صـــه || HUSH

By merry_ah

98.7K 7.4K 7.9K

{K.TH&J.JK} -حيثُ تحتضِنُ العاصمة لندن القصر الشامِخ لأعظم عائلة سحرة في التاريخ، عائلةُ السيد كيم، دافنةً... More

{مَــدخَــلْ.}
{إعلان الرواية.}✨
{ رَقصَـة - الـرَجُل المُقنَـع. }
{ خَفـيفُ اليـد - عَـرضُ الضـاحيـة }
{ مَتـاهة - عَـرينُ الأخـوَين }
{ عَـشاء - دَاكِـنُ الـعَينين وَثَـقيلُ الـصَوت. }
{ فُرشـاة - أشقَـرٌ مَخملـي. }
{ دَعـوَة - غمـوضٌ وفضـول. }
{ المَاضي - سِـرٌ مَكنون. }
{ تَفسيـرات - قناعُ الأرنَـب. }
{ نَـوايا - ابنُ الـدوق. }
{ حقائق - تِلك الإشارات. }
{ الجناحُ الغربي - مواجَهة أولـى. }
{ ذاتَ الحُسن - سِـرُّ الليدي. }
{ هَمَسـات - قرارُ الـوَريث. }
{ زِيـارة - مكنونـاتُ قَلـب. }
{ تشتُّـت - خطُّ البدايـة. }
{ حِكايـات - الطريـقُ لِلمجـد. }
{ أفكَــار - ثعـابينٌ فضيّـة. }
{ صحـوَة - انطِلاقـة جـديدة. }
إعلانُ الباب الثاني/ فصلُ الصيف.
{افتتاحيّـة -أرنبُ القَصـر.}
{بنينُ الـعتمة -مَـلِكُ الرُقعـة.}
{طلَـب -شوكـولا حُلـوَة.}
{خطـوة -غُــرابٌ داكِــن.}
[وعـود- رابِطـةُ كيـم.]
{التـوأم-همـسٌ وتـاروت.}
[جـولَـة- ذاتَ الكـراميـل.]
{خفايا -الماضي والحاضر.}
{الشـروق-ما يقبـعُ في القلـوب.}
{مُفتـرَق-الـرحلة والنتيجـة.}
{خيـوط -على الأعتـاب}

{لُـعبة -نبـضٌ قديـم.}

1.2K 116 155
By merry_ah

بعد طول انتظار~ فصل ب10 آلاف كلمة ينتظركم لغرض التعويض🌚 لذا جهزوا بعض الأطعمة والمشروبات وانطلقوا!

.

.

━━━♔━━━

-23-

[ما اسمك؟]

━━━♔━━━

.

.

.

┓♠━━━━━⚜━━━━━♠┏

[قولي.. ما رأيكِ بلُعبة؟]

تجمّد العسل في عينيها، وقد تباغتَ ذهنها بتلك الكلمات. أصبحت إيميليا تنظُر في الإيرل الأصغر جونغكوك بوجهٍ يحيرُ متخبّطًا بتعابيره، فقد كانت متفاجئة وتشعرُ بالارتيابِ في الوقتِ نفسه.

الإيرل جونغكوك.. يدعوها إلى لعبة؟

لا تزال المكتبة حولهما صامتة تُراقِب تلك المحادثة، حيثُ كان الإيرل يقِف في الدورِ السُفلي يختزن كتابه في يده. تلك العينان الّتان بدتا كحجرين أسودين وباردين تُحدقان في الآنسة القريبة من الشرفة وكأن نظراتهما لن تخطئها أبدًا، وهذا ما جعل كلمات إيميليا تعلقُ للحظاتٍ في حنجرتها كما لو أنها حائرة بالإجابة التي ستمنحها لعرضٍ كهذا.

كل ما كانت تتوقعه في نهاية هذه الأُمسية هو مجيء آنا التي ستخبرها بموعد حلول العشاء، ولكن الأمر ينحدر إلى شيءٍ آخر تمامًا. إنها.. لا تشعر بالراحة مع هذا الرجل، فعلى الرغم من أن جميع سكّان القصر يحملون غموضهم الخاص على أكتافهم، إلا أن الإيرل الأصغر بطريقةٍ ما.. يبث فيها شعورًا مختلفًا جدًا، حتى لو لم تعلم بالضبط ما هيّته. هل ستكون فظة لو رفضته؟ أو أنها ستخسر فرصةً ما أو اختبارًا آخر من الإيرلين؟

رفّ جُفنيها للحظاتٍ وقد هربت عدستيها الفاتحتين من عمقِ الظلام في خاصته، فقد عصفت التساؤلات رأسها من جديد. كان عليها أن تُمهِّل توالي الشكوك فيها لتتأكد مما تريد فعله قبلَ أن تتساءل ما إن كان عليها أن تتبع طبيعة فايوليت أو أن تنطق بأولِ شيءٍ تشعرُ بأنه نابعٌ من رغبتها. لم يكُن ذلك صعبًا كثيرًا مذ أنها لا تزال لا تثق بالإيرل الذي كان يُخيّل إليها بأنه لا يحتمل وجودها في الغرفة نفسها معه، فلمَ هذا العرض فجأة؟

هبّت نسماتٌ ليلية في الخارج، تجعلُ أوراق الأشجار الداكنة تتمايلُ بهدوءٍ لتحجُب أنوارَ الحديقة الملونة لثوانٍ قبل أن تعاود السطوع بوهجٍ خافت على النوافذِ والقبّةِ الزجاجية في الأعلى، كما لو أنها كُرةٌ ثلجية تلمعُ بألوان الطيفِ فوقَ رفِّ مدفأة. ذلك الصمت الذي يجعلُ من أنفاسها الخافتة أعلى حتى من أيِّ صوتٍ آخر لم يجعلها تشعر بالراحة في وجودِ هذا الرجل، فلعبت أصابعها بالقلمِ الصغير في حجرها وهي ترمي بزياراتٍ صغيرة من عينيها المُرتابتين في الكُتب الموزّعة حولها.

إن جمال وسلام المكتبة الأنتيكية التي تبرقُ بالذهب والمرمرِ الأبيض بهتَ في وجود الإيرل، تتساءلُ ما أن كان هذا ما يفعله لكُلّ الأشياء حوله.. وهذا ما جعل عقلها يرفض فكرة التواجد بقربه، كما لو أن جسدها أيضًا بطريقةٍ غريبة.. يوخزها في أطرافها ليخبرها بأن ترفض.

كانَ يقِفُ هوَ ببرودٍ كشجرةٍ شتائية صمدت في الصقيع وسط باحةٍ ثلجية تدفِنُ فيها الأشجار الأُخرى، وفي عينيه رمادٌ احترق مرارًا حتى أصبح لا ينافسه شيءٍ في الاسوداد. تلك التعابير الصامتة في وجهه لا تمنحك دليلًا لما يُفكر فيه، ولكنه بكل تأكيد ينظُر في الآنسة التي احتاجت لدقيقةٍ قبل أن تُقدم إجابتها إليه. حين تنظُر في ذلك الرجل فإن أول شيءٍ تفكر فيه هو.. لم ذلك الوجه يبدو كمنحوتةٍ لنحّاتٍ وضع كل الفراغ فيها؟ كما لو أنه لم يخطط لبثِّ الحياة في عمله الصامت هذا.

كانت عدستاه مختبئتين خلفَ خصلاتٍ غُرابية تتجرأ بعض خيوطها الحالكة لتلتصق في رموشه الباردة، فتعكسان صورة إيميليا التي تٌحدق في دفترها القديم أمامها، وفي عينيها صورةٌ لطرفِ بتلةٍ متيبسة لوردةٍ نبيذية تخرجُ من طرفِ الأوراق النائمة، وحينها فقط.. استطاع سماع إجابتها التي انطلقت هادئة وحذرة منها..

[شكرًا لعرضك أيها الإيرل، ولكني سأكون مشغولة في الأيام القادمة.]

إنها تعلم أنها ترفضُ بذلك فرصةً ما مختبئة، ولكنها تملك مخططًا أيضًا عليها باتِّباعه، ولهذا بدت كلماتها حازمة وباردة بشكلٍ لم تتوقعه. لا تعلم ما إن كان هذا سيزعجه ويُراكم غضبه منها، ولهذا لم ترغب بأن تنظُر فيه تمامًا بعد هذا. راحت تعبث بقلمها ذو الشريط الأحمر بين أصابعها وكأنها تتوقع أن تسمع إجابة لن تُرضيها كذلك، فهي لا تظن أنه سيكبح كلماته القاسية.

في ذلك الوقت لم يبدو أن الإيرل جونغكوك منزعج، فقد حافظَ ذلك الوجه على وعده لاعتناقِ الصمت، ولكنها لم تستطِع رؤية مدى البرودِ في تعابيره وكأنه لم يسمع إجابة مفاجئة من شخصٍ يرفض له شيئًا للتو، بل في الواقع قامَ بلمسِ الكتاب الثقيل بهدوءٍ بين أصابعه، وتمتم إلى النسماتِ بشيءٍ لم تتوقّع سماعه..

[مؤسف.. اعتدتِ أن تُحبّي الألعاب الصغيرة.]

تجمّد القلم في أصابعها، وشعرت وكأنّ كلّ شيءٍ فيها توقف للحظة، جسدها وأنفاسها.. حتى أفكارها وبؤبؤها الحالك الذي تسمّرَ مُسهبًا نحو دفترها. رُبما بدت الكلمات بذلك الصوت الشتائي عادية.. ولكن ليس عندما جعلتها تشعر وكأن معدتها ابتلعت قلبها.

ما الذي قاله للتو؟ كيف.. يعلم ذلك؟

كانت لحظةً واحدة فقط حين التفتت برأسها على غفلةٍ نحوه من جديد، فيظهر وجهها من خلف خصلاتها الطويلة المنزلقة على قماشِ فستانها، حيثُ حاجبيها المعقودين بخفةٍ وكأن تعابيرها تصادمت حتى لم تعُد تعرف ما ترتديه أمامه. رأت ذلك الرجل يقِف بهدوءٍ في مكانه وكأنه شجرةٌ عتيقة بذنيك الساقين المثبتتين، وعينيه الغرابيتين تنظران ببساطةٍ في الكتاب الذي يحمله كما لو أنه يتفحصه لمرةٍ أخيرة، كما لو أنه.. قال شيئًا عاديًا للتو.

سمعت صوت الأوراق الخافت والرقيق عندما تفرّق غلافي الكتاب بين أصابعه، وعلى الفور وجدت نفسها تتخلّى عن صبرها وصمتها عندما انزلقت الكلمات من لسانها بشرودٍ حتى كادت لا تلتقطها، فقد قيّدتها حيرةٌ جعلت كل حواسها تنصبُّ باتجاه الإيرل.

[المعذرة؟]

أرادت أن يوضّح لها، أرادت أن يُفسِّر ما معنى كلماته للتو، وتحت إلحاح نظراتها المُسهبة وجدته يرفع عينيه من جديد بهدوءٍ وصمت، فتقابلها بِرك الحبرِ الحالك في عدستيه الّتين افتقرتا للنجوم هذه الليلة. بدا وكأن تعابيره تقتبِس من المحيطِ هدوءه، كما لو أنه لم يلطُم الصخور بقوةٍ أجفلتها. لم يبدو حتى أنه يفهم لمَ طلبت منه تكرارَ كلماته، ولهذا فهو توقّف عن تصفُّح أوراق الكتاب وأجابها ببساطةٍ بذلك الصوت الذي لا يخدِمهُ شبيه في الهدوء العميق.

[تبدين فقط بحاجةِ إلى شيءٍ قد يُغيّر مزاجك.]

هذا ليس ما قُلته..هذا ليس ما قُلته!

لقد أشار للتو بأنه يعلم بشأن عاداتها عندما كانت أصغر، إنها تعلم ذلك! وإلا ما كانت القشعريرة تنزلق على طولِ عمودها الفقري حتى انتصبت شعيرات رقبتها بلفحةٍ غريبة. إنها تعلم.. أنه تظاهر للتو بعدمِ المعرفة. إنها تعلم... أنه قالها وكأنه يعرفها جيدًا.

شعرت بيدها تقبضُ على قماشِ فستانها الناعم لتغرزه في جلدها، ويدها الأُخرى تعصر القلم بخفوت.. وكأنَّ انزعاجًا أكلَ صدرها للتو بعد إجابته تلك لسببٍ ما. الإيرل كيم جونغكوك.. منذ متى لا يعلم شيئًا؟ ومنذ متى يهتم بمزاجها؟ كان عذرًا رخيصًا ولا تستبعِدُ حتى بأنه يُدرِك ذلك، لكنه قاله بذلك الوجه الهادئ ورمشات عينيه الباردتين كما لو أنها حقيقةُ مجحفة. هل.. علِم بذلك فقط لأن الذهبي جيمين أخبر الإيرلين مسبقًا بطبيعةِ حياتها؟ أم..

شعرت أن الكثير من الأفكار تضاربت مجددًا في رأسها، تُحدق بصمتٍ كمن تمت مُباغتته وضاع لوهلةٍ في ذهنه. كانت تراه أمامها واقفًا بذلك الوجه الذي بثَّ فيها شكًّا منذ اليوم الأول الذي رأته بذلك القرب والوضوح. كانت هنالك لمحةٌ من الشبه إنها تُدرك ذلك، ولكن الكثير مما حدث أخبرها بأنه لا يُمكن أن يكون هو، لا يُمكن أن يكون ساحِر الناصية.

هل بالغت بردِّ فعلها إذن؟

تدريجيًا وجدت نفسها تهدأ تحت وطأةِ ذلك الإنكار، وكأنها تهرب من بقيةِ الاستنتاجاتِ والأفكار اللامتناهية التي سترافقها لو استمرّت تتعمّقُ باتجاهها. لقد وعدت نفسها مُسبقًا بأنها لن تترك شؤونهم تؤثر في عملها ولن تلتفت إليها مثلما أوصاها الوريث تمامًا، وذلك منحها الراحة لفترة بالفعل، ولكن الآن.. الآن وهذا الإيرل الآخر يطلب منها خوضَ لعبةٍ لا تعلم ما هيتها ولا سببها معه، جعلها تشعر وكأن هنالك هدفًا مختبئًا يلوحُ في نهاية هذا الطريق.

