غيـوم البـعاد

By SamaSafia

5K 292 159

الجزء الثاني من رواية التقينا فأشرق الفؤاد ♥️ بداية النشر فبراير 2024 قيد الكتابة More

اقتباس
اقتباس 2
المقدمة
الفصل الأول
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصـل السـابـع
الفصـل الثامن
الفصـل التاسع
الفصـل العاشر
الفصـل الحادى عشر
الفصـل الثاني عشر
الفصـل الثالث عشر
الفصـل الرابع عشر
الفصـل الخامس عشر(الجزء1)
(الجزء2) من الفصل الخامس عشر

الفصـــل الثانى

336 15 4
By SamaSafia


تتهادى تلك السيارة السوداء فوق الطرقات الترابية الواصلة بين القرى والنجوع في أرض الجنوب
بعدما تركت الطريق السريع الممهد بين المحافظات والتفت لتتوغل إلى عمق هذه المحافظة حيث القرى النائية .. مسقط رأس والديه
يبدد ضوء كشافاتها القوى العتمة الحالكة المحيطة بالسيارة ويضيء لها الطريق،
طريقا لابد أن تسلكه هذه الأسرة الصغيرة مُسيرة غير مخيرة فيه .. مسيرة حزن وفقد
يقبض قائد السيارة على المقود بعصبية واضحة تزداد كلما أقترب من هدفه
وهو يسارع الوقت ليصل في الوقت المناسب
ملامحه عابسة ولا ندرى أهو عبوس التركيز في هذا الطريق الوعر حالك الظلام أم عبوس التوجس من العودة إلى الجذور ..
أم ربما عبوس حزن ووداع لفقيد غادر الحياة على حين غرة
على يمينه امرأة خمسينية شديدة البنيان يطل من مقلتيها التحدي والعزم ممزوجا بالدموع
والحزن وهي توزع نظراتها على بيوت القرية السابحة في سكون الليل بملامح جامدة،
شاردة فيما هم مقبلون عليه .. لقاء مؤجل لم ترغب يوماً فيه رغم اشتياقها لأرضها الأم
أما في مقعد السيارة الخلفي فهناك تقبع هذه الشابة العشرينية تضم طفلتها الصغيرة النائمة
ذات الأربع سنوات مستسلمة لقدرها الذي ربطها بهذه العائلة
فصارت أحد أفراده سواء شاءت أم أبت
رباط مقدس قيدها مع هذه الأسرة وهي الغريبة عن هذه الأرض وهذه العادات
لكنها معهم الآن رغم رفضها لهذه الرحلة المفاجئة ولكنها رغبة زوجها وعليها الطاعة ولو على مضض ...
فزوجها يرفض الابتعاد عن طفلته الصغيرة المستسلمة لنوم هادئ مطمئن بين أحضان والدتها
ارتجت السيارة بشكل خطير على هذه الأرض الوعرة الملتحفة بالظلام
لتطلق بُشرى التي تجلس في المقعد الخلفي صرخة فزعة وهي تضم صغيرتها بشدة
إلى صدرها حتى إن جفني الصغيرة تحركتا بثقل قبل أن تعاود النوم من جديد بين أحضانها
صاحت بُشرى بخوف يسيطر عليها من هذه الرحلة الإجبارية
وهي التي لم تترك أرض العاصمة يوماً
:- كان لازم يعنى نسافر فى عز الليل كده
حاول زوجها نصير الجالس في مقعد السائق السيطرة على ثبات السيارة قدر الإمكان
متحاشياً الصخور والحصى الصغير المنتشر على الأرض الترابية
بينما قالت والدته التي تجلس بجواره بقوة وثبات شامخة الرأس
:- ما تخافيش يا مرت ابنى .. ديه أرضنا عارفنا وعارفينها ..
واعرة وصلبة كيف عزيمتنا لكن لا يمكن تأذينا
اخفضت صوتها قليلاً تواصل حديثها لنفسها إلا أن صوتها الهامس وصل إلى مسامع ولدها الوحيد
:- الأذى بياچى من نفوس البشر
رمقها نصير بنظرة جانبية خاطفة عاقد الجبين قبل أن يواصل تحديقه
في الطريق بعقل شارد وقلب محمل بالهموم
.. على غير رغبته يسير في طريق لا يعرف نهايته ولا يعرف إلى أين يؤدى
ولا إلى ما سيؤول إليه مصيره ومصير أسرته المعلقة في عنقه
سربلهم الصمت المهيب كظلام الليل المحيط بالسيارة وثلاثتهم في حالة شرود
كلا يسبح في أفكاره الخاصة بين شابة متخوفة من نمط الحياة الجديدة المقبلة
عليه وسيدة محملة بمشاعر الحزن وفقد الزوج ورغبة وعزم في استعادة حقوقها المسلوبة
أما الرجل فكان يجتمع برأسه كل هذه الأفكار والمسئوليات معا والذي عليه مواجهتها وحده .. منفرداً ..
تخطت السيارة إحدى القرى النائمة بسكون ليتعداها إلى طريق أكثر وعورة
في اتجاه جبل شامخ يطل من بعيد .. مظلم مهيب وشامخ
بعد وقت قصير كان قد وصل إلى النجع الذي يرقد تحت ظلال الجبل ..
يتوغل بين المنازل بتؤدة بعد أن هدأ من سرعة تقدم السيارة يبحث بعينيه عن منزل والده القديم
الذي خرج منه هاربا بصحبة والدته في ظلام ليلة مماثلة منذ ما يقرب من العشرين عاماً
مدت والدته الجالسة بجواره ذراعها تشير نحو منزلها القابع في نهاية هذا الشارع البسيط الترابى
وبنبرة متألمة تحمل من الحنين والألم الكثير من ذكريات قديمة لم تغادر رأسها يوماً
:- الدار أهاه يا نصير .. دارى
تلفتت حولها تتأمل المنازل المتراصة إلى جانب بعضها والتي زحفت خلال الأعوام الماضية
حتى وصلت إلى حدود منزلهم الذي كان يقف وحيداً بالقرب من الجبل
وأردفت وكأنها تحدث نفسها
:- دور كتير اتبنت حواليه ... ما بجاش وحيد كيف ما كان ..
كان بعيد عن كل الخلج اتقاء شرهم لكن الشر لحجنا وين ما نروح
حرك نصير مقلتيه يميناً يحدق في ملامح والدته التي يختلط فيها علامات التجهم مع الألم
والحنين ولم يُعقب على حديثها بل تركها مع ذكرياتها وحديثها النفسي
لعلها تُخرج بعض ما تحمله في قلبها من آلالام
توقفت السيارة في نهاية هذا الشارع حيث تقبع الدار التي ولد بها
وعاش بها سنوات طفولته الأولى حتى تجاوز السابعة من عمره ...
ترجل من السيارة يدور بنظراته على المباني المحيطة والأرض الزراعية
بجوار الدار والتي تمتد بعدها رمال تتصل بسفح الجبل
عاد بنظراته المتأملة حيث تقف والدته التي ترجلت بدورها تتطلع في المنزل القديم المهجور
الذي بدأت فيه حياتها كشابة يافعة وعاشت فيه لسنوات طويلة في كنف زوجها المحب هي وولدها الوحيد
التقت نظراتها مع مقلتي ابنها فمنحها ابتسامة ضعيفة وأومأ لها برأسه مشجعا
قبل أن يتحرك نحو المنزل، يعتلي درجاته القصيرة ويخترق الشرفة الخارجية الواسعة له
ثم توقف أمام الباب الخشبي الضخم ذات الشرعات الزجاجية المشروخة
أخرج المفتاح من جيب بنطاله ودسه في ثقب الباب تحت ضوء القمر الفضي
وحاول فتحه بروية ولكن القفل لم يستجيب فتعامل بشئ من القوة
يسحب الباب عليه بأصابعه التي تخللت القضبان الحديدة على الشراعة الزجاجية ..
يعالج القفل الصدأ ببعض الحذر
لمح خيال يتخطى ظلام الشرفة ويتوقف جواره فأدار رأسه ليلمح والدته تقف عن يمينه
ومدت ذراعها لتفرد كفها فوق الباب الخشبي الباهت
تحتضن أخشابه وزخارفه بعيون مبللة بحنين الماضى ويبدو أن الدار قد حنت لساكنيها
وتعرفت عليهم فاستجاب القفل الصدأ تحت أصابع نصير لينفرج الباب أخيراً على مصراعيه

تقدمت والدته كالمسحورة لصحن الدار رغم الظلام الحالك الذي يلف المكان ...
تتجول بمقلتيها في أرجائه خلال الظلام والضوء الضعيف المتسلل من إضاءة القمر
وعمود إنارة ضعيف على مقربة من الدار بينما حاول نصير الوصول إلى عداد الكهرباء
وفتح كشاف هاتفه المحمول يتعامل بحذر شديد مع مصدر الكهرباء حتى شع الضوء في أرجاء المنزل
أغلقت ناعسة جفنيها لوهلة قصيرة نتيجة لسطوع الضوء المفاجئ قبل أن تفتحهما
وتتحرك ببطء إلى داخل الغرف تُلقى التحية على جدرانه باهتة الطلاء وأثاثه الذي يعلوه الغبار
ترك نصير هاتفه جانباً وتلفت خلفه يشاهد والدته وهي تحلق بين ذكرياتها
قبل أن يتركها تتحرك بحرية في المنزل التى تألف جنباته وغادر الدار
حيث مازالت زوجته على جلستها داخل السيارة تضم طفلتها بتخوف
وترفض النزول والدلوف إلى هذا المنزل المهجور مخيف الأركان
فتح باب السيارة ومد كفيه نحوها ليتلقى منها الفتاة الصغيرة ويساعدها على النزول ...
تأملت كفيه بصمت ثم رفعت عيناها المتوجسة خيفة إلى وجهه وذراعيها متشبثة بطفلتها وقالت برفض
:- أنا مش ممكن أنزل وأقعد في البيت المخيف ده ...
حرام عليك يا نصير قولتلك سيبنى أنا في مصر
تلفت خلفه يتفحص المنزل الغارق في الظلام سوى من الضوء المشع من ساحة الدار
ثم عاد ينحني قليلاً متكئ على سقف السيارة بمرفقه يطالع جلستها داخل السيارة وقال مطمئناً
:- خايفة من إيه بس ده البيت اللى اتولدت فيه ... مع طلوع الشمس هجيب اللى ينضفه
ويروقه ما تقلقيش وأنزلى .. البنت محتاجة ترتاح في نومتها
مد كفه لها من جديد وقال بحزم حانى يحثها على التحرك
:- يلا يا بُشرى أنزلى ... أنا لازم ألحق أروح لبيت أعمامى قبل الفجر
مد ذراعيه مرة أخرى ليحمل الطفلة من بين ذراعيها فاستجابت له على مضض
أمام نظرته الصارمة التي لا تقبل الجدال فتركت له جسد الفتاة الصغيرة
التي تلاقها بحنان فياض يضمها إلى صدره ثم مد كفه يساعد زوجته على الترجل
وبمجرد أن استقرت بجواره خارج السيارة قال يهمس معتذراً
:- أنا آسف يا بُشرى بس أنتِ شوفتى اللى حصل والصدمة اللى نزلت علينا
زفر حزناً وهو يتذكر المكالمة الهاتفية التي وصلته في وقت متأخر من الليل
تخبره بخبر وفاة والده المفاجئ ... غمغم بخفوت
:- ما كنش ينفع أسيب أبويا يدفن وابنه الوحيد مش جنبه
ناظر عينيها مردفاً وهو يقبض على كتفها برفق لعلها تستوعب ما يشعر به
:- أنا أولى الناس إنى أشيله على كتفى .. ده حقه عليا
عضت شفتها السفلى بغيظ مشيحة بوجهها بعيداً ثم عادت تخبره بلوم
:- كنت رجعت أنت تدفنه وتعمل الواجب وتسيبنى أنا في بيتى ...
مكنش له لازمه تبهدلنى أنا وبنتك معاك
حملق في وجهها بصمت مفكراً بعد أن زرعت الشك في جذور قراره
بإصطحابهم معه وقال يبرر ويناقش الأمر معها
:- أنتِ شوفتى خبر الوفاة وصل لينا أمتى وكان لازم نتحرك بسرعة عشان نوصل قبل الفجر ..
وأنا مش عارف هقعد هنا لغاية أمتى كنت أسيبكم هناك لوحدكم أزاى!!
تأففت بضجر وقالت مجادلة وهي تشيح بذراعها في الهواء صوب المنزل بعصبية
:- كنت هقعد عند ماما في بيت نضيف وأمان يا نصير مش في بيت العفاريت ده
رفع حاجبيه متعجبا من أسلوب ردها الغير مبالى بمصابه وأدرك جيدا أن الجدال معها
سوف يطول كالعادة وقبل أن يشرع في الإجابة كانت والدته تحادثه
من فوق درجات السلم القليلة المؤدية لباب الدار
:- يلا يا نصير ... شهل يا ولدى لازمن نلحج نوصل دار چدك
جبل ما يدفنوا أبوك الله يرحمه .. الفچر جرب يأذن
استدار نحو والدته وأومئ موافقا :- أنا جاهز يا أمى
أطلقت بُشرى أحد أذرعها تتشبث بعضد نصير هاتفه برفض
هامس من بين أسنانها وهي تميل عليه بجسدها
:- أنا مش هقعد في البيت ده لوحدى ... أنا مرعوبة منه من قبل حتى ما أدخله
هبطت ناعسة الدرجات ببطء وأجابت هي على حديث زوجة ابنها الهامس
الذي لم يخطئ سمعها في هذا السكون
:- مرعوبة من إيه يا مرت ابنى ... ديه دارنا حافظين حيطانها وهى حفظانا
ادخلي انتظرينا فيه لحد ما نجوم بالواچب ... ولا تحبى تاچى أمعانا الچبانة
:- چبانة!! رددت بُشرى باستنكار وهى تناظر حماتها برفض قاطع فيكفيها رعبا
من هذا المكان وبالطبع لن تصحبهم للمقابر في هذا التوقيت
أسرع نصير وقبض على كف زوجته يُسكتها قبل أن تُلقى أي قذائف جديدة من فمها
وسحبها خلفه وهو يعتلي درجات السلم القليلة بسرعة متوسطة تواكب خطواتها
ودلف إلى الدار ينزع الملاءات الموضوعة فوق الأرائك بيد وبيده الأخرى يضم طفلته
إلى صدره قبل أن يضعها بحرص فوق إحدى الأرائك واطمئن على نومها
بينما جالت بُشرى بنظرها في المكان المغبر بالتراب وبيوت العناكب التي استوطنت
أركان الحوائط المرتفعة وانكمشت على نفسها بتوجس واشمئزاز
التفت نصير نحو زوجته التي عادت تؤكد رفضها للمكوث في هذا المنزل بمفردها
تلفت حوله دون أن يجيبها بحثا عن شئ ما ثم تحرك نحو مقعدين خشبيين حملهما
وأخرجهما في الشرفة الواسعة بالخارج وعاد إلى زوجته يسحبها من يدها
وعينيه تطمئن على ابنته النائمة ثم ترك زوجته في الشرفة وقال على عجل
:- اقعدى هنا لو مش عاوزه تدخلى جوه البيت وفي كل الأحوال البلد كلها هتصحى مع شروق الشمس ...
والبيت منور كله أهوه ومفيش حاجة تخوف .. اقعدى مكان ما تحبى يا بُشرى
وأرجوكِ قدرى الموقف اللى أنا فيه من فضلك ..
وعينك على البنت لتصحى تلاقي نفسها في بيت غريب تتفزع
تركها مباشرة قبل أن تبدأ في المجادلة من جديد فهو أدرى الناس بها
وأسرع إلى السيارة التي تنتظر والدته بداخلها ولم يستمع إلى جملة زوجته الهامسة
:- تتفزع ... مش كفاية أمها المرعوبة من البيت الغريب ده
قام بتحريك السيارة سريعا ليصل إلى البلدة المجاورة على بعد دقائق قليلة بالسيارة
حيث منزل جده الراحل والمواجهة الحتمية مع أشقاء والده المتوفى حديثا

