نوفيلا. آخر الأنفاس. بقلم منى...

By Mona_A_Moahmed

1.3K 52 11

بين دروب الحياة نفقد بعضًا منا، نتوهم أن سلاحنا الحب، نعيش وبالقلب عشق ينبض، وذكرى لماضٍ يسكن حاضرنا، هكذا كا... More

٢_حيرة قرار.
٣_وجهان.
٤_الماضي يعود.
٥_صفعة الصحوة.
✨ليل يونس بمعرض الكتاب ✨
✨خطايا الصمت رواية المعرض ✨

١_ ما ذنبي.

457 9 1
By Mona_A_Moahmed

#أخر_الأنفاس
(1) ما ذنبي؟

تستمع إليه بإهتمام، أصابعها تجري فوق الأسطر تدون كل ما يتفوه به، لا تريد أن تضيع منها كلمة واحدة، فحتماً سيأتي بأحد تلك المفاهيم بالإختبار، زفرت أنفاسها أخيراً حين أنتهى من شرحه، فأسرعت وجمعت كل أشياؤها وغادرت قبل أن يغادر أو يتحرك من مكانه، و غفلت عن نظراته المتابعة لها وهرولت، وهي تدعو الله أن تلحق بالحافلة قبل أن تفوتها.

أقتربت من محطة أنتظار الحافلات ولمحتها حافلتها تتحرك فصاحت بصوت عال وهي تعدو لتوقفها:
-"أستنى لو سمحت، لو سمحت".

لم ينتبه لها سائق الحافلة وغادر قبل أن تصل إليه، فضاعت صرخاتها سُدى، ووقفت تتلقف أنفاسها بضيق وهي تتلفت حولها، تُمني النفس بظهور أخرى، بهتت ملامحها وتملكها اليأس فالطريق أمامها خال ولا أثر لأي شيء، كادت تبكي وهي تحدق بساعة يدها حين أشارت إلى السابعة فأدركت بأنها هالكة لا محال، فأمامها نصف الساعة فقط ويصل شقيقها شرف إلى المنزل، وحين يكتشف تأخُرها، سينزل عليها عقابه حتماً كما هو الحال دوماً.

تاهت بدوامة أفكارها الحزينة، ولم تنتبه لسيارته التي توقفت بجوارها، إلا حين أطلق الزمور بإلحاح، إلتفتت ورمقت السيارة بغضب دون أن تتبين وجه سائقها وصاحت بحنق:
-"إيه يا أخينا في إيه عمال تزمر لما صدعت دماغي وبعدين ما الطريق فاضي أدامك، وأنا مش معطلة السكة علشان توقف لي بالشكل دا".

سمع صوتها العالي وكلماتها الحانقة فغادر سيارته وتطلع إليها بوجه خال من الأنفعال، لتشهق بذعر ما أن وقع بصرها عليه، فأغمضت عيناها وهمست بخوف:
-"أهو دا اللي كان ناقصك يا نعمة، عجبك كدا أديكي شيلتي المادة والحمد لله".

تابع تلون وجهها أمامه فقرر أن يرد لها ما فعلته فاخفى ابتسامته وعقد حاجبيه وهو يتطلع إليها ليبدو وجهه لها نذير شر ليؤكد ظنها بقوله:
-"هو مش أنتِ اللي خرجتي من المحاضرة قبل ما أخرج.

كادت نعمة تنفي وتخبره بأنها ليست من يظنها ولكنها تراجعت فحتماً إن علم بكذبتها سيعاقبها وستكون عبرة للجميع فاومأت بوجه باهت مترقب لتيبادلها النظرات بوجوم وقال:
-"على فكرة يا أنسة أنتِ خرجتي قبل ما تسمعي كلامي عن الأسئلة اللي هتيجي فالأمتحان و".

أخافه شحوبها المفاجيء فتحرك متجاوزاً سيارته ووقف إلى جوارها وهتف بقلق:
-"أنتِ كويسة يا أنسة، مالك وشك أبيض مرة واحدة كدا ليه تحبي أوديكي للمستشفى".

