Empty Crown | تاجٌ فَارِغ

Від Mervadoz

77.3K 3.5K 2.5K

الرّواية من سلسلة Eigengrau " أحبّ كيفَ تراقِبني دائمًا يا أرغوس! " تحدّثت ساخرة و أناملها المضطربة تسير على... Більше

INTRO
تمهِيد : الظّلال الدّائمة.
١. أعِدنِي الى اللّيلة الّتي التَقينا بها.
٢. كارمِن
٣. المَغِيب.
٤ . نبَضات قَلب.
٥ . مِن جنّةِ عَدن.
٦. جنّة، انتَظِرِي.
٧ . أكرَهُك، لا تترُكني
٨ . مَن تكُون تِلك؟
٩. مُلاحظَاتٌ فارِغة.
١٠ . جينز ازرق
١١ . خالٍ من العيوب
١٢ . المًقنّع
١٤ . طيورٌ سوداء
١٥ . قرِيب
١٦. شَجرةُ الاعدام.
١٧. لا وقتَ للموت.
١٨. نهايةُ العالم.
١٩. تِلفاز
٢٠ . لاَ أحَد.
٢١. انَا و الشّيطَان.
٢٢. القلعة
٢٣ . قُل نعَم للجنّة.

١٣. لأجلِ حبٍّ ابنة.

1.8K 118 87
Від Mervadoz

< قِراءَة ممتِعة ♡>

" أسرِع نيلو! "
هتفت مورتا و هيَ تجهّز مسدسها للاطلاق على السيارة التي تتبعهما.

" لا يمكنني تجاوز السرعة القصوى و اللعنة! "
لعن بصوتٍ عالٍ و هو يتجاوز اشارات المرور الحمراء تاركاً وراءه حوادث مرعبة.

تدلىَ مسدسها من النافذة و هي تطلق بعشوائية، لكن لسوء حظـها كانت السيارة التي تتبعهما مضادةً للرصاص.

لعنت بصوتٍ عالٍ  و هي تعود للداخل...

" لم يتبق الكثير للوصول للمشفى "
تحدث نيلو و هو ينحرف عن الطريق الرئيسية لأخذ طريق مختصر.

" ها قد وصلنا ... "

و قبل ان يكمِل نيلو جملته، اصطدمت بهما سيارة من العدم جعلت سيارتهما تنقلب رأساً على عقب، تتدحرج على طول الطريق الى ان استقرّت و صارت خردة فظيعة.

بعد ضوضاء الاصطدام العنيف، ساد صمتُ الموت المرعب على الساحة...

خرج صاحب السيارة منها و هو يجهّز مسدسه، بخطًى ثابتة الى الركام كي ينهي عليهما ان تبقّى منهما نفس.

تقدّم و انتظر اشارة حياة من السيارة، لكن كل ما شاهده هو سيلٌ سريع من الدماء تخترق الارض... ابتسم برضاَ تامّ و هو يحمل هاتفه.

" أنهينا الامر سيدي المونديجو "

ليس بعيدًا من انهاء تلك المكالمة،  استقرّت رصاصة من الاسفل بمنتصف رأسه.

تسرب صوت مورتا مصحوباً بلعنة خافتة من خلف الركام و هي تحمل مسدسها.

اخترقت يدها الحطام، نهضَت مورتا كَمن بُعثت الحياة فيها من السماء الاخيرة...

عرجت و هي تمسك مرفقها المكسور بِيدها...

تنورتها تمزقت لكن كعبها بقي سليما باعجوبة، شعرها صار اشعتاً مبللا بالدماء التي نزفتها من رأسها، و الاسوء ان احمر شفاهها قد فسد.

وقفت امام زجاج المقهى الذي نظر منه الزبائن بِصدمة عارمة الى الحادث المرعب، و الى مورتا الدامية... اما هي فكانت مهتمة اكثَر بانعكاسها، التقطت احمر شفاهها و أعادت تطبيقه لاصلاح شكلها.

مستحيلٌ ان تدمّر بيرلين اللعين دون احمر شفاهٍ جميل.

تابعت السير بذراعٍ مكسورة الى باب المشفى.

" سيدتي! ماذا حصل لك؟! أ تحتاجين مساعدة؟! "

هتف ممرضٌ حين رآها بتلك الحالة، حملت مورتا عمودَ انبوب التغذية و ضربته بها قفسقط مغشيّا عليها ثم اكملت سيرها الى مكتب الاستقبال.

" كولين سكازوس، في اي طابقٍ هو؟ "

جاء صوتها بنبرة شديدة البرودة، امتصت الدهشة صوت الممرضة التي وقفت تطالعها كما لو انها شبح لدقائق...

" كولين سكازوس! اين هو!! "

صرخت مرسلةً اهتزازاتٍ الى عمودها الفقري، غريزيا كبست بذلك الاسم باحثة عنه ثم تمتمت بصوت متهدج.

" الطابق الثاني، الغرفة اثنان و ثلاثون "

" شكرا "
شكرتها بأدبٍ ثم اتجهت نحوَ المصعد.

ضغطت بعنف على الزر، و قبل ان تغلق الابواب، توسطتها يد بمسدس... رفعت مسدسها على عجل كرد فعل غريزي، تبادلا الرصاص لكنه لم يصب احدًا،  تجاوزها بسرعة، ركلها فسقطت ارضا، لم تستطع مورتا الوصول الى مسدسها الذي قذفه بعيدا عنها  ، ثم صوّب مسدسه الى رأسها...

و هكذا رنّت اجراس الموت في اذنها و تلك الرصاصة تنطلق من الفوهة الساخنة.

ذلك الشعور اننا حلمنا حلمًا سيئا و نعلم اننا كنـا نيام... لكننا غير قادرين على ايقاظ انفسنا... ربّما لان الحلمَ واقع.

استغرَقت زارا ثانيةً و نصف  لاستيعابِ كلام الطبيب.

" والدك بآخر مراحل سرطان الدماغ، لا يملك الكثِير للعيش "

و استغرقتَ دهرًا و هي تستعيدُ ذكرياتٍ تجمع عليها غبارُ الماضي و دموع الحاضر.

ذكريات لم تعلم حتى بوجودها بلغت شاطئها بعد ان كانت مدفونة في اعماق محيطاتها... صورٌ لرجلٍ مختلف، ذي وجهٍ اكثر حدة، ملامح غاضبة تزوره دائما، لا يبتسم اطلاقا... مختلفة جدا لوجه هذا الرجل الذي جرّده دنوّ اجله منها.

ايزاك كان يتردد اليها كثيرا يحثّها على العودة و رؤية والدها بالاونة الاخيرة لاجل ذلك... هي قالت له اشياء مريعة، لكليهما.

