كان واقف بشموخ وثقة كبيرين ، عند مدخل السوق المركزي ، ينتظر أحدهم او ربما لا ، ربما أذهله منظر السوق ، هذه البناية العملاقة التي تسمى ب ( المول ) ، لم يعتد على اماكن كهذه ولم يرها من قبل وحتى لو أبصرها سابقا لن يستطيع دخولها والتأقلم فيها ، ليس لديه الوقت لهذه الترهات ( التبضع والاستمتاع والتسكع مع الاصدقاء )
منذ صغره وهو اعتاد الوحدة لا يخالط الكبار ولا يلعب مع الصغار ، لم يستطع رؤية العالم الخارجي والتعرف عليه ، بل اكتفى بحياة القرية البسيطة والهادئة فالصخب لا يثيره والضوضاء لا تبهجه ...
هم بالابتعاد متجها الى الشارع العام لكن اوقفه صوت دافئ :
" عفوا سيد إياد اضن انك اوقعت هذه "
التفت خلفه ليرى الشيء الذي اوقعه ، وقد تفاجىء من رؤية هويته المزورة ، كيف لم ينتبه لسقوطها منه ، لو اضاعها حقا لكانت مصيبة وكارثة في ان واحد ، وستفشل مهمته حتما ...
لكنه دهش أكثر عندما رأها ،،
ايعقل هذا !! ، للتو اغضبها وتركها ولم يساعدها ، وهي الان ساعدته بإعادة الهوية
، ظن انها تمثل دور الطيبة الان
وستنتقم منه لاحقا ، فقد فسر غضبها منه ( حقد وكراهية ) ، فهو لم يعد يصدق بأن هناك اناس طيبوا القلب ويساعدون بعضهم ، يرى الجميع أشرار ، سيئين ، كفار ، ملحدين ..
قام بسحبها منها بقوة واكمل طريقه ، لكنها أسرعت لتلحق به حتى اجتازته وتوقفت امامه ، لذا بدأ الغضب يسري في عروقه ، تجهم وجهه وقطب جبينه ، ثم زعق بها وهو يقترب منها ويكشر عن انيابه :
- ماالذي تريديه ؟
ابتسمت له وهي تخبره :
- الن تشكرني ؟
اجابها بصوت حاد قليلا :
- ماذا ؟ أشكركِ !!! هكذا اذا ، تريدين ان اشكركِ وتصبحي صاحبة فضل عليّ ..
اخفضت رأسها وهي تشعر بالاحراج قليلا : - اووه لا ليس هكذا ، كنت امزح معك ، في الحقيقة أتيت لأعتذر منك ..
تغيرت ملامحه فجأة لتصبح باردة بشكل مخيف :
- على ماذا تعتذرين ؟
- أنا آسفة ، ماكان عليّ ان اصرخ في وجهك مغرور ...
عم الصمت بينهما لم يقل شيئاً لها ، فقط اكتفى برمقها بنظرات غريبة و خاطفة ، ثم ابتعد متوجها الى سيارة سوداء حديثة ، جاءت لتقله ....
تراءى لها شخص تعرفه ، يقود السيارة لكن سرعان ما ابعدت هذه الشكوك من رأسها ، و صوت رنين الهاتف قد انساها مارأت ، لتجيبها على الطرف الاخر رؤى :
- غالية اين انتي ؟
قطبت حاجبيها ، وهي تتحدث بصوت مرتفع :
- اوووه ... من الرائع حقا ، انكن تذكرتن وجودي معكن ...
- لقد بحثنا عنكِ كثيرا ، لكن لم نجدك ، اخبريني اين انتِ ؟
تنهدت لتجيب :
- انا عند مدخل السوق ..
- حسنا انتظرينا ..
***********
ف
ي مكتب صغير مؤثث بأثاث فخم جدا ' منضدة توجد عليها بعض الكتب والاوراق ، وايضا جهاز حاسوب محمول ، وهناك رفوف عديدة وضعت فوقها بعض الكتب ، وايضا العديد من المزهريات ، تزين قاعة الغرفة ..