ليس وكأنه يحتاج إلى شيءٍ منها بالمقابل، ولكنها لا تثق به، لأن ذلك الوجه الموصد ذو التعبيرِ الواحد والبارد لا يُمكن قراءةُ شيءٍ منه. تشعُر أحيانًا بقشعريرةٍ في جلدها لو أطالت النظر في تلك العدستين الصامتتين وكأنهما زرّين لدميةٍ منسيّة، وقد كان لا يزال ينظُر فيها من الأسفل وكأنه يتوقع إجابةً منها بعد صمتها الطويل هذا. ليس وكأنها ترغب في ذلك تمامًا، ولكن...

[أيّ نوعٍ من الألعاب؟]

وجدت كلماتها طريقها أخيرًا لتنطلق من جديد، وقد لاحظت حركةَ رأسِ الإيرل الصغيرة عندما انزلفت خُصلةٌ فاحِمة بهدوءٍ فوق جبهته. كانَ حذِقًا كفاية لتلتقط مسامعه ذلك التردد وعدم الرغبة في منحِ الثقة التامة بين حروفها السابقة، حتى لو حاولت تجميلهما بصوتها الهادئ المُعتاد. لم يتوقّع منها أقلّ من هذا الشك والريبة عندما تحاول معرفة نوع اللعبة أولَ مرة، ولهذا ولأول مرةٍ أمامها.. ارتفعت زوايا تلك الشفاه الصامتة.

رفّ جُفني إيميليا للحظةٍ وهي تُشاهد بسمةً صغيرة ترتسم على شفاه جونغكوك. لوهلةٍ ظنّت إنه مجرّد انعكاسِ الأضواء الذهبية ووهجِ القبة اللامع الذي يعبث بناظريها، أو أنها أصبحت لا تراه جيدًا من على ذلك البُعد، ولكن على الرغم من كلِّ ذلك.. كانت تستطيع رؤية شبح بسمةٍ يتلبّسُ الإيرل الاصغر، ولكنها كانت بسمةً.. ميتة، تُشبه تقوّسًا غير حي في رسمةٍ عتيقة أو جُصًّا باردًا في وجهِ تمثال، وهذا بطريقةٍ ما.. أطعمَ شُعلةَ الارتياب في قلبها حطبًا.

سمعت صوت اطباق الكتاب الذي تصفحه للتو بهدوء، ثم تبعه اجابته الجاهزة مسبقًا..

[إنها بسيطةٌ جدًا وقد تجدينها مُمتعة حتى. مُجرد جولاتٍ من التحديات الصغيرة بيننا نحن الإثنين.. فقط.]

كان صوته الهادئ لا يملِك صدًا حتى، مجرّدُ لفحةٍ شبحية تبثُ القشعريرة في الجلد. شيءٌ ما بخصوص تلك البسمة التي كان مقصدُ وجودها ظاهريًا هو الإعلان عن بساطةِ اللُعبةِ ووصفها كما لو أنها ليست شيئًا يُذكر، ولكن في باطنها.. لم تحب إيميليا ما يُمكن أن يختبئ فيها. تلك البسمة والطريقة التي استخدمها لوصفِ اللعبة بالبساطة.. جعلتا الأمر الآن أكثر ريبة حتى، إنها لا تثق أبدًا بهذا.

زاد عُمق العُقدةِ الخافتة بين حاجبيها وهي تنظُر إليه، تُدقق في زوايا الشفاه تلك التي ترسم بسمته الباردة وكأنها لا تتوقع منها ربيعًا، ولكنها وجدت نفسها تريد أن تستفسِر أكثر عن تلك "التحديات الصغيرة"، حتى لو بدت وكأنها لا تهتم أبدًا بعرضه عندما أشاحت عينيها عنه.

راقبها جونغكوك بصمتٍ فيما هي تطوي صفحاتِ دفترها وتبدأ بتوظيبِ الكُتب حولها بهدوءٍ وعناية لكي تضع إحداها فوق الأُخرى بحذرٍ على تلك الأغلفةِ الثمينة، فتُبعِدُ هذا وتضع فاصلةً بين أوراقِ هذاك. انزلقت خصلاتها الفاتحةُ بنعومة من خلفِ أُذنها لترفع إحدى يديها وتُعيدها بهدوءٍ قبل أن تُجيبه أخيرًا بسؤالٍ أشارِ إلى شكوكها الداخلية..

[ولمَ قد يرغب الإيرل جونغكوك بخوضِ لعبة معي؟]

لم تكُن تعلم بمَ يدورُ في رأسه، ولم تعُد مهتمة بذلك لكيلا تُفسد عليها سلامها، بالإضافة إلى أنه يجعل الأمر غريبًا بمجرّد رغبته هو، نجمُ عائلةِ كيم، بتحديها هي، الآنسة التي لا تملك شيئًا. يبدو أن رسالتها هذه وصلت إلى الإيرل الذي هدأت ابتسامته حتى اختفت في العدمِ من حيثُ جاءت، فهو لم يبدو مهتمًا أيضًا سواءَ رفضت أم وافقت مذ أنه يحصُل على ما يُريد عاجلًا أم آجلًا، فراحَ يرفعُ يده ذات المعصم المُزين باسوارات الخيوط ويُرتّب شرائِط قميصه النقي بكلِّ دقةٍ فوق صدره العريض، وعلى وجهه الباردِ معالم عدمِ الاكتراثِ فيما هو يُجيب شكوكها بالنبرةِ الوحيدة التي لا تتغير..

[لنقُل إنها طريقتي أنا في اكتشافِ الناس حولي.]

أذلك هو السبب حقًا؟ لا تعلمَ لماذا.. ولكنها شعرت بالشك مباشرةً بعد كلماته تلك. ليست لأنها شعرت بأنها كذبة، مذ أنها متأكدة من أن شخصًا مثله سيتخذ خطواتٍ للتعامل شخصيًا مع من يرغب باكتشافِ حقيقته، ولكنها شعرت بأنه مُجرد عذر.. فهي ليست شخصًا مُهمًا إلى تلك الدرجة ولا تملك ما تُقدّمه إليه، خصوصًا وأنها لا تعرف بعد لم تمّ اختيارها هي بدلًا من كل الخبراء الّذين باستطاعةِ عائلة كيم الوصول إليهم ليقيموا على عروض الإيرلين، بالإضافة..

(لمَ تظن بأني سأتركك تكتشفني أكثر مما فعلت؟)
جالَ هذا السؤال في ذهنها فيما هي ترمقُ نظرةً جانبية وصامتة نحوه، كما لو أن الحروف ظهرت في عينيها لتُذكِّره بكيف قامَ خبيره النفسي بوضعها في حيلةٍ غريبة لم تعرف هيّتها سوى كونها نوعًا من التنويمِ المغناطيسي ليُخبره والوريث بكلِّ شيءٍ عنها، فما حاجته ليعرف المزيد؟ إنه ليس بالضبط شخصًا يُعجبه وجودها هنا أو يستلطفها.

لم تكُن مقتنعةً بإجابته، ولكن كان عليها التفكيرُ مليًا بذلك مذ أنه اختارَ تقديم هذا العرض لها. كانت يداها تعملانِ بشرودٍ أمامها في توظيبِ الكُتب التي اطّلعت عليها وتضع أغراضها الخاصة جانبًا، فقامت أخيرًا بحملِ نفسها وبعض الكُتب الثقيلة التي احتضنتها بين ذراعيها بحرص. أشاحت بناظريها عنه فيما هي تنهض على قدميها وينفرش القماش الحريري لفستانها الناعم على ساقيها، ولكنهما كانتا مخدّرتين قليلًا بعد جلوسها الطويلِ هذا، لهذا قامت برسمِ خطواتها ببطءٍ وحذر لكي تُلقي نظرةً على قائمة الكُتب التي قامت آنا بإعطائها إياها صباحَ اليوم حتى تتأكد من موضعِ إحدى الكُتب في يديها وتُعيده إلى مكانه.

تلك الرمقةُ الوحيدةُ منها جعلته يُحدق في هيئتها جيدًا، هذه الصغيرة التي تغرقُ عميقًا في التفكير بعد كلّ كلمةٍ منه. لا ينكُر أن هذه خُصلةٌ جيدة عندما تكون أحد الأفراد الّذين يحوطون بالوريث، ولكنها بطيئةٌ جدًا ومترددة، حتى وهي تتظاهر بالهدوءِ في الأعلى لتُفكِّر في عرضه. لقد كان واضحًا منذ البداية بأنها لا تثق به أيضًا، ولهذا كان عليه أن يمنحها دافعًا.

انخفضت يده من على صدره بهدوء، واختبأت يديه ببرودٍ في جيوب بنطاله الحالك فيما ينحصر كتابه بين خصره ومعصمه. كان لا يزال يضعُ عينيه الحالكتين عليها عندما كانت تقومُ بتحريكِ ساقيها بخفةٍ في مكانيهما حتى يزولَ الخدرُ منهما، وأضافَ إلى حديثه السابق وكأنه سمحَ لنفسه بإيضاحِ فكرة اللعبة إليها.

[سأتحداكِ في ثلاثِ جولات، ولو تمكّنتِ بطريقةٍ ما من انتزاعِ الفوزِ مني في كلِّ مرة.. فسأمنحكِ الإذن لطرحِ سؤالٍ واحد علي.]

توافقت كلماته المُفاجئة مع محاولتها لحملِ إحدى الكتب من حضنها ورفعه نحو الرف الذي ينتمي إليه، ولكن يدها تجمدت، توقفت في الهواء بصمتٍ فيما عيناها ترمُشان باتساعٍ صغير وكأنه قد تمّت مُباغتتها للتو. هل سمِعت هذا جيدًا أم أنها كانت شارِدة بعُمق؟ كانت لحظةٌ واحدة فقط عندما التفتت برأسها نحوه من جديد، تنظُر إلى الأسفل بعيونٍ عسلية مفتوحة باستغراب، فتراه يُحدق فيها مسبقًا ببروده المعتاد وكأنه مجددًا.. لم يقُل شيئًا يُذكر.

لم يمنحها فرصةً لاستيعابِ ما كان يعرضه عليها، فعلى الرغم من أنه يراها متجمدةً هناك بينما يدها التي تحمل الكتاب معلقةٌ في الهواء إلا أنه استرسلَ في حديثه ببساطةٍ، وتلك العيون الحالكة تهدأ بخفوتٍ كبلورتَي أشباحٍ تعكس صورتها فيهما من بين خُصلاته الغُرابية..

[سأُجيبكِ بصدق.. أيًا ما تريدين معرفته، لكنني سأكون عادلًا وأُحذركِ، بأنني لو فزت.. فسيكون لي الحق بأخذِ ما أُريد منكِ.]

ذلك العرض الذي بدأ يزداد جدية.. جعلها تقِف هناك لتُحدق فيه بشرود وكأن الأفكار توقفت في رأسها لوهلة. غلّف الصمت العميق تلك المكتبة الأنيقة لفترة.. فقد احتاجت إيميليا إلى ثوانٍ لكي ترمش أخيرًا وتُصبح يدها مترددة في الهواء حتى أعادت الكتاب إلى حضنها مجددًا ريثما تقوم باستيعابِ ما قاله إليها، فقد بدت متفاجئة من رغبةِ الإيرل بالإقدامِ على خطوةٍ كهذه.

هل.. الإيرل جونغكوك، أحدِ أهم أفراد عائلة كيم، يمنحها فرصة لطرحِ سؤال؟

بقدرِ ما بدا هذا العرض مغريًا، وبشدة، إلا أنها لم ترغب في أن تتسرع وتوافق على شيءٍ قد يؤتي بفعلٍ عكسي عليها. قالَ أنه سيأخذ ما يريد منها، وهذا وحده يجعلها مرتابةً أكثر وبدأت تساؤلاتٌ أكثر تحومُ في رأسها، فهي لا تملِكُ شيئًا قد يثير اهتمام نبيلٍ ثري! ما هو الشيء.. الذي يظن بأنها قادرةٌ على منحه إياه مُقابِلَ سؤالٍ يُمثِّل فرصةً ذهبية لإعلامِ بريطانيا وشعبها؟ يُمكنها أن تسأله أيّ شيء! أي شيء قد يفضح أسراره.. وهو ليس مترددًا حتى؟

حدقت فيه لوهلةٍ وكأنها تريد معرفة ما إن كان يختبرها أو ما شابه، أو أنه يُعيد التفكير بعرضه الخطير هذا، ولكنه كان واقفًا هناك بنظرةٍ ثابتة وكأنّ كل تلك المسافة بينهما لا تكفي لتخفيفِ حِدة تلك العيون. إنه جادٌ تمامًا وهادئ، رغم أن عرضه كان سيفًا ذو حدّين، سيتخلّى هو عن شيءٍ لن يعرفه.. وهي ستتخلى عن شيء لا تعرفه أيضًا، ويُمكن أن يكون كلاهما خطيرًا.

كلّما حدقت في ذلك الوجه الهادئ الذي لا يحمل أيّ لمحةٍ من العبث تُدرك سريعًا بأنه جادٌ وينتظر إجابتها على ذلك. غادر الشرود تعابيرها أخيرًا، وراحت عُقدةٌ خافتة تظهر بين حاجبيها. إن كان هذا مُجرد اختبارٍ سخيفٍ آخر فهي حقًا ستشعر بالانزعاج، فلمَ قام الإيرلين بتوظيفها إذن إن كانا سيُغدقان عليها الكثير من الاختبارات لإثباتِ ولائها؟ ليس وكأنها تعرفُ أيّ شيءٍ عنهما حقًا! وقد قامت بإثباتِ هذا مُسبقًا على ما تظُن.

