قيثارة ديامنتس|| The Harp of...

By Nadwatt4

248K 11.7K 10.6K

هو ابن عائلة ديامنتس اليونانية التي هيمنت منذ قرون على سوق الألماس العالمية، لكنّ الجانب السوداوي من عائلته ا... More

قيثارة ديامنتس
الرشفة الأولى: ديامنتين
الرشفة الثانية: أهلا بكِ في جحيمي
الرشفة الثالثة: هاديس
الرشفة الرابعة: العبث بالنار
الرشفة السادسة: غسق
الرشفة السابعة: شعلة
الرشفة الثامنة: طوفان
الرشفة التاسعة: قناع فالنتيا
البتلة الأولى: بيرسيفوني

الرشفة الخامسة: مسك الروم

15.2K 1K 640
By Nadwatt4

توغّلت فضللت
و صرعت بزعاف زهرك المسموم
تنسّمت فثملت
و انتشيت بعبير مسك الروم

💎

🎶𝑷𝒍𝒂𝒚𝒍𝒊𝒔𝒕:
𝑆𝑖𝑎 - 𝐻𝑒𝑙𝑖𝑢𝑚
𝐿𝑖𝑛𝑑𝑠𝑒𝑦 𝑆𝑡𝑖𝑟𝑙𝑖𝑛𝑔 - 𝐶𝑎𝑟𝑜𝑙 𝑜𝑓 𝑡ℎ𝑒 𝑏𝑒𝑙𝑙𝑠

💎

أحمق متخاذل...
هذا بالضبط ما أحس به في اللحظة التي خبت فيها الأصوات و عمّ فيها هدوء ما بعد العاصفة التي اضمحلّت برحيلها الدرامي الباكي!

هل كان اتصال مدير الملجأ بمثابة لكمة مؤلمة أشعرته بالوضاعة... أجل!
و هل كان ليحسب حساب لحظة كهذه و هو يتقمص دور المنتقم و يقتلعها من موطنها ليقحمها في قلعته المظلمة بين الثلوج؟ بالتأكيد... لا!

تلاحقت أنفاسه الغاضبة التي ما فتئت تضطرم مع ادراكه أن غضبه من نفسه و ليس منها... كما يفترض له أن يكون! لكنّها تجرّأت و فتحت قمقمه مجددا نافضة الغبار عن مشاعر تخص ذاته القديمة التي من المفترض انها ماتت بموت قدميه!

"- روز لم تستحق هذا!"

و جاء ذلك الصوت مترجما لتأوهات ضميره المكتوم!
التفت ليصطدم بعيني مايكل اللائمتين و هما ترشقانه بأحكام أزعجت كبرياءه و أضرمت بداخله غضبا جديدا غامت به عيناه فأدار كرسيه ليقابله بكليّته هادرا فيه بجموح شادّا بأسنانه على كل كلمة:

"- "الآنسة" روز... و كل ما يخصها... لا يندرج ضمن شؤونك!"

و لم يكن واثقا ما الذي حاول اثباته بضغطه على حروف الكلمة الأولى... لكنّه كان ممتنّا من لجلجة مايكل الذي خرس ملتزما الحدود التي سيحرص من هنا فصاعدا على أن يلتزم بها الجميع! و أوّلهم تلك التي لن يجعل فعلتها اليوم تمرّ مرور الكرام!

"- و الآن اختفوا من أمامي!"

هتف يصرف الجميع من حوله بنزق قبل أن يستدير ليدلف الى البيت... واضعا نصب عينيه وجهة واحدة...

اقتحم غرفتها مترفّعا عن طرق بابها غير آبه بالاستئذان فقابله الصّمت بدل الصّيحة الأنثويّة التي كان يتوقّعها... فتوقّف أمام سريرها ناظرا حوله بعصبيّة... ثمّ وصله صوت المياه من الباب المقابل فالتمعت عيناه بالإدراك: قطّته الهاربة تنظّف نفسها من أدران مشوارها السريّ خارج الأسر الذي عادت له بقدميها!
طحن ضروسه بانفعال ما زال يكتنفه منذ أخبرته الخادمة بخروجها... عندما ناداها معوّلا على وجودها المضمون فصعق بكونه لم يكن كذلك!

تحرّكت حواسه عندما التقطت أنظاره كومة ملابسها الملقاة أمامه على الأرض بإهمال خوّل له أن يرى بعين خياله حالتها العصبيّة و هي تنتزعها عن جسدها قطعة قطعة بينما تشتمه بكلمات فرنسيّة مثيرة!
اشتعل وجهه فمال يلتقط بلوزتها الزرقاء عن الأرض ليعتصر قماشها داخل قبضته بقسوة كما لو أنّه يعتصر خصر صاحبتها الدّقيق... إلّا أنّ قبضته ارتخت فجأة... و تلجلجت تقاسيمه لتنقشع القسوة منها و تتوهّج ببريق غامض... غير مفهوم!

تشتّت لرؤية تلك اللطخات المتفرّقة لآثار طحين و صلصة طماطم وشت بما تعرّضت له هذه البلوزة طيلة يوم كامل من العمل الشّاق... لطخات أعماه غضبه عن التفطّن لها بالأسفل عندما كان يستقبلها بوحشيّته الجديدة التي تتفجّر من داخله عندما يتعلّق الموضوع بها هي دونا عن سواها... هي القادرة على أن تثير بداخله في الثانية الواحدة ألف رغبة بقتلها... ثمّ تفعل في الثانية التالية شيئا... فتثير فيه ألف رغبة أخرى... و من النّوع الذي لا تحمد عقباه!

"- تعبثين بالنار... مِس كاستيل!"

هدر بهسيسه الحارّ فوق بلوزتها الملطّخة بآثار طيبتها... تلك الطّيبة التي استشفّها من عينيها ذات يوم في حديقة منزلها و هي تبتسم له و تخبره باسم قطّتها... تلك الطّيبة التي يريد سحقها و قتلها و مسحها عن الوجود حتّى يتسنّى له تمزيق قلب روميلي روز دون أن يئنّ ضميره محتجّا!

"- ليس من المفترض أن أشعر تجاهك بهذا!"

ليس من المفترض أن يشعر تجاهها بال... عطف؟! أجل... هو عطف و شفقة إضافة للكثير من الخزي الذي تفرضه عليه رجولته المجبولة منذ الأزل على احترام و مراعاة رقّة الجنس اللطيف... ناهيك عن ترهيب احداهنّ و معاملتها معاملة السّبية!

اهتزّت حدقتاه فوق بلوزتها تزامنا مع اهتزاز اقتناعه بما كان يمليه عليه عقله من حجج واهية سخيفة يعلم في قرارة نفسه أنها لا تكفي لتبرير اهتمامه بمشاعر امرأة لا تستحقّ... لا تكفي أبدا!