كان جالس برفقة أحدهم ، وقد احتسى القليل من كوب قهوته ، ثم اردف بعدها قائلا :
- كيف عساي اثق بك ف أنا لا أعرفك حتى ، وكيف اضمن انك لن تخبر حكومتك الضعيفة ...
رد الاخر الذي كان يجلس امامه :
- لا تقلق انا اريد الانضمام معكم ، منذ ان سمعت بكم وقرأت عنكم ..
تنهد مأمون وهو يسأله :
- اخبرني لما تريد الانضمام هل قرأت شروطنا ؟ من يبايعنا لا يستطيع الانسحاب..
- اسمع لقد مللت حياتي ....
( صمت للحظة ثم اكمل )
فكما ترى انا شاب مدلل وثري ، املك كل شي ، لذا اريد استغلال ثروتي لشيء انتفع منه ، وكما اني اعرف الكثير عن الوزراء ولدي معلومات عديدة عن خطط الحكومة استطيع تزويدك بها ........
مارأيك ؟
صمت مأمون قليلا ، ثم اجابه :
- حسنا ،، موافق اطلعني بكل المستجدات من خلال اتصال هاتفي
لا استطيع ان اقابلك مرة اخرى ...
ابتسم الاخر وهو يسأله :
- الم تثق بي بعد ؟
لم يرد ، بل استقام على ساقيه ، و برح مكانه متجهاً الى باب الخروج ، لكنه توقف قبل خروجه ثم التفت الى الشخص الجالس بهدوء يراقبه واجابه
" لا أثق حتى بظلي "
وتوارى من امامه ، ليتبعه ابتسامة ثقه ترتسم على شفاه هذا الشخص وهو يقول :
" مغرور "
*************
بعد عودتها من السوق ، امضت غالية نهارها في تنظيف المنزل ، و التجول في البستان ومحادثة الاصدقاء ، لكن صورة هذا الشخص ، لم تبرح مخيلتها ، فبدأت تحدث ذاتها متسائلة :
" ذلك الغضب في عينيه لم افهمه أبداً ،
ترى ماسببه ؟ ما سر سخطه وغيضه ؟
ولما هذا الاسى والالم ؟
ان مكان ولادته هو ( آزاد ) ، نفس المدينة التي توفي فيها والدي ، هذه المدينة التي سطا عليها الارهاب وسلبها حريتها واغتصب ارضها وشرد اهلها "
صرخت بحماس :
" اجل ان سبب غضبه هو الارهاب ، ياالهي لقد وصفته بالمغرور انا حقا اسفة بشأنه ماكان يجب ان انعته هكذا "
هكذا اعتقدت غالية لم تظن ولو للحظة ، بإن هذا الشخص هو السند الرئيسي و الداعم الاكبر للارهاب ، والمؤازر الاول لهم ...
مر الوقت بسرعة ولم تشعر بذلك ، بدأت الشمس بالغروب لتنحجب وراء الافق البعيد ، بعد ان انعكست ألوان الشفق الحمراء ، على السماء الزرقاء ..
هذا المنظر الرباني الخالص ، دليل على قدرة الله وعظمته في خلق هذا العالم الواسع ، الذي لا تستطيع يد البشر المساس به ولا تلويثه ..
جذب عيناها هذا المنظر الرائع الذي يبدو أشبه بلوحة إبداعية ، خطها رسام محترف باحدى ريشاته ..
لكن نادتها والدتها لتعيدها الى أرض الواقع :
" غالية تعالي ياابنتي لتلقي التحية على الضيوف "
فقد قدم لزيارتهم عمها وزوجته واولادهم ، القت التحية عليهم وبدأت باعداد العشاء مع والدتها وقد ساعدتهم سلوى ، زوجة عمها قليلا ....