ظهرت بعض تعاليمِ الشك والتضايق في وجهها الذي أشاحته بهدوء وبُطء تحت تأثيرِ الأفكار التي سيطرت على رأسها، وراحت ترفع الكتاب الذي فشلت في إعادته إلى مكانه في المرةِ الأولى وتقوم هذه المرة بمدِّ ذراعها إلى الأعلى بخفةٍ كي تحشره بين كتابين مصفوفين مسبقًا، فينزلق في الفراغِ بينهما بهدوء فيما تقومُ هي بإيضاحِ رأيها الصريح إلى الإيرل فورَ أن استعادت صوتها الهادئ..

[أنا لا أبدأُ شيئًا تكونُ معلوماتي عنه شحيحة، بالإضافةِ أيها الإيرل.. أستطيعُ أن أؤكد لكَ بأني لستُ مهتمة باستغلالِ إجابتك على سؤالي لكي أعرضها على العامة أو لأي أحدٍ آخر.]

رُبما كانت هذه أكثر إجابة صارمة وواثقة نطقتها حتى الآن داخل جدرانِ هذا القصر، فقد فاقت توقعات صراحتها، ولكنها شعرت بأن ذلك هو رأيها الحقيقي.. كإيميليا. تلك الكلمات جعلتها تسمعُ نفسًا صغيرًا يهرُب من بينِ شفتي الإيرل وكأنه يستنكِر حذرها الشديد هذا، ولكن ليس وكأنه لم يتوقعه، ولهذا كانت إجابته جاهزةً بالفعل ليستبعِد تلك الفكرة من رأسها على الفور.

[هذا ليس اختبارًا، إنّي أرغب برؤيةِ مهاراتك وحسب. ما قيمةُ أي شيءٍ دونَ خطواتٍ جريئة؟ ففي هذه الحالة ستتبعين الطريق الذي مهّده أشخاصٌ آخرون، ولن تكتشفي ما كان مخفيًا في المنعطف الأول أو الثاني، مُجرد طريقٍ مستقيمٍ ممل.]

للحظةٍ توقفت إيميليا من جديد عن العمل، ورمشت بخفوتٍ تُحدق في الرفوف الناصعة التي تومض بنقشٍ ذهبي أمامها، فقد توارى إلى أُذنيها نبرةٌ باردة ومتملِلةٌ من صوته، وكأن تلك الفكرة لم تكُن في حسبانِه بل يملِكُ مُبتغًا آخر.

إجابته المُباشرة هذه جعلتها تتردّدُ في قرارها مجددًا، لأنها تعلم بأن كلماته أصلُ الصِحة. لو تِبع الناس بعضهم وحسب فلن يكون هناك وجودٌ للاكتشافاتِ العظيمة التي غيّرت التاريخ، لا أفكار جديدة ولا طُرق مبتكرة ولا إجابات، ولكنها ليست في موضعٍ يُجبرها على اتخاذِ منعطفٍ في الطريق.. صحيح؟

فكرت بذلك مليًّا فيما كانت تقوم بسحبِ كتابٍ آخر من حضنها ووضعه في مكانه المُخصص على الرف بصمت، ولا صوتَ يصدُر من ناحيتها سوى انزلاق غلافِ الكتاب بين رفيقيه. لُحِسن الحظ فهي تملك انطباعًا أول عنه، وذلك الانطباع يجعلها تعلمُ جيدًا أنه لم يستلطِفها تمامًا، وفكرةُ أنه سيعرض عليها لُعبةً تبدو خطيرة فقط ليكتشفها أكثر تجعلها غير مطمئنة، وهذا ما جعل عقلها يلتزِم بقراره الأول برفضِ هذا العرض.. لأنها كانت مرتابة، حائرة وغير واثقة.

بللت شفتيها وقامت بوضعِ آخرِ الكُتب الثلاث الّذين كانوا بين ذراعيها على الرف، فدفعته إلى الداخل واضعةً يدها فوق غلافه بهدوءٍ وتُفكر بأنها تُفضّل الطريق المستقيم المُمل للآن، فتمتمت بخفوتٍ وكأنها تُحادث نفسها أولًا لتُقنعها أنه ليس عليها الاندفاع والتسرّع بشأن هذا القرار.

[سأفعل هذا ما إن تتوفر لي أغلب المعلومات، فالقفز في أي شيءٍ جديد متهور. لستُ مُجبرةً على فعلِ ذلك.]

رُبما كانت تلك أول مرة تُظهِر إيميليا حذرها الشديد وطبعها المتزمّت بشأن اتخاذِ أي خطوةٍ جديدة، وبالأخص تجاه الأشخاص الّذين لا تعرف عنهم جيدًا، وتلك الصفةُ بالضبط ما ذكّرت الإيرل لوهلةٍ بأخيه.. لسببٍ ما. تضيّقت تلك العيون المظلمةُ بصمت وما جعلها هذا إلا أكثر فِتنة وكأنها نصلٌ أسود أنيق، فعلى النقيضِ منها أنه يدخلُ بلا خوفٍ فيما يُريد تجربته لأنه يعلم بأن القوة المُطلقة في راحةِ يديه، أما هي فلا تملك شيئًا لتخسره.. وكلا هذين النوعين من البشر في كل الأحوال لا يُمكن أن يخسرا إذن.

كانت تريد أن تتأكد أنها لا تدخلُ في كنفِ فخٍ لو وافقت على خوضِ التحديات معه، لهذا بدت واثقةً لعدةِ ثوانٍ بقرارها عندما انحنت بهدوءٍ لتأخُذ دفترها ولائحة الكُتب المكتنزة من فوق الأريكة الصغيرة، ولكن تمتمةً واضحة انطلقت من بين شفتي الإيرل جعلت كل حواسها متأهبة..

[لستِ مُجبرة.. لكنكِ تريدين.]

(أُريد؟ من يظن نفسه ليعرفني؟)
تساءلت إيميليا بذلك عندما رفعت ناظريها نحوه من جديد بتلك العُقدة الصغيرة بين حاجبيها، فهي في الواقع لا تريد! أهي مجنونةٌ لتوافق على عرضِ شخصٍ لا تعرف شيئًا عنه؟ وليس أي شخص.. الإيرل جونغكوك الغامض. شعرت لثوانٍ بالانزعاج من توقُّعه الذي لم تبدو فيه أيُّ لمحةٍ من الشك، ولكنها حين نظرت فيه، وغرق العسل في النفطِ الخام في عدستيه، شعرت أن جُفنيها رفّا.. لأن تلك النظرة الصامتة جعلتها تقِف في مكانها لتُعيد التفكير في ذلك.

شيءٌ ما بخصوصِ تلك النظرة الثابتة أوقدت شكًا في قلبها، فهو يعلم بأنها فضوليةٌ جدًا منذ أول مرةٍ دخلت فيها إلى القصرِ المقفل، وكأنه كان يُذكِّرها بذلك، وكأنه كان يعلم أنها تريد ذلك، تُريد أن تعرِف ما طابع اللعبة ولمَ اختارها لتخوض التحديات معه بل وما نتيجتها لاحقًا، ولكنها كانت تسمح لشكِّها وخوفها منه بالهرب بعيدًا أمام هذه الفرصة، أو ربما أنها خائفة مما سيطلبه منها لو ربِح ومما ستكون عليه طبيعة إجابته لو ربِحت هي بمعجزةٍ ما.

ازدادت قبضتها بخفوتٍ على دفترها القديم عندما أدركت أنه قادرٌ حتى على التعرّف على تلك الرغبةِ الصغيرة داخلها، ولكنها ليست مستعدة للمخاطرة من أجلها لأنها فضّلت دومًا الاختيار العقلاني، ولكنها أيضًا.. لم تعُد تبدو بتلك الثقة الكبيرة عندما صنعت قرارها لأولِ مرة.

ذلك التغيّر الصغير فيها جعلَ وجه الإيرل يرتخي وكأنه كان على حافةِ الابتسامِ مجددًا، وكأنه يرى شرودها وترددها من هناك، فسمِعت نفسًا خافتًا آخر منه، ومالَ بذلك الوجه البارد بخفةٍ إلى اليمين لتنزلق بعضُ خصلاته القصيرة فوق رموشه التي تصنع إطارًا بهيًّا لتلك العيون التي تستطيع اختراقَ أي شيء.

[أنتِ خائفة، أولستِ كذلك؟]

أخبرها بذلك في وجهها، بأنها خائفةٌ منه ومن لُعبته، كما لو أنه يعلم بأنها ورغم فضولها الصغير إلا أنها تخافُ من المخاطرة. تلك الكلمات المُباشرة جعلتها تحكمُ قبضتيها على دفترها وقد ضيّقت عينيها الفاتحتين كما لو أن حقيقةَ كونه قادرًا على معرفةِ كُل شيءٍ يدورُ في خُلدها تُشعرها بالانزعاج، والرغبة بإثبات أنه على خطأ. وجدت نفسها تنظُر إليه وكأن قلبها استشاط فورَ سماعه لكلمة خائفة، لأنها لم تكُن تريد أن تكون كذلك بعد الآن.. فانطلقت كلماتها رُغمًا عنها دون أن تفكر فيها مرتين.

[لستُ بخائفة.]

شدّدت إيميليا على كلماتها بِبُطء فيما هي تجابه تلك العيون المُستخِفة بأُخرى تُخفي انزعاجًا في ذلك القلب الذي أراد أن يكون أي شيءٍ سوى أن يكون خائفًا، لكنها لا تريد أن يُحدد الإيرل لها ذلك. بعد تلك الكلمات التي أبدت عن ثقةٍ مجهولةِ المصدر رأت جونغكوك يرفعُ حاجبًا ببساطةٍ وهو ينظرُ فيها، وكأنه يُشكك في مصداقيةِ ذلك، واستطاعت سماع (اوه؟) صغيرة وخافتة تصدر من بين شفتيه الّتين بدتا على وشك الابتسام كما لو أنه يستعجِب قدرتها على الإجابة بتلك الفورية كما لو أنها لا تحمل ذرّة شك.

في تلك اللحظات لم تكُن تعلم ما يجب عليها فعله، ولكنها تتذكرُ أنها وقفت أمام الإيرل حائرة رغم أنها حاولت أن تبدو وكأنها ستثق في قرارها النهائي دون ندم أو تفكير بعدها. رُبما هي متهورة أو تكره المخاطرة، ورُبما أنها شيءٌ بينهما، لكنها وقتها شعرت بضرورةٍ غريبة داخلها وكأنّ شيئًا ما يُخبرها أن تتبعَ ما يجعلها ترى نفسها في مكانٍ أبعد وأكثر تطورًا من الحالي.

تذكُر أنها وقفت تحت الأنوار الذهبية وبين يديها دفترُ شقيقها وكأنها تحاول احتضانه لتعرف ما إن كان قرارها صحيحًا، ومن ثم أخبرت الإيرل تحت القبة الزجاجية المنيرة بإجابتها الأخيرة.

هل.. كان قرارها صائِبًا؟

[آنسة إيميليا؟]

رفّ جُفنيها بخفوتٍ لمّا نادى صوتٌ رقيق باسمها لينتشلها من شرودها العميق، فالتفتت على الفورِ برأسها يمينًا لترى البحرَ في عينين زرقاوتين ترمشان باستغرابٍ في وجهها. لوهلةٍ رمشت إيميليا بالمقابل في ذلك الوجه الناعم وكأنها تحاول مواكبة ما يحدث، فأخفضت ناظريها بشرودٍ حيثُ يد آنا التي كانت تحمِلُ إبريقًا مزخرفًا بالزهورِ الخزفية على سطحه الذهبي، فيلمعُ في عينيها بخفوتٍ تحت الإضاءةِ الوافرة في المكان.

هذا صحيح.. لقد ضاعت في أفكارها مجددًا. لا بُد أن محادثة الأمسِ مع الإيرل الأصغر لا تزال تحتلُّ جزءًا كبيرًا من رأسها وتسرقُ منها تركيزها من حينٍ لآخر. لقد تذكّرت للتو بأنها جاءت صباحًا لتتناول فطورها في غرفة الطعام، وها هي آنا تحاول معرفة ما إن كانت آنستها ترغب بالمزيد من الشاي الفوّاح برائحة الياسمين الناعمة بينما هي منشغلةٌ في شرودها عديمُ النفع.

كانت آنا ذات الشعر الناري تقف بجوارها بكُل أدب في انتظار إجابتها، فأسرعت إيميليا بهدوءٍ لترفع يدها في الهواء في إشارةٍ إلى أنها اكتفت من تناول الطعام، وهناك بسمةٌ صغيرة على شفتيها تبرزُ غمازةُ خدها على وجهها الذي يبدو وكأنه مصنوعٌ من البورسلين لشدّة ما اعتاده من الصمت.

[أكادُ أنتهي، لا أريد المزيد.]

شكرتها بنعومةٍ بإيماءةٍ من رأسها، فتبسّمت آنا الحيوية بدفئ لها وقامت بإرجاعِ ابريق الشاي الذي تحمل ذراعه بيدٍ منها وتضع الأُخرى فوق غطائه الصغير والأنتيكي. تنهدت إيميليا بخفوتٍ وهي تسمع الصوت المنخفض لالتقاءِ ثُقلِ الابريق مع خشبِ الطاولة وكأنها سئمت من السقوطِ شاردة منذ الأمس، فوقعت عيناها بهدوءٍ فوق طبقها الأنيق بلونه الأبيض والمسطح، حيثُ هناك نصف بيضةٍ مفقودة وشريحتين من اللحم المُقدد.

حلّ الصمتُ بعدها في المكان، فيما تجولُ آنا بخفةٍ حول المائدة لتتأكد أن كل شيء متوفر لآنستها. لقد كانت غرفةً واسعة من الذهب، ولا شيء فيها سوى طاولة مصنوعة من أثمن الأخشابِ تفرِش الأرضيةَ اللامعة بطولها الذي يمتد حتى يكفي لعشرين فردًا على الأقل، وعلى سطحها مفرشٌ أنيق من الدانتيل المليء بالتفاصيل الصغيرة التي لا يُقدّرها سوى فنان. توسطت الطاولة خزفيةٌ كبيرة تحمل أنواعًا من الزهور المنسقة معًا بذوقٍ رفيع لتمزج زهور الروز الوردية والقرنفل البيضاء، فكان منظرها منعشًا لطاولة الطعام.