اتّقّد كيانه النّاقم فانكمشت قبضته الغليظة مجدّدا على بلوزتها التي نفث فوقها أنفاسه الحارّة المحتدمة باختلاجات متباينة حدّ الألم! و لم يكن يدري... أنّه سيكبو بذلك العنف على أعتاب قماش صوفيّ أزرق كان منسدلا قبل لحظات على جسد خمريّ نحيل!

خبيثة مثلها... تلك الرائحة!
أغمض عينيه يستنشق عبق البلوزة الذي تناثر من بين مسامات قماشها المتسّخ يتحدّى روائح العجين و الصلصة و يخترق أنفه الذي تهاوت حصونه فاتحة المجال لغزو مستقبلاته الحسيّة... غزو عطر فطريّ هشّ... واهن...

"- مِسك الروم..."

غمغم مغيّبا و هو يتذوّق عطر خلايا جسدها بأنفه و يسبر تركيبته الرّقيقة النّاطقة بنعومة مكنونة... نعومة كفيلة باستفزاز كل روح رجوليّة خشنة متعطّشة للهوى و الحميمـ...

"- تبا..."

هدر شاتما بهلع حقيقي و هو ينتفض من غيبوبته كالملسوع قاذفا بالبلوزة بعيدا... و عندما توقّفت أصوات المياه... ارتجّ فوق كرسيه متخبّطا داخل حميم خواطره الجامحة... و ما لبث أن استدار منسحبا من المواجهة باستسلام مؤقت... لكنّه لم ينس رشق باب حمامها الذي سيُفتح في أية لحظة بنظرة خاطفة مغتاظة برطم على اثرها بنقمة:

"- تبا لكِ!"

ــــــــــ

صباح يوم الغد...
رشّ بضعة رشات من قنينة عطره المفضل واضعا اللمسة الأخيرة على اطلالته الرياضية الأنيقة بلا تكلّف... ثمّ رفع ساعته يتحقق من الوقت فقطب ملامحه بغيظ و حاد برأسه تلقائيا نحو باب غرفته الذي لم يتم طرقه بعد!

ابتسم بشيطنة و هو يخرج الجرس من جيبه ليشرع برنّه بقوّة أحدثت صخبا مزعجا داخل رأسه لكنّه لم يأبه... فنظرة صباحية مغتاظة من عينين لوزيتين تستحق و بشدة!

رأى الباب يُقتَلع بعد لحظات لتتم تلبية النداء و تظهر له صاحبة العينين... عندها توقف عن تعذيب الجرس شاغلا نفسه بتأمل ملامحها المنزعجة الفزعة و هي تهبّ نحوه هاتفة باستنكار:

"- ماذا حدث؟!"

شمل هيأتها بنظرة تقييميّة مرّرها على تفاصيل ثوبها الشتوي الكريمي البسيط ثمّ عاد ليتوقف بها في النهاية على جديلتي شعرها المنسابتين على كتفيها فقطّب ملامحه بغيظ و رفع حاجبا واحدا و هو يهتف مشيرا لها بحركة من يده:

"- اقتربي"

تجمّدت ملامحها بصدمة لحظيّة بدّدت حنقها فشابكت أصابعها بتوتّر أثار أعصابه مما جعله يهتف مرة أخرى بقلة صبر:

"- قلت اقتربي!"

عضّت باطن شفتها بجلادة و ثبات انفعالي بدا على وشك الانفراط و هي تقترب بخطوات مكرهة لتقف أمامه بملامح ثائرة... ثم تشهق بفزع على حين غرة حين سحبها من يدها لتخرّ على ركبتيها أمامه!

"- ماذا تفعل؟!"

صاحت باستهجان و هي تحاول تفادي يديه اللتين عرفتا طريقهما لجديلتيها لتعيثا فيهما فسادا و تفكا تشابكهما بفعل أصابعه الشريرة التي تغلغلت في لمح البصر داخل خصلات شعرها فأعجزتها عن التراجع!

"- فكي هذه الضفائر!"

"- معتوه! أترك شعري!"

صرخت باستهجان و هي تضرب يديه و تنخرط معه في اشتباك طفولي سخيف انتهى بتراجعها الى الخلف بذيلي حصان منكوشين نائمين على كتفيها بينما هو يهدر باستفزاز:

"- تأخرتِ خمس دقائق و أنت تجدلينه! فكيه!"

رشقته بسهام من عينيها الغاضبتين و قد ارتفعت يداها لتمسدا على ذيلي حصانها تعيد ترتيبهما لاهثة بانفعال و هو يتابع الهذر بينما يعيد ترتيب خصلات شعره التي نكشتها هي الأخرى:

"- حتى تفهمي أنه لا شيء في هذه الحياة أهم مني! ان قلت ستكونين ماثلة أمامي في تمام الساعة الثامنة فستفعلين دون تأخير!"

ضربت الأرض وضمّت قبضتها مزمجرة بغضب نجح مرة أخرى بافلاته من عقاله فابتسم بشيطنة و هو يعدّل ياقة كنزته الرياضية الزرقاء التي بعثترها أصابعها و يقول مغيّرا الموضوع ببساطة:

"- كنت سأقول تجهّزي لأننا سنخرج لكن بالنظر لتسريحة اليوم المدرسي الأول هذه التي تكبدتِ عناءها أرى أنك جاهزة بالفعل!"

رسمت على وجهها ابتسامة مستهينة خالية من المرح و هي ترفع يديها عنادا به لتزيد من احكام الشريطتين الحمراوين اللتين زينتا شعرها و نجتا بأعجوبة من جلافة أصابعه بينما تقول بثورة:

"- إلى أين سنخرج؟"

"- احداهن قامت بالسطو على مخبزي بالأمس لتطعم أطفال ملجأ انترلاكن و نحن ذاهبون الآن ليتم استجوابنا بخصوص الأطفال الذين أصيبوا بحالة تسمم بسبب البيتزا التي أكلوها من يديها"

و انطفأ وهج التحدّي الذي كان ينضح من وجهها فنضا منه اللون و عاوده الشحوب!

"- ت... تسمم!"

همست لاهثة باختناق و تفاجأ بالسرعة التي تجمعت بها الدموع في عينيها و هي تتأتئ بفزع:

"- لا يمكن! لا يعقل! ك.. كيف..."

زمّ شفتيه ملتزما صمتا مستفزّا بينما ينقر بأصابعه على ركبته بهدوء مثير للتوجّس فضيّقت عينيها بتحقق قبل أن تشهق صائحة بنقمة:

"- أنت تكذب!"