***********

أمام هذا المنزل الضخم الذي يشبه القصور مشرع الأبواب يتحلق عدد من رجال القرية
حوله في انتظار تجهيز المتوفي لنقله إلى مثواه الأخير توقفت سيارة نصير
تحت نظرات حائرة متعجبة وأخرى متسائلة عن هوية قائدها
ترجل من سيارته وأسرع يدور حولها وفتح باب السيارة لولدته التي ترجلت قابضة
على كفه المفرودة لدعمها ثم تحركت شامخة بجوار ابنها الوحيد مرفوعة الرأس
بين الرجال المتابعين للموقف والبعض منهم بدأ التعرف على هويتها
على أعتاب المنزل ظهر أحد الرجال ويبدو أنه كبيرهم وحوله ثلاثة رجال أخرين ..
يحملق في وجه ناعسة التي تصعد درجات المنزل القليلة بنظرات صارمة
ووقفت في الشرفة الخارجية تناظر الرجال بثبات حتى تسائل كبيرهم
بحاجبين مغلقين ونبرة استنكار
:- إيه اللى چابك يا ناعسة أنتِ ولدك
لم تحد بعينيها التي تطلق سهام البغض عن وجه هذا الرجل في حين أجاب نصير بثقة
رغم عدم معرفته الشخصية لهذا الرجل من قبل إلا إنه تعرف على شخصه بديهيا
فهو عمه الأكبر الذي لم يقابله يوما في حياته
:- أنا جاى أحضر غُسل ودفن أبويا يا عمى ... من حقه إن ابنه الوحيد يكون جنبه في يوم زى ده
رفع عزام كبير عائلته والشقيق الأكبر لوالد نصير زاوية فمه باستهزاء وقارعه برفض
:- كتر خيرك يا ولد نصار ... أبوك اتغسل واتكفن خليص ومش محتاچ لك حى ولا ميت
أرخى نصير جفنيه قليلا مسلما أمره لله ومعتذرا لوالده فى نفسه على تأخره
عن عمل الواجب من أجله ثم فتح عينيه على اتساعهما مصرا على موقفه
في اتخاذ مكانه كابن للمتوفي ورفع كفه يضرب على كتفه بقوة بتأكيد صائحا
:- وماله يا عمى .. أودعه وأشيله على كتفى لمثواه الأخير
ضرب عزام على الأرض بطرف عصاه الغليظة وأمال رأسه يعاود الحملقة
في وجه ناعسة التى تركت دفة الحديث لابنها بكل افتخار ثم قال مستنكرا
:- وماله .. حجك تشوف أبوك .. لكن هي بتعمل إيه إهنا ...
أبوك هملها وطلجها من زمن .. معاودة ليه يا ناعسة دلوك
رفعت ذقنها بكبرياء وارتفعت طبقة صوتها لتصل إلى أكبر عدد من المجتمعين
في الدار ليشهدوا على حديثها وهي على يقين بانتشار الخبر في القرية فور تصريحها به
:- أنا مرت نصار الدهشورى وأم ابنه البكرى .. نصار چوزى بشرع ربنا
وعمره ما هملنى ولا نطج لسانه بكلمة الطلاج
صمت الجمع كأن على رؤوسهم الطير وأخوات نصار وأبنائهم يتبادلون النظرات المتشككة ..
شق الصمت صوت صرخة مدوية انطلقت من داخل جدران المنزل الكبير
لزوجة نصار الثانية والتي تتابع ما يحدث من الداخل ..
ترمى حديث ناعسة بالكذب والافتراء بينما التفت عزام إلى نصير وكأنه يطلب تأكيدا على ما تفوهت به والدته
أكد نصير بلهجة قاطعة لا يشوبها الشك
:- والدى الله يرحمه سفر أمى من البلد وبعدها عنكم عشان يحافظ عليها وعلى سلامتها
وسلامتى بعد ما ضغطتم عليه عشان يطلقها ويتجوز بنت عمه ..
لكنه عمره ما طلقها ولو ليوم واحد
بدل عزام نظراته في الملامح الصلبة لناعسة وابنها وفضل أن ينهى هذه المهزلة خاصة
مع اجتماع أهل البلدة لحضور مراسم دفن شقيقة الراحل
لوى عنقه نحو ابن شقيقه الأوسط الذي يقف يتابع ما يحدث كالجميع وقال باقتضاب
:- فراچ .. خد ولد عمك وأمه يودعوا المرحوم
تحرك الشاب من فوره يتقدم نصير الذي قدم والدته أمامه وأثناء دلوفهم الدار
قطعت طريقهم سيدة أصغر من ناعسة بعدة سنوات قليلة متشحة بالسواد
يحاوطها من الجهتين ابنتيها من نصار وقالت بغل وبغض واضح
:- عِملتيها يا ناعسة وكلت عجل الراچل وچاية تفضحيه بعد موته
توقفت ناعسه تناظرها بتحدى وتجيبها بلهجة حازمة
:- من ميتا كان الچواز فضيحة يا فتحية .. الفضيحة الُصح لما تسرجى راچل
من على مرته وولده وتتشرطى على طلاجها وخراب دارها
جحظت مقلتا المرأة بصدمة وكادت تطلق سهامها على ناعسة إلا أن نصير وضع كفه
على ظهر والدته يحثها على التحرك حتى لا يتحول المأتم إلى مشاجرة نسائية
فليس هذا وقته ولا مكانه أما فراج فقال بتعقل يخاطب زوجة عمه الثانية
:- مش وجت الحديت ديه يا مرات عمى
تقدموا بضع خطوات وصوت فتحيه يشيعهم بحرقة وغل
:- برضك مش هتنولى مرادك ومش هتطولى جرش واحد من ورا نصار يا ناعسة
لم يلتفتوا إلى حديثها وتابعوا التقدم حتى توقف فراج أمام إحدى الغرف الأرضية
وفتح الباب فدلفت ناعسة أولاً يتبعها نصير للداخل ثم أغلق عليهما الباب
وعاد حيث فتحية زوجة عمه نصار التي وقفت تنتحب حسرة وألما بين ابنتيها
داخل الغرفة سقط قناع الصلابة التي ترتديه ناعسة وهي تقترب من الفراش المسجى
عليه جثمان زوجها الذي لا يظهر سوى وجهه الشاحب شحوب الموتى
مالت عليه تقبل جبينه البارد ودموع عينيها تعانق وجهه وتخاطبه بما يشبه الولولة
:- رحلت وهملتنى يا نصار .. فضلت عايش طول عمرك خايف من خواتك وخايف
من المواچهة .. غلطت في حج نفسك وحجى وحج ولدك يا نصار ..
وأهاه الحجيجة ظهرت وبانت وعاودت من تانى ... عاودت بلدى اللى خرچت
هربانة منيها مع ولدى لاچل خاطرك يا نصار .. لاچل خوفت تواچه أبوك وأخوك الظالم عزام
.. ضحيت بيا وبولدك وعشت بعيد عنينا محرومين منيك إلا من زيارة كل فين وفين
وآخرتها موت بعيد عنينا من غير حتى كلمة وداع .. يا حرقة جلبى عليك يا نصار
أراح نصير كفه على كتفها يقبض عليه بقوة حانية ويضمها إلى صدره
يبثها القوة والصبر قائلا بتأثر حزين
:- ادعيله يا أمى ... هو محتاج الدعاء دلوقتى
رددت من فورها وهي تعتصر مقلتاها ألما وشوقا على حبيب أفنت حياتها
حاملة اسمه رغم البعاد وهمهمت بنحيب دمعها
:- الله يرحمك يانصار الله يرحمك ويسامحك .. الله يرحمك ويسامحك يا أخوى
ابتعدت عن الجثمان بعد أن لثمت جبينه مودعة وكفها يمسح دموعها المعانقة
لوجهه البارد لتتيح الفرصة لولدها بالاقتراب ووداع والده
مال نصير على والده يلثم جبينه بدوره ويهمس له بخفوت
:- سامحنى يا بابا إنى ما وقفتش جنبك في الغُسل ..غصب عنى ..
أول ما الخبر وصل لنا أنا جيت على طول
قبض على كفى والده من فوق كفنه الأبيض وقال يعاهده
:- عشت طول عمرك في الضل يا أبويا وسبتلى أنا المواجهة والمطالبة بالحق الضايع
وأنا قدها إن شاء الله ... أوعدك هنفذ وصيتك وهراعى مراتك التانية وأخواتى البنات منها
... أوعدك هعمل كل جهدى وربنا يقدرنى
عانق ملامح والده التي لم يشبع منها يوما من خلال زياراته القليلة لهما في العاصمة
ومال يطبع قبلة وداع طويلة على جبينه الأصفر الشاحب ثم وقف أمامه بخشوع
يرفع يديه يلهج بالدعاء وقراءة الفاتحة على روح الفقيد
دقائق قليلة وانفتح الباب على مصراعيه وصوت فراج يسبقه بإقرار متجهم إليهما يحثهما على الإسراع
:- يا دوب نلحج صلاة الفچر
لحقه إلى داخل الغرفة عدة رجال حاملين صندوق خشبى خاص بالمتوفى فأسرع نصير بستر وجه أبيه
وضم كتفيه مفتقدا مقدما لضمه لن تتكرر مرة أخرى ثم شرع في حمله برفق معهم
حتى وضعوه داخل النعش وقام برفع النعش معهم على كتفه وبدءوا في التحرك خارج المنزل
تتبعهم صرخات النساء وزجر الرجال لهم ممتزجة بكلمات العتاب اللائمة التي تشيع بها فتحية جثمان زوجها المتجه إلى مثواه الأخير