هناك جدارٌ كامل تم احتلاله من قِبل النوافذ الزجاجية الواسعة على الطرفِ الأيسر، حيثُ تقف على أطرافها ستارتين من القماش الثقيل والفخم بلونها الأبيض التي تتغطى بأُخرى بلونٍ نبيذي ملكي. أشعة الشمس الحيوية اخترقت تلك النوافذ المُنيرة لتفرش أرضية الغرفة ومائدتها بنورٍ وفير، وتسطع على الأطباق المنوعة الموضوعة على سطحها.

أطباق الجبن والبيض واللحم المقدد، الخبز الحار الذي تستطيع شمّه فورَ أن تدخل الغرفة وصحون المُربى الصغيرة المنتشرة في الأرجاء. كانت مائدة شهية وبديعة الجمال، ولكن إيميليا تراها يوميًا وحيدة، حيث تجلس بهدوءٍ لتأكل ما يشبعها ثم تنهض متجهة إلى أشغالها. كانت جالسة فوق كرسيها بصمتٍ فقط، وشعرها المائل لبهجةِ العسل يجمعُ طوله ليستقر بشكلِ كعكةٍ مكتنزة بمشبكٍ شعرٍ يتمتّع بفراشةٍ لؤلؤية، ولكن ذلك المشبك سمح لبعضِ الخصلات بالهروب واحتضان خديها بخفة.

غلّف صدرها قميصٌ حالك يحمل شريطين معقودين بنعومةٍ على الياقة، وهناك بنطالٌ واسع بلونٍ صحراوي في الأسفل. كانت تبدو ناعمة وهادئة، والغرفة الآن غارقةً في الصمتِ الصباحي العميق حيث لا صوتَ سوى تصادم الصحونِ والملاعق اللاتي يأتي بها الخدم ليضعونها على المائدة.

لوهلةٍ عقدت إيميليا حاجبيها باستغراب، فقد شعرت أن هنالك كمية أكثر من الصباحيات السابقة من الطعام، فهذا كثيرٌ جدًا لتأكله وحدها! ليس وكأنهم لم يملأوا الطاولة من أجلها مسبقًا بشكلٍ اعتبرته إسرافًا، ولكنه اليوم مُضاعف بطريقةٍ ملحوظة. حاولت أن تلتفت نحو آنا لتسألها عن هذا وتوقفهم عن إحضار المزيد من المطبخ، ولكن تم استيقافها هي عندما سمعت باب الغرفة يُفتح باندفاعٍ مألوف، وصوتٌ يتغنّى بالغنج يملأ المكان على غفلةٍ ليجعل السلام الصباحي يرفرفُ مودعًا.

[يا له من صباحٍ مُشرق وحيوي! يبدو أن شمسنا أستيقظت باكرًا مجددًا~]

فتحت إيميليا عينيها باستغرابٍ عندما سمعت هذا الصوت، فقد مرت فترة! التفتت على الفورِ ناحية الباب العريض لترى إمراةً طويلة بفعلِ طرقاتِ كعبها الانثوي على المرمر. شعرٌ حالك كالليالي الوحيدة يتمايل على كتفيها وعيون صُبّت فيها القهوة حتى امتلأت، تتبسّمُ تلك العدسات وسط رموشها الكثيفة عندما ارتسمت ابتسامةُ عريضة على شفتيها. رؤيتها جعلت إيميليا تشعرُ بترحيبٍ غريب في صدرها، ولكنها بدت متعجبة من رؤيتها هنا لدرجة أنها حدقت فيها بحواجب مرتفعة.

[ليدي جانين!]

يبدو أن نبرتها تُخبر الليدي أنها لم تتوقع رؤيتها، ولهذا اتسّعت تلك الابتسامة الساحرة التي تنتمي لجانين الأنيقة، حيثُ ترتدي بنطالًا فضفاضًا بلونِ القمح وقميصًا من اللوليتا الناصع وكأنها تبدو جذابة ومستعدة للخروج بهندامٍ رائع في أي وقت، لكن إيميليا ظنّت أنها جاءت وحيدة.. فلم تكُن لتُخمّن ظهور خصلاتٍ ذهبية في الخلف جذبت عدستيها حيثُ لمعَ فيهما اللون المميز لأشقرِ الرأس، فبدت شاردة في مكانها بصمت وهي تشاهد دخولَ شخصين آخرين إلى المكان بعد الليدي مباشرةً.

إحدى الهيئتين كانت بالطبع للأمير الذهبي، الذي فورَ أن دخل حتى احتكرَ وميضَ الشمسِ حوله كقطعةٍ من الذهب الخالص وكأنه يشع، وليس فقط بالألوانِ الفاتحة التي غلّفت جسده ولا بشعره الأشقر، بل بتلك البسمة أيضًا، تلك الابتسامة المُنعمة بالسلامِ دومًا وكأنها دولةٌ لم تُجرب احتلالًا، فتتقوّس تلك العيون الهادئة التي بثّت هالته في المكان بكل سهولة، ناشِرًا السكون الذي غيّر الأجواء بكبسةٍ صغيرة.

[أوليست هذه فراشتنا الغائبة~؟ صباحُ الخير لكِ.]

استطاعت سماعَ صوته الموسيقي الذي يمزج بشكلٍ باهر بين العبثِ والمرحِ المُتخفّي بين كلماته، وشعرت على الفورِ بأن تعابيرها هدأت لتنظُر في القادمين، فهناك خُصلاتٌ أخرى ظهرت خلف كتفِ الأشقر، وقد كانت تبدو كشلالٍ من الشوكولا الإيطالية. فتاةٌ قفزت إلى الداخل بحيويةٍ لم تعهدها في هذا القصر سوى من الليدي، فيظهر وجهها البشوش وكأنها تنثُر ذراتٍ من اللمع حولها وهي تبتسم بطريقةٍ قوّست عينيها البُنيتين بشكلٍ يُدفئ القلوب، وقد انطلق صوتها اليافع مباشرةً بعد تحيّة جيمين.

[صباحُ الخيرِ!]

هذا الثلاثي.. جعل إيميليا شاردةً في مكانها بهدوءٍ وهي تُحدق فيهم داخلين ومتجهين نحوها، الفتاتين الّتين تحملان خطورة وحِدة ملامحِ عائلة كيم العميقة ولكن تشعان أكثر من أي شخصٍ آخر، والذهبي المُسالم الذي يتقدّم خلفهما بأدبٍ وبسمةٍ صغيرة. كان شعورًا صغيرًا فقط، وربما لعدةِ ثوانٍ، لكنها شعرت بالراحة والاطمئنان لسببٍ ما، برؤية تلك الوجوه الحيوية التي قطعت سبيل الصمت الموحش إلى تلك الغرفة التي قضت فيها صباحياتها وحيدة. لم تكُن تعلم إن كان السبب بأنهم ملأوا الفراغ المزعج وحسب أم أنها تشعُر بالأُلفة والراحة حقًا بوجودِ أشخاصٍ مثلهم هنا.

رأت الأشقر يقومُ بسحبِ الكرسي الملكي لليدي التي ابتسمت بغنجٍ وأراحت جسدها عليه، ولكن الوقت لم يتسنّى له لفعلِ المثل لماري آن التي جلست على الفور بحماس بالقرب من إيميليا التي رمشت وناظرت فيها لتراها مُبتسمة بزغبية، وشعرها الشوكولاتي يصنع ذيل حصانٍ مرتفع حيث انزلقت منه بعض الخصلات القصيرة لتُشير إلى أن شعرها يتمتّع بتصفيفةِ الذئب الأنيقة، بينما قام جيمين بالجلوس بالقرب من جانين على الطرف المقابل للآنستين.

سارعت إيميليا وقتها إلى الترحيبِ بهم بإيماءةٍ من رأسها، وقد وجدت أخيرًا قدرتها على الحديث بعد استغرابها من مجيء هؤلاء الثلاثة إلى هنا هذا الصباح.

[صباحُكم سعيد جميعًا، لم أتوقع رؤيتكم هنا.]

أعربت عن تفاجؤها فيما هي تجولُ بناظريها بينهم، وكأنها اكتشفت للتو لمَ كان الخدم يملأون المائدة بالمزيد من الطعام، وأولُ شخصٍ قام بإجابتها هو جانين المُبتسمة بجاذبية فيما هي تُشير بملعقة الشاي المزخرفة بأنشوطةٍ أنيقة والتي التقطتها للتو نحو ماري آن.

[اوه اقترحت شوكولاتيتُنا أن نجتمع معًا هذا الصباح من أجلِ فطورٍ مُمتع نسترخي فيه. عليّ أن أقول أننا لا نفعلُ هذا إلا حين تكونُ هنا.]

بدت متحمسة وهي تضع قطعة من السُكر في كوبها الأنتيكي الصغير، فقد بدا لإيميليا أنهم لا يفعلون هذا عادةً، ودليلها الآخر كان تناولها للطعام بمفردها طوال هذا الوقت. قامت إيميليا فقط بجمعِ شفتيها بهدوءٍ كما لو أنها تقول (اوه) مُدرِكةً لما كشفت عنه الليدي، ولكنها شعرت بالشوكولاتية تميلُ بوجهها بلُطفٍ نحوها لتجعلها تلتفت نحوها وترى العيون اللامعة والمقوسة لقريبةِ الإيرلين.

[من الجيد أننا استطعنا رؤيتكِ قبل أن تنصرفي للعمل! سأكون سعيدةً لو بقيتِ معنا قليلًا.]

كانت لا تزال تتمتّع بذلك الصوت المليء بالدفئ ككوبِ شوكولا قرب مدفأةٍ شتوية، ويبدو أن الآنسة لاحظت مسبقًا بأن إيميليا انتهت من فطورها وكانت على وشكِ المغادرة. نظرت إيميليا إليها وتذكرت موقفها الأول معها. لم تكُن على عجلةٍ من أمرها تمامًا، وقد تكونُ فظةً لرفضِ هذا الشيء الصغير من الفتاة التي منحتها فرصة للتحدّث مباشرة مع الوريث، ولكن جُفنيها رفّا تحت تأثير لُطف فردٍ آخر من كيم بشكلٍ عجيب ووجدت نفسها تُجيبها بهدوء..

[يُسعدني ذلك.]

على الفور بدت معالم الرضا على ذلك الوجه البشوش بل وجدته في الليدي التي ابتسمت أيضًا بحيويةٍ فيما هي تقوم بسرقةِ القليل من كُل طبق بعدما اطمئنت لبقاء إيميليا معهم لفترة. لعبت إيميليا بأصابعها بخفوتٍ وهي تنظُر إلى أزواج الأيدي الجديدةِ التي امتدت نحو أطباق الفطور، ففي ثوانٍ معدوداتٍ فقط امتلأت الغرفة بالبهجةِ وأصواتِ الملاعق، وفاحت رائحة الشاي والخُبز القُطني. إنها لا تتذكّر آخر مرةٍ حظت باجتماعٍ سار كهذا على مائدة الطعام، رُبما منذ وفاةِ شقيقتها.. وهي لم تشعر بأنها جزءٌ من أي شيء.

[أنتِ تفسديني بالدلال غاليتي. عليّ أن أقول أن زوجتي ستشعر بالغيرةِ لو رأت هذا.]

رمشت بخفةٍ لتستعيد تركيزها على إثرِ صوت الفنان الأشقر وهو يحاول إيقاف الليدي بأدبٍ عن ملئ صحنه بشتّى أنواعِ الجبن مع المربى، مما جعله يبتسم بهناءٍ وينظر في جبلِ البيض الذي كدسته له جانين، حيث قامت هي بقلبِ عينيها بمللٍ ودفعت بطبقٍ آخر يحمل نكهةَ مربى إضافية نحوه.

[لا تقلق أبدًا من شعورها بالغيرة فهي ليست موجودة أساسًا عزيزي.]

اوه حسنًا.. هذين لن يتغيرا أبدًا على ما يبدو. استطاعت إيميليا سماعَ جيمين يُجيب بـ(بعد!) قبل أن تلفت انتباهها حركة ماري آن باتجاهها، فتعاود النظر إليها بهدوءٍ لتراها تضع لنفسها بعض اللحم المُقدد بشوكتها الأنيقة، وهناك ابتسامةٌ ناعمة على شفتيها المرطبتين بالخوخ.

[إذن إيميليا.. كيف يسيرُ بحثكِ حتى الآن في مكتبةِ القصر؟]

اوه.. هذه الفتاة تنجح بجعلها تشعر بأنها تخوضُ محادثةً عادية بين أي صديقتين.. للمرة الثانية. لم تتوقع أن اجتماع هذا الثلاثي سيكون مُبهجًا بهذه الطريقة في هذا القصر المظلم، مما جعلها ترمش لوهلةٍ في محاولةٍ منها إلى الاندماج في جوهم الحيوي المُفاجئ هذا لكيلا يشعروا باستغرابها. راحت تجوِّل ناظريها بينهم رغم إن الاثنين الآخرين مشغولين، وبدا صوتها في البداية خافتًا تحت نظرات ماري آن المترقبة للإجابة.

[إن المكتبة ضخمة جدًا ولكني تمكّنت من أن أحصُرَ عدد الكُتب التي سأقوم بالبحثِ عنها في أرجائها. الآن أنا أُركز على أن يكون بحثي مبتكرًا.. بطريقتي الخاصة.]

أجابت الآنسة بصدقٍ على سؤالها، تحاول أن تشرحَ لها ما اختبرته في الأمس، فلمحت ارتفاعَ حاجبيها الرفيعين باهتمام قبل أن تجد إيميليا نفسها تنظُر باتجاهِ الأشقر جيمين، كما لو أن عينيها بطريقةٍ ما انزلقتا نحوه. لم تكُن تتوقّع هذا، ولكنها لم تكُن متفاجئة أيضًا عندما سقطت عيناها مباشرةً في عينيه، ترى عدستيه المفعمتين بهدوءٍ عميق، وكيف يناظرها من هناك كما لو أنه كان أيضًا يستمع إلى إجابتها.