"- بالطبع أنا أكذب! لو كنتِ سمّمتهم فعلا لما كنت تكبدت عناء الخروج من بيتي و لكنت الآن أحتسي قهوتي الصباحية في المطبخ بينما أستمتع بمراقبة أعوان الشرطة و هم يقودونك بالأصفاد الى خارج الفيلا"

رفعت يدها لقلبها تحتوي نبضه الذي هيّجته كذبته الحقيرة كما اهتاجت في عينيها الدّموع، فرفع حاجبيه هازئا و اردف بسخرية سوداء:

"- أووه! هل أخافتك مزحتي السخيفة؟ لا تقلقي لم تخطئي مرة أخرى... ما زلت حتى الآن ضحيتك الوحيدة"

تهدّلت عيناها بحزن واضح للأعمى... و بدا كما لو أن لسانها تحرّك ليقول شيئا لكنها أحجمته في اللحظة الأخيرة مخيّرة الصّمت... فزفر نفسا ثائرا أجلى به اختلاجات مريرة عصفت بصدره... ثمّ نفض عن رأسه كل خاطرة مزعجة و هتف بها آمرا:

"- اجلبي معطفك و الحقي بي"

ــــــــــ

بعد ساعة... انترلاكن...
كان قادرا على الاحساس بها و هي تسير بجانبه متأخّرة عنه بخطوة بعد أن تم استقبالهما من قبل الادارة أحر استقبال و حان الوقت للقائهما بالأطفال.
تجاوزا البهو الذي شكر الله ألف مرة أن عتبته المرتفعة كانت مزوّدة بممشى أملس خوّل له الصعود بمفرده دون أن تراق كرامته تحت عجلات كرسيه البائس! فصادفتهما نافذة كبيرة المطلّة على ما كان يبدو أنها غرفة الطعام... هناك حيث تجمّع عدد لا بأس به من الأطفال حول طاولة طويلة ضخمة بانتظار وجبة الفطور...

تفتّح وجهه بابتسامة تلقائية سرعان ما اضمحلّت ما أن التقت عيناه بعينيها المبتسمتين... و ما كان منه سوى أن تنحنح بجدّية متكلّفة ثم أخذ نفسا عميقا و تقدّمها الى الدّاخل...

"- روووز!"

لم يتسنّ له استيعاب تلك الصّرخات الطفولية التي تكاتفت في صوت واحد... و لم يتسنّ له حتّى ردّ تحيّة العاملة لأنه وجد نفسه على حين غرّة متأرجحا وسط حشد من الشياطين الصغيرة التي كادت تسحقه في طريقها الى تلك الواقفة خلفه!

"- تبا!"

شتم بلغته الأم و هو ينقذ نفسه متراجعا الى الخلف ليتطلّع فيها مصدوما و قد وقفت في منتصفهم تقبّل ذاك و تحتضن الآخر هاتفة ببهجة:

"- صغاري! كيف حالكم؟!"

تشتّت و تبعثر و تفاقمت حيرته و هو يلاحق طيفها المختفي وسط الأطفال... و جلّ ما فكّر فيه هو أنه كان ليخيّل للبعيد أنّها طفلة مثلهم... بشرائطها الحمراء و ضحكاتها الجذلة التي كان قد نسي تفاصيلها... أو بالأحرى يجهلها! فهو لم يرها تضحك بهذا الانشراح قطّ!

"- ديامنتس!"

شهقة طفولية مذهولة شتتت تركيزه و اقتلعت عينيه عنها... عندما التفت ليصطدم بعينين متوسّعتين طالعه بهما صاحبهما الصغير بذهول نضح من صيحته التي انبثقت قبل أن يحس أندرياس بذراعيه الصغيرتين و هما تلتفان حول رقبته بجذل مجنون:

"- أندرياس ديامنتس! لا أصدق أنني أراك أمامي!"

انكمش قلبه و تذبذبت أنفاسه فوق كتف الطفل الذي ارتمى بين أحضانه بلا مقدّمات... عندها امتزجت عيناه بعينيها مجددا... روميلي التي اعتدلت لتراقب الوضع بملامح فترت بهجتها و ظللتها المرارة...

"- هل تعرفني؟"

همس للطفل ضاحكا مداعبا ظهره بكف يده بحرارة... فتراجع الأخير يعاود التفرس في ملامحه بنفس العينين المتسعتين كما لو أنه يحاول التأكد من كونه حقيقيا بينما تحتشد الكلمات في فمه الصغير المتلعثم و هو يحاول النطق:

"- هل تمزح؟! أنت... أنت لاعبي المفضل!"

قبل سنة من الآن كان ليغتبط بجملة كهذه... لكن قدّر له أن يسمعها اليوم... فوق كرسيّ متحرّك!
تمزّق قلبه بنصل تلك الكلمات البريئة التي تقيّحت بها جراحه... براءة نقيّة مخلوطة بذكاء عاطفي مبهر رآه يلتمع في العينين الزرقاوين قبل أن يستطرد الطفل بابتسامة صادقة:

"- و ما تزال كذلك"

نجح الصغير بأن يختطف منه ضحكة حزينة ممتنّة بعثت بعض الحياة في ملامحه المشروخة بالحسرة التي تأججت ما ان التقت عيناه بعيني المتسببة فيها قبل أن تهرّبهما عنه شاغلة نفسها بالتقاط طفل رضيع من حضن احدى المربيات... حسرة سرعان ما داراها أندرياس خلف ابتسامة واسعة ما أن تفطّن لتلك الوجوه الصبيانية المذهولة التي تحلّقت حوله بانبهار واضح فهتف يستقبلهم في أحضانه ببهجة:

"- أرى أن هناك الكثير من عشاق كرة القدم هنا!"

و رفرفت خلاياه احتفاءً بتلك الأيادي الصغيرة التي تشابكت حوله تجدّد بداخله شغفه القديم المفقود... شغف للحياة نضح من ملامحه و هو يتماهى بطاقته مع طاقة المكان اللطيف و يهتف في معجبيه الصغار بودّ:

"- اذا... هل ستسمحون لي بتناول الفطور معكم؟"

ــــــــــ

من كان ليصدّق أن تلك الشابة الجميلة التي تبدو كأمّ صغيرة بينما تبتسم الآن بتأثّر للطفل الرّضيع المستكين بين ذراعيها هي قاتلة؟
تململ على كرسيّه بتوتّر محاولا التحكّم في عينيه اللتان كانتا تغفلانه لاستراق النظر منها كلّما ضحكت مهيّجة بداخله ذاك الشعور المريب. كالأحجية كانت... تشعره بذاك الغموض الغريب الذي يحوم حولها دون أن يستطيع قشع ضبابيته الكثيفة... كيف له أن يكره ضحكاتها النّادرة لتلك الدرجة و في نفس الوقت لا يقاوم اقتناصها بعينيه؟

زفر سأما من تخبّطات عقله الأخرق الذي بات مصدرا للإزعاج في الآونة الأخيرة... و كما أن وجود روميلي روز في حياته لا يكفي! فشغل نفسه بالتّركيز مع حركة احدى العاملات التي وضعت أمامه ابريقا ساخنا حتى يتسنّى لها الاهتمام بطلب أحد الأطفال.

"- انتبهي!"