الحب يصبح اكثر كثافة مع الموت... زارا شعرت بذلك في كل خلية منها.

وقفت هناك امام جسده الهالك الذي تعبره الانابيب بوجه دون تعبير... ثم خرجت  من الغرفة تاركةً وراءها والدًا لن يستطيع العيشَ اربع ساعاتٍ دون المورفين من شدّة ألمه.

وجدت جوهان امامها ، و الذي توقف عن الحديث مع بيرلين فور ان نظر صوب اعينها الضبابية... اشاحت بناظرها عنه فورا، و هناك تصادفت اعينها بخاصة بيرلين النذلة.

" انت تدفعني لاكون مكانه... لانكم جميعا تعلمون بمرضه... بانه لا يملك سوى اياما معدودة "

رددت بصوتٍ خالٍ من اي نبرة و هي تتجنب اي مقدمات.

" زارا العزيزة "
قال بصوته المنمق المتكلّف.

" ستصبحين بمفردك قريبًا... عليكِ التحلي ببعض القوة "

اعينه النذلة لا تحمل شيئا من الرحمة  امام زارا التي لم تحملها قدماها فجلست و هي تحمل رأسها بين يديها كمن يحارب للحصول على لحظة سلام  ... تنهد بيرلين بارهاق، تخلّى عن عصاه الثمينة لاحد رجاله و قرفص امامها كي يستطيع النظر الى عينيها.

" منصبُ والدك لا يسمح بالبقاء شاغرًا اكثَر مماّ كان منذُ تفاقم مرضه، من واجبك الان التفكير بمستقبل عائلتك، اسمٌ على رأسهم خيرٌ لهم من فراغٍ بعيد "

اخترقت كلماته رأسها كتفاحة في محاولة اختراق خرم ابرة... لم تستطِع الاستماع اليه و هو يحادثها عن الانضمام الى هذه الطائفة اللعينة ريثما والدها بين الحياة و الموت، و شقيقها الرب ادرى بأمره.

" الآنسة سكازوس مرهقة حاليا سيدي... سيكون من الافضل ان نؤجل الحديث، أ ليس كذلك؟ "

قال و هو يشد فكّه كمن يكتم غضبه.

" ان اصبحت رأسَ عائلةِ سكازوس... فسأحمِل وشمَ العائلاتِ و أشغل مقعدًا بالنخبة ... و حين اصبح من النخبة، لا مجال ليِ للخروج منها حتى لو عاد شقيقي "

رددت بصوتٍ بدأ بالارتعاش و هي تستوعب ما وضعها القدر فيه.

" لن تكوني لمفردكِ زارا العزيزة، سيساعدك الجميع في رحلتك "
اجاب بصوتِه الايجابي المستفزّ مجددًا.

" مساعدة؟ و هل النخبَة جمعية خيريّة يا حضرة الموندِيجو؟ "

عندما تسرّبت الكلِمات من فمِها، تجعّد جبينُ بيرلين فتنهدت طويلا.

" امزح معك سيّدي "

تصلّب وجه بيرلين عندَ اظهارها لاسلوبها الساخر المهاجم مجددا.
" الموت يكسبَك حسّ فكاهةٍ ثقيل "

قاطعت كلامه و انتقمت بمرارة ، محدّقةً في وجهه بعيونٍ زرقاءَ شرِسة.

" و تقدمك بالعمرِ اكسبَك ثقل دمٍ، أ و لم تعمّر كثِيراً في هذه الارض بالنسبة الى مونديجو؟ "

اظْلم وجهه و اظهرَ تعابِير باردة مميِتة  ، و قبل ان تحتدّ الاوضاع، حوّلت زارا نظرها الى الامام حين ظهر شبحٌ مرعب امامها.

" مورتا؟ ماذا تفعلين هنا؟ "

نبست زارا بحيرةٍ شديدة من امرها، استدار كلّ من جوهان و بيرلين للوراء الى ما تصبّ زارا نظرها عليه.

" مورتا؟ "
همس جوهان بِصدمةٍ من منظرها الدامي المخيف.

دماءٌ تتدحرج على صدغها ثم خدها كالدموع و هي تضم مرفقها المكسور بيدٍ مرتعدة من الالم.

تقدمت و حذاؤها يترك وراءها بصمةً من الدماء، سارت مورتا كمن يسير الى حبل المشنقة و عيناها الباردتان لا تتركان اعين زارا المصدومة.

الى ان وقفت امامهم، كجثّةٍ متحركة بدت و هي تبتلع ريقها المخلوط بالدماء.

" آسفة... آسفة زارا "
هتفت بصوتٍ متقطع و هي تضغط على مخارج الحروف.

تجمّدت الدماء بعروق بيرلين الذي كان متأكدا من موتها... لقد ارسل لها احد رجاله لقتلها حين دخلت المشفى... كيف نجت بهذه الحالة؟

ستفضحه... سينتهي امره الان، و هو على بعد ثوانٍ من ذلك.

" لاجل والدك "
اضافت و قد لوَت شفاهها بابتسامةٍ حقيرة و هي تنظر الى بيرلين الذي انصدم َ بِمناورتها.

" سمعت عنه للتو "
استأنفت حديثها و ابتسامتها المريبة تتسع قليلاً و عيناها لا تتركان بيرلين الذي وقف صامتاً كالتمثال...

كان عليك التأكد من موت نيلو قبل موتي ايها السخيف !
سخرت عيناها منه و ابتسامتها تتسع...

لاحظ جوهان ذلك التواصل النظري، و اسوء انه لاحظَ ردة فعل بيرلين التي لا تهرب بتاتاً من الملاحظة.

عرف فوراً انّ بيرلين غير سعيدٌ بفرار مورتا من اي جحيم هي كانت فيه.

" هل انت بخير؟ "

تمتمت زارا و اعينها مغشية بالقلق عليها، لكن مورتا ضحكت بخفةٍ و ابتسمت بصدقٍ لم يره جوهان عليها من قبل.

" لم اكن افضل مما انا عليه الان "

انسجمت نانا مع صافرة الشرطة كي تنسى مصابها...

لاتزال بتلك الملابس العارية مقيدة من يدها خارج المكان لانها كادت تقتل الجميع.

الشرطة تكفّلت بالقاء القبض على كلّ متورطٍ بهذا المزاد غير الشرعي، و منهم بالطبع فيليكس الذي نقلوه للمشفى لانها كسرت جمجمته.

" كيف تشعرِين الان؟ "

التفتت نانا الى كيليان وراءها و هو يلبسها سترته كي تستر جسمها من البرد الفظيع.... تضرج خداها لكنها لم تسمح لنفسها بالانغماس في هذه المشاعر و قلبها مكسور لتلك الدرجة.