يبدو أن كلماتها الأخيرة أعجبته، فرأت تلك الشفاه ترسم بسمةً انهمرت كمطرٍ ناعم فوق أرضٍ يابسة. نظرت إيميليا في تلك العيون الداكنة والمقوسة من بين خصلاتٍ ذهبية قصيرة هربَ بعضها إلى جبهته بدلًا من الانضمام إلى رفيقاتهن المصففات إلى الخلف بأناقة، وتلك النظرة المطولة منه جعلتها تشعر لسببٍ ما.. بأنه راضٍ عن فكرتها تلك، بل كان ينتظر منها أن تكون بالثقة التي تسمح لها بقولِ ذلك بحرية، وهذا تقريبًا.. أشعرها بشيءٍ جيد داخلها، أن هنالك شخصًا ما هنا يتوقع منها ما هو أفضل، أو ربما شخص.. يلاحظ تطوراتها الصغيرة ويجعلها تشعر بالانجاز.

حين قابلته أول مرة لم تتوقع أبدًا أن يكون الشخص الذي يمنحها هذا الشعور ولو قليلًا، ورغم أنها دفنت ذلك داخلها إلا أنه استطاع رؤية اللمعة الصغيرة في عدستيها العسليتين وكأن تعابيرها كانت على حافةِ الراحة، فأخفضت ناظريها سريعًا نحو طبقها النصف مملوء وهي تُضيف إلى كلماتها الأخيرة كما لو أنها تُشغِل نفسها وتتناسى تبادل النظرات بينها وبين جيمين للتو.

[على أيِّ حال.. يبدو أنني لن أتأخر كثيرًا فيما تبقى لي، لذا سنتمكّن من الذهاب إلى المدينةِ قريبًا.]

تحدثت بشرود وكأنها تضعُ أولَ ما خطر في ذهنها على الطاولة، فقط لتتحاشى الاعتراف لنفسها بما شعرته للتو حين نظرت في تلك العيون الداكنة، وما انبثق منها أخبرهم بأنها لم تجد الكثير فعلًا مما يخدمها في مكتبة القصر. كانت ماري آن تمضغُ قطعةً من الجُبن الأصيل بخدٍ منفوخٍ بلطف فيما هي ترمش بعدستيها الشوكولاتيين عندما سمعت تلك الإضافة غير المتوقعة من إيميليا التي ظنّتها شحيحةُ الكلمات، وقد بدت متعجبة أولًا من ذلك الافتراض الذي جعلها تتساءلُ ما إن كانت مكتبة قصر كيم غير كافية حقًا، ولكن على الجانب الآخر.. هذا سيسمح للآنسات بالخروج والتسوق معًا!

تلك الفكرة لم تكد تجعل ماري تبتلع الطعام حتى ظهرت بسمةٌ واسعة ومتحمسة على شفتيها، فقد بدت مشرقة لدرجة أن إيميليا رمشت وهي تنظر نحوها لتجد أشعة الشمس تسطع من خلفها وتجعلها تبدو وكأنها تنثر اللمع الذي توهج، فضيقت عينيها الفاتحتين وكأنها تفكر بأنها ستضع نظارة شمسية لتقيها من كل ذلك الاشعاع المبتهج الذي ظهر في وجهها على غفلة.

[هذا جيد! إني متأكدة من أنكِ تبذلين جهدكِ.]

يبدو أن هنالك الكثير من الورود تشع من هالتها لتتناثر في المكان، وهذا جعل إيميليا تضع افتراضات وتحليلات في رأسها تتساءلُ فيها ما إن كانت هذه الفتاة تنتمي لعائلة كيم فعلًا؟ إنها مشعة جدًا لتكون من سُكّان القصر! حسنًا.. إنها لا تعلم بم عليها أن تُجيبها حقًا، فهي لم تتلقى الكثير من المديحِ أو التشجيع من قبل. يا لبساطةِ وحماسِ هذه الفتاة.. هل هي سعيدة فقط بفكرة التجوّل والتسوق معًا؟

كانت إيميليا تنظُر بشرودٍ في الشوكولاتية التي حملت كوبها وارتشفت من الشاي ببسمةٍ حيوية. عدا عن طريقة جلوسها وظهرها المستقيم، آداب المائدة المثالية وتلك الملامح الحادة المخفية تحت إشراقتها فلا شيء فيها يُشير إلى كونها تشبه أحد الإيرلين. إنها ترتدي قميصًا ربيعيًا بوروده الفاتحة وبنطالًا من القماش الابيض الناصع وكأنها زهرة لا تنتمي لأرض الإيرلين الشتائية. ليس وكأنه من المفترض عليها أن تشبههما لأنها قريبتهما، فجانين أيضًا مختلفة، ولكنها لا تملك أدنى فكرة عن كيف تتوافقان وتثقان بشخصيتين مثل الوريث والإيرل.

[حسنًا على الأقل فإن إحداهن تقومُ بعملٍ حقيقي.]

استفاقت إيميليا من شرودها الصغير عندما سمِعت صوت الأشقر مجددًا، فتنظر إليه وتراه يقوم بتقطيعِ اللحم المقدد بالشوكة والسكين بهدوءٍ وأناقةٍ مثالية فيما ترتسم على شفتيه البسمة التي اشتهر بها داخل هذه الجدران، وأكمام قميصه المزركشة تمنحه هالة من الرُقي. لم تفهم ما كان يقصده حتى حملت الليدي كوبها في الهواء وضيّقت تلك العيون القهوائية التي تملك عددًا لا يُحصى من الرموش لتأتيه بإجابةٍ فورية.

[هل تقولُ أنني جئتُ إلى القصرِ لأتهرّب من ملاحقةِ مديرِة أعمالي التي تذكّرني كل دقيقة بأنه يتوجّبُ عليّ حضورُ اجتماعٍ مُمل؟]

يبدو أنها فهمِت محاولته للعبثِ معها، وأجابته بتلك النبرة المليئة بالدراما وكأنها ممثلة مسرحية تتظاهر أن عشيقها يخونها وستضع يدها فوق جبهتها لتهتف (اوه روبيرتو!). رفعت إيميليا كِلا حاجبيها وهي لا تجد شيئًا لتقوله حتى في رأسها، فالليدي تتصرّف وكأن هذه ليست الحقيقة على الإطلاق، بينما راحَ الأشقر يتبسّم بكُلِ وداعة وهو يتصرّف بالمقابل وكأنه لم يقُل شيئًا يُذكر.

[أنتِ قُلتها يا بهجتي.]

رُغم أنه كان يحاول إخبارها بما اكتشفته بنفسها إلا أنه لم يقُلها بلسانه، فتبرّأ تمامًا من تلك التهمة بما أنها من ألصقتها في نفسها، ووضع قُطعة من اللحم في فمه بكامِل البراءة. راقبتهما إيميليا بصمتٍ في الخلفيةِ وكأنها لا تقوى حتى على مواكبةِ هذين الاثنين منذ الصباح الباكر، بينما راحت ماري آن تحشُر قطعة من الخبز بين شفتيها بقلةِ حيلةٍ أمامهما.

حين تنظر إيميليا للصورةِ الكبيرة هذه تُدرك كم أن هذا الثلاثي مُقرب، بل يفهمون بعضهم جيدًا أيضًا. نظرت إلى الليدي التي وضعت كوبها على المائدة بحزم وكأنها على استعدادٍ لإجابةِ جيمين، وتساءلت عن طبيعةِ العمل الذي تديره جانين بصفتها فردًا من كيم، فيما قامت هي بدفعِ شعرها الحالك والقصير جانبًا بغرور لتبرز أظافرها المُقلّمة بلونٍ أبيض نظيف.

[هراء! أنا هنا كأيِّ قريبةٍ جميلة لتحضُرَ عرضَ وحفلةِ الصيف التي يُقيمها أقرباؤها الوسيمون كي تدعمهم خلالها يا عديمَ الموهبة.]

احتجّت القهوائية فيما قامت إيميليا بالتحديق بشرودٍ فيها. هذا صحيح، بعيدًا عن المزاح هذا فهي تذكّرت للتو وجود اولئك الثلاثة الغامضون، مذ أنها لم تحظى بفرصةٍ لرؤيتهم مذ وصولهم. في تلك اللحظات التي تجاهلت فيها جانين بعبثٍ نظرات الأشقر التي تتعمّد إظهار شكّه فيما تقول سقطَ ناظريها على إيميليا، وذلك التواصل البصري المُفاجئ جعل الصغيرة ترمش لتستعيدَ تركيزها في تلك العدسات الواسعة المليئة بالانوثةِ الطاغية.

رفعت الليدي حاجبيها الكثيفين وقد ظنّتها تُحدق بتلك الطريقةِ لأنها استغربت اللقب الذي تُطلقه على جيمين وليس للمسرحية الدرامية التي يصورانها كلما التقيا، لأنها الوحيدة التي لا تعلم بقصةِ ذلك اللقب المُجرّد من الصحة مذ أن جيمين يُمكنه أن يحمل العديد من الصِفات إلا (عديم الموهبة)، فراحت تلوّح بيدها في الهواء وكأنها تتذكر قصة قديمة جعلت تلك الشفاه الحمراء تبتسم باتساعٍ ساحر لإيميليا.

[اوه! أنا أُناديه بذلك لأني لا استطيع نسيان أول مرة قابلَ فيها وريثنا الجذاب هذا الأشقر الوسيم، لقد وقفَ بتعبيرٍ بارد كشريرٍ في الروايات وقال (ماذا يفعلُ عديم الموهبة هذا في قصري؟!) كانت نبرته لا تُقدَّر بثمن وضحكنا عليها ثلاثتنا لوقتٍ طويل جدًا!]

كانت تُحرّك يدها بوصفٍ درامي ومتحمس لتلك الذكرى فيما هي تقومُ بنسخِ نظرة الوريث تايهيونغ المُباشرة وصوته العميق بمحاولةٍ لتثخين صوتها ومنحه من البرودِ ما يوافق نبرته. في الواقع لقد نجحت تقريبًا بتقليدِ نظرته، مذ أنهما يملكان العيون الساحرة نفسها، ولكن صوتها لم يكُن قريبًا حتى من خاصته، بل وكأنه ينتمي لرجلٍ يتظاهر بالسُكر! وهذا جعل تمثيلها يبدو مضحكًا لدرجة أن إيميليا حاولت أن تضم شفتيها معًا لتمنع بسمتها من الظهور.

لم تكُن تنوي الإساءة لوريث العائلة بالضحكِ على ذلك، ولكنها سمعت ماري آن تنفجر على غفلة بالضحك وتحاول تغطية فمها بمنديل المائدة المطرز كما لو أنها لم تبدأ للتو سلسلةً من القهقهات، فقد تبعتها على الفور قهقهات جانين المرتفعة وأنفاسُ جيمين الصغيرة، برؤيتها لكلِّ ذلك لم تقاوم إيميليا رسم ابتسامةٍ خافتة رُغم أنها لا تستطيع تخيُّل أن هنالك ذكرى مضحكة مرتبطة بذلك الوريث الغامض، لأنها شبه واثقة أنه قال جملته تلك بكامل الجدية وقتها!

ظهرت غمازةُ خدها بنعومة فيما هي تخفض ناظريها نحو أصابعها التي تضمُّهن تحت الطاولة، وقد خطرَ لها تساؤلٌ عن اللقاءِ الأول بوريث عائلة كيم بصبيٍّ مُشرّد أصبحَ من أفضل المعالجين. هل رآه الوريث عديم الموهبة حقًا؟ كيف أثبتَ جيمين عكسَ ذلك بعدها؟ هل ستتمكّن هي أيضًا من فعلِ ذلك؟ لا تعلمُ لمَ يُصرُّ عقلها بالانجرافِ نحو أفكارٍ كهذه وسطَ هذا الجو المرح الذي لم تختبره منذ زمن، فلا تزال قهقهات ماري اليافعة قريبةً منها، ولكنها ربما لا تزال.. قلقة بشأنِ الأمس.

خفتت ابتسامتها حتى تلاشت بهدوء، وبقيّ القرار الذي اتخذته قابعًا في زاويةٍ من رأسها ويسرق تركيزها بينَ فينةٍ وأُخرى، فهل سيجعلها متهورة أم يُثبت أنها تستطيع التقدُّم أيضًا؟ يبدو أن الأفكار أصبحت مزدحمة في رأسها، لدرجةِ أنها قامت بتمتمةِ شيءٍ خافت من بين أنفاسها بسريّةٍ ليفوِّته أغلب الحاضرين.

[أتساءلُ في أحيانٍ كثيرة ما إن كنتُ عديمةُ الموهبة أيضًا، وما إن كان ما أتمتّع به وأرغب فيه مجرّد شيءٍ تافه لا يُعدُّ شيئًا.]

كانت أشبه بهمسةٍ صغيرة إلى نفسها، حيثُ كادت أن تعِدها النسمات بإبقائها سرًا، ولكن زوجًا من العيون الشوكولاتية نظرت فيها مُباشرةً وكأنها التقطت تلك الكلمات الخافتة سهوًا. لم تُدرك إيميليا أن صوتها كان مسموعًا على الأقل للفتاة الجالسة بقربها، لذا فقد رفّ جُفنيها متفاجئة عندما شعرت بيدٍ باردة تُمسك بمعصمها القابع في حضنها على غفلة، وصوتٌ يطرد الشرود عنها بعيدًا فورَ أن صدحَ في أُذنيها.

[لا تقولي ذلك.]

في ذلك الوقت رمشت عيون الأشقر الداكنة وتوقفت الليدي عن وضع المُربى في الخبز، فقد جذبتهما كلمات ماري آن التي ظنّا أنها قالتها على غفلةٍ مذ أنهما فوّتَا سماع همسات إيميليا. شعرت الضيفة بالارتباكِ قليلًا قبل أن ترفع عينيها المفتوحتين بتعجُّبٍ حيثُ لم تتوقّع أن يسمعها أحد أو أنها قالت أفكارها بصوتٍ مسموع حتى، فقابلتها عدستين هادئتين جعلتها تُحدق فيها لوهلةٍ لتُدرك كم كانت ماري حازمة عندما نهتها عن كلماتها.