****************

مع أشعة الشمس المتشعبة في الكون أفاقت الأجساد من غفوتها وانتبهت الأرواح لجمال الحياة فخرج الناس كلا يسعى إلى هدفه وسبيله، عمل .. دراسة .. تواصل .. حب
وفي هذه الشرفة المرتفعة وقف شاب في أوائل العشرين متأنق بملابسه الشبابية وشعره المصفف بعناية يلقى نظره بين الحين والآخر على شاشة ساعته ثم يعاود النظر إلى جهة بعينها
دلفت والدته إلى الشرفة تتسأل بتعجب على حاله الذي تبدل منذ شهور
:- بتعمل إيه يا أيمن .. أنت مش وراك شغل يا بنى
أجفل من صوت والدته وهو الذي يطير بخياله كطير مغرد باحثا عن وليفة وعلى حين غرة استفاق والتفت حيث تقف والدته على أعتاب الشرفة وقال بارتباك
:- نازل يا ماما .. نازل أهوه
كتفت ذراعيها تحت صدرها تتفحص قسماته بتمعن في محاولة لسبر أغواره
:- يعنى بتعمل إيه مش فاهمة .. وإيه حكاية البلكونة اللى واقف فيها ليل ونهار .. ديه مش عوايدك
مطت عنقها للخارج تحاول تبين ما ينظر إليه مستطردة
:- بتبص على إيه .. فهمنى!!
احتوى ذراعيها بكفيه يعيدها لداخل الغرفة وهو يخطو معها وقال بنبرة حاول أن يجعلها جدية بعد أن ألقى نظرة سريعة مرة أخرى حيث منزل الأحباب
:- هكون ببص على إيه يعنى يا ست الحبايب ... بشم هوا الصبح .. حضرتك ما تعرفيش أن هوا الصبح ده علاج لكل داء
ثبتت قدماها بالأرض والتفتت تواجهه بنظرات أنثوية ماكرة ولهجة مشاكسة :- حتى داء الحب
تلون وجهه بضى أحمر خفيف ثم تنحنح واتجه نحو مرآة الزينة يعيد تعديل ملابسه وقال مراوغا
:- حب!! .. حب إيه يا ست الحبايب .. أنا مش فاضى للكلام الفارغ ده
جلست على طرف فراشه الغير مرتب وقالت بجدية
:- وما تحبش ليه .. ده أنت تحب وتحب ست البنات كمان ... بس قولى هي مين وأنا أخطبهالك
دار حول نفسه ودس كفيه في جيب بنطاله الأنيق يناظر والدته مفكرا هل يفاتحها في الأمر أم ينتظر حتى يتأكد من مطلبه ولكنها لم تهدأ أو تصمت إنما واصلت التخمين مفكرة
:- هي أكيد واحدة من بنات الجيران بعد وقفة البلكونة بتاعتك ديه ... تكونش مريم بنت فوقيه اللى ساكنة قصادنا .. ولا سماح بنت شكرية اللى بعدينا بدارين ولا سماح بنت آآآ
ارتفع حاجباه ذاهلا وهي تعدد أسماء كل فتيات الشارع الصغار منهن والكبار ولكنها لم تصيب الهدف فحبيبه الفؤاد تسكن في أكبر منزل على أطراف الشارع في فيلا عظيمة وابنة رجل عظيم
رفع كفه يوقف والدته عن الإسهاب في تخمينها وقال بمرح وهو يقترب منها
:- كفاية يا أمى .. حضرتك كده جوزتينى كل بنات الحى حتى اللى ماكملتش عشر سنين
ضحكت والدته بمرح والتقطت كفه تضغط عليه برفق وعينيها مرفوعة إليه من جلستها تحاول التأثير عليه
:- طب اعترف هي مين ولك عليا أروح أطلبهالك النهارده
مال عليها وقبل وجنتها بخفة ثم سحب هاتفه ومفاتيحه من فوق الكومود وغمز لها قائلا بشقاوة محببة لقلبها
:- بكره تعرفى كل حاجة .. وتطلبيها بنفسك يا أم العريس
انطلق يغادر المنزل وهو يلقى السلام سريعا وتركها حائرة في أفكارها حتى إنها دلفت للشرفة من جديد تبدل نظرها بين النوافذ والشرفات باحثة عن زوجة ابنها المستقبلية التي سلبت قلبه

*************

أوقف نصير السيارة أمام منزل والده بعد أن انتهوا من مراسم الجنازة والدفن ثم دار حول مقدمتها يساعد والدته في الترجل وعينيه تمتد إلى شرفة الدار وبابها المغلق بقلق على زوجته وابنته الصغيرة
تأخرا كثيرا في مدافن العائلة حتى تلقى واجب العزاء من أهل القرية اللذين حضروا الجنازة هذا بخلاف العزاء الذي سيقام ليلا في منزل العائلة .. عاد بعدها إلى قرية أرض السمرية من جديد حيث منزل والده الذي تزوج فيه والدته وعاشا فيه سنوات زواجهما الأولى بعيدا عن منزل أسرته التي لم ترغب في هذه الزيجة بسبب فقر أسرة والدته
عالج قفل الباب على عجل ودلف ينادى على زوجته بقلق من هذا السكون الغريب الذي يلف المنزل ومن فورها استجابت إليه .. فولى وجه شطر باب غرفة الضيوف التي حبست زوجته نفسها بداخلها مع ابنته
فُتح الباب وهرعت بُشرى إلى أحضانه هاتفه بخوف وتوتر شديدين
:- نصير أحنا لازم نمشى من هنا .. أنا مش هقعد هنا ولا ثانية تانية .. أرجوك نمشى حالا
مسح على طول ظهرها بحنو يحاول أن يطمئنها ويستفهم منها ما جرى أثناء غيابهم .. ابتعدت خطوة للخلف تنظر نحوه برجاء وهي تشير بذراعها في كل اتجاه على غير هدى بتوتر شديد تحاول توضيح ما حدث
:- فضلت قاعدة في البلكونة لقيت الناس رايحة وجاية تبص عليا نظرات غريبة خوفت ودخلت البيت قفلت الباب وقعدت هنا ... وفجأة سمعت صوت خبط وتكسير جاى من الناحية ديه ... اترعبت وأخدت كارما واستخبيت في الأوضة ديه ... حاولت أكلمك معرفتش .. الرقم مجمعش
كانت تتحدث بانفعال وكفيها ترتعش خوفا فجذبها إلى أحضانه يحاول طمأنتها وبثها الأمان والهدوء وعينيه تتجه إلى حيث أشارت بينما قالت والدته التي اتخذت من أريكة خشبية مرتفعة ذات مساند قطنية مجلسا لها ووضحت ببساطة غير مستسيغة لدلال زوجة ابنها المبالغ فيه في بعض الأحيان
:- الناس إهنا بتصحى من الفچرية يسعوا على وكل عيشهم ... والدار بجالها سنين مجفولة .. عادى لما يطلوا ويستفهموا مين اللى فتح الدار
رمقتها بُشرى بنظرات حادة مستنكرة قبل أن تهاجمها من جديد مؤكدة على ما سمعته وشعرت به
:- طب صوت الكسر والخبط اللى حصل هنا جوا البيت
أعادت نظرها نحو نصير الذي ما زال يضم كتفيها إلى صدره مؤكدة بتخوف
:- أنا متأكدة أن حد كان بيحاول يدخل البيت أو دخل فعلا .. أنا مرعوبة يا نصير يلا نمشى من هنا
عادت تلتصق بصدره بقوة وهي تتنفس بثقل أمام مقلتي والدته المستنكرة بينما قال هو بتعجب
:- البيت مقفول من سنين ... يعنى اللى عايز يسرق هيجى يسرق يوم ما نفتحه .. ده يبقى حرامى خايب أوى
رفعت مقلتاها الدامعة نحوه تصرخ في وجهه بعصبية
:- أنت كمان مش هتصدقنى يا نصير
هز رأسه بحيرة ومسح على وجنتيها يزيل أثر الدموع ثم عاد ينظر حيث أشارت منذ قليل .. مسح على كتفها مهدئا وتركها متجها نحو الباب الخلفي الذي جاء الصوت من ناحيته حسبما أشارت زوجته
تبادلت بُشرى نظرات مبهمة مع والدته التي تجلس بسكون في مكانها بينما سار نصير بحذر ينقل بصره في كل مكان باحثا عن أي أثر غريب حتى وصل إلى المطبخ الفسيح حيث الباب الخلفي .. وجد الباب مُشرع بالفعل
اقترب وفحص الباب جيدا ليتبين كسر حديث في جسد الباب الخشبي .. وقف على أعتابه يراقب الخارج حيث الفراغ الفسيح الذي يمتد إلى سفح الجبل القائم على حدود البلدة ويفصل بينه وبين المنزل غيطان الذرة المرتفعة
عاد للداخل بعد قليل ولكنه لم يخرج للبهو إنما عرج إلى غرفة صغيرة مظلمة ملاصقة للمطبخ .. غرفة تستخدم لتخزين متطلبات المنزل
مد أصابعه يشعل المصباح الصغير شاحب الضوء المعلق بمنتصف سقفها المرتفع ووقف يتأملها جيدا
لم يبدو أي أمر غريب سوى من بعض أثار باقية على الأرض المتربة تدل على وجود سابق لبعض الصناديق كبيرة الحجم في هذا المكان
عاد للبهو بعد عدة دقائق وقال بتقرير
:- الباب الخلفى مكسور فعلا ... بس مفيش حاجة اتسرقت
التحمت نظراته الغامضة مع نظرات والدته بينما ارتفع صوت بُشرى مهللة بهستيرية
:- أنا قلتلك .. كان في حد جوه البيت .. أنا لازم أمشى .. أنا مش هقعد أنا وبنتى في البيت القذر ده
تحركت رأسه بسرعة خاطفة يرميها بنظرات نارية من مقلتيه شديدة السواد كشعر رأسه أوقفت الكلمات في حلقها وقال بنبرة حازمة يوقف دلالها الزائد
:- بُشرى .. البيت هيتنضف حالا والباب هيتصلح .. وأحنا قاعدين هنا لغاية ما نشوف مصالحنا
:- ارجع استناك أنا في مصر ولما تخلص أمورك ترجع
قالتها بدلال رافض ولكنه لم يمنحها الفرصة لتواصل هذرها بل قال مقاطعا منهيا الحديث بنبرة حازمة
:- مفيش سفر لوحدك ... ومفيش حاجة تخوف .. فضول الناس هينتهى بسرعة .. وزمان الكل عرف أن مرات نصار وابنه ومراته رجعوا بيتهم تانى
حملقت في وجهه بغضب مكتوم رافض لقراراته الصارمة التي تعجز دائما عن مواجهتها وهو يقول باقتضاب وبلهجة أخف
:- ادخلى اطمنى على البنت .. وأنا هخرج اجيب فطار وأوصى على بنات يجوا ينضفوا البيت .. يلا
قالها وهو يضغط على أعلى كتفها برفق يسترضيها بطريقة بسيطة خفية عن والدته ولكنها لم تتقبل لمسته بل انفلتت من بين يديه وعادت للغرفة النائمة داخلها ابنتها مغلقة الباب خلفها بعصبية

***************

أمام مقود سيارة والده المتوارثة ذات الطراز القديم جلس يراقب الطريق من خلال المرآة الجانبية وعقله يعمل ويخطط
عليه أن يتخذ خطوة إيجابية فما الذي يخشاه .. هو شاب جامعى في مقتبل العمر يعمل في أحدى الشركات الكبرى في المحافظة ووالدة مدير المكتب الزراعى في القرية
صحيح ليسوا على قدر كبير من الغنى الفاحش لكن والده يملك عدة فدادين ورثها عن والده وهو ليس بطامع
كل ما يطمع فيه هو القرب منها .. من الفتاة التي شغلت قلبه وعقله معًا بحيائها وجمالها وأدبها
تنهد بلوعة وحرك مقلتيه نحو المرآة الأمامية لتتنبه جميع حواسه وهو يلمح السيارة المطلوبة قادمة من الخلف في سرعة متوسطة مناسبة لهذه المنطقة السكنية
أسرع بتشغيل السيارة وتحرك بها سريعاً فقفزت من مكانها وحادت جانباً لتقطع الطريق بشكل عرضي في نفس وقت اقتراب السيارة الفارهة قبل أن يتوقف سائقها يرمقه بغضب
تنحنح يجلى صوته وعدل وضع ياقة قميصه الأنيق ملقيا نظرة سريعة على المرآة الأمامية يتأكد من حُسن مظهره قبل أن يترجل ويتقدم بخطوات واسعة لا تخلو من استعراض ذكر الطاووس بريشة الملون ودس رأسه داخل نافذة السيارة من جهة المقعد الملاصق للسائق وقال بابتسامة عريضة ومقلتيه تحيدان إلى المقعد الخلفي حيث تجلس بنات أحمد السمرى
:- لامؤاخذة يا محروس ... يظهر العربية شرقت ونطت بالشكل العجيب ده
ازداد اتساع ثغره بابتسامة سعادة من رؤية الحبيبة بهذا القرب وقال بنبرة لينة هائمة :- صباح الخير الأول
لوى محروس جذعه يناظر الشاب المتأنق وقال بهدوء رغم تعجبه من الشاب الذي يكاد يحشر كامل جذعه داخل السيارة
:- حُصل خير يا أستاذ أيمن .. تحب أنزل أساعدك في حاچة
لملم نظراته المتمردة عليه والتي تتجرأ عليه لتتشبع من ملامح الحبيبة المرجوة وعاد ينظر نحو محروس وتنحنح بخفة
:- لا شكرا .. أنا هظبطها أصلى عارف عيبها كويس
أنهى جملته بمرح وهو يقف مكانه دون أي بادره منه لتنفيذ كلامه وفتح الطريق لهم ليمروا وعينيه تدور داخل السيارة ليقتنص نظرة أخرى نحو محبوبته
رمقه محروس بنفاد صبر وقد بدأت دمائه الثائرة ترتفع نسبة سخونتها وقال بقوة :- طب يا ريت بسرعة .. الهوانم عنديهم چامعة
استغل فرصة ذكر محروس لسيرة الفتيات ليسترق لمحة جديدة من الوجه الصبوح وحاول صبغ حديثه بالجدية
:- حالاً .. حالاً طبعا .. ربنا يوفقهم أحنا يسعدنا إنهم ينهوا دراستهم على خير
نكست الفتيات وجوههن أرضا ولم يرد محروس على حديثه وإنما ضغط بقوة على البوق يحث الشاب على الحركة ولكن أيمن بدل وضع ساقيه ومازال متكئا بساعديه على حافة النافذة ببرود وتسائل بتلميح
:- إلا قولى محروس .. أحمد بيه فين دلوقتى .. أصل عاوز أقابله في موضوع مهم جداً .. جداً .. جداً
كانت أخر (جداً) هائمة، هامسة موجهة إلى عينيى محبوبته ومحروس يجيب بصرامة
:- أحمد بيه في المزرعة لحد العصرية وبعد إكده في المچلس أو في الدار ... أهلا بك في أى وجت يا أستاذ أيمن ... ممكن توسع الطريج بجى
قالها بحزم وهو يشير نحو سيارة أيمن التي تسد الشارع الصغير، قال أيمن ببسمة عريضة ومقلتين لا تهدئان عن الطواف بين وجه محبوبته ووجه محروس مستغلا الفرصة ليوجه حديثه إلى الفتيات
:- حالا .. آسف على العطلة ديه يا آنسات .. أتمنى تنهوا الدراسة بسرعة .. أقصدى بنجاح وتبدءوا حياة أجمل .. أجمل بكتير
لم يجد محروس بدا من رفع زجاج نافذة السيارة من زر التحكم بجانبه ليطرد هذا المتطفل الذي استحسن الوقفة والحديث
فاضطر أيمن للتراجع للخلف وتحرك بظهره وهو يلوح بيده في الهواء ببلاهة والفتيات في المقعد الخلفي يتبادلن النظرات المحملة بالكلام لبعضهن البعض ويتحكمن في ضحكاتهن التي تتوق للانطلاق بصعوبة
ركب أيمن سيارته وبدأ في فتح الطريق بعد أن تراجع بسيارته للخلف ومر محروس بالسيارة من جواره وأيمن يعيد التلويح بكفه من النافذة مبتسما للسيارة المنطلقة راقبه محروس في مرآة السيارة الأمامية ثم أطلق صوته الخشن يغنى بتهكم
:- أهل الحب صحيح مچانين ... صحيح مچانين
لم تسطع الفتيات التحكم أكثر في ضحكاتهن التي انطلقت بمرح وخجل ومحروس يواصل غناءه بصوته الجهوري الخشن

