبو المخشي، وقد اشتهر بالهجاء والتعريض بالناس، لكن حظه البائس عندما امتدح ابن الخليفة قائلا.

وليسوا مثل من إن سيل عرفا
يقلّب مقلة فيها اعورار

وقد كان ابن الخليفة أحولًا؛ فظنه هجاء لهذا رماه في السجن، وحصل ما حصل.

ثم صدر صوت رخيم من زنزانة أخرى يدندن بأبيات شعرية:

بعض تصابيك على زينب

لا خير في صبوة للأشيب

أبعد خمسين تقتضيها

وافية تصبو إلى الرّبرب

وأما صاحب هذه الأبيات فهو يحي الغزالي، وقد اشتهر بوسامته وجزالة شعره، وكان الأمير عبد الرحمن قد ولاه منصب قبض الأعشار؛ فصادف أن قل الطعام، وارتفعت الأسعار، فباع الغزالي أعشار مخصصة للدولة، ولما علم الأمير أمر باسترداد ما باعه، ووقتها، كانت الأسعار قد انخفصت فرفض الغزالي ذلك وقرر أن يعوضعهم طعامًا مقدار ما باعه، لكنه حبس جراء ذلك.

-ثم ها هو يخرج.

علق غوركي حالما رأى جنديًا يقترب من زنزانة من الغزالي  ويأمره بالخروج معلقًا:

-الشعر الذي نظمته جميل للغاية، لذلك قد عفا عنك الأمير وأمر بإخراجك.

-هوي! أخرجوني أنا أيضًا.

-إذا أردت أن يقطع رأسك فتفوه بكلمة أخرى أيها الغريب.

-سحقًا! الناس هنا غريبون، يدخلون السجن ببيت شعر ويخرجون ببيت آخر، لو كانت لي حظوة في الشعر لاستعطفت الخليفة لإخراجي.

-لو كنت مكانك لكتبت رسالة.

-صحيح! كيف غفلت عن هذا فالأدب لم يقتصر على الشعر فقط؛ بل حظي النثر بنصيب منه، أريد ورقة وقلمًا، مهلًا، من أين لي بورقة وقلم؟ '-'

-نريد قرطاسًا وقلمًا هنا.

وسرعان ما سُمع أمر رفيق الزنزانة وأُحضر لغوركي ما يريد؛ فابتدأ بخط رسالة سلمها للجندي بعد ذلك وانتظر بفرح، ولما عاد الجندي ظن أنها لحظة خلاصه، لكن الجندي تجاهله كأنه حشرة؛ فعلق رفيقه ضاحكًا:

-يذكرني وضعك برفيقنا صاحب الزنزانة رقم ستة عشر الذي بذل جهدًا في استعطاف الخليفة بعدما سجن دون جدوى. إنه الوزير المصحفيّ وهو شاعر فذ للغاية، فقد قال في شعره:

هبني أسأت فأين الفضل والكرم

إذ قادني نحوك الإذعان والندم

يا خير من مدت الأيدي إليه أما

ترثي لشيخ نعاه عندك القلم

بالغت في السخط فاصفح صفح مقتدر

إن الملوك إذا ما استرحموا رحموا

كذلك حظ صديقنا الثوري الرماديّ، الذي قال بيتًا انتقد فيه حكم  المستنصر فآل مآله إلى السجن بسببه. يقول فيه:

يولي ويعزل من يومه

فلا ذا يتمُّ ولا ذا يتم

-ألا يوجد من لم يدخل السجن؟

-حتى الخليفة عبد الرحمن الناصر الملقب بالشاعر الطليق قد تذوق السجن وهو حديث السادسة عشرة.

في منزل كالليل أسود فاحم

داجي النواحي مظلم الاقباح

يسود والزهراء تشرق حوله

كالحبر أودع في دواة العاج

وخرج برسالة كتبها، وفيها حكاية طريفة، إذ قيل -والله أعلم- أن الوزير لما جاء لرمي الرسائل كان في حديقته، وكانت رسالة الناصر من جملة ما لم يقرأه، وكان في الحديقة نعامة تعيد الورقة كلما رماها ودام صراع رمي الورقة بينهما حتى احتار الوزير في أمرها؛ ففتحها وقرأها، ثم أطلق سراح الناصر ولهذا البعض يسميه طليق النعامة.

-رائع، من أيضًا؟

-ليس جميعهم، هناك مثلا الشاعرات اللاتي أخذن حقهن بالشعر، مثل حسانة التيمية، وكانت من النساء الحرائر؛ التي  شكت إلى الخليفة محنتها بعدما توفي والدها لاسترداد أموالها.