ازدردت لعابها وتبدلت ملامحها بثوان لتبدو أمامه كالبلهاء بنظراتها المتسعة وفمها المفتوح، وحين لوح بكفه أمامها أنتبهت نعمة لمدى قربه منها فتراجعت إلى الخلف لتضع فاصلاً بينهما، أثار تصرفها حنقه فضيق عيناه وعقد حاجبيه وهو يتابع حركتها العصبية التي فعلتها تالياً، حين قضمت أحد أظافرها، فزم شفتيه وقال موبخاً إياها:
-"نزلي إيدك إنتِ فالشارع، وميصحش أنسة فالجامعة تقرقض فضوافرها بالشكل دا، وبعدين أنتِ مردتيش عليا لحد دلوقتي، لا بأعتذار علشان خرجتي من المحاضرة قبلي، ولا حتى جاوبتيني لما سألتك مالك، إيه هو أنتِ متعرفيش إن من الزوق لما حد يكلمك تردي عليه".

يكيل لها منذ رأته ويضيق عليها الخناق، فهمت بإجابته ولكنها صرخت بسعادة حين لاحت أمامها حافلة آخرى، تجاوزته وتحركت بأتجاه الحافلة وهي تتحدث بسرعة:
-"أنا أسفة يا دكتور والله ما كان قصدي أبداً إني أخرج قبل حضرتك، بس زي ما أنت شايف كدا، أنا كنت عاوزة ألحق الأتوبيس قبل ما يفوتني، وللأسف فاتني بس الظاهر كدا إن وشك حلو عليا والأتوبيس التاني جه بسرعة، يعني هلحق أروح البيت قبل الوحش ما يجي ويكسر عضامي، عموما يا دكتور أنا هبقى أسئل أي حد من الدفعة على اللي حضرتك قولته وهذاكره، سلام بقى ومعلش مرة تانية".

أختفت من أمامه في لحظات ورأها تقفز لتتخذ لها مكاناً داخل الحافلة، فوقف يحدق بأثرها متسع العين، وحين تحركت الحافلة إنتبه إلى مكانه، فتحرك ليغادر هو الأخر بعقل تملكته الحيرة والأعجاب.

ألقت نعمة بجسدها فوق الأريكة، وهي تحمد الله كونها عادت إلى المنزل قبل شقيقها، وبدأت تقاوم إجهادها وتعبها وتنتزع جسدها عنها لتقف، وخطت إلى غرفتها وأسرعت بتبديل ثيابها، وما أن إنتهت حتى وصل إلى سمعها صوت شرف الغليظ يقول:
-"نعمة إنتِ فين".

غادرت غرفتها بجسد مرتجف ووقفت أمامه وأجابته:
-"أيوة يا أبيه أنا موجودة بس كنت قاعدة فالأوضة جوا و".

رمقها بنظرات ريبة وشك وخطى بإتجاهها وهو يمعن النظر إلى شفتيها ويتفحصها، ليعقد حاجبيه ويقول بصوت مكظوم:
-"إيه اللي فشفايفك دا يا نعمة، أنتِ حاطة روج".

بتلقائية وكرد فعل طبيعي منها رفعت نعمة أصابعها وأخذت تفرك شفتيها بقوة، ما أن أنهى إتهامه وبسطتهم أمام عيناه وهي تهتف بصوت مذعور:
-"والله أبداً يا أبيه، حتى شوف أهو صوابعي معليهاش حاجة، والله أنا ماحطة أي حاجة أهو".

أكفهر وجهه ومد يده وسحب منديلاً ورقيا من جانبه بحدة وقبض على رأسها بغلظه وأخذ يفرك شفتيها بالمنديل حتى ألهب شفتيها وحدق به ثم ابتعد عنها بوجع قاتم وهو يقول:
-"إياكي تفكري فيوم إنك تستغفليني يا نعمة وتحطي أي حاجة فوشك زي البنات الشمال اللي الواحد بيشوفهم فالشارع، عارفة إن عرفت بس إنك حتى نزلتي من البيت وأنتِ متعطرة أنا هقطم رقبتك، ودلوقتي روحي حضري لنا الغدا على ما أستحما وأجي".