************
بعد إدائه لصلاة المغرب في المسجد ، توقف عند احد المتاجر التي تبيع الحواسيب واجهزة الاتصال الذكية ، قام بشراء حاسوب محمول ، و بعض الاقراص الليزرية و الفلاشات ، ثم توجه الى أحد الفنادق المتواضعة في السلام ...
حياه موظف الاستقبال بابتسامة جميلة
" أهلا بك سيدي بما اخدمك "
وكعادته المشؤومة لم يبادله الابتسامة بل تجهم وجهه أكثر ، حتى سبب الخوف للموظف :
- اريد حجز غرفة صغيرة لي ..
- الهوية من فضلك....
أخذ هويته ليسجل منها المعلومات اللازمة ثم أخبره بعدها :
- من هنا تفضل سيدي ..
اعطاه مفتاح غرفته وتمنى له ليلة مريحة ، وابتعد ليعود الى موقعه ..
كانت الغرفة صغيرة باثاث بسيط تتخللها نافذة ذات ستائر بيضاء ،
وسرير كبير وطاولة صغيرة بجانبها كرسي وضع عليها حاسبه ...
ادى صلاة العشاء ، ثم تمدد على سريره ليأخذ قسطٌ من الراحة لكنه لم يستطع اغماض جفنيه رغم ثقلهما ..
ترى هل نسى من يكون ، ام تناسى عمداً انه قاتل
و القتلة لا يستطيعون النوم بسلام ، حتى لو أرادوا ذلك فكلما حاولوا النوم مرت عليهم طيوف قتلاهم ، لتفزعهم وترغمهم على الاستيقاظ ولن يتمكنوا من النوم بعدها
وبين الماضي والحاضر حل الصباح ، واشرقت الشمس متوسدة حضن السماء ، لتتسلل اشعتها من زجاج النافذة وتبعث في النفس الراحة والاطمئنان ولتخبرنا بأن الامل مازال ولم يزل بعد موجود في الحياة ، فابتسم وتوكل على الله ...
استيقظت غالية بنشاط كعادتها ، وتوجهت الى البستان لقطف الخضار فقد نضجت واصبحت جاهزة للبيع ،
بعد تناول الافطار طلبت منها والدتها ان تذهب معها الى السوق لشراء بعض الاقمشة اللازمة لمحل الخياطة وبعض المستلزمات الاخرى وايضا لبيع الخضار..
ولم تستطع الرفض ، بينما غالية توجهت الى غرفتها لتغيير ملابسها المنزلية ،
توجهت والدتها الى منزل جارهم ( أبو ادريس ) ، وطلبت منه ان يقلهم بسيارته فأومأ موافقاً ...
*************
في السوق :
باعت ام غالية جميع الخضار بسعر مقبول ، وتوجهت بعد ذلك الى بائع الاقمشة الذي يقع متجره بالقرب من متاجر بيع الالبسة .
دخلت والدتها الى المتجر اما غالية أبت الدخول فقد شعرت بالضجر ، لذلك توقفت بتملل تراقب بصمت ، لكن بينما كانت تنظر هنا وهناك لمحت وجهه المألوف يقترب من بعيد لتهمس قائلة :
" ياالهي انه هو "
كان يسير في السوق يبحث عن متجر لبيع الالبسة قرر شراء العديد من الملابس ، تكفيه لمدة اقامته في هذه المدينة ، لكنه سمع صوتٌ انثوي ناعم يخاطبه :
- أليس صدفة رائعة ان نلتقي للمرة الثانية وفي سوق أيضا ...
أخذ يتأملها وهي تقف بجانبه ، و ابتسامة جذابة قد ارتسمت على شفاهها ، تجعل كل من يراها يقع في سحرها ، لكن رجل باذخ مثله لا يقع فريسة سهلة في سحر امرأة ، لذلك اكمل طريقه متجهاً امامه ، انزعجت من سلوكه الفظ معها :
- أسحب أسفي انه حقاً مغرور ...
