الفصـــل الثانى

189 9 4
                                    


تتهادى تلك السيارة السوداء فوق الطرقات الترابية الواصلة بين القرى والنجوع في أرض الجنوب
بعدما تركت الطريق السريع الممهد بين المحافظات والتفت لتتوغل إلى عمق هذه المحافظة حيث القرى النائية .. مسقط رأس والديه
يبدد ضوء كشافاتها القوى العتمة الحالكة المحيطة بالسيارة ويضيء لها الطريق،
طريقا لابد أن تسلكه هذه الأسرة الصغيرة مُسيرة غير مخيرة فيه .. مسيرة حزن وفقد
يقبض قائد السيارة على المقود بعصبية واضحة تزداد كلما أقترب من هدفه
وهو يسارع الوقت ليصل في الوقت المناسب
ملامحه عابسة ولا ندرى أهو عبوس التركيز في هذا الطريق الوعر حالك الظلام أم عبوس التوجس من العودة إلى الجذور ..
أم ربما عبوس حزن ووداع لفقيد غادر الحياة على حين غرة
على يمينه امرأة خمسينية شديدة البنيان يطل من مقلتيها التحدي والعزم ممزوجا بالدموع
والحزن وهي توزع نظراتها على بيوت القرية السابحة في سكون الليل بملامح جامدة،
شاردة فيما هم مقبلون عليه .. لقاء مؤجل لم ترغب يوماً فيه رغم اشتياقها لأرضها الأم
أما في مقعد السيارة الخلفي فهناك تقبع هذه الشابة العشرينية تضم طفلتها الصغيرة النائمة
ذات الأربع سنوات مستسلمة لقدرها الذي ربطها بهذه العائلة
فصارت أحد أفراده سواء شاءت أم أبت
رباط مقدس قيدها مع هذه الأسرة وهي الغريبة عن هذه الأرض وهذه العادات
لكنها معهم الآن رغم رفضها لهذه الرحلة المفاجئة ولكنها رغبة زوجها وعليها الطاعة ولو على مضض ...
فزوجها يرفض الابتعاد عن طفلته الصغيرة المستسلمة لنوم هادئ مطمئن بين أحضان والدتها
ارتجت السيارة بشكل خطير على هذه الأرض الوعرة الملتحفة بالظلام
لتطلق بُشرى التي تجلس في المقعد الخلفي صرخة فزعة وهي تضم صغيرتها بشدة
إلى صدرها حتى إن جفني الصغيرة تحركتا بثقل قبل أن تعاود النوم من جديد بين أحضانها
صاحت بُشرى بخوف يسيطر عليها من هذه الرحلة الإجبارية
وهي التي لم تترك أرض العاصمة يوماً
:- كان لازم يعنى نسافر فى عز الليل كده
حاول زوجها نصير الجالس في مقعد السائق السيطرة على ثبات السيارة قدر الإمكان
متحاشياً الصخور والحصى الصغير المنتشر على الأرض الترابية
بينما قالت والدته التي تجلس بجواره بقوة وثبات شامخة الرأس
:- ما تخافيش يا مرت ابنى .. ديه أرضنا عارفنا وعارفينها ..
واعرة وصلبة كيف عزيمتنا لكن لا يمكن تأذينا
اخفضت صوتها قليلاً تواصل حديثها لنفسها إلا أن صوتها الهامس وصل إلى مسامع ولدها الوحيد
:- الأذى بياچى من نفوس البشر
رمقها نصير بنظرة جانبية خاطفة عاقد الجبين قبل أن يواصل تحديقه
في الطريق بعقل شارد وقلب محمل بالهموم
.. على غير رغبته يسير في طريق لا يعرف نهايته ولا يعرف إلى أين يؤدى
ولا إلى ما سيؤول إليه مصيره ومصير أسرته المعلقة في عنقه
سربلهم الصمت المهيب كظلام الليل المحيط بالسيارة وثلاثتهم في حالة شرود