" لماذا لم تتركني اقتله؟ "

" ستتكلف العدالة بأمره الان، لا تقلقي، قد يتلقى حكما بالحبس لمئتي سنة على اقلّ تقدير ان نجى من اصابته "

شرح لها و هو يجلس بجانبها يتنهد بعمق.

" كيف انتهى بك الحال الى هنا؟ هل انت غبية ام ماذا؟ "

انطفأت نانا و ماتت قوتها عندما نعتها بالغبية.

" نعم... انا غبية... لهذا لا احد قادر على حبي "
رددت بصوتٍ باكٍ و هي تتذكر كلمات فيليكس التي رنّت بقوة في رأسها.

" توقفي "
همس بقلة حيلة و هو يشاهد عبراتها تتساقط كالامطار.

لا يصدّق ان فتاةً بقوّتها تبكيِ كما لو انها طفلة.

" أ لهذا لا احد يحبني؟ لانني سخيفة؟ لانني قبيحة؟ أ لا يوجد شيء جميل في كي يحبّه احد لهذه الدرجة؟ "

" هل حبّي صعبٌ لهذه الدرجة؟! "

نحبَت امامه باكية على حظها.

" لست كذلك "
ردد بارهاق.

" انت فقط تبحثين في الاماكن الخاطئة عن الحب "

التفتت نحوه و قد توقفت عن البكاء فجأة. .. استغرق لحظة لينظر الى وجهها العاري من مستحضرات التجميل، كانت ملامحها الاسيوية اكثر بروزا،  اكثَر براءة.

" لازلت شابة، ستجدينه يوماً "
اضاف بابتسامة ضيقة و هو يفكّ عنها قيدها.

" و لا اعتقد انك قبيحة... انت جميلة حقا، حتى و انتُ تبكين "
قال بصراحة و قد تسرّب الخجل الى صوته قليلا... نظر الى اعينها المتوهّجة بالدفء، كطفلةٍ تسعى الى كل ما هو جميل و دافئ بدت نانا.

" انتِ اقوى فتاة رأيتها بحياتي... بحقّكِ، كدتُ اقضي باقي حياتي في غيبوبة بسبب ضربة منك "
قال ضاحكًا و هو بدوره يسعى لسماع ضحكة منها... لا يتحمل رؤية دموعها اكثر.

مسحت نانا دموعها بحركة عنيفة و هي تضحك بخفة... مدّ كيليان يده الى وجنتها كي يساعدها على مسح ما تبقى من دموعها.

" فتاةٌ جيدة، امسحي هذه الدموع ، لا تبكي لاجل سافلٍ مثله  "

توقّفت نانا عن الضحك فجأة و نظرت اليه كما لو انها طفلة و هو شجرة ميلادٍ محمّلة بالهدايا.

نانا وقعت بالحب بعد ساعتين من خروجها من علاقةٍ سامة.

و بعد نصف ساعةٍ من ايشاكها على خلع رأسٍ من جسد.

فجأةً هربت الى حضنه بقوة، و كل شيء فيه تبخّر لفعلتها غير القابلة للتنبؤ... تجمد مكانه و هي تسحق اضلاعه من ذلك العناق ، روحه تتدفق من شفاهه بسبب قوتها العجيبة.

" انا احبك! "

اعلنت بكل بساطة عن مشاعرها مسببةً صدمة العمر لكيليان.

مرّت الايام ببطء، و هذا الهدوء الذي صدرَ من بيرلين اتجاه مورتا لم يعجبها.

هي تقطن الان لدى زارا، كانت شاكرة جدا لسذاجة قلبها و طيبته... فلولاها لكان بيرلين قد التهمها و جراحها لم تتوقف عن النزيف بعد.

تنهدت بملل ما ان ظهر جوهان باعينه المشككة و اقترب بما فيه الكفاية لاستجوابها.

" لم اعلم انك و زارا تعرفان بعضكما من قبل "

نبس جوهان بنبرةٍ تنطوي على شك، ردت عليه بنصف ابتسامة باردة.

" ثم هل بامكاني معرفةُ سببِ تواجدك الدائم هنا؟ "
اضاف بلهجةٍ غير مرحبة فضحكت بخفة.

" زارا قامت بدعوتي "
اجابت ببساطة... وقف جوهان امامها محاصراً اياها بجدية.

" الى ماذا ترمين بافعالكِ هذه يا مورتا؟ "

" لا شيء، عرضتُ عليها رفقتي، و هي وافقت بحرارة "
اجابت بنفس النبرة فتنهد بعمقٍ، صمت قليلا و هو يحدق في اعينها الجليدية.

" لستُ اعمى ، ما الذي يحدث بينك و بين بيرلين؟ "

فقدت مورتا ابتسامتها تدريجيا و هي تنظر الى اعينه الحازمة، اتصلت اعينهما لمدة طويلة لم ينبِس فيها احد بحرف الى ان توسطهما احد رجال بيرلين.

" آنسة مورتا، المونديجو يريد رؤيتك "

اتّسعت اعين مورتا بشيءٍ من الرهبة و هو يتلو عليها كلماته... ادركت انه لا يمكنها البقاء بجانب زارا للابد و الهرب منه... و لا ان بامكانها حمايتها اكثر.

ابتلعت ريقها بصعوبة و هو تهز رأسها بِايجاب، تمر بجانب جوهان الذي وضعت في جيبه ورقة خفيةً عن الجميع.

شاهد جوهان مورتا تختفي في السيارة الى الخارج، و هناك اختلى بنفسه و قرأ ما في المرسول.

" ان متّ او اختفيتُ بهذه الايام القادمة... فابحث عن الخنجر الذي سلب مني حياتي  "

المحار و البلوط مع النبيذ المارسيلي...

وجبةٌ لذيذة قبل الاعدام.

فكرت مورتا التي لم تستطع تناول شيئ بسبب يدها المكسورة، و ايضا لانها تكره المحار، و كذلك لانها تظن كل شيء مسموماً.

" لما لا تأكلين ابنتي العزيزة؟ "
سأل بيرلين بِتعجرف و هو يقذف الطعام لفمه باستمتاع.

" للأسف ذراعي مكسورة من محاولتكَ قتلي "
اجابته بابتسامةٍ ضيقة فهز رأسه بتفهم شديد.

" شاهديني اتناول طعامي اذاً "
ردّ بنبرة صفيقة و هو يلتهم قطعة اللحم بِجشع.

ابتسمت لانه لا يستطيِع قتلها بعد كل الحوادث التي طرأت، موتها الان لن يدفع جوهان الا للبحث في موضوعها اكثر... دون نسيان ان مورتا خبيثة، لا يمكنها القدوم الى عشاءٍ مع الشيطان دون ملعقةٍ طويلة.