ورغم هذا لحقت به ، و بدأت تسير بجانبه وتثرثر :
- مرحبا ، اسمي غالية وانت ؟؟ اوووه تباً لقد نسيت إسمك إياد ، لذا تشرفت بمعرفتك ..
توقفت امامه ومدت له يدها للمصافحة ، لكنه شعر بغضب كبير منها وتصلبت شرايينه وهو يشد على قبضته و يقطب حاجبيه ، كم تمنى قتلها لكنه لا يستطيع فعل شيء لها ، سوى تهديدها ، لعلها تخاف وتبتعد :
- ابتعدي من هنا والا ....
تصنعت الغضب ، وهي تضع ذراعها على خصرها :
- والا ماذا هممم ؟
صمت ولم يجبها ، ابعدها عن طريقه بذراعه وابتعد ، لكنها ايضا لم تتركه بل لحقت به ثانيةً قائلة :
- اسمع لقد قرأت مكان مولدك ، انت من مدينة آزاد ، لذلك اود ان نصبح اصدقاء ، سوف اساعدك صدقني ، ساعرفك على مدينتي ، و سوف أبحث لك عن مـ ....
قاطع ثرثرتها :
- لا شكرا لا احتاج الى المساعدة ..
لم تلحق به هذه المرة فلا فائدة منه ترجى لذلك عادت ادراجها ...
اما هو فقد كانت شرارات الغضب تتطاير منه ، دون ان يلحظ أحداً ذلك ، فهو يبدو كشخص بارد الاعصاب و غير مبالي ، لكن في باطنه بركان ثائر على وشك ان ينفجر ، ربما لو كان يرتدي لثامه الان لقتل جميع من في السوق ، و اول شخص هي ،
بدأ يهمس لنفسه قائلا :
- تلك الثرثارة ، كيف تجرأت على مضايقتي انها كوجع رأس لا يزول ، تساعدني !! من أخبرها بأني احتاج المساعدة ، لكن ....
فجأة تغير شكل وجهه ، وكأنه تحول لشيطان مخيف ، ابتسم بشر متسائلا :
- هل قالت انها ستعرفني على مدينتها ؟ ربما استطيع ان استغلها لتنفيذ خطتي
، سأجعلها تخبرني بكل ما يخص هذه المدينة ، ليس عندي وقت لاستطلعها بنفسي ...
قبل ان تعود الى المتجر الذي توجد فيه والدتها ، نادى عليها :
- مهلا لحظة ، توقفي ..
ابتسمت هي في المقابل ، فقد تعرفت على خامة هذا الصوت الاجش ، واستدارت ناحيته :
- ماذا ؟
- انا موافق ..
- توافق على ماذا ؟
اجابها بتردد :
- لنصبح اصدقاء ..
تحدثت وهي مندهشة :
- حقاً ؟
اومأ لها :
- أجل ..
اقتربت منه وهي تبتسم ، مدت له ذراعها للمرة الثانية كي تصافحه وهي تخبره :
- مرحبا ، انا غالية ...
طالع يدها بنظرات مترددة ، لكنه استسلم أخيرا ، وايضا قام بمصافحتها وهو يعرف بنفسه :
- إياد ...
شعر برعشة غير متوقعة سرت في جسده ، فهذه أول مرة يمسك بيد امرأة غير والدته ، لذلك ترك ذراعها بسرعة ، و ابتعد تاركاً مكانه ، بعد ان وضع في ذراعها ورقة صغيرة بيضاء ..
ارادت ان تناديه فهي لم تعلم كيف ستلتقي به مرة اخرى ، والورقة كانت فارغة ولا تحتوي على شيء ، لكنها فجأة وقعت من يدها ، وقد تحولت الى الوجه الاخر ، حينها تبين انه رقم ما ، التقطت الورقة بسرعة ، وبقيت متسمرة مكانها دون ان تنبس بكلمة ، عندها ابتسمت وهي تهمس لنفسها وتطالع الرقم :
" غريب الاطوار "
يتبع............
انتهى البارت
آرائكم ؟