استطاعت الشعور بنظرات جيمين وجانين نحوهما بصمت فيما قامت إيميليا بالرمشِ لا تعلم ما يجب عليها قوله للآنسة التي سمعت شكوكها، ولكنها تفاجأت لدرجةِ أنها التزمت الصمت عندما شاهدت ماري ترسمُ ابتسامةً جديدة لها، واحدة جعلتها تتذكّر الراحة الدافئة التي تتبعُ صبَّ الشوكولا الحارة في كوبٍ خزفي لتراقب البخار المليء برائحةٍ زغبية، فجعلت انكماشَ جسد إيميليا يهدأ فيما هي تسمع ماري تعرضُ عليها كلماتها المريحة.

[ كلٌّ مِنّا يملك ما هو مهمٌ له لذا لا شيء يُعدُّ تافهًا في الحقيقة. لا تتردّدي مما ترغبين فقط لأنكِ قلقة من أنّ الآخرين سيظنون بأنه غير مهم وضئيلُ الحجم، فنحنُ جميعًا نملك آراء ورغبات مختلفة ولا يحقُ لنا أن نُطلِقَ أحكامًا كهذه فقط لأن أحدهم لا يُشبهنا.]

تبادلَ الذهبي نظرةً هادئة مع الليدي التي لم تقاوم بسمتها الناعمة وراحت تُكمل تزيين الخُبز الفرنسي بالمُربى الوردية، كما لو أنها سلّمت هذا الأمر المخفي عنهما بين يدين قديرتين ولن يكون عليهما التدخُّل، فيما كانت عدساتُ إيميليا الفاتحة تعكس صورةَ الفتاة ذات ذيل الحصان الملتوي الذي تزيّنه خصلاتٌ كراميلية. شعرت لوهلةٍ بصمتٍ داخلي يُغلِّف قلبها، وكأنها جلست وحدقت وحسب بهذه الفتاة التي رفعت يدها الحُرة لتضعها على صدرها وقلبها الخاص بدفئ.

[إنها رغباتكِ الخاصة التي تُشعِرُكِ بأنكِ أنتِ، فلا تشعري بالإحراج منها! بل سيكون عليكِ أن تشعري بالإحراج والأسف إن لم تمضي من أجلها وجعلتِ كيانكِ يضيعُ بين النُسخ المتشابهة والأحكامِ المفروضة.]

لقد قامت بإهداءٍ تلك الكلمات بصدقٍ حنون، وكأنها تُقدّمها مع تربيتةٍ لطيفة لقلبها. شيءُ ما بخصوص الطريقة التي تحدثت بها ماري آن جعلت إيميليا فقيدة الكلمات أمامها، لا تُجيدِ شيئًا سوى التحديقِ بشرودٍ في تلك العيون المقوسة بلُطف والصوت الذي يُزهِر القلوب الوحيدة. لثانيةٍ ما.. لثانية شعرت إيميليا أن صديقةً قديمة تُحادثها، وهذا جعلها صامتةً تمامًا بعد كلمات ماري التي لم تترك شيئًا خلفها سوى الصمت العميق.

في البداية لم تعرف إيميليا ما عليها أن تُفكر به بعد هذا، ولكن عيناها انقادتا بهدوءٍ نحو يدِ ماري التي تُحكم قبضتها على معصمها نظرًا لاندفاعها في الردِ على همساتها السابقة. إن بشرتها تملك الصقيع نفسه الذي يعيش في جسدِ الإيرلين، وهذه اليد ذات الاصابع النحيفة والطويلة والمعصم الذي يتزيّن باسواراتٍ من الخيوط السوداء والحمراء ذكّرتها مُباشرة بالتي يرتديها الإيرل جونغكوك.

هدأت عدساتها الصامتة وتعابيرها تعود للانغماس مليًّا بأفكارها. رمشت ماري لوهلةٍ وقد لاحظت ذلك عليها، وسرعان ما نظرت هي أيضًا نحو يدها التي تعصر معصم المسكينة. أطلقت (اوه) لطيفة من بين شفتيها وسحبت يدها لتُحرر إيميليا ظنًا منها أنها تضايقت من اندفاعها هذا، وسرعان ما أصبحت تلمس خصلاتها الكراميلية القصيرة التي تلامس وجنتها بأسفٍ صغير فيما هي تضع تلك البسمة البلهاء بلُطف كطفلةٍ لمست غرضَ أبويها، فيما قامت إيميليا بالرمشِ باستغرابٍ صغير عندما اختفت يد ماري من فوق معصمها بهذه السرعة.

[أرجو المعذرة! إنّي اؤمن فقط بأننا لو تبعنا كلَّ ما يصدر من داخلنا فإننا لن نجد أنفسنا وحسب، بل سنجد من يشبهوننا ومن يتفهموننا حتى لو كانوا مختلفين عنا. التظاهرُ والقلق من أحكامِ الآخرين سيضطرنا لقمعِ ما نرغب لكيلا نسمع بأن ما نحبه عديم الفائدة أو مجرد شيءٍ تافه، وسنستمر بصنعِ علاقاتٍ مزيفة مبنيّة على التظاهر طوال الوقت حتى تدركين أنكِ لا تزالين وحيدة، هذا ما أخبرني إياه الوريث تايهيونغ منذ زمنٍ طويل.]

شعرت ماري بالسوء لأنها جعلت المشهد دراميًا جدًا وقد لا يكون مريحًا لإيميليا أمام الآخرين، لهذا استبدلت نبرتها بأُخرى مرحة وهي تقوم بيدها الأُخرى برفعِ شوكتها كمن يُلقي خطابًا تشجيعيًا على الملأ. لوهلةٍ رفّ جُفنَي إيميليا بخفةٍ وهي تُراقب اللمعة الناعمة في عدساتِ ماري الشوكولاتية عندما ابتسمت بحيويةٍ لمن يجلسون على الطرف الآخر من الطاولة، ولكن ذِكرها للوريث في حديثها جعل إيميليا تلاحظ كيف تقوسّت عينا ماري بدفئ.

هدأت نظرات إيميليا المشوشة، وشعرت بشيءٍ يضربُ عميقًا داخلها. مجددًا.. تسمعُ أحدَ الأفراد يضع ثقةً مُطلقة في الوريث الغامض بالنسبة إليها، ومجددًا.. يجد ذلك الرجل طريقة ليقولَ الشيء الصحيح الذي يصدُف بأنها بحاجةٍ إلى سماعه. لقد نظرت في ماري، وعلِمت أنها قالت شيئًا تعلّمته هي أيضًا حين كان عليها ذلك.

انخفضَ ناظريها بهدوءٍ من جديد نحو يديها المشبوكتين في حضنها وقد شعرت للتو برغبةٍ غريبة في صدرها، وكأنها تريد أيضًا أن تملك العديد من القصص لتشاركها عن تطورها، فما الذي سيُكسبها الخوف إذن؟ إنها لا تعلم ذلك الرجل جيدًا، الرجل الذي لاحِ طيفُ أكتافه المنتصبة بشموخ وشعره الحالك يُنافس الكهرمان الأسود، ولكنها وجدت نفسها تعترف بخفوتٍ حين نظرت في ذلك الطيف البعيد..

[حسنًا.. افترضُ أن الوريث مُحق بالفعل.]

كانت تعلم أنه محق، والفكرة التي غرسها في ماري قبلها صائبةٌ أيضًا. لا تعلم إن كانت صُدفة لتجد طريقها إليها الآن حين كانت بحاجةٍ إلى سماعِ ذلك بعد قلقها المستمر، ولكنها تشعر الآن.. بأن رأسها أصبح أكثر خِفة لو نظرت للقرار الذي اتّخذته بشأن لعبة الإيرل بشكلٍ مُباشر دونَ أن تسمح للأفكار والتحليلات المبالغة أن تأخذ من طاقتها. إنها تعلم أن الأمر لن يكون بسيطًا أيضًا، ولكنها بطريقةٍ ما.. استعادت الحزم الذي بعثره الإيرل جونغكوك في ثوانٍ ليلةَ أمس.

لم تكُن تريد تفويت ذلك الشعور، ذلك الذي ساعدها على أن تنهض سابقًا وتقوم بأشغالها بجديةٍ أكبر في الفترةِ السابقة، فقد شعرت أنه على وشكِ أن يتدفق إلى أطرافها كالأدرينالين. لم تُلاحظ حتى النظرات التي يوجهها نحوها الأشقر الهادئ الذي يقومُ بدراسةِ وجهها بتلك العيون الثعلبية، ولا كيف تقومُ الليدي بمضغِ قطعة اللحمِ ببسمةٍ خافتة حين تسمع النبضَ الجديد الذي أوقِد على غفلةٍ في قلبِ إيميليا.

على غفلةٍ قامت إيميليا بوضعِ منديلها على المائدة، وشرعت في النهوض من مكانها فيما هي تومئ بأدبٍ برأسها للحاضرين. لم تكن تريد أن تبدو فظة بمغادرتها السريعة للمكان لذا حرصت أن تكون تحيّتها مناسبة لهم وهي تطلب منهم السماح لها بالمغادرة.

[استسمحكُم عذرًا، سأغادر إلى عملي الآن.]

رمشت ماري آن التي لم تكن لديها أيُّ فكرة عمّا دارَ في تلك الدقيقة باستغرابٍ وراحت تُحدق فيها بتساؤل عن سببِ كونها على عجلةٍ من أمرها فجأة، ولكنها اضطرت إلى أن تومئ لها بلُطف وهي غير قادرة على أن تستوقفها مذ أنها تمضُغ بقطعة خبز جعلتها تبدو كباندا صغير بين القصب، بينما راحت جانين تهمهم أيضًا بقضمةٍ ما في فمها لتلوّح لإيميليا بمنديلها بشكلٍ درامي في الهواء كإشارةٍ إلى أنها تعذرها للذهاب، كما لو أنها تعرف أن صغيرتها ستتمكن من إيجاد إجاباتها بنفسها.

تلك المرة.. لم تنظر إيميليا باتجاه جيمين، بل سارعت لفعلِ ما كانت تظنّه الصواب، وهذا جعل الذهبي يرمش بهدوءٍ نحوها فيما هي تقوم بالانحناء لهم بالشكل المناسب قبل أن تأخذها خطواتها باتجاه الباب حيثُ جعلت آنا تُسارع باستغراب إلى اللحاقِ بها، ولكنها نظرت إليها ببسمةٍ عجولة وأشارت إليها بالبقاء مذ أنها لن تحتاج إلى شخصٍ يُشغِلها عن التعمّق في أفكارها وعملها.

توقفت الخادمة بحاجبين معقودين ارتباكًا مما حدث، بينما كان الأشقر يُحدق بالهيئة التي اختفت خلف الباب بتلك العيون مزدوجة الجفون، فيما كانت ماري تنظر بتساؤل نحو جانين التي أشارت إليها أن كل شيء على ما يرام بطبعِها المرح والمتلألئ بذرات اللمع. لوهلةٍ ظهرت بسمةٌ صغيرة على شفاه الفنان الذي جعله هذا الموقف يتوصّلُ لاستنتاجٍ مُرضي، وراح يسدلُ جفونه بسلامٍ ليستمتع برائحة الشاي الصباحية التي تحمل عبقَ الياسمين.

يا له من صباحٍ مُريح~

≽⌘≼

صدى صوت إطباق الباب الأنيق بثُقلٍ في الرواق الذهبي بعدما قام بإغلاقه خادمٌ يناظر الآنسة التي خرجت من غرفة الطعام على عجلةٍ من أمرها باستغراب، فهي أصبحت تسيرُ في الرواق الملكي في ثوانٍ عندما افترشت أشعة الشمس الحيوية شعرها وملبسها ليجعل الألوان فيها ناعمةً ومشعة أكثر. لمعَ في عينيها الفاتحتين بريقٌ من النوافذ النورانية والزينة الذهبية التي تملأ الرواق اللامع على طوله، وهناك عبقٌ نظيف ومُريح يجولُ في الهواء من الستائر والأفرشة النبيذية التي تم غسلها.

كانت تسير بحذائها الناعم والمنخفض كما لو أنها تملك خطة طويلة الأمد وهي تتجه نحوها الآن، ولكنها في الواقع لا تملك أدنى فكرة عن كيف ستستفيدً جيدًا من الشعور هذا الذي يبدو وكأن شيئًا استفاقَ فيها إلا بالعمل بجدٍ في المكتبة لتأتي بنتيجةٍ ممتازة. كانت تُحدق إلى الأسفل لقدميها الّتين تخطوان على السجادةِ النبيذية ذات الزخرفة الملكية والدقيقة قبل أن ينزلق ناظريها نحو صدرها، حيث ياقتها التي تكشِف قليلًا عن لمعةٍ خافتة أسفل القماش.

انطلقت وهي لا تعلم ما كان ينتظرها في الخارج، بل لم تمنح فرصة لأن يبلغها أي شيء حين خرجت بتلك السرعة من غرفة الطعام. انعكست في عدستيها صورةٌ للصليبِ المُعلق في نهاية قلادة شقيقتها، وتساءلت للحظة.. هل أنتِ تُشاهدين هذا، فايوليت؟

رفَ جُفنَي إيميليا بخفةٍ عندما انتزعها شيءٌ ما من أفكارها، فهي لاحظت ظلًا ما يرتسم فوقها لدرجةِ أنها ما عادت تشعُر بدفئ نورِ الشمس يصِلُ إليها، وهذا الشيء المُفاجئ جعلها تنتفض للحظةٍ وقد تجمدت قدميها في الأرض لما هتفت داخلها (اوه يا اللهي العظيم!)

جفل قلبها مذ أن تركيزها كان في مكانٍ آخر تمامًا، والتفتت على الفورِ لترى ما كان هذا، ولكن قد تمت مُقابلتها بيدين مرفوعتين في الهواء كإشارةٍ إلى أنه جاء في سلام، وإحدى تلك اليدين كانت مُغلفةٌ بقفازٍ جلدي أسود يخفي نصفها فقط. في تلك اللحظات رمشت إيميليا بشرود، ورفعت ناظريها إلى الأعلى لتتفاجأ برؤية قناعِ أرنب جامد يُحدق فيها.