أختفت من أمامه بلحظات وولجت إلى المطبخ وأستندت إلى البراد بظهرها وربتت بكفها فوق صدرها لتهدأ من ضرباته المتسارعة، وتقاوم دموعها بقوة حتى لا تنهمر خشية أن يسألها شقيقها عن سبب بكاؤها ويغضب كعادته منها ويبطش بها، ولكي تصرف ذهنها عن التفكير بشيء بدأت نعمة تعد الطعام سريعاً وأعدت المائدة بدقائق معدودة ووقفت تنتظر ظهور شقيقها بحزن.

جلس شرف يتطلع إليها وسألها بغلظته المعهودة:
-"صليتي فروضك النهاردة يا نعمة".

اومأت بصمت ليشيح شرف بوجهه عنها ويهمهم قائلاً:
-"طالما صليتي يبقى أقعدي كلي معايا".

أنتهت تناول طعامها بصمت ولملمت المائدة واتجهت للمطبخ لتعد الشاي له ووقفت ترتب فوضى المكان لتشهق فجأة حين لاحت صورة مُحاضرها عبد العزيز وهي تتجاوزه وتحدثه باهمال فزمت شفتيها وهمست بتوتر:
-"دا لو شيلني المادة بس يبقى كتر خيره، دا مش بعيد بكرة ألاقي اسمي على بوابة الكلية وممنوع دخولي بعد اللي عملته".

أنهت نعمة ترتيب المطبخ وأسرعت لغرفتها وجلست فوق تختها ووضعت أمامها محاضرات يومها لينصهر منها الوقت وهي تستذكر دروسها، وبعد عدة ساعات وحين أحست بألم بعنقها تأوهت وهي تدلكها برفق، حركت نعمة عنقها يميناً لتقع عيناها على ساعة الحائط فهبت واقفة وصاحت بصوت خافت :
-"يا خبر أبيض دا أنا شكلي مش هلحق أنام وأصحى الفجر علشان أصليه مع أبيه".

----------------------------------------------

لا يدر لما إلى الأن لايزال مستيقظاً، ولما يفكر بتلك الفتاة، يتسأل بحيرة هل يعقل أن تستحوذ فتاة بسيطة كتلك على عقله وتفكيره وتحرمه النوم؟،  ولكن كيف هذا؟ وهو الذي ارتمت أسفل أقدامه أجمل النساء يتمنين ابتسامة منه لتعافه نفسه عنهن، زفر عبد العزيز بحنق وهو يتجه بعصبية لمرحاضة ووقف أسفل رزاز الماء يتمنى لو يهدأ تفكيره، ولكنه غادره كما دخله مشغول الفكر ومسلوب الإرادة، تمدد أخيراً فوق فراشه محدقاً بفراغ غرفته وهمس بقلق:
-"شكلك كدا مش سهلة يا نعمة وهتتعبيني معاكِ".

في اليوم التالي وقف عبد العزيز يحدق بباب القاعة بقلق مشبوب بعصبية لعدم مجيئها، حدق بساعة يده للمرة الألف وزفر بحنق وتوعدها سراً بأشد عقاب لتخلفها عن حضور الأختبار، وأستدار إلى طلابه وقال بصوت مقطب:
-"كل واحد عينه فورقته، علشان اللي هشوفه بيرمش هشيله المادة فاهمين".

-----------------------------------------------

وبمنزلها لازالت تبكي قهراً أمام شقيقها، تتوسله قائلة:
-"والله يا أبيه أنا عندي إمتحان ولو محضرتش هسقط، الدكتور عبد العزيز حالف إن اللي مش هيحضر هيسقطه، أبوس إيدك يا أبيه سبني أنزل ألحق الأمتحان".

