قالت السيدة : أعوذ بالله من هوى لا يستلذ مع مرارته ولا يستطاع لشدته ولكن خير اﻷمور أوسطها وأعدلها والقصد أو لى ، ثم قالت : يا مدام (خذي) -1- الطنبور وغننا صوتاً ، فأخذت الجارية الطنبور وسوته واندفعت تغني بهذه الأبيات حيث تقول [كامل] :
وصلت من أهوى (ولات) -2- ملاما
ورأيت خلعي للعذار -3- قواما
وبذلن جهدي للهوى وتجلدي
وهجرت لذاتي فصرن حراما
ووصلت أشجاني وبت مسهداً
ومنعت عيني أن تذوق مناما
وصرمت حبل الصبر عن طوع الهوى
وجعلت تسكاب الدموع ذماما -4-
مالي عزاء ، ولا لي راحة
حتى ألاقي للقضاء حماما -5-
قالت السيدة : أعوذ بالله من زفرات الحب وفقدان اللب ، فمن دهي به فقد دهي بعظيم ، وانقطع الغناء لقول السيدة وعطست رياض [6و] عطستين -6- ، فقالت السيدة : الله أكبر الضيف معنا ، قومي يا رياض فعسى ضيفنا طرقنا ، فبينما نحن كذلك إذ سمعنا نقر وتر بسطاعة -7- أخذ في الطويل ثم في الكامل ثم اندفع يغني بهذه اﻷبيات حيث يقول [كامل] :
ما (للحبيب) -8- كوته نيران الهوى
وشوى الغرام فؤاده وضلوعه
وغذا يروم وصال إلف جائر
حتى يرى فوق الجيوب -9- دموعه
يشقى ويلقى كل يوم كربة -10-
من دهره ومن السقام وجيعه
يا (محيي الشوق) -11- القلب معمود -12- الحشى
عيناه تذرفان للشجون دموعه
هجر الرقاد فبات يرعى للدجى
نجماً يريه أفوله -13- (وطلوعه) -14-
فالليل سهد -15- ما يعالج هجعة
منه وإن أبدى الصباح ([ولو]عه) -16-
ونهاره شوق يعض بنانه
ومساؤه يبدي إليك خضوعه
فكفاك من قلب تعبده الهوى
طاف الغرام به فبت -17- جميعه
قالت العجوز : فلما سمعت رياض ذلك عرفت النغمة فكأنها أطرقت (مستحيية) -18- مخافة أن تشعر بها سيدتها ، وهمت أن ترقى في الشجرة فتشبكت أثوابها في الشجرة [وخاف]ت أن تسقط في اﻷرض ، فصاحت عليها السيدة : بحقي عليك يا رياض إلا ما هبطت. ثم قالت لجارية أخرى : اصعدي وهبطي (رياض) وانظري من الذي غنى.
فارتفعت الجارية في أعلى الشجرة ، فلما تطلعت ورأته نزلت وقالت : يا سيدتي أراه والله ضيفاً مليحاً صغير السن بادي العقل حسن الهيئة ، فلو رأيت أن يكون معنا إلى اﻷصيل نستفيد منه يومنا هذا -19- [7ر].
فنزل بياض بإزائي ، ثم دعت بطعام وقالت لي : واكليه والله يا عمة.
فقلت : فأكل أكل ظريف نبيل مثيل ، ثم رفع الطعام.
فقالت له : أتشرب شيئاً؟
قال : نعم.
فسقي ثم قالت السيدة لجارية من جواريها تسمى طروب : يا طروب (خذي) -20- العود وغني لضيفنا.
قالت : نعم وكرامة. ثم أخذت العود وسوته واندفعت تغني حيث تقول [خفيف] :
أسهم اللحظ -21- صدعت كبدي
بان صبري وقد وها جسدي -22-
و (جفاني) -23- الكرى وأرقني
بأليم الشجون والكمد
جل ما بي وما أرى أحداً
يسعدني في اﻷنام من أحد
فدعوا العذل -24- يا فديتكم
فهو عندي من أعظم النكد -25-
قالت العجوز : فلما فرغت الجارية من شعرها قبلت اﻷرض أمام بياض ، وجعلت العود في حجره ، وقالت له : كن يا سيد عند ظني بك.