*************

اجتمع ثلاثتهم حول مائدة الإفطار وهناك عدد من الفتيات يقمن بتنظيف المنزل رأسا على عقب
بدأ نصير في تناول إفطاره رغم انشغال عقله بوفاة والده والتخطيط لمواجهة أعمامه للحصول عل حقه الشرعي في الميراث بينما زوجته بجواره تأكل على مضض متأففة من كل شئ يحيط بها بعد أن تركت ابنتهما الصغيرة جالسة فوق ساقى جدتها تُطعمها بتأنى وصبر
قطعت ناعسة تسلسل أفكار ولدها حين قالت بصوت مشروخ من أثر البكاء على فقيدها
:- البنات جربوا ينتهوا من تنضيف الدور الفوجانى .. أطلع ريح چسمك شوي .. طول الليل بتسوج وما غمضش لك چفن يا ولدى
حرك رأسه ببطء علامة الموافقة بينما واصلت حديثها
:- رايداك تلبس چلباية أبوك وشاله اليوم في العزا .. الكل لازمن يعرف أن اللى خلف ماماتش واسم نصار هيفضل عايش
قطبت بُشرى حاجبيها ترمق حماتها باستياء قبل أن تهتف مستنكرة بتعالي
:- جلباية .. نصير مش بيلبس جلباية هو مش متعود على كده وبعدين كل الناس خلاص عرفت إنه ابن عمو نصار رجع ياخد عزا
ناظرتها ناعسة بتعجب تجادلها بتحيز لأصولها
:- وإيه العيبة في الچلابية .. ديه لبس أبوه وأچداده هيتنكر لأصله ولا إيه!!
لوت بُشرى فمها متأففة وقالت مجادلة
:- لا مش هيتنكر لأصله .. بس نصير متعلم يلبس جلابية ليه .. ده الأستاذ نصير نصار المحامى
عبست ناعسة في وجه بُشرى بعدم فهم وقالت مستفسرة
:- وإيه دخل العلام في اللبس .. كبرات البلد وأغنى ما فيها عنديهم أكبر شهادات وبيلبسوا چلاليب أش عچب يعنى
زفرت بُشرى وأتكأت بمرفقها فوق الطاولة تبرر
:- ده عشان هم عايشين هنا وواخدين على البس ده .. لكن إحنا جاين لمهمة محددة وخلصت خلاص وهنرجع بيتنا
حركت ناعسة رأسها بتعجب تتسائل وتوضح في نفس الوقت
:- خلصت كيف يا مرت ابنى ... ديه لسه المشوار طويل جوى .. ديه لسه حتى ما بدأش
زادت تقطيبه حاجبى بُشرى المنمقين والتفتت فجأة نحو نصير الذي يمسح على جبينه الذي يضرب به الصداع والألم ولا طاقة لديه للمجادلة والحديث معهما وهتفت برفض وهي تخبط بكفيها على سطح الطاولة بخفة
:- يعنى إيه الكلام ده يا نصير ... أحنا مش هنرجع مصر أحنا لسه هنقعد هنا ... أنا مقدرش على كده
زفر بإرهاق واضح وناظرها بعينين شبه مغلقتين من أثر الصداع والإرهاق الجسدى والنفسى وقال بنفاد صبر
:- أحنا مكملناش أربعة وعشرين ساعة في البلد وأنتِ مابطلتيش لحظة من الشكوى .. ارحمينى يا بُشرى شوية لسه في عزا وكلام في ميراث ونشوف هندبر حالنا بعدها إزاى
عضت باطن خدها من الداخل غيظا وتململت في جلستها بغل في حين ترك نصير الطعام ونهض من مكانه مصرحا بنبرة متعبة
:- أنا هطلع أريح شوية مش قادر أفتح عنيا من الصداع
رفعت ناعسة مقلتيها مشفقة مع حركة ابنها الواضح عليه الإجهاد وقالت بحنان
:- أطلع يا ولدى ربنا يريح بالك ويرضى عنيك
مال يلثم أعلى رأسها وكفه يربت على ظهرها مؤازرا قبل أن تهبط كفه تمسح على وجنة ابنته القابعة بين أحضان جدتها بحنان ويتلقى منها ابتسامة مشرقة تمسح بنعومة على آلامه ثم تحرك ليلتقط حقائب السفر الخاصة به وبزوجته وصعد للدور العلوي ومازالت بُشرى جالسة بمكانها تواصل تناول كوب الشاى الساخن خاصتها ببطء
حركت ناعسة عينيها نحوها ثم قالت بهدوء
:- اطلعى مع چوزك يا بتى .. يمكن يحتاچ حاچة .. تعب يا نضرى من عشية ... هملى كارما أمعايا
زحزحت كرسيها بساقيها محدثة صوت مزعج وهي تنهض بتباطؤ وقالت بضجر
:- أنا كمان محتاجة ارتاح وأنام
تحركت خلفه على درجات السلم تتأمل كل ركن من البيت الريفي القديم حتى وصلت للطابق الثاني ودلفت خلف زوجها من الباب المشرع ووقفت على عتبته تتابع الفتيات اللاتي أنهين عملهن وزوجها يشكرهن بامتنان على مجهودهن قبل أن تتحرك الفتيات مغادرات ونظراتهن الفضولية تتفحص بُشرى ببنطالها الجينز وبلوزتها السوداء القصيرة من الأمام وأطول قليلا من الخلف وهي تقف بعجرفة على عتبة الباب حتى خرجن منه
أغلقت الباب خلفهن ووقفت تتابع تفحصها لبهو الشقة البسيطة قبل أن تنعطف في الممر الجانبى وتبحث في الغرف الداخلية عن زوجها
وقف نصير بمنتصف غرفة النوم يفك أزرار قميصه ويخلعه بتباطؤ ثم انكب فوق حقيبته يفتحها والتقط منها منشفة كبيرة ألقاها فوق كتفه قبل أن يستقيم وهو يشاهد بُشرى تدور بعينيها في الغرفة باستنكار فقال بصوت مرهق خافت
:- فضى أنتِ الشنط وأنا هاخد دش في السريع وارجع أنام ... خلاص مش قادر افتح عينيا
دست كفاها في جيوب بنطالها الضيق ووقفت بميل تتأمله ولسانها يؤنبه رغم هدوء نبرتها
:- طبعا أنت مطبق من امبارح .. بس إزاى هتنام على الفرش ده ... الحقيقة البيت وحش أوى
سحب نفس طويل أخرجه ببطء وقال وهو يتحرك بخطى وئيدة ينهى النقاش قبل أن يبدأ
:- أنا مستعد أنام على الأرض بس أغمض عينيا
تخطاها نحو باب الغرفة فالتفتت معه تتابعه بصوتها مشيرة نحو الفراش الخشبي القديم
:- طب وأنا .. هنام إزاى .. المراتب ديه تلاقيها مليانة تراب وحشرات وقرف
توقف يوليها ظهره المتشنج ورفع رأسه مغمض العينين للسماء ثم قال بنفاد صبر دون أن يلتفت إليها
:- البنات نضفوا البيت قصادك .. طلعى ملاية نضيفة وافرشيها واستحملى شوية يا بُشرى أنا خلاص مش قادر
عضت على لسانها متذمرة وتابعت ابتعاده إلى الحمام بضجر ثم التفتت تتفحص سقف الغرفة وأثاثها قديم الطراز .. اتجهت إلى الفراش تتفحص المراتب والوسائد القطنية جاذبة المفرش النظيف الموضوع فوقه .. قلبت شفتها بامتعاض محدثة نفسها بغل
:- أما أشوف أخرتها معاك يا نصير

************

في مزرعة جاد للدواجن جلس داخل غرفة مكتبه الصغير يراجع بعض الحسابات والطلبات التي يجب عليه إعدادها حين تعالت نغمة هاتفه المحمول الموضوع بجواره
حول نظره نحو الشاشة ليرى اسم المتصل قبل أن يترك القلم من بين أصبعيه ويسرع للإجابة
:- عم إبراهيم ... وعليك السلام ورحمة الله وبركاته أتوحشتك يا راچل يا طيب
جاء صوت عم إبراهيم عبر الهاتف معاتبا
:- هتكدب عليا يا عريس .. ده أنت من يوم ما اتجوزت نسيت القاهرة واللى في القاهرة .. صحيح من لاقى أحبابه نسى أصحابه
ضحك جاد بخجل وقال يدفع عن نفسه هذا الاتهام بالتقصير
:- إزاى بس يا عم إبراهيم حد ينسى أحبابه .. ربنا العالم بعتبرك كيف أبوى تمام
جاء صوت إبراهيم عبر الأثير ممتنا
:- ربنا يكرمك يا ابنى .. المهم هشوفك قريب ولا لسه شهر العسل ما خلصش
ظهرت ابتسامة رجاء على ثغر جاد فالأشهر القليلة الماضية كانت أكثر حلاوة من مذاق الشهد على قلبه لذا قال بخفوت داعيا
:- ربنا يطول فيه كمان وكمان يا عم إبراهيم (رفع صوته بجدية مردفا) إن شاء الله الطلبية الجديدة هجبها بنفسى لحد عندك ولا تزعل يا راجل يا طيب
:- اتفقنا .. أشوفك على خير يا ابنى
أنهى مكالمته الهاتفية وعاد لينهى أعماله الورقية في حين دلف خضر المسئول عن المزرعة وجلس على الكرسى المقابل للمكتب الخشبي الصغير الذي يجلس جاد خلفه وقال بجدية
:- سلمت الطلبية وكله تمام لكن طلبوا دفعة فراخ چديدة (صمت لبرهة ثم قال باهتمام) ما شاء الله الطلبيات كتير بس الخوف لو فضلنا إكده مش هنجدر نوفى الطلبات
رفع جاد رأسه عن الأوراق الذي يطالعها وقال بجدية
:- إن شاء الله نوفى واللى مش هنقدر عليه هجيبه من مزرعة تانية .. المهم نحافظ على الزباين .. خلينا نسدد الأقساط اللى على المزرعة
حرك خضر رأسه مستعجبا بابتسامة ساخرة وقال معقبا على ما يقال عن جاد في القرية
:- والله لو الناس تعرف الأقساط اللى عليك والشغل اللى بتعمله .. مكنوش جالوا أمعاه جرشنات كد إكده
ترك جاد القلم فوق الأوراق وأسند ظهره إلى ظهر مقعده يتساءل بجدية عن حديث الناس الدائر حوله منذ عاد إلى القرية
:- وإيه اللى بيقوله في البلد يا عم خضر
شرع خضر في الشرح ببساطة اعتاد عليها في الحديث مع رب عمله الذي يتعامل بأريحية دون أي كبر
:- أنك أخدت التعويض من عيلة السمرى أنت وخواتك وبفلوسه عملت المشروع ديه
تنهد جاد بعمق فهو على علم بما يقال عنه في أرجاء القرية وخاصة بعد أن ناسب عائلة كعائلة البدرى وكل ما يخشاه أن يصيب هذا الحديث زوجته بأى ضيق أو سوء
أومأ برأسه موضحا وقد تذكر كيف تخلى عن أموال هذا التعويض الذي عاد بطرق ملتوية لأخيه حتى يرعى والدته وشقيقته وقال بتلقائية
:- فلوس التعويض تركتها لأمى وأختى .. واشتغلت سنين لحد ما عملت المشروع ده .. وأنت شاهد على ظروف شغلنا وإمكانياتنا المحدودة
مال خضر بجسده في اتجاه جاد متكأ بمرفقه على سطح المكتب الفاصل بينهما وناظره بتعجب يتساءل بحيرة وفضول
:- وليه ما اخدتش من فلوس التعويض ديه حجك .. وعيلة السمرى جابلة ومسامحة في الفلوس
لوى جاد فمه بشبه ابتسامة فقد كان يشعر بثقل هذه الأموال على كتفيه واجتهد ليعوضها من جهده وعمله وقال عن ثقة
:- عوض ربنا أجمل بكتير يا عم خضر ... وبعدين أنا كان غرضى اشتغل وابنى مستقبلى بنفسى وربنا جبر بخاطرى والحمدلله
هز خضر رأسه مؤمنا بعوض الله ثم واصل حديثه عن مسار هذه الأموال التي استفاد منها أقاربه
:- ربنا يزيدك يا ابنى .. ده أنا سمعت أن أخوك وولد عمك عاملين سوبر ماركت كبير جوى فى كفر ***
:- ربنا يوسعها عليهم
قالها جاد بعفوية ثم لملم الأوراق وأغلق الملف ووضعه في أحد أدراج المكتب الجانبية ونهض من مكانه مردفا
:- أنا رايح جنينة البدرى ومش هعاود على هنا .. لو محتاج حاجة كلمنى على الموبيل
نهض خضر بدوره يودعه ويؤكد على اهتمامه بالعمل
:- اتوكل على الله أنت وما تجلجش
ربت جاد على كتف خضر شاكرا وهو يهم بمغادرة المكتب قائلا
:- البركة فيك يا عم خضر