صم أذنيه عنها، ولم يعبأ بدموعها وأخذ يتابع قراءة جريدته، بينما وقفت نعمة ترتعد من كثرة النحيب أمامه، رمى شرف جريدته أرضاً بغضب وهاجمها ملتقطاً خصلات شعرها الطويل بين أصابعه وجذبها بعنف وصاح بصوت جهوري:
-"أنا مليون مرة أقولك مبحبش أعيد كلامي مرتين، وأنتِ فاهمة كدا كويس، وفاهمة إني لا بسامح ولا بغفر فأي تقصير فحق من حقوق ربنا عليكي، وسيادتك سهيتي عن صلاة الفجر ونمتي وصلتيها الصبح، وبما إنك أستهنتي فحق ربنا فملكيش أي حق عندي، وفداهية المادة اللي هتسقطي فيها، هو أنتِ يعني لما تتخرجي هتعملي بالشهادة إيه، أنتِ أخرك هتقعدي فالبيت تخدمي جوزك وتراعي حرمته فغيبته وتصوني بيته وولاده".

أنهى شوف قوله ودفعها لتنكمش نعمة بخوف أسفل قدمه، وأخدت تلملم خصلاتها التي كاد ينزعها بقلب متألم، وأمام نظراته القاتمة زحفت نعمة مبتعدة عن طريقة حين خطى نحوها ليميل نحوها ملوحاً بسبابته قائلاً:
-"وعموماً أنا كدا كدا كنت هقعدك النهاردة من الكلية، علشان تعملي غدا عليه القيمة لزميلي اللي جاي لي النهاردة، وتخلي بالك كل حاجة تخلص وتجهز وتبقى متظبطة قبل ما يوصل، وبعدها تدخلي أوضتك وإياكِ يا نعمة إياكِ ألمح خيالك برا الأوضة طول ما هو موجود أنتِ فاهمة ".

أومأت لتستند إلى الأريكة بجانبها وتقف، وحين أولاها ظهره أسرعت إلى غرفتها تذرف المزيد من الدموع أسفاً على ما وصل إليه حالها، مضت الساعات عليها ما بين بكائها وإستذكارها بعدما أنهت أعداد الطاولة، لتنتبه فجأة لإقتحام شرف غرفتها فهبت من مكانها وأبتعدت عنه بخوف، ليأمرها بصوت غليظٍ فظ وهو ينظر إليها شذراً:
-"دقيقة وتكوني لابسة فستانك وطرحتك وتطلعي علشان عريسك يشوفك فالرؤية الشرعية".

لم يعي عقلها ما أخبرها به شرف فبدت أمامه واجمة الوجه بعيون منتفخة حمراء وظنها تتمرد على قوله فضيق ما بين حاجبيه وأحتدت قسماته وهو يكرر قوله لها، جعلتها الصدمة تتجلد بمكانها ولوهلة سخر عقلها من الموقف يخبرها بان شقيقها يتعامل مع الأمر وكأنه يدعوها للخروج، ترقبها شرف لدقيقة ثم استدار وهو ينذرها وغادر غرفتها، حاولت نعمة أن تدع عقلها على اليقظة ليستعب ما قيل لها ولم تفلح وتسائلت بوجوم عن مقصد شقيقها وعن أي زوج يحدثها وأي رؤية شرعية، هزت رأسها بعنف لعلها تستيقظ من ذاك الكابوس المرعب المحيط بها، لتنتفض أثر طرقة شقيقها على باب غرفتها وهو يخبرها بأن تُسرع وإلا نالت عقابه، فأتجهت لخزانتها بخطوات آلية وسحبت ثوبها لترتديه بإهمال، غادرت غرفتها فاصطدمت نظراتها بعينا شقيقها الذي رمقها بنظراتٍ نارية وحين قبض على ساعدها بأصابعه شهقت ليسبحها خلفه لمكان صديقه وأوقفها أمامه لدقيقة ولم ترى نعمة عينا ذاك الرجل التي جالت فوق جسدها بعيون جائعة، زفرة قوية اربكتها رافقتها ضغطة شقيقها على ساعدها وقوله بصوت خافت:
-"على أوضتك ومتتحركيش منها".