كلا يسبح في أفكاره الخاصة بين شابة متخوفة من نمط الحياة الجديدة المقبلة
عليه وسيدة محملة بمشاعر الحزن وفقد الزوج ورغبة وعزم في استعادة حقوقها المسلوبة
أما الرجل فكان يجتمع برأسه كل هذه الأفكار والمسئوليات معا والذي عليه مواجهتها وحده .. منفرداً ..
تخطت السيارة إحدى القرى النائمة بسكون ليتعداها إلى طريق أكثر وعورة
في اتجاه جبل شامخ يطل من بعيد .. مظلم مهيب وشامخ
بعد وقت قصير كان قد وصل إلى النجع الذي يرقد تحت ظلال الجبل ..
يتوغل بين المنازل بتؤدة بعد أن هدأ من سرعة تقدم السيارة يبحث بعينيه عن منزل والده القديم
الذي خرج منه هاربا بصحبة والدته في ظلام ليلة مماثلة منذ ما يقرب من العشرين عاماً
مدت والدته الجالسة بجواره ذراعها تشير نحو منزلها القابع في نهاية هذا الشارع البسيط الترابى
وبنبرة متألمة تحمل من الحنين والألم الكثير من ذكريات قديمة لم تغادر رأسها يوماً
:- الدار أهاه يا نصير .. دارى
تلفتت حولها تتأمل المنازل المتراصة إلى جانب بعضها والتي زحفت خلال الأعوام الماضية
حتى وصلت إلى حدود منزلهم الذي كان يقف وحيداً بالقرب من الجبل
وأردفت وكأنها تحدث نفسها
:- دور كتير اتبنت حواليه ... ما بجاش وحيد كيف ما كان ..
كان بعيد عن كل الخلج اتقاء شرهم لكن الشر لحجنا وين ما نروح
حرك نصير مقلتيه يميناً يحدق في ملامح والدته التي يختلط فيها علامات التجهم مع الألم
والحنين ولم يُعقب على حديثها بل تركها مع ذكرياتها وحديثها النفسي
لعلها تُخرج بعض ما تحمله في قلبها من آلالام
توقفت السيارة في نهاية هذا الشارع حيث تقبع الدار التي ولد بها
وعاش بها سنوات طفولته الأولى حتى تجاوز السابعة من عمره ...
ترجل من السيارة يدور بنظراته على المباني المحيطة والأرض الزراعية
بجوار الدار والتي تمتد بعدها رمال تتصل بسفح الجبل
عاد بنظراته المتأملة حيث تقف والدته التي ترجلت بدورها تتطلع في المنزل القديم المهجور
الذي بدأت فيه حياتها كشابة يافعة وعاشت فيه لسنوات طويلة في كنف زوجها المحب هي وولدها الوحيد
التقت نظراتها مع مقلتي ابنها فمنحها ابتسامة ضعيفة وأومأ لها برأسه مشجعا
قبل أن يتحرك نحو المنزل، يعتلي درجاته القصيرة ويخترق الشرفة الخارجية الواسعة له
ثم توقف أمام الباب الخشبي الضخم ذات الشرعات الزجاجية المشروخة
أخرج المفتاح من جيب بنطاله ودسه في ثقب الباب تحت ضوء القمر الفضي
وحاول فتحه بروية ولكن القفل لم يستجيب فتعامل بشئ من القوة
يسحب الباب عليه بأصابعه التي تخللت القضبان الحديدة على الشراعة الزجاجية ..
يعالج القفل الصدأ ببعض الحذر
لمح خيال يتخطى ظلام الشرفة ويتوقف جواره فأدار رأسه ليلمح والدته تقف عن يمينه
ومدت ذراعها لتفرد كفها فوق الباب الخشبي الباهت
تحتضن أخشابه وزخارفه بعيون مبللة بحنين الماضى ويبدو أن الدار قد حنت لساكنيها
وتعرفت عليهم فاستجاب القفل الصدأ تحت أصابع نصير لينفرج الباب أخيراً على مصراعيه

غيـوم البـعادWhere stories live. Discover now