شهقت العاملة على اثر صرخة محذّرة منه... ثمّ لم يدر كيف تحرّكت يده غريزيّا لتدفع كرسيّ الطّفل الذي كان جالسا بجانبه يحميه من الحليب المغليّ المندلق من الابريق الفخّاريّ الذي انقلب بلمسة خرقاء من طفل آخر... دون أن يكون له الوقت و لا البديهة الكافية ليحمي نفسه و هو يدفع كرسيه الى الخلف شاتما بلا صوت ليتطلّع في اللّطخة الساخنة الضخمة التي أغرقت ساقيه!

"- رباه أنا... أنا آسفة لم أقصـ..."

صرخت العاملة بهلع بالكاد تستوعب الكارثة التي اندلعت بسبب غفلتها لثانية كانت كفيلة ببثّ الفزع في نفوس الجميع و أوّلهم روميلي التي سرعان ما انتفضت من مكانها لتمنح الرضيع لمربّية أخرى ثم تهبّ نحو أندرياس محتقن الوجه و تخرّ أمامه مغمغمة بهلع:

"- أندرياس هل أنت بخير؟!"

استرعاه اسمه مبتور الحرف في همستها الهالعة فأومأ بسرعة مطبقا جفنيه بأنفاس محتبسة و قد تحوّل بياض وجهه الرّخامي على الفور للون قرمزيّ قان فاقم فزعها فتحرّكت يدها غريزيّا لتلمس وجنته المحمومة!

"- أندرياس..."

زفر أنفاسه بصعوبة يتحقق بنظرة خاطفة من عينيه الحمراوين من سلامة الطفل فأدارت وجهه نحوها مجدّدا مغمغمة بإقرار و صدمة اختلج بها صوتها:

"- أنت تتألم!"

عضّ باطن شفته حتى كاد يدميها مشتّت التركيز بلمسات كفّ يدها على وجهه و هي تصرخ في العاملة بأعصاب منفلتة:

"- إلام تنظرين أحضري بعض الماء البارد بسرعة انه يتألم!"

"- أنا بخير! أنتِ تخيفين الأطفال!"

تدبّر تلك الهمسة الخشنة و هو يرفع يده ليدها لينزعها عن وجهه فاختطفت دورق الماء من يد العاملة و طفقت تريقه على ركبتيه بيد كانت رعشتها واضحة للأعمى!

"- هاتِي حقيبة الإسعاف بسرعة"

صرخت آمرة مجدّدا فهبت المرأة تنفذ الأمر بينما هي تنفض قماش بنطاله القطني الذي تبلل حتى الركبتين بالكامل غير مستوعبة من الأساس لمحاولاته للتملص من تطفّلها السافر الذي انتهى باختطافها لحقيبة الاسعافات من المرأة قبل أن تعتدل لتردف بنبرة حازمة لا تقبل النقاش:

"- اتبعني"

طحن ضروسه يطالعها بعناد أرعن فزمت شفتيها بسأم منه و مالت لتسند يديها على مقبضي كرسيه و تهمس في وجهه بشراسة:

"- هل ستتبعني أم أدفع كرسيك بنفسي؟"

"- ضعي يدك على مقبض كرسيي يوما و ستجدين نفسك في اليوم التالي فوق كرسي مماثل!"

نفث كلماته المتوعدة في وجهها المنفعل فلم تتحرك قيد أنملة... بل و اهتاجت الثورة في عينيها المتمردتين و بدت عازمة على مقارعته فنظر حوله متحققا من الوجوه الصغيرة الفضولية التي طفقت تتابع جدالهما باهتمام و أعين متسعة جعلته ينفث بسأم و يستسلم لرغبتها قائلا بنزق:

"- سيري أمامي!"

ــــــــــ

انكبّت أمامه في احدى غرف الألعاب المغلقة بينما انهمكت بدهن مرهم الحروق على قدميه المشمّرين بأصابع مرتعشة كرعشة همستها المختنقة التي وصلته بعد لحظات:

"- الحرق سيء جدا!"

"- لن يكون أسوأ ما تعرضت اليه في السنة الأخيرة من حياتي"

ردّ بجمود بائس شاخصا في الفراغ خلفها و غارقا في ظلامه من جديد فأهنفت مخفضة رأسها سامحة لوبل عينيها بالانهمار عند قدميه كما انهمر ماء وجهها من قبله حتى باتت محكومة أمامه بخزي أبديّ لا يرحم عنفوانها الأنثويّ الذي جُبِلت عليه!

أغمض عينيه و أغلق أذنيه عن شهقاتها الخافتة المكتومة التي لم يكن ليسمعها لو لم تكن بهذا القرب... كانت تعاني... و كان هو مكسورا كفاية حتى لا يتعاطف مع تلك المعاناة! لأنه و على الرغم من أنه كان قادرا على الاحساس بكل اصبع من أصابعها التي كانت تمرر الدواء فوق ساقيه... إلّا أنّ عجزه عن زحزحتهما من أسرهما المقيت يجعل منها داءه الأوحد!

ضمّ قبضتيه حول مقبضي الكرسي بشدّة و قد احتقنت عيناه بألم مبرح احتكم في حلقه على هيأة غصّة.. غصّة انقشعت على حين غرّة حين أدرك متأخرا تغير طبيعة اللمسات التي تحسس تحوّلها لضغطات أنامل حازمة فوق نقاطه العصبيّة مما جعله ينتفض هادرا:

"- ماذا تفعلين؟! توقفي!"

تلجلجت قليلا دون أن تتوقف عما تفعل فتوحشت تقاسيمه و هو يقبض على رقبة ثوبها ليرفعها لمستوى نظره صارخا:

"- قلت توقفي!"

"- أرجوك... أريد فقط أن..."

"- ايّاك و أن تلمسيني دون اذني مجددا!"

جلجل مزعزعا هدوء الغرفة رافعا قبضته المضمومة في وجهها المبلل بوعيد لم يهزّها بينما يتابع زئيره الساخط كنمر تم الدوس على ذيله:

"- إعاقتي لا تمنحك الحق بذلك! أتفهمين؟!"

تسارعت أنفاسها و ازدردت ريقها بصوت مسموع فأفلتها بنزق متراجعا بكرسيه لينزل بنطاله المشمّر ثم يشيح عنها مغادرا... إلا أنّه تسمّر في منتصف الطريق ما أن كبّلته اللوعة التي أثقلت صوتها و هي تهتف من خلفه:

"- لما لم تخبرني؟"

انكمشت ملامحه بوصب فلم يتكبّد عناء الالتفات إليها بينما هي تتابع جلده بعتبها الباكي:

"- لما لم تخبرني أن شللك حركي فقط... و ليس حسّيا"

تفتّت ثباته و انفلتت نقمته من عقالها و هي تحاسبه بتلك الجرأة فالتفت لها ليرهبها بتقاسيم الوحش الجريح و يجلجل بقسوة معذّبة:

"- من تكونين حتى أفعل؟ بصفتك من؟"

وقفت أمامه لاهثة من فرط الانفعالات التي تعاقبت على وجهها المبلل بالدموع تستقبل طعناته واحدة تلو الأخرى و هو يواجهها بالحقيقة التي لا تجرؤ على انكارها:

"- بصفتك الطبيبة التي تسببت بهذا الشلل أليس كذلك؟ الطبيبة التي تقف أمامي الآن بلا خجل لتحاسبني على عدم مشاركتها بتفاصيل هذا الشلل الذي هو من صنيع يديها!"