إني إليك أبا العاصي موجعة

أبا الحسين، سقته الواكف الديم

قد كنت أرتع في نعماه عاكفة

فاليوم آوي إلى نعماك يا حكم

-وهناك من تزوجوها بسبب إكمالها بيت شعر.

-من هي؟

-اعتماد الرميكية.

وقتها كان الأمير أبو القاسم - ولقبه المعتمد-   يتنزه مع رفيقه ابن عمار في مركب، وقد اعتادا أن يبدأ أحدهما صدر البيت فيكمل الآخر العجز. وبينما الأمواج تلطم صفحة الماء قال المعتمد: أجز

نسج الريح على الماء زرد

لكن رفيقه لم تسعفه قريحته ليكمل عنه؛ فصدر صوت حسن يقول:

أي درع لقتال لو جمد

بهت الشابان من الصوت الصادر من الضفة القريبة، ورأوا جارية تغسل الثياب وقد استمعت لحديثهما. أعجب بها الشاعر أيما إعجاب؛ فأمر باصطحابها لقصره على الفور.

-أشعر أني داخل حكايات خرافية؛ فالناس هنا يتزوجون من مجرد بيت شعر، انظروا كيف يؤثر فيهم الأدب لهذا الدرجة.

-إنه شعب من الشعراء، الشعر متغلغل في عظامهم، كان بعض الخلفاء يأخذون أربعين شاعرا معهم للحرب.

-للكلمات قوة عجيبة.

-ليس هذا وحسب، حتى أنهم كانوا يستخدمون الشعر لمعالجة العلوم ومناقشة المصطلحات العلمية؛ ففي شعر ابن عبد ربه إلى الفلكي أبو عبيدة، نقاش حول  بعض الظواهر الفلكية والجغرافية، يقول:

وقلت إن جميع الخلق في فلك

بهم يحيط وفيهم يقسم الأجلا

والأرض كروية حف السماء بها

فوقا وتحتا وصارت نقطة مثلا

صيف الجنوب شتاء للشمال بها

قد صار بينهما هذا وذا دولا

فما لكانون في صنعا وقرطبة

بردا وأيلول يذكي فيهما الشعلا

إن للأدب عمومًا والشعر خاصة دور كبير في حياة هؤلاء الناس، من هم ما كان يسترزق به كالأسطليّ، ومن هم من سجن وهم لا يحصون، ومنهم من كان يستخدمه سلاحًا لمقاومة اليهود كالشاعر الألبيريّ؛ الذي نفي بسبب شعره بسبب ضغط وزير يهودي في عهد باديس بن حبوس، لكنه نجح بقصيدة أثارت الشعب.

على كل، لو جئنا للحديث عن حياة كل أديب ما كفتنا الأسطر ولا الصفحات.

-وما سبب حبسك أنت هنا، أيها الأديب؟

-لا أدري، كل ما أذكره تحطم آلة الزمن.

-تحطم ماذا؟ مهلًا من أنت؟

اقترب غوركي من الزنزانة أكثر ليتفحص ملامح الرجل، ولما استدار رأى  هيكلًا عظميًا بعينين جاحظتين وهالات سوداء.

-أنا أنت من العالم الموازي ولم أستطع العودة إلى عالمي.

تردد صياح غوركي الفزع في أرجاء السجن ووصل حدود السماء، ثم فتح عينيه بجحوظ ساحبا نفسًا عميقًا؛ فإذا بأوكتان تحدجه بطرف عينها.

-كالعادة نمت فوق الكتب أيها الكسول، وتسليمك بعد دقائق.

-سحقًا!

النهاية.

----------------------

-حسنًا أيها الرفاق، أخبرونا كيف يؤثر الأدب فيكم ككتاب وقراء على السواء؟

-هل تعلم أن الأندلس قديمًا كانت تلقب ببغداد الغرب؟

--------------

كتبه العضو: ماكسيم غوركي.

واصل القراءة

ستعجبك أيضاً

127K 6.5K 32
لم يكن مهيبًا بالصوت العالي و التسلط و العُنف، كان مهيبًا باتزانِه و هدوئه و حنانِ جسدِه الذي لا تظهرهُ عينَيه وجدَ بي ملجأ حيثُ يريحُ عَينَيه و وَجد...
658 281 29
- {وَإِذَا سَمِعُوا۟ مَآ أُنزِلَ إِلَى ٱلرَّسُولِ تَرَىٰٓ أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ ٱلدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا۟ مِنَ ٱلْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَآ ءَ...
15.2K 1.9K 58
حينَ تصحو في اللامكان، بدونِ أي ذِكرى، إلا من تُرَّهاتٍ يُقالُ أنكَ كُنتَها.. حينَ تتوقُ لِمعرفةِ كينونَتِك، ولكنكَ كُلَّما أبحرتَ فيها أكثر، كلما أ...