كانت تملك اليد العليا على المونديجو الذي لا احد فوقه...

مورتا تشعر بنشوةٍ ازعجت بيرلين الذي نجح في اخفاء ذلك.

" سرّك بأمانٍ معي يا بيرلين "
نبَست من العدمِ و اعينها الساخرة تعلقُ باعينه الغاضبة. ؛ أضافت.

" انا سأحفظ سِرّ انّك تهدِف للقضاء على عائلة السكازوس، و التي تكون احد اعضاء النخبة ، العائلات المقدسة التي فدينا ارواحنا لها "

دخولها في التفاصيل كان بهدف اشعاره بضخامةِ جريمته.

توقّف بيرلين عن الاكل، وضع شوكته و سكينه جانبا، مسحَ زوايا شفاهه بِمنديله بِكياسة ثم وضعه.

حدق في مورتا بتعبيرٍ غير قابل للتفسير، لكنها علِمت انه يستشيط غضبًا.

" و بالمقابل؟ "
كسرَ الهدوء بنبرتِه الصّفيقة ؛ هزّت رأسها ببطءٍ و هي تبتسم.

" اريد منصب المونديجو "

كيفية التعامل مع شخصٍ يمرّ بمرحلة نحيب.

انتقل جوهان من كتاب معاملة الانسات الى هذا الكتاب بسرعة البرق و اخذ ملاحظاتٍ منه ايضا.

عادةً ما يسخر من اخوته حين كانوا يبكون لاجل اخٍ او اختٍ فقدوها... لكن لا، بالطبع لن يفعل ذلك مع زارا.

و ان استمتع باحتساء دموع غيره بكؤوس مارتيني ، الا ان دموعها هي آخر ما قد يستمتع بها.

تطبّعه سيغلب طبعه هذه المرة لاجلها.

" ماذا تفعل؟ "

اخفى كتابه بسرعةٍ و نظر اليها، لم يسمع خطواتها و هي تدخل مكتبَ والدها الذي اصبَحت تستعمله منذُ مرضه.

" لا شيء، كنت انتظرك "

قال بنبرة عادية و هو ينهض  ، ثم جلس على حافة المكتب يشير بعينيه الى الملفات التي تركتها عليه.

ألقت نظرةً عليها، و حين كان ينتظر جوهان شكرًا منها، قابلته بنبرةٍ عديمة الرحمة.

" هذا ليس بعملك "

اختفى الفخر كليا من وجهه، لقد عمل منذ الصباح على تغيير صيغة العقود كي يتسنى لها فهمها بما انها تفوق مستواها، يشرح لها بملاحظات صغيرة الكلمات التي قد يتعسّر عليها فهمها...

مزاجها البارد كان يزعجه،  لكن الكتاب قال ان ذلك طبيعي بموقفها... شخصٌ من عائلتها يحتضر، قيل انه امر مؤلم...

جوهان لم يستطِع تفهّم ذلك لما انه لم يملِك عائلة من غيرِ بيرلين.

" لا أثِق بأحد من موظّفي والدك... انّهم لا يحبونك "
تمتم بعدم اكتراثٍ.

" يعتقدون انني فتاة وقحة مدللة "
علّقت بصوتٍ منخفض و هي ترتدي ابتسامةً ضيقة لكنها اثارت فيه بعض البهجة.

" تعلمين، بيرلين اعتاد اخباري ان عليّ ترهيب حصاني لترويضه "
اقترح عليها استخدامه لزرع الرعب بنفوسهم بطريقةٍ مغلفة بعناية.

" طرق تربيته غريبة للغاية "
علّقت بعدم اكتراث، بدا ان زارا تعودت للغاية على نمط حياة الظلال الدائمة.

" لكنها مفيدة "
تمتم بخفوت و هو يرتدي ابتسامةً ودودة.

هزّت رأسها بلا فائدة و هي تجلس على المقعد الجلدي، صمتت قليلا قبل ان تكسر الجليد بينهما.

" اريد طلب معروفٍ منك "
جاء صوتها بنبرةٍ باردة.

" موافق "
وافق على الفور، رفعت حاجبها باستغرابٍ نحوه.

" لم اتحدث بعد "

" زارا سكازوس تتخلى عن كبريائها و تطلب مني شيئا لاول مرة و ارفض؟ "
نبَس بتهكم فهزت رأسها بلا فائدة و قد ارتدت شفاهها ابتسامةً خفيفة...

ابتلعت زارا ريقها كي تجفف فمها، ثم انساب من شفاهها صوتٌ فارغ.

" هلاّ كنت الشخص الذي يرسم عل جلدي الوشم؟ "

تلاشت ابتسامة جوهان عند كلماتها، و معها صمت طويلاً...

" هل قبلتِ ؟ "
نبَس كاسراً الصمت.

" و هل امامي خيار؟ "
قالت و هي تنظر باعينها الفارغة الى الافق من وراء الواجهة الزجاجية الواسعة .

صمت جوهان قليلاً و قدْ تصلّب فكّه قليلاً، بدا انه غير راضٍ، غاضبٌ قليلاً و قد تمكن من اخفاء ذلك لكن صوته المتهدّج فضحه.

" انت مرهقة من العناية بوالدك ، خذي قسطًا من الراحة ثم فكري بالامر مجددا، فلا مجال للعودة بعدها... "

لم يُردها ان تكون منهم، يده ارتعشت لوحدها من القلق الذي دقّ بعروقه اتجاهها... كانت أرقّ لتكون منهم، النخبة ليست مكاناً لمن يملكُ مبادئ، لمن يفكّر بغيره قبل نفسه.

زاراَ ستموت بأول سنةٍ لها ان انضمّت لهم... كان متأكداً.

و كان متأكداً من انها هي من ستنهيِ امرها.

ثم...

ستبتعد عنه اكثَر و هي من اعضاء النخبة... حتى لو اصبح مونديجو.

" والدي يموت يا جوهان، و شقيقي سيموت قريبا ايضا ان لم احصُل على القوة "
قاطعته بصوت تخللتهُ بعض الحدة .

" الامتيازات التي سأحصل عليها ستخوّل لي و لك حريةً اكبَر بالبحث عنه... الواسطات لا تعد على الاصابع، المال و بالطبع...  سأعرف اخيراً سر تلك الغرفة الملعونة "

تراجعت كلماتها الى همسةٍ و قشعريرة قد سارت على طول عمودها الفقري.

" لا "

قال بصراحةٍ مطلقة و هو باتصال نظري مع اعينها المدهوشة.

" لماذا؟ "

عجز عن الاجابة، عجز بدوره ايجاد اجابةٍ تفسّر كرهه الشديد لهذه الفكرة...

او ربما خشيَ طرح الاجابة التي يدركها جيدا.