"- أندرياس..."

"- أنتِ حتى غير مدركة لطبيعة الضرر الذي تسببت به يداكِ! رباه... أي حمقاء أمّنتها على ظهري!"

دُهِست... تهالكت فانفرطت ركبتاها فوق وسادة ضخمة ملونة حمتها من الارتطام بالأرض و احتوت جسدها المرتعد تحت سوط لسان أندرياس الذي أظلمت ملامحه بالنقمة و هو يهدر:

"- أكرهكِ! اللعنة عليّ و على ذاك اليوم الذي ركبتُ فيه طائرة باريس!"

قابلت كرهه بدموع صامتة سقت بها الأرض التي أنكست لها رأسها كوردة مكسورة الساق... وردة سامّة قتلت بهجته فاقتلعها من تربتها ليزرعها بين الثلوج!

"- السائق سيساعدك بتوزيع الهدايا... أنا سأكون في السيارة"

و كان ذلك آخر ما استطاع النطق به قبل أن ينكتم حلقه بغصّة الحرقة و تُلسع عيناه بأشواك الدموع... فأشاح يتأكد من ذرفها بعيدا...

ــــــــــ

طريق العودة كان كئيبا... مشحونا...
ألصق رأسه في النافذة الجانبيّة متجنّبا قدر الإمكان كل تواصل بصريّ معها... تلك التي كان قادرا على الاحساس بشحنات جسدها الجالس على بعد سنتيمترات قليلة منه...

"- أندرياس..."

اختزن نفسا ثائرا ما أن بدّد نداؤها هدوء السّيّارة التي كانت تنهب طريقا اسفلتيّة مرتفعة طفقت جوانبها تبيضّ شيئا فشيئا...

"- على الأقل أخبرني كيف أصبح حرقك... طالما ما نزال بالخارج نستطيع المرور على المشفى"

"- أسدي لي معروفا و تظاهري أنك غير موجودة"

تمتم بحسم دون أن يشيح بأنظاره عن النّافذة منكمشا على نفسه داخل قوقعته الجليدية المتينة من جديد... قوقعة ما لبثت أن تفتّتت بعد لحظات بشهقة فزعة ثم صرخة منه نحو السائق:

"- انتبه!"

ثم تمايلت بهم السيارة فوق الطريق الزلقة!
أفلتت صيحة مذعورة تشبّثت على اثرها بكمّ كنزة أندرياس الذي جمّدته الصّدمة و سمّرت عينيه الى الخلف على نقطة معيّنة تجاوزها السائق قبل أن يضغط الفرامل متوقفا بالسيارة بعنف!
تلاحقت أنفاسها تسابق نبض قلبها الذي بلغ عنان السّماء فرفعت يدها المرتعدة تتحسسه بهلع و هو ينبض بالحياة... الحياة التي كادت تنتهي في التو و اللحظة بعد أن كادت تنقلب بهم السيارة!

"- هل أنتَ بخير؟!"

تمتمت تتحسس كتفي أندرياس المتجمّد تتحقق من سلامته بفزع فتحرر من جموده فجأة و ارتد برأسه نحوها فاكا حزامه و هاتفا بعصبية:

"- افتحي الباب! بسرعة!"

ضغط السائق زر منصة النزول فألقى بنفسه الى الخارج ما أن فُتِح الباب غير آبه بصرخاتها المحذرة بعد أن ترجلت لتهرول خلفه الى حيث أدار عجلات كرسيه ليتوقف به في النهاية... في منتصف الطريق!

"- إلى أين أنت ذاهب..."

صرختها المستنكرة تلاشت عند الكلمة الأخيرة التي خرجت محمّلة في شهقة ما أن أدركته لتقف بجانبه و تقع عيناها على ما قبع أمامه على الأرض!

"- لقد خبطتَه!"

دمدمة ملوّعة حانت منه فغطّت فمها تكبح شهقة متألمة و هي تناظر جسد ذلك الجرو الأبيض الذي تكوّم على الطريق أمامهما نازفا بلا حول و لا قوة!

"- دهستَ قدميه!"

صرخ أندرياس في السائق فشهقت منتفضة عندما رأته يباغته بأن قبض على ربطة عنقه ليسحبه منها بعنف مجلجلا:

"- دهست قدميه أيها ال***"

"- ظهر أمامي فجأة و العجلات... العجلات انزلقت عندما حاولت الابتعاد..."

"- اخرس!"

هدر قابضا على تلابيبه بشراسة فما كان من روميلي الا أن هبّت تدسّ نفسها بينهما محررة ربطة عنق الرجل من قبضة أندرياس الذي بدا كمن أصابه المسّ و هو يصرخ بانفعال:

"- أيها الفاشل اللعين! أغرب عن وجهي! أنت مطرود! لا أريد رؤية وجهك و وجه زوجتك في بيتي! أغرب وجهك من أمامي!"

توسّعت عيناها و لم تدر كيف تحتوي زوبعته التي تفجرت أمامها فجأة فسارعت تتأكد من ضغطها لفرامل كرسيه أولا ثمّ هبّت تخرّ أمامه لتقبض على كنزته و تقحم عينيها في عينيها هاتفة بقوة:

"- أندرياس اهدأ!"

"- حقير!"

هدر شاتما بحرقة شرخت نبرة صوته الساخطة و هو يشيع رحيل السائق بعينيه الثائرتين قبل أن يشرع بنزع كنزته ثم يميل ليلفّ بها جسد الجرو المنتفض بأنين ضعيف يمزّق القلب!

"- أندرياس..."

همست اسمه باكية بخوف و هي تتطلع في ملامح وجهه الشاحب و هو يدس الجرو في أحضانه بأنفاس تسارعت بشكل هستيري مفزع كما لو أنه يشارف على التعرض لنوبة عصبيّة وشيكة أثّرت حتى على نطقه الذي لم تفهمه و هو يتأتئ بعض الكلمات اليونانية المتفرقة بارتجاف:

"- السيارة... قدماه... انه.. انه... ما يزال... حيا"

"- أندرياس هل أنت بخير؟! هل تسمعني؟"

تفصّد وجهه الذي احتقنت فيه الدماء و بدا حبيسا لهواجس تداعى لها جسده كله حتى باتت قادرة على تحسس أعصابه المشدودة و هي تنبض تحت جلده فطفح بها الكيل و هي تدير وجهه نحوها لتوقظه من كابوس يقظته هاتفة بحزم:

"- أنظر اليّ! اسمع صوتي! أنا هنا معك! سنحلّ الأمر سويّا... أنا أحتاجك لتساعدني على انقاذه!"