**************

:- وجعتك كيف وشك يا غراب البين أنت ... كيف تهمل الواد يجف يتحدد ويهزر والبنات وياك في العربية
صاح بها أحمد في وجه محروس بعد أن قص عليه تفاصيل ما حدث معه في الصباح فأنكمش محروس على نفسه بارتباك وحاول تبرير فعلته أمام نظرة أحمد الصارمة التي تزلزل أعتى الرجال قائلاً
:- روج بس يا أحمد بيه .. والله الراچل تمام وسيرته طيبة وعمرنا ما سمعنا عنيه أى شين .. ولامؤاخذة يعنى باينه عينه من واحدة من بنات چنابك
ضرب أحمد كفا بالأخر حتى لا ينهض يهشم رأس محروس ويتخلص منه مشيرا له بأطراف أصابعه صائحا بترهيب
:- ولما أنت فاهم إكده يا بنى أدم ... تهمله يجف يتفرچ ويتعاچب جصاد البنات يا بچم
ازدرد محروس لعابه بصعوبة وقد أدرك فداحة فعلته لكن نيته كانت خيرا خاصة إنه يعرف أخلاق الطرفين جيدا لذلك فرد كفه فوق صدره وقال يستسمح رب عمله بمسكنة
:- حجك على راسى يا أحمد بيه .. والله لو لمحته مرة تانية لدهسه تحت عچلات العربية من غير تفاهم
أرخى أحمد جفنيه مستغفراً طالبا من الله الصبر حتى لا ينهض ويجهز على روح هذا الرجل الماثل أمامه .. نفض طرف جلبابه زافرا بحنق قبل أن يناظر محروس بصرامة وقال بجدية
:- خلاص خلوصنا وإياك تتكرر تانى .. بموتك يا محروس .. فاهم بموتك
خبط محروس فوق رأسه عدة مرات معتذرا بصدق
:- على راسى يا بيه .. اللى هيفكر بس يجرب منيهم هتصرف أمعاه .. إن شاء الله حتى أطخه بالنار
صرفه أحمد بحنق بإشارة من أصابعه فأسرع محروس ينحني على كتف أحمد مقبلا باعتذار ثم انصرف مغادرا في لحظة وصول فاروق الذي ألقى السلام ثم جلس بجوار شقيقه يستفسر
:- خير .. الواد محروس معصبك ولا إيه؟؟
لم يلتفت أحمد نحوه وقال بملامح جامدة وهو يفرد ذراعه فوق ظهر الأريكة الخشبية
:- موضوع هايف وعدى
لم يزيد فاروق في السؤال فهو أعلم بطبع شقيقه الصارم لذلك أخرج علبة سجائره وقدم نحوه واحدة يشاكسه رغم نبرته الجدية
:- عفر وطلع اللى چواك
أدار أحمد رأسه نحو شقيقه بشبه ابتسامة ساخرة فكلمة (عفر) هذه قديمة جدا ولم تستخدم منذ زمن ... نزع السيجارة التي أخرج فاروق طرفها من العلبة ودسها في فمه فأشعل فاروق قداحته وقربها من طرف السيجارة يشعلها لشقيقه ثم أشعل واحدة لنفسه
جلسا في هدوء يتأملان الخيول التي تمرح في ساحة التدريب ويطلقان سحبا من الدخان في الهواء قبل أن يكسر فاروق حاجز الصمت قائلا
:- عرفت أنك صالحت عيلة أبو سويلم مع عيلة أبو عبية
أومئ أحمد بهدوء ووضح
:- كانت مشكلة بسيطة وربنا جدرنا على الصلح والحمدلله
استدار فاروق بجذعه نحوه شقيقه يتأمله بجدية ظهرت على نبرات صوته التي انطلقت بحماس
:- لاچل إكده بجولك لازمن تترشح لمچلس النواب
التفت أحمد تجاه شقيقه بدوره وعلى وجهه علامات الرفض للفكرة وقال بتلقائية
:- وليه يعنى ... أحنا بنعمل اللى يجدرنا عليه ربنا لوچه الله .. محنش ناجصين مركز ولا سلطة
زاد حماس فاروق وشرع في إقناع شقيقه
:- اسمع بس يا ولد أبوى ... نائب دايرتنا خلاص شبع من المنصب وهيتركه ويسافر لولده في أمريكا
تساءل أحمد بجدية :- هيتركه كيف يعنى .. وكيف علمت بالخبر ده
وضح فاروق بنفس الحماسة
:- الكلام بيتسرب يا أخوى .. وسمعت إنه مش ناوى يترشح للدورة الچديدة للمچلس
نفث أحمد دخان سيجارته في الهواء غير مهتم أو راغب في أي منصب يضاف إليه لذلك قال بلا مبالاة
:- فلنفرض يهمنا إيه .. وهتلاجى ألف مين يترشح مكانه
دهس فاروق طرف سيجارته في المنفضة الموضوعة على الطاولة أمامه وشد همته ليوضح وجهه نظره
:- اسمعنى بس .. أحنا صُح مش محتاچين سلطة وبنقدم كل اللى نجدر عليه من خدمات لبلدنا لكن ما يمنعش أن المنصب ده هيسهل حاچات ياما .. تصاريح وأوراج حكومية وغيرها ولا ناسى لم ابتدينا نبنى مركز الحرف لفينا ودورنا كد إيه ورا النائب لاچل ما نخلص الأوراج ... خدمة بخدمة بجى نسهل على نفسينا وعلى أهل بلدنا والكفور والنچوع اللى حوالينا
صمت أحمد مفكراً للحظات وعقله يرتب العديد من الأفكار المتلاطمة داخل بحور عقله قبل أن يقول بخفوت
:- سيبها على الله يا فاروج ... الدورة الچديدة قدامها أيام وشهور وأنا محتاچ أفكر زين في الحكاية ديه
اكتفى فاروق بهذه الإجابة وهو واثق من رجاحة عقل شقيقه وحسن تدبيره وقال بحماس وأمل
:- تمام ... فكر براحتك يا أخوى
رمقه فاروق بمكر واستطرد يحاول فك طلاسم أفكار شقيقه الكبير :- بس جولى إيه اللى شاغل فكرك يا أبو ضيا
ابتسم أحمد أخيرا بحنان للقب الذي يناديه به شقيقه وقال بخفوت وتفاخر أب ببناته
:- البنات كبرت يا فاروج والعين بجت عليهم
ضحك فاروق بمرح وانطلق يتحدث بشقاوة
:- أنت هتجولى .. ده كل يوم والتانى يچيلى واحد طالب الجرب وطالبين وسطتى لاچل ما توافج
قطب أحمد حاجبيه يناظر شقيقه بتعجب وتسائل بجدية
:- وليه مجولتش على الحكاية ديه جبل سابج
ناظره فاروق بشقاوة قائلا بمشاكسة
:- ما أنا عارف دماغك ورغبتك أن البنات تخلص دراسة الأول ... وكمان بصراحة بتنطط على العرسان .. أهوه بتدرب لما ياچى عرسان للجمر بتاعى .. ده أنا هطلع عينهم واحد واحد
ضحك أحمد بمرح وهو يضرب كفا بكف على تفكير شقيقه الذى أردف متوعدا بمرح
:- بجى ياچوا رايدين حته مننا وأحنا نجف ساكتين إكده .. لاه لازمن يلفوا حوالين نفسهم الأول
نجح فاروق في تبديل حالة شقيقه الذي قال بمرح يجاريه
:- الله يكون في عون اللى هيطلب يد جمر .. ده هيعانى الأمرين
نهض فاروق من مكانه ومال على شقيقه مشاكسا
:- أما نشوف أنت هتعمل فيهم إيه يا أبو العرايس ... مش بعيد تمسكهم السلك عريان
تضاحكا سويا قبل أن ينصرف فاروق مغادرا ويترك شقيقه يفكر في مسئولياته التي تتزايد فوق أكتافه يوما بعد يوم
تذكر فاروق خبر أخر قبل أن يغادر فتوقف واستدار تجاه شقيقه وقال بجدية :- على فكرة نصار الدهشورى اتوفى عشية وادفن فى الفچرية واچب نروح نعزى فيه
أومأ أحمد مؤكدا وقد وصله الخبر من قبل
:- نتجابل بعد صلاة المغرب ونروح العزا بالمشيئة