حقيقة انه قدّم زارا على كلّ ما دفعه للعيش قبل ان يعرفها.

انه تغيّر كليّا، اصبح الشخص الذي لم يرد ان يكونه... شخصاً يصغيِ الى ضحكة محبوبته بدل الموسيقى.

اثناء ذلك، طرقت السكرتيرة الباب مخبرةً اياهما انّ بيرلين قد قدم لرؤيتها فسمحت له بالدخول.

كان بيرلين على غير عادته يرتدي ابتسامةً من الاعماق حين اعلمته زارا بالخبر، و ابتسامته كانت تلمع بشكلٍ يعمي الاعين...

" كنتُ سعيدًا للغاية لسماع قرارك زارا العزيزة ، ينبغي علينا البدء بِالاستعداد للمراسم بأسرع وقت ممكن،  أ ليس كذلك جوهان؟ "

تحدث بفخرٍ و هو يجد له مكانا على الاريكة...

مخططه يجري كما يريد...

والدها سيموت...

و زارا ستأخذ مكانه...

و فتاةٌ مثلها حين تحصل على اسرار والدها، لن تتردد لحظةً في التخلي عنها لاجل آخر فردٍ تبقى من عائلتها.

ستخون النخبة...

و عندها سيتمكن بيرلين من طرد عائلة سكازوس...

و الاستحواذ على مشروع والدها كما تنص القوانين.

" لن تحدث اية مراسم "
كسَر صوت جوهان الفارغ أحلام بيرلين الذي ماتت ابتسامته اسرع ميتةٍ بالتاريخ و هو يدير رأسه ببطءٍ شديد الى جوهان.

" جوهان "
ألحّت زارا ان يصمت، لكنه استمر بتجاهلها،  اعينه كانت معلقة على اعين بيرلين التي لا تتركه ايضا.

" هلاّ تركتنِي قليلاً مع ابني العزيز يا زارا العزيزة؟ "
طلب بيرلين لكن ابتسامته المشدودة جعلت طلبه امرًا.

نظرت زارا بينهما ثم تنهدت بقلة حيلة و رحلت.

" هي ليست مؤهلة لمنصب كهذا ،  هذا انتحار لاسم عائلتها، و لها "
برر جوهان بصوتٍ حافظ على ثباته قدر الاستطاعة.

" و منذ متى تهتم بهذا القدر بشأنها يا جوهان؟ أ لم تتوسّلني ان أعفيك من مرافقتها بالماضي؟ أ لم تقُل انها محض فتاة سخيفة كل ما تجيده هو حفر قبرها بيدها؟ "

تخللت نبرته بعضُ السخرية التي لم يتحملها جوهان  .

" هي ستموت ان انضمت اليهم! انت تعرفها! غير قابلة للتنبؤ! مبادئها ستدفعها للوراء دائما! "
ارتفع صوته مع كل كلمة ... تضاءلت ابتسامة بيرلين عند ذلك الفعل الذي يفتقر للاحترام... جوهان لم يقلل احترامه للمونديجو بأي طريقة ممكنة بحياته، نفذ الاوامر على اكمل وجه، و لم يرفض يوما طلبا...

" منذُ متى تهتم لروحٍ بهذه الدرجة يا ابني العزيز؟ "

كان بيرلين يعلم و بشدة،  يعلم ان اعين جوهان الحمراء هذه مولعةٌ بزارا، ان عيونه النذلة ستذرف دماً بدل دموعٍ ان حدث لها شيء.

" سيدي المونديجو... "
فقد جوهان جسارته، فقدَ صوتَ عقله... فقد كل شيء حين يتعلق الامر بها.

" اجلس يا بني "

اشار له بعينيه ان يجلس ففعل... ينظر من وراء اهدابه الكثيفة ببريق حقدٍ الى بيرلين الذي لم يخفَ شيءٌ عنه لكنه بقي مبتسمًا...

رفع حاجبه كاسراً صمتاً جليديا بينهما.

" ان كنتَ تتوق لمعرفةُ ما يخشى المرءُ خسارتَه  .. فانظُر الى الصور التي يلتقِطها "

انهى بيرلين جملته بابتسامةٍ عطوفة و هو يُشير الى هاتف جوهان الذي كان موضوعا على سطحِ الطاولة؛ تفاجء جوهان حينَ ادرك ان بيرلين فتّش فيه بطريقة او باخرى...

اصِيب بالبُكم حين واجهه بالحقيقة، لكنه لم يفقد جسارته.

قبل كل شيء، جوهان لم يقترِف ذنباً و لم يخترق القوانين.

هي صورة و حسب... لا تُجِرمه و لا تدِينه بِشيء.

القواعد تحرّم العلاقات الجسدية، لكنها لم تحرّم الحب ّ بأشكاله الطاهرة. 

" أ تعلم يا جوهان؟ أعرفك بما فيه الكفاية لاستشعار الخوف يتدفق من مسامك "

" و مما قد اخاف يا حضرة المونديجو و انا لم اقترف ذنباً؟ "
ردد وراءه على عجلٍ و بحدة ، تدفقت ضحكة خفيفة من بيرلين و كأنه يقرّ بسخافته.

" تذكّرني بشخص عرفته بالماضي يا جوهان... شخصٌ كان يِعتقد ان بامكانه الفرار دائما بحبه  ... "

" أ تريِد سماعَ قصّته جوهان؟ "

صمت الاثنان و تبادلا النظرات، و دون ان يجيب جوهان، استرسل بيرلين الحديث و هو يجلس بكبرياءٍ على مقعدِه.

" حين كنتُ بالتاسعة عشرَ، اي سنةً قبل ان اصبحت المونديجو... كنت مثلك، ظلا دائما انتمى الى الطبقة الذهبية، المونديجو السابق لم يكُن ودودًا معي، لكنّ اعضاء النخبة احبوّني و احبّوا اصراري... "

توقّف بيرلبن للحظة، تغيرت ملامحه من الفخر الى الاشمئزاز و هو يعتصر قبضته.

" و في الكفة الاخرى، كان للمونديجو ابنٌ عزيز فضله على الدوام اكثر من الجميع... اسمه كان سولين "
لفظ اسمه بِحقد شديد.

" اسمه كان يعني الشمس، لكنه عاكسه تماماً... شعره الداكن، اعينه الداكنة الفضولية، وجهه كان منحوتاً بالدهاء و الكبرياء... لا استطيع ان اتذكّر شخصًا احبّ سولين لشخصِه، كان شخصاً سيءَ الرفقة، لئيمًا باردًا... "

توقّف بيرلين مجددًا، رفع بصره الى جوهان يحدّق عميقاً الى عينيه الفضولية.