كادت تهرول لتفر من المكان ولكنها تحاملت وخطت بتمهل حتى ولجت إلى غرفتها وأوصدت بابها وهي تحت وطأة الصدمة، ولم تنتبه نعمة لعودة شقيقها ودخوله إليها وبين أصابعه حلقة ذهبية،  جحظت عيناها حين سحب شرف يدها اليمنى بعنف ودس الدبلة بأصبعها وهو يزجرها بقوله:
-"مبروك أنا قريت فاتحتك على رضوان زميلي ودي شبكتك، وأعملي حسابك إني أتفقت معاه إن كتب كتابكم يكون بعد ما تخلصي إمتحان التيرم، رضوان شقته جاهزة ومش محتاجك إلا بشنطة هدومك فعاوزك تراعي ربنا فيه ومتخذلنيش معاه، وأحمدي ربنا إنه كرمك براجل زي رضوان راجل ملتزم وعارف دينه كويس، وأتمنى إنك ترفعي راسي معاه وتكوني الزوجة الصالحة له".
--------------------------------
لا تعلم نعمة كيف غادرت منزلها ولا كيف وصلت إلى كليتها فهي لم تكف عن البكاء منذ البارحة، وها هي تجلس بمكانها المعتاد بمفردها، وبمكتبه أتي أحد العمال وأخبره بمجيئها مبكراً فأمره بإستدعائها إلى مكتبه، أتجه العامل إليها وحدق بها بشفقة بعدما رأى عيناها المنتفختان من كثرة البكاء، وابلغها بصوت خافت عن استدعاء عبد العزيز لها، تبعت خطواته بتيه حتى توقفت أمام مكتبه وطرقت بابه بضع طرقات وفتحت الباب ووقفت عنده تنتظر موافقته وإذنه لها بالدخول، رغماً عنها شردت نعمة بمصابها ولم تنتبه لإشارة عبد العزيز لها بالدخول، لتتفاجيء به يقف أمامها يخبرها بصوت صارم:
-"هو سيادتك مستنيه أتحايل عليكي علشان تدخلي يا أنسة ولا إيه، ما تدخلي وتقفلي الباب بدل ما أنتِ واقفة سرحانة ومش مركزة".

أجفلتها حدته، فتحركت نحوه خطوة ليبتعد عنها ويعود لمقعده، فأوصدت باب مكتبه وأكملت سيرها نحو المقعد ووقفت تحدق بالأض وهي تفرك كفيها معاً تجبر عيناها بأن تتمالك دموعها بصعوبة.
شملها عبد العزيز بنظراته ولاحظ حالتها ارتجافها وعيناها المنتفخة، ليوقن بأن هناك أمراً ما يزعجها أشار إليها بالجلوس أمامه، فجلست على طرف المقعد بتوتر، حين طال صمته وشرودها، مد عبد العزيز أصابعه ولمس وجهها ورفعه لينظر إلى عيناها، تغضن جبينه حين رأى دموعها تتلألأ داخل عينيها، ارتعدت نعمة أثر لمسته فهبت واقفة ترتجف بذعر وعينيها تحدق به باضطراب، لام عبد العزيز نفسه لتهوره وزفر بقوة وأعتذر منها:
-"أسف أنا مكنش قصدي إني ألمسك لكن كنت حابب أتأكد من ظني وأتأكدت".

أوقف أعتذاره وتفحصها فأعجبته حمرة الخجل التي أكتسى بها وجهها، ولكن مع تدفق دموعها قطب جبينه وأردف بجدية وعيناه تحاصرها:
-"أنا عايز أعرف السبب اللي منعك تحضري الأمتحان أمبارح رغم إني مأكد أنه مهم وعليه درجات أعمال السنة".

ازداد وجهه تجهم وهو يضيف بصوت صارم:
-"والأهم عايز أعرف سبب حالتك دي إيه".