تجمّدت عيناه المتّسعتان عليها كما لو أنه تأخر ليستوعب وجودها و هي متكومة أمامه على الأرض غير مدرك لذلك السيل الساخن الذي سال على وجنته ليقع على يدها! فسارعت تمسحه بأنامل حانية!

"- تنفّس! خذ نفسا عميقا!"

سحب نفسا قصيرا بعث به بعض الحياة في رئتيه المتقلّصتين مسترجعا سيطرته على عقله شيئا فشيئا... عقله الذي استنار بالإدراك لكونه استفاق للتو من نوبة هستيرية جديدة... لكن هذه المرة بلا حقن!

"- روميلي!"

همس اسمها بارتجاف فحرّرت دموعها و أومأت تستجيب لندائه المعذّب قبل أن ينظر للجرو في حضنه ثم يطالعها بعينين متأملتين و يناجيها بصوت خفيض مستجدي:

"- هل بإمكانك مساعدته؟"

توسعت عيناها بصدمة لحظية سرعان ما تداركتها بأن أومأت هامسة برجفة:

"- سأفعل ما بوسعي... لكن ما رأيك لو تمرّره لي حتى أستطيع تقييم الضرر؟"

ارتجفت ذراعاه حول الكنزة الدامية للثوانٍ... لكنه أومأ بعجز في النهاية و أذعن ممرّرا جسد الجرو لأحضانها بحذر شديد و رهبة أشد... رهبة رآها تلوح على وجهها هي الأخرى عندما كشفت عن قدمي الجرو الجريحتين لتتحقق من الإصابة... بأنفاس متسارعة و ارتجاف غريب!

"- لو نأخذه لطبيب بيطري... ما رأيك؟ أنا سأقود"

اقترحت بنبرة هادئة ظاهريا لم يكن بحالة تخوّل له تفسير سبب اهتزازها... فأومأ لها موافقا... ثمّ راقبها و هي تعتدل بالجرو و تقترب لتفك فرامل كرسيه... ثم تشيح بسرعة لتسبقه إلى السيارة بتوتّر مثير للتوجس...

ــــــــــ

في المساء...
بعد يوم شاق ركنت السيارة في حديقة الفيلا أخيرا...
ترجّلت منها تلحق بأندرياس الذي لم ينتظرها و هو يخطّ الرحال الى البيت بصمت مشحون متجاوزا الخادمة التي اعترضتهما بحقيبة ملابسها كما لو أنها غير مرئية...
تهدّلت ملامح روميلي بتعاطف و هبّت تعترض طريقها لتحين منها نظرة خاطفة لسيارة الأجرة المتوقفة خلفهما ثم تنظر لها لتهمس بحنوّ:

"- بيانكا انتظري!"

"- زوجي بانتظاري آنستي... شكرا على كل شيء"

دمدمت الخادمة بحشرجة واضحة قبل أن تنكس عينيها الحزينتين و تنسحب متابعة طريقة بإباء فهتفت روميلي من خلفها باصرار:

"- بيانكا لحظة!"

"- روميلي!"

أجفلت من ذاك النداء الساخط الذي هبط على مسامعها في شكل زمجرة... و التفتت بسرعة لتتطلع في أندرياس الذي رشقها من عتبة الباب بسهام من عينيه لو كانت تقتل لأردتها صريعة على الأرض في نفس اللحظة قبل أن يهدر آمرا:

"- إلى الدّاخل!"

رنّ هاتفها باسم زميلة قديمة فتأففت مخرسة رنينه مؤجلة الرد لوقت آخر ثم حانت منها نظرة أخيرة حزينة للخادمة قبل أن تركض لاحقة بذاك الذي توارى عن الأنظار داخل البيت...

ضغط زرّ المصعد بعصبيّة ثم تحرّك منه ما أن انفتحت أبوابه... فرآها! تقطع عليه الطريق الى الغرفة و تقف لاهثة في منتصف الرواق...

"- أندرياس أرجوك... لقد كان حادثا!"

غمغمت باستجداء فتجاهلها كليّا و هو يتجاوزها واضعا نصب عينيه باب غرفته فسارت بجانبه تلحقه بإصرار و تدكّ عناده بالقول المستجدي:

"- كن رحيما! هذا العمل هو مورد رزقهما... ألا تستطيع تخيّل طبيعة الظروف التي قد تجبرهما على العمل في مكان كهذا؟"

بدت مصرّة على المخاطرة بنسف ذرة الثبات الانفعالي التي بقي متمسكا بها في نهاية هذا اليوم العصيب و هي لا تسأم من الهذر و سكب كلماتها مبتورة الراء داخل رأسه:

"- قد تبدو اصابة الكلب خطيرة لكن صدقني هو سيتعافى"

"- و أنتِ الخبيرة التي من المفترض أن أثق بما تقوله أليس كذلك؟!"

نطق بجموح أخيرا ما أن استقر في منتصف غرفته فاقتربت منه و غمغمت باستعطاف:

"- دعك مني... لقد سمعت ما قاله الطبيب البيطري!"

سمِع و انطفأ أجيج قلبه و لو قليلا... على غراره فالجرو كان محظوظا... و لن يضطر لتقضي بقية حياته كسيحا كصاحب السيارة التي دهس سائقها قدميه!

"- هل من العدل أن تعاقب كليهما بسبب حادث غير مقصود؟!"

"- تعاطفك مع أمثالك يثير اشمئزازي!"

هدر بغلّ نجحت في النهاية بتهييجه في النهاية!
تجمّدت كما لو أنها تلقت صفعة على وجهها الذي امتقع أمام نظراته السوداوية التي ركزها عليها بينما يقترب منها ببطء هادرا:

"- سواء كان مقصودا أم لا... فكل خطأ يجب أن يقابل بالعقاب المناسب!"

تهدّل كتفاها و انطفأ بريق العناد من عينيها اللتين غامتا على الفور فخيّرت الانسحاب... و أشاحت عنه بخذلان ترفع لعينيها هاتفها الذي لم يكف عن الاهتزاز...

زفر بانفعال و هو يحدجها بنظرة جانبية غاضبة يستعجل خروجها حتى يتسنى له الحصول على الخصوصية التي ينشدها ليغيّر ملابسه المتسخة... الا أنه أطرق بتعجّب عندما رأى يدها تتجمد فوق مقبض باب الغرفة... و يدها الأخرى تتشبث بهاتفها الذي صُدم و هو يراها تفلته في اللحظة التالية ليقع على الأرض بصخب!

"- ماذا هناك؟"

هتف بتوجّس مقتربا منها حتى يتسنّى له رؤية ملامح وجهها التي توارت عنه خلف خصلات شعرها المفكوك... و لم يدر لما نغزه قلبه بشدة عندما صدمته بأن أفلتت ضحكة ساخرة مريرة محمّلة بشهقة بكاء معذّب ما أن استدارت اليه لتغمغم بفجع:

"- نلت عقابي!"