************

ألقى جاد السلام على عوض حارس حديقة الفاكهة و تقدم بخطوات وئيدة إلى عمق مزرعة البدرى وسيل من الذكريات ينساب على مخيلته النشطة دائما
هنا أول مرة وقعت فيها عيناه على مرأى معشوقته ومن حينها سلبت لبه وفؤاده .. وهنا أيضاً رفض المهندس جلال البدرى زواج جاد العامل البسيط الذي كان يعمل لديه باليومية من شقيقته الصغرى الطبيبة البيطرية والمعيدة الجامعية
هنا واجه نفسه ومكانته الحقيقية والتي لن تزول بصمتها عنه أبداً مهما وصل من مكانة بجهده وتصميمه ولولا روح متمردة تمكنت من معشوقته قطر الندى التي قررت التمرد على قوانين اجتماعية لا تقوم على أساس صحيح من وجهه نظرها
ولولا تمسكها بالارتباط به بعد أن أدركت مدى عشقه وهيامه بها في لحظة رومانسية ألمت بها لما وافق جلال على الزيجة بعد إلحاح استمر لشهور طويلة أظهر فيهم جاد حسن نيته ونقاء سريرته وعشقه اللامشروط
وصل جاد بالقرب من عشة الخوص التي يفضل جلال الجلوس بها، كان يجلس هناك أمام طاولة خشبية يشاركه بها مصطفى ناظر الحديقة ويقومان ببعض الأعمال التنظيمية والحسابية
ألقى جاد السلام عليهما وهو يتقدم نحوهما ببطء وأثر عرج خفيف يظهر في مشيته .. انتبهوا إلى وجوده وهم يردون السلام عليه والذي أعاده مصطفى مصححا باحترام
:- مرحب يا چاد ... جصدى يا أستاذ چاد
ابتسم جاد ببساطة ورد على مصطفى وهو يقف أمامهما مباشرة
:- خلى البساط أحمدى يا عم مصطفى
قال مصطفى الذي كان جاد يعمل تحت أمرته في يوم من الأيام
:- تستاهل كل خير يا ولدى
تدخل جلال في الحديث أخيرا بعد أن رفع بصره عن الدفتر الكبير الذي يعمل به وقال وهو يشير نحو العشة القريبة منهم
:- اتفضل أشرب شاى يا جاد .. خمس دقايق وجايلك
أومئ جاد واستدار نحو العشة ودلف إليها يتجول بعينيه في جنباتها ثم جلس بجوار راكية النار يضع إبريق الشاى فوق النار المشتعلة كما كان يفعل منذ عهد بعيد كعامل فقير في الحديقة
دلف جلال بعد عدة دقائق يُرحب مجددا بزوج شقيقته وجلس بجواره على المساند الإسفنجية الموزعة على أرضية العشة الترابية المفروشة بالبُسط البسيطة من الحصير المغزول
مال جاد يصب كوبا من الشاى الساخن ويقدمه نحو جلال الذي تناوله شاكرا بتلقائية
:- شكرا يا جاد… ده واجب عليا
رد جاد بابتسامة خفيفة مؤكدا إنه لا ينسى مكانته مهما حدث
:- العفو يا باشمهندس العين ما تعلاش عن الحاجب
ابتلع جلال رشفة من الشاى الساخن وهز رأسه بجدية قائلا بنبرة واثقة جادة
:- بلاش الكلام ده يا جاد أحنا نسايب دلوقتي يعني عيلة واحدة ولو أني حاسك واخد جنب وبعيد شويه عننا
أخفض جاد رأسه قليلا يتأمل سطح مشروبه الساخن بتفكر فهو غير قادر على الاندماج والذوبان بينهم كأسرة واحدة رغم جو الألفة الذي يشعر به بينهم إلا أن حاجزا نفسيا داخله يذكره دائما إنه العامل البسيط لديهم ذو الملابس الرثة المتسخة
رفع رأسه قليلا وقال بنبرة خافتة معتذرا
:- لا مؤاخذة يا باشمهندس .. ده شرف ليا إنى أكون فرد من عيلة البدرى بس يعني.. يعني آآآ
رفع هامته بحرج يناظر وجه جلال الذي يحملق به متفحصا ككل مرة يلتقيان فيها وكأنه يعيد تقيمه كل مرة ويقيس مدى ملاءمته لشقيقته حتى بعد أن تم زواجهما بالفعل .. قال جلال بتفهم لبعض ما يدور في رأس زوج شقيقته
:- مش قادر تنسى أننا رفضنا جوازك من ندى في الاول .. مش كده!!
لم يجيب جاد وإنما عاد ينكس رأسه من جديد، ارتشف جلال بضع رشفات من كوبه ثم استطرد حديثه بجدية
:- أعتقد أنت كنت متوقع موقفنا الرافض من البداية وده شئ طبيعي أننا نختار الأنسب لبنتنا حسب قيم المجتمع .. الأنسب في كل حاجة ويا ريت ما تزعلش من صراحتى يا جاد
أنهى كلماته بنبرة ذات مغزى وهما يناظران بعضهما البعض، فهم جاد ما يرمى إليه جلال من اختلاف في عدة جوانب بينه وبين زوجته وخاصة الجانب المادى والتعليمى
فأومأ برأسه متفهما وأكد بكلمات خافتة خاصة إنه على علم بما يقال عنه في جنبات القرية الصغيرة
:- فاهم يا باشمهندس وحقك طبعا .. أي حد مكانك هيفتكر إني طمعان فيكم .. بس ربنا أعلم باللي في القلوب
ربت جلال على ساق جاد بخشونة رجولية وقال يغير مجرى الحديث فما حدث قد كان وعليهما التكيف مع الوضع الحالى
:- انسى يا جاد أحنا ولاد النهارده .. قولي أخبار شغلك إيه؟
تنفس جاد بعمق ثم يفرد ظهره وبدأ في الاندماج بالحديث مع صهره في سير العمل ومدى تقدمه أو ما يقابله من صعوبات حتى وصل إلى فترة صمت زاغت فيها عيناه خارج حدود العشة الصغيرة يتطلع إلى الأشجار الوارفة ويعيد ترتيب أفكاره ليتحدث في الغرض الأساسى من زيارته
تنحنح بخفة ثم قال بنبرة مترددة
:- كنت عاوز أكلمك في موضوع خاص يا باشمهندس
انتبه جلال له بكل حواسه محدقا في وجهه في انتظار حديث جاد الذي تنحنح من جديد ثم قال بحرج
:- بالنسبة للسواق اللي مع الدكتورة
قطب جلال حاجبيه بتعجب غير مستوعب للمشكلة التي يوشك جاد الإفصاح عنها فالسائق أمين ومن أهل الثقة منذ عمل معهم من سنوات .. واصل جاد موضحا على استحياء
:- قصدي يعني مرتبه … كان غرضي آآ
قاطعه جلال بجدية وقد فهم ما يقصده جاد دون المزيد من الكلمات فأسرع بالتوضيح حتى لا يظن جاد أنه يتلقى أي مساعدة مادية منه شخصيا
:- مرتبه بتدفعه ندي من يوم ما اشتغلت في الجامعة
نهض جاد من مكانه وقد ظهرت حالة من الانزعاج على قسماته وهو يدافع عن كرامته كزوج مسئول عن كل ما يخص زوجته
:- وليه يا باشمهندس هو أنا مش هقدر أصرف عليها
دار حول نفسه يواجه جلال الذي مازال على جلسته وقال بضيق وهو يضغط على صدره بكلتا يديه بانفعال واضح
:- أنا صحيح مش غنى وماملكش كتير لكنى بحاول ... والله بحاول بكل جهدى عشان أوفي كل طلباتها وأوفر لها الحياة اللى هي تستحقها
راقب جلال حركات وسكنات جاد واستشعر حيرته كرجل يرغب في توفير الأفضل لأهل بيته رغم ضيق رزقه لذا نهض جلال وزفر ببطء يعطى مساحة سكون لجاد ليستعيد هدوءه قبل أن يقول جلال وهو يريح كفه فوق كتف جاد
:- أنا فاهم تفكيرك ومقدر مشاعرك كويس .. لكن عاوزك تفكر معايا كده .. هو لو الست شاركت جوزها في بعض المسئوليات المادية برغبتها الكاملة ده هينقص من رجولة الزوج شئ
أمال جاد رأسه يحدق في وجه جلال الذي يقف بمحاذاته بتفكير والذي واصل حديثه بشئ من المرح
:- لو تفكيرك كده .. مكنش أى راجل قبل أن مراته تساعده في متطلبات الحياة .. لكن الوضع الحقيقى على أرض الواقع في زمنا ده أن كل ست بتشتغل بتشارك مع جوزها في بيتهم ... بيتهم يا جاد .. بيت واحد بيضم شخصين المفروض أنهم كيان واحد .. ولولا المشاركة بينهم يمكن مكنتش المركب هتمشى في بيوت كتير
ابتعد جلال عدة خطوات حتى وصل على عتبة العش المتواضع يجول بنظره في الأشجار والزروع من حوله مردفا بنبرة من يعلم جيدا
:- وبالنسبة لندى فهي يا دوب بتقوم بمصاريفها الشخصية ومش بتساهم في البيت بشئ .. وأنا نفسى قبلت أنها تتولى مرتب السواق بناء على رغبتها الشخصية في الاعتماد على نفسها يعنى الحكاية من قبل ما أنتوا تتجوزوا .. هي محتاجة تشعر بكيانها واستقلاليتها في شوية حاجات صغيرة ... ليه لأ فليكن
دس كفيه في جيبى بنطاله ولوى جذعه يناظر جاد الذي يقترب من الداخل ليقف بجواره مستطردا عن وضع زوجته بدورها
:- وعلى فكرة الدكتورة لينا كمان قايمة بمصروفاتها الشخصية وده مش بيقلل من رجولتى ولا كرامتى .. حتى إسلامنا نفسه جعل للمرأة ذمة مالية منفصلة ومن حق كل زوجة التصرف في أموالها بالشكل اللى يريحها
استدار بكليته يواجه جاد ومد ذراعه يريحه على كتف جاد بلطف وخاطبه كمن يخاطب شقيقه الصغير
:- بلاش الحساسية الزيادة ديه يا جاد وركز في شغلك ومستقبلك وماتقفش على كل كبيرة وصغيرة مع الستات
أردف بابتسامه مرحه غامزا له بشقاوة
:- نصيحة من واحد متجوز قبل منك ومجرب .. لازم تتغاضى عن بعض الصغائر عشان الدنيا تمشى .. ولو وقفت على كل كبيرة وصغيرة مش هتخلص من حوارات وجدل ومناقشات الستات عن تحرير واستقلالية المرأة .. اهرب بجلدك أحسنلك من كل ده
ارتفعت ضحكات جلال المرحة فشاركه جاد على استحياء في بادئ الأمر قبل أن ينفتح قليلاً ويمد كفه لتتلاقى مع كف جلال بمرح قبل أن يواصلوا حديثهم بحميمة وألفة بدأت تنشأ بحكم المصاهرة بينهما
*************

عند مخازن الغلال كان يقف هناك يتابع بعض الأعمال القائمة ومن خلف ظهره كان يتقدم محروس أمام زائر خاص جاء في مقابلة شخصية هامة
ترك محروس الشاب الذي يرافقه وأسرع الخطى نحو رب عمله المشغول فيما يفعل ملقيا السلام بحماس قبل أن يمط جسده قليلا وهمس ببعض الكلمات في أذن أحمد ليبرأ ذمته أمامه ويثبت جدية الشاب
:- الأستاذ أيمن طالب مجابلتك يا أحمد بيه ... أهوه چه لحد عنديك كيف ما جال الصبحية
لوى أحمد عنقه قليلاً ينظر من فوق كتفه نحو الشاب المتأنق القابع خلفه بابتسامة عريضة ثم عاد بنظره نحو محروس وقال برزانة
:- خده وضايفه في المجعد لحد ما أخلص اللى في يدى
:- أمر چنابك
هتف بها محروس وأسرع عائداً نحو أيمن الذي تردد في المغادرة في البداية ووقف يتابع ما يفعله أحمد السمرى الذي واصل عمله بكل بساطة متجاهلا ما يحدث خلف ظهره
مد محروس ذراعه أمامه يوجه أيمن إلى مقعد الرجال بترحاب
:- اتفضل يا أستاذ أيمن أحمد بيه هيخلص شغله ويجابلك .. اتفضل
تحرك أيمن بخطى متخاذلة مع محروس بعد أن أصابه الإحباط من مقابلة أحمد الجافة له
مر بعض الوقت وأيمن في المجلس يتململ بمفرده على أحر من الجمر حتى ظهر أحمد قادما من جهة المخازن يتقدم بثقة وهيبة فطرية يمتلكها هذا الرجل .. هيبة دفعت أيمن ليقف مكانه بتوتر في استقباله يرسم ابتسامة متذبذبة متوجسا من هذا اللقاء الحاسم في حياته
تقدم أحمد من مقعده الخاص في مجلس الرجال وترك أيمن يقف مكانه دون أن يدعوه للجلوس جزاء على ما حدث منه صباحا في حضرة بناته
فرك أيمن كفيه وازدرد ريقه بصعوبة وقبل أن يستجمع شجاعته ليتحدث كان صوت أحمد الصارم يهز المكان مع نظرة عين صارمة أثارت الرهبة في جسد أيمن
:- طبعا چاى تتأسف على اللى بدر منك الصبحية
أطرق أيمن خجلا وصمت لبرهة يحاول استعاده ثباته وصوته الهارب قبل أن يقول بخفوت
:- أنا آسف يا عمي بس آآ
رماه أحمد بنظره حارقة وصاح في وجه الشاب بازدراء قاطع :- أنا مش عمك
توقفت الكلمات في حلق أيمن الذي ازدرد ريقه حرجا ثم أعاد صياغة كلماته وكفه مفروده فوق صدره تأسفا
:- أقصدي يا أحمد بيه .. أنا آسف بس غرضي شريف والله
تفحص أحمد بإمعان وقفة الشاب المرتبكة ووجهه الممتقع وقال بحزم
:- الله في سماه لولا أن أبوك راچل طيب ما تطلعش منيه العيبة كنت اتصرفت أمعاك تصرف تاني
أسرع أيمن مؤكدا وهو يضع كفه المفرود على صدره من جديد وهو يميل بجذعه قليلا يحاول الحصول على العفو والسماح من كبير البلدة
:- وأنا طالع له والله … طيب وابن حلال ومحتاج فرصة… فرصة واحدة يا عمي
رماه أحمد بنظره محذرة من تكرار كلمة (عمى) رسم بعدها أيمن بسمة صغيرة شاحبة على ثغره وقال باستكانة
:- أحمد بيه ممكن أقعد واتكلم مع حضرتك شويه
أشاح أحمد بيده في الهواء ليسمح له بالجلوس باستعلاء فتفاجأ بأيمن يتقدم نحوه ويجلس على أقرب المقاعد إليه ثم شرع في وصف صفته ودراسته مباشرة
:- أنا يا عمي .. آآآ يا أفندم بشتغل في شركة مقاولات كبيره أوي في المحافظة وأصلا خريج تجارة إدارة أعمال وحاليا ماسك ماليات مشروع كبير أوي تبع الشركة .. رغم اني لسه متخرج من تلات سنين لكن الحمدلله اثبت جدارتى وثبت أقدامى في الشغل
رماه أحمد بنظره لا مبالية بكل ما يقوله ثم قال ببرود وهو يخرج علبة سجائره وينشغل في إشعال إحداها
:- خلصت كلامك
زم أيمن شفتيه بقنوط وقال يستدر عطفه
:- يا أحمد بيه .. اللي حصل الصبح لإني كنت عاوز أعرف مواعيدك حضرتك وآآآ
قاطعة أحمد بشئ من الحدة ينفى صدق حديثه وهو ينفث الدخان من فمه
:- مكاني ومواعيدي معروفة للبلد كلاتها .. وبابي مفتوح للكل مش محتاچ سؤال
نكس أيمن رأسه حرجا فمن هو ليظن نفسه قادر على خداع أحمد السمرى .. هو حقا كان يتحين الفرصة ليحظى بنظره في وجه محبوبته، لذا قرر أن يعترف بخطئه بملء إرادته وكذا يفصح عن مطلبه فقال بصوت خافت معتذرا
:- أنا آسف .. حماس الشباب خدني.. وزي ما قلت لحضرتك أنا غرضي شريف وطالب القرب من حضرتك
نفث أحمد دخان سيجارته في الهواء وقال ببرود متعمد
:- وأنا معنديش بنات للچواز دلوك
تململ أيمن في مكانه تجاه أحمد فمال بجذعه أكثر نحوه بشكل خطير فلم يعد يفصل بينهما سوى أذرع مقاعدهم التى تتشبث أصابع أيمن بهما وقال بحماس مؤكدا على طلبه الغالى على قلبه
:- انتظر.. انتظر لغاية الوقت اللي حضرتك تشوفه مناسب
رمقه أحمد بزاوية عينه بتعالى ورغم شعوره بلهفة الشاب المحمومة إلا إنه قال باستخفاف متعمد
:- ديه على أساس إنك العريس الوحيد اللى طلب يد واحدة من بناتى
انتفض أيمن في مكانه متذمرا وعبر عن قلقه بوضوح ونبرة متوجسة
:- ما هو ده اللي مخوفني ... أنا متأكد أن خطاب بنات أحمد بيه السمرى كتير عشان كده قولت لازم أخد خطوه ..خطوبة .. فاتحة .. كلمة حتى ... اللي حضرتك تأمر به
هز أحمد رأسه بشبح ابتسامة متهكمة وقال ساخرا
:- بدك تحچز يعني
ضحك أيمن بمرح غير مستوعب إن أحمد يستدرجه في الحديث
كاختبار له فأجاب باندفاع
:- يا ريت يا عمي أنا شاري أوي أوي والله
هز أحمد رأسه من جديد ببطء وهو ينظر لطرف سيجارته المشتعل قبل أن يطفأها في المنفضة القابعة أمامه فوق الطاولة وقال بصوت جاد دون أن ترتفع نبرة صوته التي جمدت الدماء في عروق أيمن
:- الحچز ديه في السيما ولا في جطر الصعيد .. مش في الچواز من بنات الناس يا ... يا ولد الأصول
اتسعت مقلتى أيمن فزعا حين أدرك خطأه وأسرع لتصحيح كلامه
:- والله فاهم يا عمي … فاهم وقصدي خير
زعق أحمد في وجهه بحمائية وغيره على بناته اللاتي يوشكن على مغادرته إلى بيوتهن لبدء حياة جديدة
:- أنا مش عمك … وقصدك الخير ده نساك الأصول يا ولد الأصول .. وبعيدها من تاني على ودانك أهاه .. معنديش بنات للچواز لحد ما يحصلوا على شهاداتهم .. فهمت الحديت ولا نجول من تانى
تكورت عينى أيمن بقلة حيلة وحاول التحدث من جديد مجادلا
:- بس يا عـم … يا عـ..يا أحمد بيه
:- الحديت انتهي
قالها بحزم لا يقبل الجدل فتنحنح أيمن بحرج مطأطأ الرأس وقال خاضعا رغم إصراره على توضيح غايته
:- حاضر .. أمر حضرتك بس أنا والله مش طمعان أنا والدى مدير عام في وزارة الزراعة وعندنا حتة أرض بنأجرها .. غير بيتنا الملك ولسه المستقبل قدامى
لم يجيب أحمد أو يهتم بحديث الشاب المتلهف فهو على علم تام بأهل الشاب وتربيته ودراسته بالفعل .. ازدرد أيمن ريقه ببطء وهو ينهض محبطا وقال مؤكدا بتصميم
:- أنا مش هيأيس وهرجع لحضرتك تانى ... السلام عليكم
رمقه أحمد بطرف عينه أثناء مغادرته، يقيمه ويفكر في مدى صلاحيته في القرب والارتباط من إحدى بناته الغاليات