" الا لونا... "
تدفّق اسمها مع حسرةٍ باهتةٍ كادت تكون زائفة لجوهان الذي اصابته قشعريرة من هذه النظرة الغامضة التي اعتلت بيرلين.

" و مثل سولين، لونا كانت تناقض اسمها ايضا... شعرها كان أشقر كخيوط الشمس، اعينها خضراء كالربيع ، لسانها يحمل على الدوام نكتةً او كذبة ... هي لا تمدّ لليْلِ بصلةٍ سوى في جماله "

افترت شفاهه عن ابتسامةٍ فاترة و هو يصِف صورتها العالقة بِذكراه، صورها المجمّدة بِعقله للابد.

" لونا احبّت سولين... و كنتُ اعمى لانني لم الاحظ ذلك عليها "
قال و هو يفقد ابتسامته مجددا.

" تريد معرِفة ما حدث لهما؟ "

سأل فجأة و كأنه تذكّر تواجد جوهان للتو من بين حطام الماضي... لم ينبِس جوهان بحرف، لكنّ بيرلين اراد اخباره على كل حال.

" سأخبرك في كل الاحوال "

»»————> عامُ ١٩٩٢  <————««


" لونا "

تدفّق اسمها عبر شفاه بيرلين المبتسمة باحتقارٍ تام، حوّلت اعينها الخضراء الجاشية من صفحات كتابها اليه، عيناها الباردتان الحذرتان  تنظران اليه من تحت اسهمها الذهبية.

" نعم بيرلين "

كان بيرلين منتصبًا امام نافذة المكتبة العظمى الّذي احتوت اكثَر من مليونِ كتابٍ نادر، كلها بقصر المونديجو.

نهضت لونا و اغلقت كتابها، تسير بقدميها النحيلتين و بتعابيرها الميتة اليه حين اشار لها... تمتم بشفاهٍ تبتسم باكراه.

" بالحديث عن الشيطان، ها قد ظهر "

سولين... محبوب المونديجو.

مطاردٌ بأعينَ مترقّبة، بعضها حقودة، و اخرى متطلّعة...

كان مثاليا...

شعره الداكن الذي يلتف وراء اذنه، اعينه البنية المليئة بالازدراء و مشيته المحشوة بالكبرياء كانت لتجذب انتباه اي احد.

شابّ في العشرين من عمره حملَ دهاءَ و حكمة رجلٍ عاش ألف سنة...

حتى لو كرِه بيرلين الاعتراف بذلك، الا انه لم يكره سولين بقدم ما  كنَّ غيرةً و حسدًا عظيما له.

"أ تعلمين، حين سأصبح المونديجو، سألفق له تهمةً دون شك و أسحب قلبه بيدي امام الملأ "

تمتم و هو يشدّ فكّيه كما يشدّ غضبه...

" قلبهُ هاه؟ "
تدفّقت تلك الهمسة الطائشة من شفاه لونا الرفيعة و هي تلعب بخصلات شعرها اللولبي، فجأةً رفع سولين بصره اتّجاهها و توقف عن السير... تبادلت اعينهما نظراتٍ خاصة.

ثم ابعد نظره عنها، و اختفَت صورته عنهما نهائيا تحت النافذة.

" هناك خطبٌ بما قلته لونا العزيزة؟ "
سأل بيرلين بنبرةٍ غير راضية.

" لا، على الاطلاق... "

عادت لونا الى انهاء كتابها... لكنّها جلست لانهاء صفحةٍ لمدةِ ساعة.

لونا اصبحت اكثر شرودًا و اقل حديثا منذ عودة سولين.

لونا اصبحت تغيّر يوميا من تسريحات شعرها الذهبي...

تحرص دائما على ان يكون شكله جميلاً.

و في يومٍ ربيعيّ جميل، وقفت امام النافورة، نزعت رباط شعرها الحريري كي تعدل منه لكنّ الريح سلبه منها...

حاولت لونا استعادته و هي تمد يديها للسماء، لكنّ ايادِي سولين الطويلة استطاعت التقاطه قبل ان يطير بعيدا.

" تفضلي "
مدّها به فتعانقت اناملهما بسريّة، شعرا بنفس الاشياء من لمسة بسيطة ، و اعينهما خاضت أخطر العلاقات الشيطانية في ظرف ثوانٍ تمددت طويلاً بينهما.

كل هذا حدث امام اعين بيرلين الذي شعر بِالخيانة.

حين ادرك ان سبب تغيّرات لونا كان سولين... عدوّه اللذوذ.

يضع يده على السور ثم يرحل، لونا تعيد وضع يدها على نفس المكان من السور، كأنها تحاول لمس ما تبقى من دفئه هناك.

يقرأ كتابا ثم يعيده مكانه، تفتح لونا نفس الكتاب و تشتمّ رائحته التي علقت منه عليه... تقرأ رسائله المخفيّة.

يجلس دائما تحت الياسمين رغم انه يكره الازهار، فقط لانها تذكره بعطرها... و يحبّ الوان الخريف لانها تذكّره بلون عينيها المميز.

بيرلين لاحظ ما لم يلاحظه احدٌ غيره.

لونا خاصته وقعت بحبّ الرجل الذي يكرهه اكثر من اي شيء.

و فجأة و بزمن قريب... اختفت لونا من الوجود.

ابتلعتها الارض او المحيط او كلاهما...

لا احد استطاع ايجادها.

مع تكاثف البحث عنها و عدم ايجادها، اقتنع الجميع انها ماتت و لم تهرب...

لكن بيرلين علم، بيرلين علِم ان لسولين يدًا في اختفائها.

مرت الايام، ثم الاشهر... و بيرلين من دون لونا يتآكل، اما سولين فكان يزدهر اكثَر مما فعل من قبل...

رُفعت الاقداح بصحته ، و قرّر الجميع بأنه المونديجو التالي من جودةِ انجازاته.

اصبح سولين اكثَر اهتماماً بمنصب المونديجو كمن يملكً غايةً عظيمة من منصب كهذا.

و ذات ليلة، أعلن المونديجُو انّه قرّر اخيراً خليفته.

اختار سولين كمونديجو... و أعلنَ ان تتويجه سيكون الاسبوع القادم.

و بنفس المدة، وجد بيرلين بطريقة او باخرى بيتاً وحيدا استفردت به السهول الخضراء، و حفت به الزهور.

بياضٌ كثير في المكان...

جدران بيضاء، نور الشمس المتدفق من خلال الستائر المخرمة، مفارش بيضاء ، خاتمٌ ابيض ، لم يعلم ان الابيض بامكانه ان يكون مضيئا بهذه الشدة في هذا البيت المتواضع ...

و هناك بمنتصف الغرفة شابةٌ بفستان ابيض و شعرٍ ذهبي، تحملُ وليدها الحديث كما لو انها تحمِل هديةً من الرب بعظمته. 