توسّعت عيناه عاجزا عن استيعاب ما يحدث و تركزت عيناه بتلقائية على هاتفها الذي عرضت شاشته ما بدا له من بعيد انها رسالة نصّيّة! رسالة لم يتسنّ له التساؤل عن محتواها لأنه أفلت شهقة خفيضة عندما انفرطت ركبتاها لتقع بقوة على الأرض و تنهار منتحبة بحرقة:

"- أنت محق! أنا عديمة الفائدة!"

"- روميلي!!"

هتف بصدمة مجنونة و هو لا يقاوم مسح المسافة التي بينهما ليشرف عليها من علوّ و هي تنشج و تسكب لوعتها و دموعها على الأرض بسخاء:

"- أنا خيبة أمل للجميع... أولا أمي... ثمّ أنت.... و الآن... و الآن جوليان!"

"- جوليان؟!"

برطم بجنون شابك اعدادات مداركه العقليّة فعجز عن فهم ما يحصل لا سيما حين أجهشت بالبكاء و غمغمت:

"- لقد مات!"

من نَعَته كان بالنسبة اليه مجهولا... لكنّ كلمة الموت التي شقّت شفتيها كانت كفيلة بجعله يسقط كل دفاعاته و حصونه... من أجلها!

"- روميلي!"

غمغم بحشرجة و هو يميل ليلتقط كتفيها المهتزين بنشيج اعتصر قلبه بعنف... و احتدّت أنفاسه عندما اقتحمت حصونه بتلقائية بأن أسندت رأسها على ركبتيه لتذرف فوقهما الدموع على الراحل المجهول!

"- مات وحيدا كما وُلد وحيدا... لم أكن بقربه!"

ارتعشت يده فوق خصلات شعرها المنسدلة في حضنه الذي استقبل انهيارها برحابة تعجّبها من نفسه!

"- خذلتُه كما خَذَلته أمه الحقيقية!"

"- حسنا... اهدئي... اهدئي!"

همس بقوّة حاسما الأمر و محرّرا يده التي تغلغت بين خصلاتها ليمسح عليها برقّة مواسِية ضاربا كل مكابرة بعرض الحائط... كانت تتألم... كانت مفجوعة بموت شخص تحبه و كانت تحتاج صدرا تبكي عليه... و لم يكن هو حقيرا كفاية ليردّها عن صدره خائبة!
أمسك وجنتها بكفّه ليرفع رأسها اليه و ينظر بداخلها فهاله الوجع الذي لاح في لوزيّتيها الواشيتين باضطرام كيانها الهشيم... كيان أنثوي هشّ استقرّ بين يديه يطالعه بنظرات متوسّلة للدفء... للعطف... للصّفح!

"- أندرياس..."

همستها المعذّبة باسمه شطرت مكابرته المتصدعة لنصفين... ثم وجد نفسه يفعل آخر ما كان ليتوقع أنه سيفعله يوما! وجد نفسه... يضمّها... و يسحبها لتتماهى مع صدره يمنحها قدرا يسيرا من دفء صداقة قديمة مغتالة... هامسا فوق شعرها بتنهيدة مستسلمة:

"- ابكي روميلي... ابكي بقدر ما تشائين"

و كما لو أنها كانت بانتظار تلك الهمسة... فلم تقصّر...

ــــــــــ

مساء يوم الغد...
لم ينادِها طول اليوم... حتى عندما خرجت من غرفتها من تلقاء نفسها لتهمّ بإعداد الغداء اكتشفت أنه جعل مايكل يجلب طعاما جاهزا من المدينة...

تلك الليلة كانت عصيبة مؤرِقة...
لم يدر ما الذي هزّه أكثر... اكتشافه بأنها كانت أمّا معنويّة لطفل مريض متبنّى... أم تلك اللحظات الغابرة التي تجرّد فيها من كرهه و هو يسمح لعدوّته بالبكاء بين ذراعيه!

زفر ماسحا على وجهه بإنهاك علّه يفلح بإثناء عقله عن التفكير المفرط الذي لا يسبب له سوى الصداع و الأرق... ثمّ ركز عينيه على شاشة التلفاز يحاول متابعة ما كانت تهذر به مذيعة الأخبار الثرثارة.

نغزة مفاجئة كالبرق باغتته ما أن لمح ظلا يتراقص في المطبخ عبر باب الصالون فارتدّ رأسه ليلاحق الطيف الأنثوي الغابر... طيف سرعان ما تراءى له و صاحبته تقترب لتقتحم عزلته المسائية... بكوبين من الشاي!

تفاجأت ملامحه و تلجلج بحماقة... لم يكن واثقا من الطريقة المثلى للتعامل مع الفتاة اللي احتضنها في غرفته البارحة و يصادف أنها نفس الفتاة يكرهها أكثر من أي شيء!

وضعت أمامه كوب الشاي المعتاد بصمت فوفّرت عليه مشقة الكلام... ثم راقبها تتهادى بخطوات رصينة في ثوبها البيتي الأبيض لتقف كالعادة أمام باب الشرفة و ترتشف من كوبها بالقرب من المدفأة... تراقب تراقُص ندف الثلج بنسمات جاءت حاملة معها إنذارا منكّها بوعيد كانت قد أودعته سحب السماء المرابضة في الأفق الأعزل لسهوب الريف الجبليّ الساكن... تلك الليلة كانت صقيعية بشكل منقطع النظير!

تركته ينازل شاشة التلفاز الوامض بعينيه المتمردتين على محاولاته المستميتة بتثبيتهما على وجه المذيعة مثالي الزينة... لا على وجه آخر قاوم بنضارته الطبيعية شحوب الحزن و هالات الأرق و البكاء...

مضى الوقت بصمت مطبق مشحون بالتوتر... فرمقته بنظرة جانبية سريعة استرقتها من بين أهدابها الكثيفة الداكنة... ثمّ نهضت لتغادر الغرفة من دون مقدمات إلّا أنّ بضع كلمات خفيضة استوقفتها مكانها فاستدارت تحدّق بالشاشة بتركيز قلق و اندفعت لتلتقط جهاز التحّكم من الطاولة جانبه تزيد درجة صوت مذيعة الأخبار وهي تضيف بجديّة مهنية:

" ...وقد أعلنت السلطات المعنية مواصلة حملات البحث الحثيثة عن المتسلّقة المفقودة على أمل العثور عليها قبل بدء العاصفة الثلجية المرتقبة في زيرمات مساء الغد.."

شخصت روميلي في الشاشة للحظات قليلة غير مدركة لنظراته التي احتدّت و هي تراقبها بتمعّن شديد قبل أن يعلّق بخطورة:

"- ماذا هناك؟ هل أشفقتِ على الشابة المفقودة؟"

ضبطت عيناه المتعطشتان لأبسط حركة تصدر عنها تصلّباً خفيفاً اكتنف قدّها المستقيم الرشيق فرفع حاجباً و أضاف بتهكّم:

"- أم أنّه حنين لأيّام ولّت؟"

استدارت ببطء لتتأملّه بعينين غامضتين فاقمت نظرتهما توجّسه فسارع يقول بعصبية:

" إن كان هذا سيحبط آمالك فيسعدني إعلامك بأنّك لم تعودي في وضع قد يسمح لكِ بمساعدة نفسكِ ناهيك عن مساعدة الاخرين!"