***********

ارتفعت نغمة الهاتف المحمول تتخلل غيامات نومه الثقيل المتعب بعد إرهاق ساعات طويلة، فتح جفنيه بصعوبة بمواربة وأصابعه تتحسس الكومود بجواره بحثا عن هذا المزعج الذي مازال يصدح بصوت يدق داخل رأسه ألماً
قبض عليه أخيرا وجاهد ليفتح قدر أكبر من جفنيه ليتعرف على هوية المتصل ثم أعتدل جالسا فوق الفراش وهو يتنفس بقوة طاردا أثار النوم ولف جذعه يتأمل زوجته الغافية بجواره قبل أن يجيب بصوت أجش من أثر النوم
:- أيوه يا أمى .. لا صاحى .. صحيت خلاص
قالها وهو يفرك فوق عينه بقبضة يده محاولا طرد أثار النعاس عن رأسه ثم أجاب بطاعة
:- حاضر هفوق وأنزلك على طولك
أغلق المكالمة مع والدته ونظر في ساعة هاتفه فوجد الوقت تعدى وقت العصر كما أخبرته والدته وعليه الإسراع ليتناول طعامه ويستعد لتلقى العزاء في وفاة والده
وضع الهاتف المحمول مكانه واستدار فوق الفراش يهز كتف زوجته برفق ليوقظها فحركت كتفها بنفور وانزاحت بجسدها بعيدا عن مجال ذراعه وهي تهمهم بكلمات رافضة للنهوض
رفع كفيه يفرك بهما وجهه بخشونة وأزاح الغطاء من فوق جسده ثم نهض من مكانه متحدثا بصوت مرتفع يحث بُشرى على النهوض
:- اصحى يا بُشرى .. العصر أذن يا دوب نصلى وناكل لقمة
تأففت بصوت عالى وتدحرجت فوق الفراش حتى تنظر نحوه وهي مازالت ممدة مكانها وقالت ممتعضة
:- اصحى وأنا عرفت أنام أصلا .. المرتبة زى الحجر (تأوهت بغنج وهى تستقيم بجذعها) ضهرى اتكسر وكتفى وجعنى آآه
أجابها برفق دون أن يلتفت نحوها وهو يعبث بمحتويات حقيبتهم التي لا زالت في مكانها :- معلش استحملى شوية
رفع جذعه عن الحقيبة وفي يديه بعض من ملابسه مستطردا بتأفف
:- ما تفضى الشنطة ديه يا بُشرى .. أنا مش عارف أطلع منها حاجة
هبت فوق الفراش جالسة وصاحت باستنكار
:- افضيها ليه ... أحنا لسه هنقعد هنا مش هنرجع بلدنا
استدار لها بكليته يرميها بنظره تعجب وقال مؤكدا
:- ديه بلدى
زحفت فوق الفراش ونزلت بقدميها الحافيتين إلى الأرض هاتفه برفض
:- بس مش بلدى أنا يا نصير ... ومش مرتاحة هنا وعاوزه أرجع بيتى
:- هو أحنا لحقنا .. ده أحنا مكملناش أربعة وعشرين ساعة
عقدت ذراعيها تحت صدرها تحرك قدمها بعصبية قائلة برفض
:- أنا مش عاوزه أقعد .. تعبت وقرفت من المكان هنا
تكلم بصوت حازم قاطع يوقف تطاولها على منزل والديه ودلالها الذي لا ينتهى
:- بُشرى .. فكرى في كلامك قبل ما تقوليه والبيت والبلد اللى بتعيبى فيهم دول أنا وأمى وأبويا منها .. ما تستغليش صبرى عليكِ
زفرت بضيق وهي تفك ذراعيها وقد أدركت أن الحمائية الصعيدية قد ثارت في رأس زوجها وعليها المهادنة حتى تصل إلى غرضها
رسمت ابتسامة رقيقة مع نظره عاشقة، تتقدم نحوه بدلال وأناملها ترتفع لتعبث في شعيرات صدره النافرة من طرف فانلته الداخلية وقالت بغنج وهي تضم نفسها إليه تدعى الرقة والمسكنة
:- أنت عارف قصدى يا بيبى .. وعارف إنى مش هستحمل الحياة الخشنة ديه .. جسمى اتكسر من السرير يا بيبى يرضيك حبيبتك تتعب ومش تنام ... ده عذاب والله
رفع كفيه يتحسس ذراعيها برفق محاولا احتواء رفضها .. تنفس بقوة وحاول توضيح ما عليه فعله من واجب تجاه والده الراحل مهادنا
:- استحملى شوية .. أحنا لسه واصلين وورانا واجب لازم نعمله .. ده غير ميراث أبويا وحقه اللى لازم ناخده
ضمت نفسها أكثر إلى صدره وقلدت صوت البكاء
:- يعنى مش هنمشى دلوقتى .. وأنا مش هنام كل ده .. حرام عليك والله
زفر بنفاد صبر وحاول السيطرة على أعصابه قائلا بهدوء ظاهرى
:- هتنامى زى ما كنتى نايمة دلوقتى يا بُشرى .. ويلا بقى عشان نلحق ناكل ونجهز نفسنا للعزا
تركها وابتعد عنها قليلا فدارت خلفه تستوقفه هاتفة بامتعاض
:- عزا .. ليه هو أنا هاجى معاك
قطب جبينه واستدار يرمقها بتعجب قائلا ببديهية
:- طبعا ده عزا حماكى .. إزاى ماتحضريش الناس تقول إيه
:- محدش يعرفنى هنا
قالتها بإصرار دفعه ليجيب بعصبية واضحة وقد نفد صبره عليها
:- لكن يعرفونى أنا .. ويعرفوا إنى متجوز وواجب مراتى تكون جنبى
تذكرت ابنتها لتجعل منها ذريعة لعدم الذهاب لهذه المراسم التي تكرهها فقالت مهادنة
:- لكن يا نصير البنت ... أخاف تتفزع من السواد والصويت اللى هيكون هناك
تعمق في مقلتيها اللتان تحاولان التأثير عليه ليرضخ لها ولكنه قال بإصرار
:- تقعدى مع البنت وحاولى تمهدى لها الوضع وليه الستات لابسه أسود وتراعيها وأنتِ هناك .. الناس هتقعد تستمع للقرآن الكريم يعنى مفيش صويت ولا غيره
التقط ما يريده من الحقيبة وقذفه فوق كتفه قبل أن يتقدم نحو باب الغرفة ثم توقف واستدار لها يقول محذرا بصرامة
:- وتلبسى لبس محترم يا بُشرى .. لا بنطلون ملزق ولا جيبه قصيرة .. أنا مش فايق لخناقات كل يوم
غادر الغرفة نحو الحمام بينما بُشرى تجز على أسنانها بغضب وهى تركل الحقيبة بقدمها غيظا

*************

استغرقوا بعض الوقت في تناول الطعام ثم صعدت بُشرى لتستعد هي وابنتها لحضور العزاء مع زوجها جبرا بينما ظل هو في الطابق السفلى مع والدته
تعالى صوته بعد فترة من الزمن مناديا على زوجته حتى تُسرع في النزول إليه ليتحركوا نحو منزل أعمامه في البلدة المجاورة لتلقى العزاء
هبطت بعد دقائق ممسكة بكف طفلتها الصغيرة وتفاجأت بوجود شخص غريب يرتدى جلباب أسود وعمامة ناصعة البياض يقف موليا ظهره لها ويتحدث مع والدة زوجها
تباطأت خطواتها بتوجس وعينيها تدوران في المكان بحثا عن زوجها ولكنها ما لبثت أن جحظت مقلتاها وفغرت فمها ذهولا حينما أدركت أنه زوجها .. الأستاذ الأنيق والمحامى الناجح، كيف له أن يظهر بهذا المظهر البدائى
أسرعت نحوه ودارت حوله تكذب عيناها وهي تتفحص ملامحه في هذا الجلباب الصعيدى والعمامة المعصوبة حول رأسه وجبهته هاتفه باستنكار واضح على تعابير وجهها
:- إيه اللى أنت عامله في نفسك ده .. معقول يا نصير أنت محامى محترم لك اسمك ووضعك ولا تاجر في سوق الخضار .. يلا بسرعة أقلع الهدوم ديه .. ده مش من مستواك
ضربت ناعسة كفها فوق الآخر الموضوع على بطنها وقالت بحنق
:- مستوى إيه ديه اللى بتتحددى عنيه ... مالها الچلابية أصله ومنشأة ولبس أبوه أچداده .. مين فات جديمة تاه يا مرات ابنى
استدارت نحو ناعسة تهتف بحنق مماثل وهى ترفع أصبعها في الهواء محذرة
:- لو سمحتى يا طنط .. لو سمحتى أنا بكلم جوزى
أما نصير فلم يهتم لحديث زوجته المتذمرة وإنما تشاغل بطفلته الصغيرة التي وقفت تتأمل امتداد قامته الفارعة بهذا الزى الجديد عليها .. ضمت كفاها إلى فمها ضاحكة بمرح فمال عليها يحملها فوق ذراعيه ولثم وجنتها بشغف قبل أن يسألها باهتمام بالغ
:- إيه رأيك في أبوكِ يا كارو .. حلو ولا وحش؟
ضحكت كارما بمرح ومدت ذراعيها تحاوط عنقه بحب فطرى هاتفة بصوتها الطفولى المحبب
:- حلو يا بابى .. شبه عمو اللى بيجى في التليفچن
ضحك نصير بمرح وقال يداعبها بأنفه مطلقا ضحكاتها الطفولية المرحة
:- ذئاب الجبل ولا نسر الصعيد
كانت زوجته تراقبه بغضب وغيظ دفين وهو يتجاهل حتى الرد عليها وغارق في تدليل ابنته .. بضع لحظات مرت ثم حرك عينيه نحو بُشرى يتفحص ملابسها ببطء بتنورتها الطويلة التي تصل لمنتصف قصبة ساقيها التي يلفها جورب أسود وشعرها المعقوص بعقدة مرتخية خلف عنقها وبلوزة سوداء واسعة
أنهى تفحصه بزوجته وحين وافق على ملابسها مد عينيه خلفها إلى والدته وقال بجدية
:- يلا يا أمى .. هنتأخر
قالها وهو يتحرك من فوره صوب الباب الخارجى متجاهلا غضب زوجته المتجمدة مكانها تحترق غيظا وهو يحدث ابنته ويخبرها إلى أين هم ذاهبون وكيف سيكون الوضع هناك حتى لا تخاف أو تخشى شيئا وماذا عليها أن تفعل وخلفه تحركت والدته بعباءتها السوداء الأنيقة وحقيبة يدها الجلدية الثمينة حتى وصلت إلى باب المنزل واستدارت إلى زوجة ابنها تحثها على التقدم
:- يلا يا مرات ابنى .. هتنك (ستظلى) واجفة إكده كتير .. يلا
تقدمت بُشرى على مضض فلا جدوى من الجدال الآن بعد أن غادر زوجها بالفعل إلى السيارة ضاربا برأيها عرض الحائط
حين وصلت بجانب حماتها التي تقف على باب المنزل .. مالت عليها ناعسة تقول بهدوء خافت
:- ولدى ابن أصول راضع من صدر أمه وعمره ما أستعر من أصله .. بطلى أنتِ تحاولى تغيرى فيه لأنك مش هتجدرى تمشيه على كيفك ومزاچك ... ولدى راچل ورأيه من راسه وأظن أنتِ خابره ديه زين دلوك بعد سنين چوازكم ديه كلاتها
غادرت ناعسة المنزل بثقة وتفاخر بإبنها الوحيد وبُشرى تشيعها بنظرات نارية حانقة وألف سبة ولعنه تلقيها عليها داخل عقلها قبل أن تغادر بدورها لتلحق بهم