تلاعبه و تقبّل خدّيه... تستنشق رائحته كما لو انها تريد امتلاكه للابد...

بيرلين الذي وقف من بعيد وراء الشجرة كثيفة الاغصان، لم يرَ يومًا لونا بهذه السعادة.

كانت البهجة تتدفق بفيضٍ هائلٍ ، من عينيها، من ابتسامتها، من صوتها، حتى من ملابسها الناصعة...

و هناك ظهَر سولين الذي لم يرَه من قبل مبتسمًا، يرتديِ أوسع ابتسامةٍ و هو يحمل ابنه و يحضنه... يقبّل رأس لونا و يستنشق عطرها، صدره الواسع ضمّ حبيبته و ابنه دونَ ضيق.

وعدها انّه سيجد حلا لهم ليعيشوا نعيمهم للابد...

كي يعيش ابنهم و هم معاً.

كان ينوي تغيير قوانينَ استمرّت لمئات السنين فقط لاجل اعينها الحبيبة.

سولين كان يملك خطةً لاجل ذلك، و كان يعيش سعادةً مطلقةً لم يكُن سيقايضها بكنوز العالم لو اراد.

لكن بيرلين لم يكُن سعيداً البتة.

بيرلين كان يشعُر بالاهانة...

كان يريد الانتقام.

»»————> الحاضِر <————««

" ما الذي حدث لهما بعد ذلك؟ "

سأل جوهان بيرلين الذي اندمج مع الماضي لدرجة انه توقف عن الكلام.

" ماذا تعتقد؟ "
ردّ بابتسامةٍ نذلة.

" وَشيتَ بهما في حفل تتويجه كمونديجو "
اجابه جوهان بأوّل فكرةٍ اعتقد انها ستصدر من رجلٍ كبيرلين.
" و قُتلاَ حينها "

أكّد بيرلين بابتسامةٍ فخورة على صحّة اجابته و هو ينهض، يرتدي قفّازه مستعدًا للرحيل.

" آمُل انك استفدتَ شيئا من القصة "
علّق و هو يمسك عصاه، يسير بها للخارج، لكن جوهان استوقفه بسؤالٍ من العيار الثقيل.

" ماذا حدث لابنهما؟ "
انزلق سؤاله بعد صمت طويل، بصوتٍ متهدج... كما لو ان جوهان لم يكُن مستعدًا لسماع الاجابة التي استنتجها.

اتّسعت ابتسامة بيرلين الشيطانية، فرش يده على كتف جوهان المشدودة،  ضغط بها عليه بشكلٍ غريب ... شعر جوهان انذاك انه ارنبٌ امام اضواء سيارةٍ مسرعة، مشلولٌ فاقدٌ للارادة ... دقّ الرعبُ بأوتاره و هو ينتظر الاجابة التي ستحرمه نومَ ليالٍ طويلة.

انحنى بيرلين الى اذنه هامسًا.

" لما لا تكتشف ذلك بنفسك يا ابني الذكي؟ "

لفظ آخر كلماته بصوتٍ مشابه لفحيح الافعى... ثم رحل بكل بساطة.

حاولت زارا مناداة جوهان، استخراجه من غيبوبته العميقة التي لم تسمح له بالتفاعل مع كلمة منها.

كما لو ان الصدمة شربت صوته و روحه، بقي جالسا دون حراك، يحدّق في الخاتم الذي يتدلّى من عنقِه دائما.

الى نقش القمر و الشمس...

كانت السماء حمراء مرعبة في الليل، قيل انها تحملُ ثلوجًا ثقيلة... لكن كلّ ما قدمته للآن هو صقيعٌ قاسٍ.

كان الوقت يتأخّر... لكن زارا رفضَت الايواء لفراشها الدافئ، خاصة بعد اختفاء جوهان الغريب و الذي لم يعُد للبيت منذ البارحة، و ايضاً بسبب ازدياد حالة والدها سوءً... مسكّنات الالم بانواعها لم تعُد تفيده، و لم يجِد قليلا من راحته الا بعد ان تجاوز الطبيب الجرعة المسموحة له رغمًا عنه.

و رغم تلك اللحظة المرعبة، الا انّها آلت لليلةٍ هادئة، خاصة حينَ رضِي والدها بتناول عشائه منذ زمن طويل، و بقيت معه تدردش كما لم تفعل من قبل.

"و  اضطررت الى ازالة الوشم الذي حصلت عليه و انا بالخامسة عشر، ذلك الذي اغضبك "

تحدّثت زارا دون توقّف امام هيكلِ والدها العظمي الذي استنزفه المرض من كل قوته و جبروته... لاول مرة بحياتها تكلّمت معه لهذه الدرجة، دون مقاطعةٍ شرسة منه و لا دون تلعثم منها.

و هو صمت لوقت طويل، احيانا ينظر الى السقف، احيانا الى النافذة و احيانا الى الصور الموضوعة على منضدته... لكنه نادرا ما نظر الى وجه ابنته.

" مراسمُ التنصيب ستتمّ بعد اسبوع، بدأت بحفظ ما ينبغي علي قوله، لا تقلق، لن أحرج اسمنا اكثر مما فعلت "

اضافت بسرعة و التوتر يدقّ بعروقها كما لو انها تكلّمه عن حفل تخرّجها و حسب...

مجددا هو لم يعلّق بشيء، اثار الامر شيئا من غضبها.

" لما انت صامت هكذا؟ قل شيئا... مثلا :جيد،  لا تتعثري، لا تتلعثمي، لا تجعلي حياتي اسوء مما هي عليها "

قهقهت في نهاية كلامها لتضفي على مأساوية الامر شيئاً من الدعابة... نظر اليها طويلا فماتت ابتسامتها، صمتت قليلا قبل ان تنبس بما احتفظت به طيلة الوقت.

"او لما لا تخبرني  لِما تركتَ المرَضَ ينال منك؟ "

لأجلِ حبّ ابنة، توسّلته ان يخبرها.

" في ذلك المجلِس... النّخبة... احدُهم يدعى رِيمو ، اخبرني جوهان  الكثير عن تلك العائلة ...  هو يملك شركة ريمو للأدوية الشّهيرة... سَمِعتُ أنّه يملك دواءً لأغلب الامراض المتعارَف عليها... السّكرِيّ، التهاب الكبد... و حتّى السّرطان!  كان سيمنحُك ايّاه دون تردّد! بل... بل اراهن ان بيرلين كان سيفعل! "

تحدّثت و صوتها يزداد نسبيا مع كل كلمة الى ان اصبحت تتحدث بهستيرية و الدموع بعينيها.