فأخذه بياض واندفع يغني بهذه اﻷبيات حيث يقول [طويل] :
منعت جفوني أن تذوق هجودها
وكلفتها ألا تلاقي خمودها
وواصلت سهدي -26- ثم قلت لزفرتي
ألا فاقعدي -27- بين الضلوع وقودها
ويا كبدي ذوبي ويا نار زفرتي
(أزيدي) -28- لكي يسطو الهوى فيزيدها
فإن التصابي قد أضر بمهجتي
وأضرم أشواقي وحل قيودها
قالت العجوز : ثم سكت يسيراً واندفع يغني هذه اﻷبيات حيث يقول [طويل] :
[7و] رماني الهوى والشوق أسهم ذي حتف -29-
وقد كان في قلبي فصار إلى ضعف
وخامرني داء بقلبي (ثواؤه) -30-
وقد كان مفتاح الشجى -31- نظر الطرف
فيا لك من قلب شجي معذب
يروح ويغدو في بحور من الحتف
وقد كنت لا أدري الهوى وعذابه
فهأنذا صب -32- وهذا (إلفي) -33-
غدوت إلى اﻷشواق نضواً -34- من الهوى
وصار فؤادي للتباريح -35- في صرف
قالت العجوز : فلما فرغ من شعره تنفس الصعداء واندفع يغني بهذه اﻷبيات حيث يقول [طويل] :
لحر الهوى بين الضلوع لهيب
وللشوق في أقصى الفؤاد دبيب
وللحب سلطان على النفس قاهر
يظل له صعب الحديد يذوب
ولكنني أرضاه خدناً -36- وصاحباً
وإن كان منه في الفؤاد لهيب
يقطعني بالشوق حر غليله
ويعتادني منه جوى ونحيب
قالت العجوز : فلما تم النوبة قبل العود ووضعه على البساط وقال : هذه طاقتي على الغناء.
فقالت له السيدة : أحسنت والله وأتيت كل بديع أنت والله عند أسمك بياض ، فأخبرني بأمرك وابن من أنت؟
(قال) -37- : أنا بياض بن حسين بن محمد بن إدريس الخزاعي من مدينة دمشق من الشام ، وكنت سافرت مع أبي إلى بلدكم هذا للتجارة ، فرحل أبي وتركني على بعض المتاع ، فكانت راحتي ونزهتي على شاطئ هذا النهر أسلي فيه نفسي وتقر به عيني ، حتى عرضت لي منذ أيام جارية في بعض اﻷشجار [8ر] فما أتيت بعدها إلى هذا الموضع إلا يومي هذا.
__________________________
1- في المخطوط : (خذ).
2- في المخطوط : (ولا).
3- العذار : ما كان على خد القوس من اللجام ، وهنا بمعنى أبطلت اعتذاري.
4- الذمام : الحق. (القاموس).
5- الحمام : قضاء الموت (العين) [بكسر الحاء].
6- في التراث الشعبي العراقي ، العطستان تدلان على مصداقية وقوع الحدث مع الفأل الحسن ، ولا أدري إن كان هذا المفهوم موجوداً في بلاد المغرب آنذاك.
7- سطع : انتشر وارتفع. (اللسان).
8- في المخطوط : (ما للعذول).
9- الجيوب : جيب الثوب الفتحة أعلاه.
10- الكرب - الحزن يأخذ بالنفس. (القاموس).
11- في المخطوط : (يا محي مشوق).
12- المعمود : الذي هده الشوق. (القاموس).
13- أفول : غياب ، عكس شروق أي غروب.
14- في المخطوط : (وطموعه).
15- سهد : من السهد وهو اﻷرق. (القاموس).
16- في المخطوط : ([وج]عه؟).
17- بت : قطع. (القاموس).
18- في المخطوط : (مستحية).
19- في المخطوط بعد هذا : (فإنه) وواضح أنه من خطأ من الناسخ أو لعل هناك سقطاً بعد هذه الكلمة.
20- في المخطوط : (خذ).
21- اللحاظ : مؤخر العين واللحظ : النظرة من جانب اﻷذن. (العين).
22- في المخطوط : (جدي).
23- (وجفاني) ساقطة من المخطوط والسياق يقتضي إثباتها.
24- العذل : اللوم. (العين).
25- النكد : اللؤم والشؤم. (العين).
26- السهد : اﻷرق.
27- في المخطوط : (فعدي).
28- في المخطوط : (أفيدي).
29- الحتف : الموت وقضاؤه. (العين).
30- الثواء : ثوى : نام وبقي ، ولذلك يقال للميت ثوى في قبره. وفي المخطوط : (نواءوه).
31- الشجى : ما نشب في الحلق من غصة وهم. (العين).
32- الصب : والصبابة المصدر ، رجل صب وامرأة صبة ، وهو يصب عشقاً ، وهو الوجد والمحبة. (العين).
33- في المخطوط : (إلف).
34- النضو : الهزيل.
35- التباريح : شدة الشوق.
36- الخدن : الصديق ، وصديق الجارية ، أي محدثها ، وكانوا لا يمتنعون من خدن يحدثها حتى هدمه اﻹسلام {وَلا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَان} [النساء:25].
37- (قال) ساقطة من المخطوط والسياق يقتضي إثباتها.