المُقنع؟! لقد كان آخر شخصٍ توقعت أن تراه، ولكنه أفضل من غيره لتكون صريحة. هل كان ينتظرها خارج غرفة الطعام ولم تلاحظه؟ لماذا هو هنا فجأة!

أطلقت إيميليا تنهيدةٍ مطولة وكأنها حبست أنفاسها لدقيقة بعد تلك الانتفاضة التي جعلت كل خليّة في جسدها تتراكض في الأرجاء وتتصادم ببعضها، من الجيد أنها لم تقفز وتخيفه هو أيضًا! وضعت يدها على صدرها لتُربِّت على قلبها الذي سمعته للحظةٍ يهلع في أُذنيها، فهي لم تتوقع أن تكون مسلوبة التركيز لتلك الدرجة، وراحت تنظُر بحاجبين معقودين نحو الحفرتين في القناع حيثُ يفترض أن تكون عيني هذا الرجل مُغلّفة بقماشٍ أسود.

[هل يُمكنك على الاقل.. لا أعلم! أن تُصدر صوتًا ما حين تظهر؟]

لقد بدت تلك كتوبيخةٍ أكثر من كونها تذمّرًا، وُربما كانت أول مرة يجد الاندفاع موضعًا في صوتها الهادئ. شعرت وكأن المُقنع وقف للحظةٍ بصمتٍ عميق وهناك غرابٌ على وشك أن يظهر فوق رأسه ببراءة، لأنها رأت كيف يقومُ برفعِ إحدى يديه ولمس رقبته بخفة كما لو أنه لم يعني حقًا أن يُخيفها، فتحركت خصلاته البُنية بنعومة حول قناعه الخزفي.

يا للهول.. إن هذا الرجل يملك أكثر خِفةٍ مُبهرة رأتها في حياتها، لم تستطع سماع أيّ خطواتٍ أو أيّ احتكاك لقماشٍ يدلُ على حركة جسده، أو أنها كانت غارقة في التفكير للدرجة لتي لم تسمح لها بسماع ذلك؟

استعانت إيميليا بشهيقٍ عميق لتهدأ أخيرًا، وناظرت في الرجل الذي يفوقها طولًا وبُنية، وقد غلّفت جسده البذلة المُعتادة التي يتميّز بها دونًا عن بقية الخدم حتى كبيرهم جونغهيون. كان هنالك شيءٌ مختلف بخصوص هالته يجعلها تُجول عينيها فيما كان واضحًا من وجهه المخفي، بينما كانت شفتيه الظاهرتين مضمومتين بلُطف كأنه أرنب تم إمساكه وهو يسرق الجزر.

أخفضت يدها وقد وقفت أمامه تمامًا قُرب نافذةٍ واسعة تجعل النور ساطعًا على أزرارِ سترته الذهبية وسلسلة ساعةِ الجيب على صدره الأيسر، ذلك يمنحها صورة في رأسها عن أرنب أليس، عدا عن أنه.. أنيقٌ أكثر ويبدو كبيرًا جدًا. كان لا يزال يلتزم الصمت وكأنه يمنحها فرصةً لكي تهدأ، ولكنها فكرت بالاعتذار إليه عن الطريقةِ التي تحدثت بها معه، حتى لو كانَ قد أجفلها، لكنها تعلم أنه لم يكُن يعني ذلك.

قامت بلمسِ معصمها بخفة، وجالت بعينيها الرواق الصامت بارتباكِ صغير من هذا الهدوء المفاجئ الذي حل، فقد كادت تسمع حفيفَ الأشجار في الخارج. فارقت شفتيها لكي تعرض اعتذارها، ولكنها رمشت في لحظةٍ عندما رأته يمدُّ يده إلى جيبِ سترته الداخلي، فيُخرجها وفيها ظرفٌ قمحي يتميّز بأناقةِ ونعومة نقوشاته. استغربت رؤيته يقومُ بعرضه عليها، فرفعت ناظريها نحو قناعه الخزفي الصامت الذي قامَ صانعه بقضاءِ ساعات ليطلي تلك التفاصيل الصغيرة فيه بالذهب.

لم تجد تفسيرًا منه بالطبع، فتلك الشفتين لا تزالان مطبوقتينِ بهدوء وكأنهما شفاه دُميةٍ خُيّطت، لذا لا تعتقد أنها ستحصل على إجابةٍ منه أيضًا لو سألت. ظهرت عقدةُ صغيرة بين حاجبيها، ورفعت يدها برفقٍ لتلتقط المظروف منه باستغراب وتبدأ بلفّه بين يديها بخفة لتتفحصه. إنه لا يبدو كظرفِ رسالة فليست هنالك أيُّ طوابع، وسطحه نظيفٌ تمامًا كما أنه خفيفٌ جدًا.

لم تعلم ما الشيء الذي تمّ إرسالُ هذا المقُنع من أجله، لذا قامت بملاحظةِ الفُتحة الطولية في الظرف وسحِبت ما كان موجودًا داخله إلى السطح. رمشت لوهلةٍ وهي ترى ورقةً تخرج في يدها، واحدةً مُزينة بإطرافها بزينةٍ ملكية وخطٍ حبري أنيق. لقد تمّ ذِكر اسم مسرح لندن في الأعلى، وهناك قائمة في الأسفل تذكُر متطلبات وتجهيزاتِ عرض الإيرلين القادم. كانت دقيقةً ومكتنزة بالمعلومات المهمة، وبدت رسميةً جدًا.

لا بُد أن الإيرلين أمرا بإرسالِ نسخةٍ منها إليها لكي تقوم بالتعرّفِ على الخدع التي قررا تأديتها وما يجُب عليها التجهيز له خلال هذه الفترة، لذا كان عليها أن تأخذها وتقرأها بعناية. لم تخُض في التفاصيل بعد، ولكنها بحثت بعينيها عن الموعد الرسمي للعرض الذي يجب أن يكون مذكورًا هنا.

في تلك الأثناء كان المُقنع يراقب التغيُّر الجاد في تعابيرها وكيف هدأت تلك العيون الفاتحة لتُركّز فيما تقرأه، ولكنه لمحَ شيئًا يتحرّك بالقرب من النافذة، مما جذب أنظاره بعيدًا عنها حيثُ رأى العصافير الثلاثة الصغيرة تُرفرف خلف الزجاج بعيونٍ صغيرة لامعة وريشاتٍ زغبية ملوّنة. تجمّد مكانه فورَ رؤيته لتلك العصابة اللطيفة وقد انتصبت أُذنيه الأرنبيتين الوهميتين بانتباه وكأنه أرنبٌ لا يريد أن يتم الإمساك به مجددًا.

رمق الآنسة بنظرة ليتأكد أنها منغمسة في هذا المظروف المهم، وقامَ بخفةٍ برفعِ إحدى يديه ليُشير إليهم بأن يلتزموا الصمت وإلا نَتفَ ريشهم واستخدمه لصُنعِ وسادة، مما جعل العصافير الصغيرة تميلُ برأسها جانبًا ببراءة وهي تُرفرف بفضولٍ قُرب النافذة التي كادَ أحدهم يُلصق وجهه اللطيف بالزجاج ليرى الآنسة، فيدفعون المُقنّع إلى التحديق بهم مطوّلًا بتهديد وهو يُشير بإصبعه بحزم للمرةٍ الأخيرة.

من ناحيةٍ أُخرى أدركت إيميليا الآن مهمة هذا الأرنب، فعلى الرغم من وجود الكثيرين ممّن كان بإمكانهم إيصال الورقة إليها إلا أنها علمت أن هذه التدابير الحريصة بإرسالها بيدِ تابعٍ أمين يقصدون التجنّب بها عمّا حصلَ آخر مرةٍ حين تمكّن ابن الدوق سوك جين من وضع يده عليها. بعد أن أخذت تصوّرًا كافٍ عمّا قامَ الإيرلين بإرساله لها قامت بإعادة الورقة إلى الظرف بحرص فيما هي ترفع رأسها نحو الرسولِ بهدوء، وقدّمت إليه شُكرها على إيصالِ هذا لها.

[شكرًا لك.]

لقد غافلَ هذا المُقنع الذي شعرَ بقشعريرةٍ أرنبية تسري خلف عنقه بسماعِ صوتها يُحادثه فجأة، فقام بخِفةٍ بالتظاهُرِ بأنه كان يُرتّب الانبعاجَ الصغير في كُمِّ سترته بدلًا من هشِّ أولئك الصِغار بعيدًا، بينما رمشت إيميليا بصمتٍ مستغربةً من الجو الغريب الذي شعرت به على غفلة. هل يُخيّل إليها أم أنه كانَ على وشكِ فعلِ شيءٍ ما..؟

هلعت العصافير وسارعت إلى الاختباء لكيلا يظهروا من الزجاج، ولكن اثنين منهم تصادما ليتطاير منهما ريشتين زغبيتين في الهواء قبلَ أن يهربا معًا، وكلُّ هذا حصل حين ظهرَ تعبيرٌ حائر على وجه إيميليا وقد انعقد حاجبيها بخفة. رغبت في أن تنظُر بالاتجاه الذي ظنّت أن يده كانت موجّهة نحوه ولكن جُفنيها رفّا لوهلة، عندما انعكست في حدقتيها العسليتين صورةُ يده المُغلفّة بقفازٍ أسود.

هذه.. ليست أول مرة يُنبهها عقلها اللاواعي بهذا القفاز الجلدي، إنه يُذكّرها بصورةٍ عزيزة على قلبها، وهذا جعلها لوهلةٍ تشعُر وكأن شيئًا ما في صدرها أصبحَ ثقيلًا. حدقت بصمتٍ عميق احتلّها فجأة بيده فيما هو يُخلي سبيل كُمّه أخيرًا ويُخفض يديه، لكنه حين نظرَ إليها وقفَ صامتًا وهناك علامات استفهامٍ تظهُر حول رأسه، لأنه لاحظها تُحدق بطريقةٍ مُريبة في يده التي يرتدي فيها قفازًا.

لم تعلم لماذا ولكن.. تساءلت للحظةٍ عن اليد التي كان يرتدي فيها ساحر الناصية الصغير قفازًا جلديًا؟ لسببٍ ما وجدت نفسها متجمّدةً مكانها وهي تُمسك بترقُّبٍ بذلك المظروف لتبحث في ذاكرتها عن صورةٍ لجونغكوك الصغير. هل كانت اليدُ اليُمنى مثل هذا المُقنّع أم كانت اليُسرى؟ شعرت لوهلةٍ بتدفُّقٍ من الأسى الغريب داخلها حينَ جعلها هذا البحث السريع داخل رأسها كل ذكرى لها ضبابية، فهل هي.. متوترة؟ ولمَ ستكون؟ لا يُعقل أنها تُفكر بأن جونغكوك هو...

ارتفعَ ناظريها على عجلٍ وكأنها سترى نجمًا في سماءٍ وحيدة، تُحدق بتلك الشفاه الصامتة للمُقنّع وكأنها تحاول إيجاد دليلٍ لتلك الفكرةِ المجنونة التي أطالتها. إنها لا تعلم.. كيف أصبحَ شكل بيتر بان عندما كبِر، ولهذا لا تستطيعُ أبدًا الجزم وهذا القناع يحجُب رؤيتها لوجه هذا الرجل. شعرت بالريبةِ داخل قلبها لوهلة، وبدت أن أطرافها تجمّدت وكأن هنالك زوجين من الثعابين التفّت حولها.

لاحظت بأن الرجل يبدو قلقًا ومتسائلًا عندما أمال بوجهه جانبًا وكأنه يحاول أن يتأكد بأنها بخير، فقط خطفَ شيءٌ ما البريق منها على غفلة وأصبحت تُحدق بهذا الشرود المُريب فيه. لا.. إن هذه الفكرة سخيفةٌ تمامًا، ولكنها ليست بالسُخف الذي يمنعها من عقدِ حاجبيها بارتياب، وتمتمت شفاهها بكلماتها التي حاولت دفعها بهدوءٍ من حنجرتها.

[هذا يُذكّرني.. ما اسمك؟]

انطلقَ صوتٌ خافِتٌ منها، وكأنها تهمس إليه بسرٍ وسط ذلك الرواق. للحظةٍ توقف المُقنّع مكانه.. وبدا صامتًا جدًا وثابتًا كتمثال. لا تعلم لماذا بالتحديد.. ولكن طيفَ ساحِر الناصية اللطيف بتلك العيون المقوّسةِ والابتسامة العريضة ومضَ في ذهنها للحظة عندما صدح صوته اليافع في ذاكرتها (أُدعى جونغكوك!)، ولا تعلم لمَ أيضًا.. توقعت تلك الإجابة من هذا المجهول رغم أنها تُدرك جيدًا بأنه لا يستطيع إجابتها، ورغم أنها تعلم أن توقعّها هذا بعيدٌ عن المنطقية.

لم تُحدد الشيء داخلها بالضبط الذي جعلها تطرح عليه هذا السؤال، فهو يمكنه أن يكتُب اسمه لها ولن تضطر للتحدُّث معه بصيغة المجهول حين تعرف اسمه. نعم، لهذا السبب فقط.. وليس لأنها تتوقع بأنه..

استطاعت الشعور بنفسها وهي تزدرد ريقها وقد رفّ جُفناها، كما لو أنها تُحدق بترقُّب خانق تجاه ذلك القناع الذي زيّنته كل تفصيلةٍ بديعة من الجمال.. إلا الحياة. كانت تستمر بالإنكار في رأسها لتلك الفكرة غير المدعومة، فلا يُعقل أنه ومن بين كل الأماكن في لندن تلتقي بساحرها الصغير هنا.. على أرضِ القصر المقفل، حتى ورغم أنها لا تعلم أي شيء عن هذا الرجل وكيف انتهى به الأمر داخل القصر مثلها، ولكن كونه جونغكوك الذي تعرفه لا يزال احتمالًا ضئيلًا جدًا، لا تعلم لمَ فكرت في ذلك أساسًا. إن هذا.. سخيف.