***********

في داخل السيارة كان نور الشمس قد شرع في المغيب ولكن الرؤية لازالت واضحة، وقفت كارما تطل من خلال النافذة على المساحات الشاسعة للأراضى الزراعية ثم صاحت من المقعد الخلفى بجوار والدتها والتفت نحو والدها الذي يقود السيارة بعقل مشغول .. يقوم بترتيب أفكاره ووجهه عابس الملامح من فرط التركيز .. قاطعه هتاف كارما المتحمس
:- شوف يا بابى الجنينة ديه كبيرة أوى
انتبه من شروده على صوت ابنته المحمل بالفرح والانبهار ولوى عنقه قليلا للخلف حيث تقف ابنته في ظهر مقعده تأمل ملامح زوجته الممتعضة وهو يجيب ابنته يصحح لها
:- ديه مش جنينة يا كارو .. ده غيط .. أرض زراعية بنزرع فيها كل الخضروات اللى بناكلها
رددت خلف والدها بصوتها المحبب لقلبه
:- غيت .. واااو
عادت لتجلس بجوار والدتها تهتف بحماس وهي تمد يدها الصغيرة للخارج :- شفتى الغيت يا مامى
صبت بُشرى بعض من حنقها على ابنتها الصغيرة هاتفه بلهجة حادة
:- اقعدى بقى يا كارما وبطلى رغى
انغلقت ملامح الفتاة وكتفت ذراعيها بتذمر طفولى في حين نظر نصير داخل المرآة الأمامية يزجر زوجته بنظراته ثم مال يحدق في ملامح والدته التي تجلس بجواره شاردة مع نفسها
وصل أمام منزل أعمامه وصف سيارته جانبا بجوار الصوان الكبير المقام لعزاء الرجال في الخارج ثم شرع في مساعدة الجميع في الترجل من السيارة، تأملت بُشرى المنزل الكبير الذي يشبه القصور ومالت على نصير تهمس إليه بانبهار
:- ما بيت عيلتك فخم وكبير أهوه .. ليه مقعدناش هنا
:- وأسيب بيت أبويا وأمى ليه؟
أجابها بتلقائية عفوية فردت مباشرة معلنة من جديد عن تذمرها من منزل والديه المتواضع
:- وماله ده ماهم أهلك بردوا .. وفخم ونضيف أهوه .. ده قصر مش بيت
حدق في وجهها بنفاد صبر فهي لا تعلم بما بين أعمامه ووالديه فقال يُنهى الحديث
:- اصحى من أحلامك يا بُشرى الله يكرمك
جزت على أسنانها ساخطة تحدث نفسها بضيق
:- أحلامى .. أحلامى .. طول عمرك فقرى
على أعتاب قصر عمه وقف فراج يستقبل نصير وأسرته بملامح جامدة لا تشى بشئ وبعد سلام بارد تبادله الرجلين دلفت النساء للداخل بينما قال نصير بجدية وثقة في طلبه الذي يعد جزء من وصية والده
:- ممكن أقابل مرات أبويا وأخواتى البنات قبل ما العزا يبدأ
حدق فراج في وجهه ببرود كنبرة صوته وهو يقول
:- وبدك إيه منيهم .. هما مش رايدين منيك شى
تنفس نصير بعمق قبل أن يقول بإصرار
:- حتى ولو مش عاوزين منى حاجة .. أحنا أخوات ويربطنا دم واحد ولا إيه يا ... يا ابن عمى
تفحصه فراج بعدائية واضحة ثم قال باستخفاف
:- خليك مكانك لحد ما أخدلك الأذن .. ده لو وافجوا
دقائق مرت ثم عاد فراج ليصطحب نصير لداخل المنزل
*********

داخل منزل أعمامه كان هناك لفيف من النساء المعزيات يجلسن في البهو وعديد من عاملات المنزل يتحركن بينهن بنشاط لتقديم واجب الضيافة
بنظرة سريعة التقط موضع جلوس والدته وزوجته واطمئن على ابنته التي جلست ملاصقة لجدتها ولوحت له بهدوء فابتسم لوجهها بخفة وهو يواصل تحركه خلف فراج الذي اصطحبه لغرفة جانبية قريبة من المدخل وأغلق الباب خلفهم
داخل الغرفة كانت فتحية زوجة والده جالسة بمقعد وثير وشقيقتيه تقفان بجوارها
تقدم نحوهم يلقى السلام بحميمية بينما وقف فراج متكتفا بجوار الباب يتابع ما يدور باهتمام
بالكاد حصل على همهمات توحى برد السلام ولكن هذا النفور لم يمنعه من التقدم أكثر ليقف أمام شقيقاته مباشرة يتطلع في وجوههن لأول مرة على الطبيعة وليس من خلال الصور الذي كان والده يعرضها عليه ..حتى وقت الجنازة لم يتمكن من النظر في وجوههن جيدا بسبب الضغط النفسى الذي كان يقع تحته
استقرت نظراته على زوجة والده المشيحة بوجهها المتجهم بعيدا عنه وقال بنبرة مهذبة جادة
:- يا ست فتحية أنا والدى الله يرحمه كان وصانى عليكم من بعده .. ولو احتاجتوا أى حاجة أنا تحت أمركم
أخرج بطاقة تعريف من جيبه أثناء حديثه وقربه منها مردفا
:- ده رقمى وعنوانى في مصر وطبعا أنتوا عارفين عنوانى هنا .. أنا تحت أمركم في أى حاجة
التفت إلى شقيقتيه اللتان تتأملانه عن قرب وخاصة الفتاة الصغيرة منهما :- أحنا أخوات .. دم واسم واحد
هتفت فتحية في وجهه وهى تشيح بيدها رافضة التقاط البطاقة منه
:- وأحنا هنحتاچ منيك إيه .. أحنا لا نعرفك جبل سابج ولا رايدين نعرفك من أصله
أشاحت بوجهها بعيدا عنه تزمجر بعصبية
:- الله يسامحه بجى نصار مُطرح ما راح
تأملها نصير بصمت حتى تفاجأ بالبطاقة تنتزع من يده من الخلف فاستدار قليلا ليجد فراج يمزقها بين يديه وهو يقول بعدائية واضحة
:- أهى خالتى جالتلك مش رايدين منيك شى .. هما ما عدموش الرچالة .. ولا أنت مش خابر إنى چوز أختك
حدق فيه نصير بحدة ثم حرك رأسه نحو نجلاء شقيقته الوسطى في الترتيب والأولى للزوجة الثانية لأبيه .. بالطبع يعرف أنها تزوجت منذ عدة شهور قليلة من ابن عمها فراج فوالده كان يواليه بالأخبار دوما حتى لا ينفصل عن جذوره .. قال نصير بصوت مرتفع نسبيا بعصبية
:- عارف أنك جوزها لكن ده ما يمنعش إنى أخوها وهفضل أخوها على طول ومفيش حاجة هتغير الحقيقة ديه
لوى فراج شفتيه بابتسامة صفراء وقال متهكما
:- كتر خيرك .. لو احتاچنا منيك حاچة هنخبرك ولو أن ديه مش هيحصل واصل
تبادل الرجلان نظرات حانقة قبل أن يفصل نصير عينيه عن فراج وحدق في زوجة والده التي أشاحت بوجهها بعيدا عنه من جديد ثم رفع رأسه إلى شقيقتيه ... نجلاء زوجة فراج .. ومريم الصغيرة التي تدرس في الثانوية العامة هذا العام ورغم البرود الظاهرى الذي يطل من عيونهما إلا أن هناك مشاعر أخرى خفية متذبذبة تخالط نظراتهن فقال لهما بلين ومودة
:- أنا عارف أن مش ناقصكم حاجة .. لكن علاقة الأخوة مش محتاجة سبب عشان نتواصل ونقرب من بعض .. أنا دايما عينى هتكون عليكم وهعرف أخباركم أول بأول زي ما كان أبويا دايما بيوصل لى أخباركم .. أنتم وصية أبويا اللى هنفذها بحياتى
أنهى حديثه وهو يعيد نظره لفراج بتحدى ثم تحرك مغادرا الغرفة وخلفه فراج لينتقلا إلى الصوان المنصوب بالخارج ويضم الرجال لتلقى العزاء في الفقيد
مع بداية مراسم تلقى العزاء وقف عزام كبير عائلة الدهشورى أولا بجواره شقيقه الأوسط ماهر يليه نصير ويجاوره فراج ابن عمه ماهر ثم بقية أبناء الأعمام من الجهة الأخرى
بدأت تلاوة القرآن الكريم فساد السكون واستمع الجميع بخشوع وبعد قراءة أول ربع من القرآن الكريم توقف الشيخ قليلا للاستراحة
أسرع أحد رجال أعمامه ومال على أذن كبيرهم هامسا قبل أن يصرفه عزام ثم يميل على شقيقه يخبره بخفوت وصل إلى أذن نصير المجاور لهما :- ولاد السمرى وصلوا
حدق نصير خارج الصوان يراقب السيارة الفخمة التي توقفت بالقرب وترجل منها رجلان يبدو عليهما الهيبة
اقتربا مباشرة من الصوان ولحق بهما سائق السيارة يتبعهم بتأدب، دلف الاثنان إلى الصوان ومد أحمد السمرى يده يصافح عزام ويقدم له واجب العزاء ثم ماهر وكذلك فعل فاروق السمرى
توقف أحمد أمام نصير الذي لم يتعرف على شخصيته بعد فعرف نصير نفسه باحترام لهذا الرجل مهيب الطلة وهو يمد كفه ليصافحه
:- نصير الدهشورى .. ابن المرحوم نصار الدهشورى
هز أحمد رأسه بوقار فمن في البلدة لا يعلم قصة نصار وزواجه الأول وعودة ابنه إلى بيت والده الذي يقع بزمام أرض السمرية
:- عظم الله أچركم يا أستاذ نصير
:- شكر الله سعيكم يا فندم
التفت أحمد نحو الرجال الجالسين داخل الصوان ورفع يده يلقى السلام عليهم بعد أن هبوا وقوفا احتراما وتقديرا لشخصه وردوا عليه السلام قبل أن يتوجه إلى الجهة المقابلة لعزام وشقيقه وجلس بأحد المقاعد وفاروق بجواره أما محروس فدلف إلى منتصف الصوان وجلس مع بعض الرجال الذي تربطهم به معرفة
راقب نصير تصرفات أولاد السمرى ولمس مدى تأثيرهم على الناس خاصة مما يعرفه عنهم من حديث والديه السابق عن بلدته لذا تقدم من مجلسهم وجلس في المقعد الخالى بجوار أحمد وقال بتأدب يوجه حديثه لأولاد السمرى
:- رغم الموقف الصعب اللى أحنا فيه لكن يشرفنى اتعرف على حضراتكم .. والدى الله يرحمه كلمنى عن عيلة السمرى كتير
أجاب فاروق على حديثه بوقار
:- كان راچل طيب وفي حاله .. ربنا يرحمه ويغفرله
قال نصير بتهذيب ولباقة خاصة إن منزله يقع في نجع السمرية
:- أنا طبعا مش على علم كامل بالعوايد هنا .. لكن كان واجب أن أبلغ حضراتكم أنى فتحت بيت أبويا وآآآ
قاطع أحمد السمرى الحديث بهدوء وقور مؤكدا على علمه بما يجرى في زمام قريته
:- وصلنا الخبر وأهلا بك وبالست والدتك .. ده داركم ومش محتاچين أذن تدخلوه
أجابه نصير باحترام يستشعره نحو هؤلاء الأشخاص
:- أنا قولت لأنه في زمام أرض السمرية فواجب أستأذن
ربت أحمد على ساق الشاب بقوة قائلا بجدية
:- دارك ودار أبوك ولك حرية التصرف فيها .. ولو احتچت لأى شئ أسأل أى حد في البلد ألف مين يدلك على دار السمرية
أمال رأسه احتراما قائلا بلباقة يتقنها
:- غنى عن التعريف يا افندم .. ربنا يكرمكم بالأذن
أستأذن نصير وعاد إلى مكانه بجوار أعمامه ولا يدرى أن أعينهم كانت تراقبه طوال الوقت وهو يتقرب من السمرية

*************

قـــراءة ممتـــعة في انتظار تفاعلكم وتعليقاتككم

Continue Reading

You'll Also Like

53.1M 2.1M 88
The world had gone to hell long ago, taken over by the vampire race. In order to keep some sort of peace in our land, the Vampire Lords made a consec...
21.6M 786K 89
When she was 14, Dalia was sold to Matteo Martinelli, the former leader of the largest Italian mafia. Flash forward with his son, Vittore Martinelli...
17.5M 549K 37
"It's like he's a different breed of werewolf. Something... beyond us." • • • Adrienne Gage has spent her entire life being shunned and punished for...
55.8M 1.6M 47
When Franny learns why former popular boy Tyler fell from grace, she gets thrown head-first into his dangerous world but also closer to his timid hea...