" لِماذا لم تُخبِر احدًا بمرضك؟ و تركتَه ينتشر؟ لا يمكنُ لشيءٍ علاجه الان!! "
انفجرت و الدموع معها...

استوعبت مجددا بعد تخدير نفسها طيلة الوقت ان والدها الذي امامها سيختفي...

بعد يوم او يومين...

ثلاثة او اربعة...

وقته محدود، و قريباً ستجده في كل مكان، و لن تستطيع العثور عليه في اي مكان.

جُنّت لفكرة انها لن تراه مجددا.

لن تجِده جالساً بالصفوف الخلفية لعروض الباليه خاصتها مع ايزاك...

لن تجِده بمكتبه طيلة الوقت...

لن تجِده يحدق الى صور امّها...

لن تجدَه يترأس طاولة العشاء الباردة...

لن تجِده يقضي عيد ميلادها عند قبر والدتها...

لن تجده في اي مكان.

" و لما تهتمّين جدّا يا فتاة؟ أ لم تقولي انّك تكرهينني؟ "

تحدّث فجأةً بنبرةٍ بحّة مرهقة جعلتها تنظر اليه باعين مموّهة بالدموع.

" لا يمكنك انجاب طفلٍ لعين الى هذه الحياة و مغادرتها هكذا؟! "
لم يوبّخها مجدّدًا على استخدامها لألفاظٍ نابية ، لكنّه تبسّم ضاحكاً...

تبسم لها قليلاً طيلة حياتها... أ هذه ستكون آخر مرة؟

جرّده المرض من جبَروته... بل حتى من نظرتِه القاسية، و بقيت عيناه ملوّنةً بظلٍ غامق من الحسرة و هو ينظر اليها.

الى الفتاة التي اخذت منه الكثير...

اخذت ملامحه و زرقة عينيه...

اخذت اسمه و كآبته...

اخذت زوجته الحبيبة...

الى الفتاة التي لم يعْرِف كيف يحبّها.

" لم تعوديِ طفلةً بعد الان زارا... بل لم تكونِي طفلةً يومًا... منذُ البداية، لديكِ مخاوف امرأة و ليسَ طفلة ... تفكّرين كثِيرًا... مثل والدتك "
تراجعت كلماته الى همسة حزينة و هو يتداعى امام الموت كشمعة.

توسّلته طيلة حياتها ان يروي لها عن والدتها التي حملتها برحمها... و ها هي نالت ما ارادته بعد عناءٍ طويل.

" هي ماتت دونَ ان تريهَا، دونَ ان تتعلّمي شيئا واحدا منها... لكنّك لم تشبِهي شكلها و حسب... بل اخذتِ طباعها ايضًا "

كانت تسمعه  مصغية ، و عواطفها تنمو و صدرها يضيق حتى شعرت بان اضلعها تكاد تتفجر  ، اما كولين ، فكان ينظر اليها و جسده الضعيف يهبط ببطء بين الوسائد و المساند، نفسه المتعبة ترتجف كشعلة السراج امام الريح.

" حتّى و انت تبكين، تبكِينَ مثلها "
حاول الكلام لكنه لم يستطع لان الموت  شرب صوته فخرجت هذه الالفاظ لهاثا عنيفا بين شفتيه اليابستين.

اخفضت زارا عينيها المموهتين بالدموع عن بصر والدها كي تبكي بحرية...

بكَت بصمتٍ لكن صدرها لم يتوقّف عن الاهتزاز بعنفٍ...

اجتمعت احزانها بتلك اللحظة، قلقها و مخاوفها كلها في صدرها فكاد ينفجر.

" اتمنّى لو ناديتني باسمي اكثَر سابقاً "

همست بصوتٍ لا يُسمع و اسمها يرنّ بصوتِه في اذنها.

كانت امنيةً ان يستخدم اسمها بهذه النبرة الحنون...

امنيةً تركتها قبل نفخ شمعة ميلادها.

امنيةٌ استحفظت بها للأشهب.

فتحت فمها كي تخبره شيئا اخر و هي ترفع بصرها اليه، لكنّها توقفت مكانها عندما شعرت بشيءٍ مغاير...

والدها كان يتوسد سريره كما كان من قبل، مغمض الاعين... لكنها لم تشعر بروحه بعد الان فجأة.

كَلوحةٍ من عهد النهضة، ملطخةٌ بالزيوت و الدموع، بدا في عينيها.

ارتجفت شفاه زارا  و قد اتسعت عيناها بشدة على ذلك المنظر السوداوي... اقتربت فانحنت لتسمع انفاسه ... و لم تجد شيئا.

مات والدها امامها دون ان تستطيع منحه وداعاً لائقاً   ، و  عانقت الابديةُ روحَه في مكان لا تلمسه شمسٌ و لا قمر.

جفت الدموع بمحاجرها، لم تتحرك و لم تصرخ و لم تتاوه، بقيت محدقة بعينين متجمديتين كعيني التمثال، ثم تراخت اعضاؤها مثلما تتراخى طيات الثوب البليل ... و تقبلت الامر بتنهيدة مرتجفة كسرت سكون ذلك المكان المظلم.

نهضت بهدوءٍ مريب  و سارت بسرعةٍ الى فتحِ ابواب الشرفة المغلقة، اندفع الريح الجليدي الى الغرفة، شعرت به يقطّع وجهها كشفرةِ حديد دون رحمة...

لكنها شعرت بالراحة لانها فتحت الابواب في الوقت الملائم.

روحه الان استطاعت الخروج... فكّرت و قد تجمدت دموعها بفعل الصقيع.

< يُتبَع... >

تارِيخ نشر الفصل : ١٥/٠٨/٢٠٢٣ .

Продовжити читання

Вам також сподобається

353K 794 3
» وُضِعْت بين نارَين مُلتهِبتين اثنتين، بينهُما. « » هو يُخبرُني انّه قدري الحتمي، لا مجال للهُروب من مخالبه المتغطرسة ولو افنيت كل حياتي وانا احاول...
67.1K 4.3K 24
|A B O U T L O V E|⋆⭒˚。⋆ •||𝐖𝐫𝐢𝐭𝐭𝐞𝐧 𝐛𝐲: 𝐢𝐬𝐚_𝐞𝐯𝐞...✍︎||•
255K 12.6K 28
اكسري قيود وحدتي. وسأستمر كوني سئ للغاية. أنتِ لا تعلمين من هو. أبتعدي عنه ذلك الطالب المفصول. يدُعى جونغكوك. ـ جيون جونغكوك ـ يون ايريم.
25.5K 803 10
ولِدوا في الدماء أين يولد الفن بين أيادٍ دامية أين يعم السواد وتغلق أبواب النعيم في وجوه ستة من وحوش قد ولدوا في الدماء ماذا لو تقابلوا في نقطة واحد...