فلمَ إذن.. لم يخبرها عن هويّته لو كان هو؟

كانت تلك العيون تُحدق في الآنسة حيثُ وجدَ لمعةً غريبة في عدستيها، بريقًا لم يره من قبل حين كانت تنظُر إليه مُسبقًا بعيونٍ خاوية وباردة، ولكن الآن.. يستطيع معرفة أن الكثير من خلايا النحلِ العسلية تعيشُ فيهما. لقد لاحظ الطريقة التي تتمسّك فيها بالظرفِ بين يديها بطريقةٍ لم تعي لها، لكنها وبكلِ تأكيد بدت كمن يرغب بإجابةٍ منه.. حتى تعلم ما عليها توقعه منذ الآن وصاعدًا.

[أنت معفي هذا الشهر.]
كلماتُ الوريث ترددت في أُذنيه، لكنه قضمَ شفته السُفلى بهدوء لوهلة، بطريقةٍ حرص أن يُخفيها عن مرأى إيميليا. لقد تبدّد الجو الهانئ حولهما في لحظاتٍ بعد ذلك السؤال، ولم يكُن هنالك سوى جسدين ثابتين أمام بعضهما. كانت تنظُر نحوه إلى الأعلى وكأن كل دواخلها صامتة وقد منعت أفكارها من التجوّل في رأسها لكي تلقُط منه أيّ نوعٍ من الإجابة حين يُقرر أن يأتي بها، ولكنه ولأغلبِ الوقت.. بقيّ صامتًا وجامدًا كالقناع الذي يرتديه.

[يا وريثنا الثمين! سأُسابقك حتى النهاية.]

رفَ جُفني إيميليا على غفلةٍ حين انتفض قلبها ظنًّا منها أنها سمِعت للتو صوت هذا الرجل، لكن أُذنيها أنكرتا ذلك على الفور عندما تعرّفتا سريعًا على مالِك ذلك الصوت البارد الذي حين هتفَ بدا كزوبعةٍ من الصقيع الهادِر. إنه.. الإيرل؟!

التفتت برأسها سريعًا وقد احتضنت الظرف بين يديها بشدة حينَ قفزَ في ذهنها المشهد الأخير الذي جمعهما، وراحت عيناها تبحثانِ عنه لتتأكد من مكانه كما لو أنها تحرص بأنها ستكون بعيدة عنه. كان صوته بعيدًا بالفعل كما لو أنه في الأُفق، وتأثيره الصارم مكبوتٌ بالزجاج الذي ناظرت خلاله عبر النافذة إلى الأسفل. لم تُدرك أبدًا بأنها كانت تقف قُرب إطلالةٍ على المساحةِ الخضراء النديّة التي صُمِمت بمسارٍ دقيق يمتدُ إلى بضعة أميال.

هذا العلف المُرتب بحرصٍ وصناديق المياه النظيفة التي تحتلُّ الجانب الأيمن من المسار، إنها لا تذكر رؤية هذه المنطقة من قبل، ولكنها بكُل تأكيد تقبع قريبةً من إسطبل القصر. هل كان الإيرلين يخوضان درسًا في الفروسية؟ لقد سمعت الإيرل يذكُر الوريث.. فقامَ فضولها بإجبارها على البحثِ بعينيها عن أيٍّ منهما مذ أنها لم ترى حتى صاحب الصوت الذي جذب انتباهها.

بعدما كانت الأرض العشبية كل ما ملأ عدستيها لثوانٍ.. شعرت بلفحةٍ من البردِ تزحفُ سريعًا عبر عمودها الفقري حتى نهاية رقبتها عندما وقع العسل في عينيها في مصيدةٍ حالكة من الحبر. اتّسعت تلك العدسات الفاتحة عندما رأت وجهًا لم يُخطئ الرب في رسمه، عيونٌ ريميّةُ الأصل تُزيّنها رموشٌ فاحمة لتجُرّ رسمتهما بحِدةٍ كُحلية أنيقة. لقد كان الوريث تايهيونغ في الأسفل!

جسدٌ ممشوق مُغلّف بملبسٍ ملكي خاصٍ بالفروسية، حيثُ تظهر تلك الياقة المزخرفة بشكلٍ دقيق والشريط الذي بثّ فيه المنظر الفيكتوري، تمامًا كدورِ ذلك الزوج من الأحذية الطويلة التي تبتلع قدميه حتى ركبتيه. كان جالسًا فوقَ حصانٍ أودعَت السماوات فيه لونًا حالكًا كالليل الذي يعيشُ متأصلًا في خصلات الوريث المُصففة بعناية إلى الجانبين، لتُظهِر المزيد من وسعِ عينيه المميزتين.

إنها ليست خبيرة أبدًا بالخيول، ولكن ذلك الخيل.. بدا ينضحُ بهالةِ من الفخامة والعز، حيثُ لا يُناسِب إلا الملوك، ببُنيته القوية وعضلاته البارزة التي تلمع لشدّة الاسوداد في جلده وشعره الذي ينصبُّ كالمياه. لا تعتقد أنها رأت مشهدًا بهذا الجمال من قبل.. حيثُ يكون للون الأسودِ مكانًا يُظهر أقصى درجات فِتنته فيه.

كان ذلك الخيل الملكي مُطيعًا لصمتِ سيده، فقد بدا هادئًا فقط لأن الوريث تايهيونغ كان يملك شيئًا لينظر إليه، وقد كان هي! لم تظُن أنها سترى الوريث يُحدق فيها بتلك الطريقة الصامتة وكأنه كان يعلم أنها واقفة هناك في تلك البقعة بالتحديد لدرجة أنهما صنعا تواصلًا بصريًا! كانت تلك العدستين صارمتين كالعادة، تحملان غموضًا وفِتنة وفيهما الكثير من الدهاليز التي تستطيع أن تضيع فيها.

لمَ كان ينظُر فيها وكأنه يعرف بأنها هناك؟ لم تستطع الاتيان بحركةٍ تحت تأثير تلك العدسات الصامتة الي صنعت تعبيرًا خزفيًا هادئًا، وقد ظنت إيميليا للحظةٍ أن تلك العيون الثابتة يُمكنها أن تبتلعها داخلها تمامًا حتى من ذلك البُعد.. ولكنها تستطيع الشعور بهما بشكلٍ عجيب.

لقد شعرت بالريبةِ تقبض على قلبها، ولكن يبدو أن الوريث كيم لم يُطِل البقاء هناك، فقد أشاح بتلك العيون الساحرة بغموضهما الأسود استجابةً لنداءِ شقيقه الأخير، فحرّك اللجام بهدوءٍ ورأت حركة قدميه السلسة التي دفعت بالخيلِ إلى الالتفاتِ والانطلاق بخُطى متزنة إلى الجانب الآخر. تحرّكت تلك الخصلات الليلية بخفة عندما التفت، وراح الهواء يتخلل بينها سريعًا كلّما كشفَ الخيل عن مهاراته في العدو.

وقتها فقط لاحظت خيلًا آخر يمتاز بلونه الداكن كما لو أنه توأمُ الخيل الأول، ينطلق بسرعةٍ مذهلة في الهواء وعلى ظهره يحمل جسدًا قويًا، واحدًا بخُصلاتٍ قصيرة بعثرتها الرياح بغجريةٍ ساحرة لتلتقط إيميليا من نصف وجهه السفلي بسمةً جانبية خافتة، حيث يستمتع بالانطلاق بشراسة إلى الأُفق بلا تردد وقميصه الكُحلي يرفرف بحماسٍ عند أطرافه لولا أنه مُثبّتٌ بحزامِ خصرٍ فيكتوري وعريض يبرز قوامه الممشوق.

إنه الإيرل جونغكوك. لقد كانت هذه المرة الأولى التي ترى فيها الإيرل الأصغر متحمسًا على الأقل لفعلِ شيءٍ ما، فوجدت نفسها تراقب هذين الأخوين الأنيقين ينطلقان في مسابقةٍ معًا وهما يمتطيان خيليهما إلى الأُفق، حتى بدأت أجسادهما بالابتعاد في لمحِ البصر عبرَ ملكيةِ كيم الواسعة.

شعرت وكأنها استطاعت سحبَ أنفاسها للتو بعد هذه المُقاطعة المُريبة، فهي ليست متأكدة ممّا يجب عليها التفكير فيه بعد تلك الصدفة العجيبة، ولكن على أي حال.. هذا ليس مهمًا! لقد تشتت تركيزها تمامًا عن الأمر الذي كان بين يديها!

فورَ أن تذكّرت ذلك اتّسعت تلك العدسات العسلية وسارعت إلى الالتفات نحو موضِع المقنّع الذي كان أمامها، ولكن مشهد الرواق الفارغ حيّاها بصمتٍ عميق، يُنبؤها بأنها الوحيدة هناك. لوهلةٍ رمشت وكأنها لا تستوعِب أن الرجل الذي كان هنا اختفى ببساطةٍ هكذا، دون أن يُحدث صوتًا يجذبها أو حتى نسمة! لقد فوّتت إجابته على السؤال حتمًا! أو أنه.. من تعمّد الهرب؟

للحظةٍ أنبثقَ نفسٌ صغير من جوفها عندما رفعت إحدى يديها لتلمس جبهتها وكأنها تحاول أن توقف الأفكار في رأسها وتهدأ من تدفقها قليلًا. يا للسخف.. من غير المعقول أن تظن أن صدفةً خارقة ستجمعها مع ساحر الناصية في قصرٍ مُقفل، ولكنه كان يملك شعرًا بُنيًا أيضًا.. وذلك القفاز الجلدي. إنها تعلم بأن هذه كلّها ليست بإشارات حتمية.. ولهذا شعرت بأنها ستفقد صوابها لو رسمت كل تلك التخيلات في رأسها في فترةٍ تحتاج فيها إلى السلام.. وليس الشك.

تضيّقت عيناها للحظاتٍ عندما حدقت بذلك الظرف في يدها. رؤية الإيرل مجددًا ذكّرتها بمهمتها، وذكّرتها بأنها وقفت أمامه يومَ أمس.. وسألته أن يسمّي التحدي الأول.

قررت أن تترك كل شيءٍ آخر جانبًا وتركز فيما تحمله بين يديها، لذا سرقت شهيقًا عميقًا من الرواق الهادئ ثم أطلقته لتُخرج معه أيّ فكرةٍ جانبية أخرى. حين يعيش أحدهم في هذا القصر فأن إبقاء الأمور تحت السيطرة أو التركيز على شيءٍ واحد يكون صعبًا للغاية! ولكن الآن.. الآن شعرت أن الشيء الأول الذي عليها القيام به هو التركيز على اللعبة التي اقترحها الإيرل.

[اجعلي أدواتكِ تقومُ بتقديم حيلةٍ تفاجئني خلال العرض، حيلةٌ لا أعرف بشأنها، حيلةٌ ليست جزءًا من عرضي، حتى لو عنى ذلك أن تُفسدي جزئيتي.]

صدى صوته المتلحّف بالبرود على غفلةٍ في رأسها لتتذكر كلماته لها. إنها تعلم بأنه أعلنَ عن ذلك كالتحدي الأول بعدما راقبها تخوضُ بين الكتب بشكلٍ "عديمِ الفائدة" مثلما وصفه، وتعلمُ أيضًا بأنه يُدرك أن كليهما يعرفان مدى صعوبةِ بل استحالةِ هذا التحدي، ببساطةٍ لأنه سيد الخُدع والحيل، شقيقُ الوريث العظيم ومُبتدِع العروض، ولكنها وقتها لم تحبذ أن يتركها هذا تتراجع.

لسببٍ ما شعرت.. أنها لم ترغب بالرفض تحت تأثير تلك العينين الّتين طلبتا إجابتها سريعًا، بالرغمِ من النغزاتِ المزعجة مجهولةِ السبب التي لم تتوقف خلف عنقها طوال الوقت. شعرت بيديها تشتدانِ بصمتٍ على ذلك الظرف القمحي الذي ينعكس في عدستيها الفاتحتين.

يريدُ شيئًا جديدًا إذن حتى لو عنى ذلك أنه سيقوم بالارتجالِ في جزئيته؟ حسنًا.. ستمنحه ذلك!

┛♠━━━━━⚜━━━━━♠┗

.

.

.

انتهى!

الكثير من التلميحات~ لا تنسو تكتبو آرائكم وتحليلاتكم عن الفصل، انطباعكم عن الشخصيات وتقدم الاحداث، اشتقت لها بشدة يا مبدعات❤️

أيضا لا تنسو تدعموني بتعليق او باضاءة النجمة لأن هالشي يساعد الرواية أنو توصل لعدد أكبر من القراء، لذا لو كنتو تحبو جو هذه الرواية لا تبخلو عليها بالدعم~

بيس!✌️

Continue Reading

You'll Also Like

4.2M 247K 61
أن تُسَجن في عُمرِ الزُهور وِسط أسوارٍ كوَّنها حُبّ مُتمّلك مَنع عَنها الحَياة ..! صَبيَّة في مُقتبلِ العُمر تُطارَد مِن قِبل أقرَبُ الناس اليها أن ت...
23K 1.1K 7
«قبضتهِ التي يستخدمها لحمايتها بقوة هي نفسها التي يرسم بها لوحاتهِ ليعبر عن حبهِ» « لوكا ديفالكو-إيليا مورتيني» . 📢 الرواية لا تدعم زواج ال...
156K 6.4K 23
_ فتاة لها أحلامها هي وريثة شركة كبيرة من كبرى شركات كوريا تزوجت دون إرادتها من زعيم ورئيس أكبر شركة وعصابة مافيا في البلاد وهذا ما أدى بهما إلى الو...
442K 33.2K 27
كانوا خمس أولاد إستطاعوا النجاة حتى مع ندوبهم الكثيرة لهذا ظنهم الجميع شياطيناً.. حتى أنا روبين ديميرو الفتاة الَّتي كان من المفترض أن تكون حياتها ه...