أنهارت أمامه تنتحب فنظراته المتجهمة ونبرة صوته رغم جديتها جعلتها تشعر بما تفتقده مع شقيقها من أهتمام، فاستسلمت لدموعها بصمت، بينما وقف عبد العزيز يحدق بها بأختناق يود لو يجذبها إلى صدره ليحتويها حتى تنتهي من بكاؤها، وأمام أفكاره وأنذار عقله له بمكانته ومكانه قبض عبد العزيز على ساعدها وأرغمها على الجلوس أمامه وأولاها ظهره هرباً من نظراتها وأتجه إلى البراد الخاص به وجلب لها علبة من عصيره المفضل وأستدار إليها ووضع العلبة بيدها ومعها منديلاً لتكفكف دموعها وأبتعد عنها وأستند إلى مكتبه وقال:
-"على فكرة أنا منتظرك لحد اما تهدي وتبطلي عياط علشان تحكي لي كل حاجة".

جففت دموعها التي سكبتها وهي تقص عليه ما حدث معها، لا تدر لما شعرت بالأمان معه لتبوح له بماضيها، وبدأت تسرد له معاناتها في طفولتها وصباها قائلة:
-"شرف أخويا أكبر مني بـ 15 سنة يمكن من أول ما بدأت أفهم وأتكلم وهو بيعاملني بطريقة جافة وغلاظة، كانت صدمتي الأولى لما ضربني وأنا عندي خمس سنين علشان كنت بلعب فمدخل البيت وجريت أستخبى وأتحامى فوالدتي بس هي زقتني عليه وقالت له يضربني ويكسر عضمي علشان اسمع الكلام بعد كدا ومخرجش من البيت تاني، من وقتها وأنا بحاول أفهم ليه هو متشدد كدا معايا وليه والدتي مش حنينة عليا زي جارتنا ما بتعامل بنتها، أنا للأسف معرفتش يعني إيه حضن الأمن علشان ماما لما كنت أقرب منها كانت بتنفر مني وتبعدني وتقولي بطلي دلع ما هو الدلع دا هو اللي بيفسد أخلاق البنت، بدأت أكتم جوايا وأسكت وأخاف أشتكي علشان مضربش أكتر، وعشت طفولتي فقالب الممنوع الصحاب لأ مينفعش ولما سألت ليه أتقال إن البنات بتفسد بعض، حتى لما طلبت من شرف إننا نبقى أصحاب رفض وقالي عيب وحرام ولازم يكون في حدود فكل حاجة بيني وبينه، مكنش في حد بيهون عليا غير بابا وكان بيتخانق معاهم بسببي ودا كان بيضايقهم جدا وبيخليهم يضيقوا عليا أكتر، ولما بابا أتوفى حياتي بقت أصعب وحقيقي لولا إنه طلب من ماما وشرف يحلفوا على المصحف إني لازم أكمل تعليمي وأدخل الجامعة مكنتش أتعلمت ولا خرجت من البيت نهائي، حاولت أتأقلم وأصبر نفسي وأقول لما يتأكدوا إن أخلاقي كويسة وإن تربيتهم فيا مراحتش على الأرض هيخففوا لكن كنت بخدع نفسي، وبعد سنتين من وفاة بابا ماما أتوفت وبقت حياتها كلها فأيد شرف أخويا، بقى لما يرجع من برا متعصب ويلاقيني مهتمة بنفسي فأوضتي يبهدلني ويضربني ويتهمني إني أستغليت خروجه وخرجت البلكونة بشعري وبهدوم البيت، للأسف حياتي بقت جحيم حقيقي ما بين الممنوع والحرام والضرب اللي من وجهه نظره بيقوم البنت لما يتعوج حالها، كان بيحاسبني على النفس وبالثانية وبيعاقبني كل أي هفوة حتى لو غير مقصودة، وكنت كل ما أكبر سنة كان بيخنقني أكتر ويقفل عليا أكتر وأكتر وبقى يهددني أنه هيقعدني وميخلنيش أكمل تعليمي، أنا كنت بحلم وبصبر نفسي أني أتحمل وأقول أكيد لما أخلص تعليمي ويبقى معايا شهادة هقدر أغير حياتي بس شرف سرق كل حاجة مني حتى أحلامي وأمبارح قضى عليا الأول منعني أجي الأمتحان عقاب علشان سهرت أذاكر والوقت سرقني وراحت عليا نومة وصحيت متأخرة بعد آذان الفجر وصليته صبح، أنا فضلت اتحايل عليه لدرجة أني كنت هبوس رجله ينزلني الأمتحان بس مرضاش وخلاني أرتب البيت وأجهزه علشان عازم واحد صاحبه، بس اللي مكنتش عاملة حسابه أنه يقف أدامي ويقولي قومي ألبسي علشان زميلي عايز يشوفك وأعتبريها رؤية شرعية، وبعدها دخل لي تاني وحط فصوبعي دبلة صاحبه وقالي أنه قرأ الفاتحة وأتفق معاه على كل حاجة وإن كتب كتابي على رضوان صاحبه فأجازة نص السنة، أنا أنا لحد دلوقتي مش قادرة أستوعب اللي حصل وحاسة إني فكابوس وبسأل نفسي من ساعة ما حط الدبلة فايدي هو إزاي قدر يعمل فيا كدا، إزاي هنت عليه لدرجة أنه أعتبرني كم مهمل ماليش رأى، شرف أتعامل معايا على أني جارية ملهاش أي حق إنها تقرر مصيرها أو تختار حياتها، للأسف أخويا عمره ما شافني إنسانة ليها الحق فأي حاجة، لدرجة إني شكيت أن أنا مش أخته وأنه بينتقم مني إني أتولدت بنت، دا وصل بيه الأمر أنه يشوف علاقتي بربنا رياء وخوف من ضربه ليا وأني بستهين بصلاتي وديني رغم إني عمري ما عصيت ربنا حباً فربنا وطمعاً فرضاه مش خوف من شرف زي ما هو فاكر، والله أنا ألتزمت فصلاتي ولبسي وحجابي، ومش بتكلم مع أي زميل ولا حتى زميلة فالكلية، مش علشان خايفة من شرف لأ، أنا علشان فهمت إن هو دا الحلال وأنه المفروض عليا، بس هو مش مقتنع دايما بيعاملني بشك، لدرجة إني بقيت أنا كمان أشك فنفسي بسببه".