تلى كلماته المسمومة الرنانة صمت ثقيل أشرف عليهما بسطوته الطاغية و هما يحدّقان ببعضهما بمزيج غريب من الحنق و الأسى حتى همست بكلمات رزحت تحت لكنتها الأم بعاطفة مكتومة:

"- هناك فتاة تنازع الآن في مكان ما بالقرب منا... و كل ما يهمك هو استغلال وضعها لإيلامي؟"

لوهلة فزِع و هو يظنّها ستضرب حضنه لها البارحة في وجهه... لكنّها لم تفعل! لأنها نكست رأسها و مضت مهرولة لتتجاوزه بسرعة كأثير خاطف تاركة خلفها زوبعة من القهر فأغمض عينيه الملتهبتين و قبض على خصلات شعره المستطيلة المبعثرة يشدّها بشراسة قبل أن يهدر مزمجراً باهتياج ليلتقط جهاز التحكم من جانبه و يرميه باتجاه الجدار محطّما إياه على الفور ليتحول لأشلاء...
ذلك البريق في عينيها لم يرقه مطلقا!

تخبّط في شكوكه لوقت طويل حسمه بنداء حازم منه لمايكل الذي أملى عليه تعليماته القاطعة ما أن مثل أمامه:

"- نم في الصالون، و ابق متيقظا... باب الفيلا في أمانتك الليلة"

"- هل هناك شيء يتحتم علي معرفته؟"

"- افعل ما أقوله فحسب!"

هدر يحسم الحديث... ثم استأذن منسحبا لغرفته التي تأكّد من ترك بابها مفتوحا...

و مع أولى خيوط الصباح الذي انبلج بعد ليلة أخرى بلا نوم...
شهق مختنقا بأنفاسه و اعتدل في فراشه لاهثا يحدّق بجحوظ في الفراغ المعتم أمامه رامشا بأهدابه يستوضح زمانه ومكانه للحظات... قبل أن تباغته قشعريرة باردة أيقظها نسيم الغرفة المتسلل من باب الغرفة الموارب و الذي تراءى له منه باب غرفتها الموصد، فتنفس الصعداء ماسحا بساعده قطرات العرق المتفصدة على جبينه المحموم و فرك براحتيه وجهه بقوّة علّه ينفض عن نفسه ذاك التوتر الغريب...

مرّت عدة دقائق استجمع فيها نفسه و التفت يحدج جرسه المركون فوق منضدة سريره في انتظار مهمّته الجديدة فمدّ ذراعه ليلتقطه... بيد أنّه توقّف على بعد مليمترات قليلة و زفر بحنق ليزيح ملاءته جانبا و يتمسّك بذراع كرسيه بإحكام قبل أن ينهض بحركة واحدة و يجلس عليه بسهولة متناولا بلامبالاة كنزته القطنية السوداء ليرميها على عجل فوق جذعه العاري و يتحرّك بالكرسي خارج الغرفة، و ما أن وجد نفسه في الممر المظلم... حاد بناظريه حيث تغفو كلّ ليلة، فتلكأ مكانه لوهلة موشكا على المضي إلى المصعد إلّا أنّه تراجع في اللحظة الأخيرة مبرطما بشتائمه المعتادة و عاد يقصد غرفتها من دون تردد حتّى وصل إلى الباب الذي أدار مقبضه دافعا إياه بلا استئذان... و كان سريرها خاليا!

جحظت عيناه و هبط قلبه بين قدميه ما أن أطبق عليه هدوء الغرفة الخالية من صاحبتها! الغرفة التي قضى الليل ساهدا في حراسة بابها!

تراءى له باب شرفتها المفتوح على مصراعيه فارتعبت تقاسيمه و هو يقتحمها ليصرع بذلك الارتفاع المميت! ارتفاع على ما يبدو لم يكن عائقا في سبيل تلك المخبولة التي ناوب عند باب غرفتها فقررت الهروب من الشرفة!

"- يا للهول!"

كان قادرا على رؤية آثار أقدام واضحة على سور الشرفة و دعائم البيت! آثار أجزعته بالشكل الكافي لجعله ينتفض مطلا برأسه الى الأسفل يتأكد من عدم وجود جثّة نحيلة مدقوقة العنق في حديقة بيته! ثم تنفّس الصّعداء عندما وجد المكان خاليا...

"- مايكل! مايكل أيها الأحمق!"

صرخ بعته يستدعي مايكل الذي كان في غضون لحظات ماثلا أمامه بملامح متأهّبة ما لبثت أن تلوّنت بذعر خالص ما أن هدر أندرياس و هو يقود كرسيه بتعجل ليتقدمه الى الخارج:

"- جهز السيارة! يجب أن نلحق بتلك القردة الصغيرة فورا قبل أن تتسبب بقتل نفسها!"
.
.
.
.
.
.

يتبع
عاااااااا أخيرا 😭 الفصل اللي هلكني على ما خلص😭
و هيك بنكون دخلنا رسميا على الرشفة السادسة 😭😭😭😭😭😭😭😭😭😭 جايتكم أحداث تصهر العظم استعدوا و اربطوا الأحزمة😭
أما بعد مهم🚨🚨🚨🚨
ما عجبني تفاعلكم بالفصل الماضي🙂 بتمنى تبطلوا عادة القراءة بصمت لأنه هالشي بيهدد استمراريتي بالكتابة 👁️👄👁️
الفصل الجايي ما رح يتأخر لأنه مخططه جاهز و انا متحمستله بشكل خااااص لهيك بتمنى شوف آراءكم على هادا الفصل قبل ما بلش كتابة اللي بعده.
و بس خلص... بتمنى انها كانت قراءة ممتعة🩷

Continue Reading

You'll Also Like

1M 64.6K 103
" فرحات عبد الرحمن" شاب يعمل وكيل نيابة ويعاني من مرض اضطراب الشخصية المعادية للمجتمع مع ارتباط وثيق باضطراب النرجسية مما يجعله ينقاد نحو كل شيء معاك...
361K 17.3K 30
احبك مو محبه ناس للناس ❤ ولا عشگي مثل باقي اليعشگون✋ احبك من ضمير وگلب واحساس👈💞 واليوم الما اشوفك تعمه العيون👀 وحق من كفل زينب ذاك عباس ✌ اخذ روحي...
226K 20.2K 51
من رحم الطفوله والصراعات خرجت امراءة غامضة هل سيوقفها الماضي الذي جعلها بهذة الشخصيه ام ستختار المستقبل المجهول؟ معا لنرى ماذا ينتضرنا في رواية...
2.5M 157K 83
ولكل منا جداراً يستند عليه