زفر بحده بعدما جعلته صراحتها وحديثها، يشعر بالغضب تجاه شقيقها هذا، وإختطف نظرة إلى يدها، قطب جبينه حين أبصر تلك الحلقة بإصبعها، هاجمته الرغبة في أنتزاعها من أصبعها وأبعداها عنها، فكادت ساقيه تتحرك نحوها ولكنه تدارك أمره ونهر ذاته لتفكيره المتهور، وأشاح بوجهه عنها حين عادت لبكاؤها مرة أخرى فهو لم يعد بامكانه التحمل، فضرب فوق سطح مكتبه بغضب ليهدأ غضبه فجأة حين أستقرت أفكاره على تلك الفكرة، حاول عقله أن يكبحه عنها ويمنعه ولكنه أصر عليها فألتفت إليها وحدق بها ملياً وقال:
-"طيب ولو قولت لك إني عندي الحل لكل اللي إنتِ فيه، توافقي إنك تسمعيه مني وتوعديني إنك تفكري فيه".

أستولى على إهتمامها فنظرت إليه بتسائل وبداخلها ترقب لمعرفة ما لديه، فاومأت كمن وجد القشة التي ستنقذه من الغرق وتشبث بها، زفر بقوة وخطى نحوها وجلس أمامها وفاجئها بإلتقاطه يدها ونزع عن إصبعها دبلة رضوان وعيناه تحاصر عيناها بترقب، وأعقب حركته تلك بقوله:
-"أتجوزيني يا نعمة.

لوهلة ظنته يمزح معها لتتسع عينيها رويداً حين أخبرتها ملامحه بأنه يعي ما أخبرها به، فازدردت لعابها وخفضت رأسها هرباً من أنتظاره لأجابتها التي لا لازالت تبحث عنها فهي لا تصدق أن يطلبها عبد العزيز للزواج، كانت عينا عبد العزيز تترقب ردة فعلها وحين ايقن أنها اطرقت برأسها لتفكر بالأمر وأنها حتماً ستنهال عليه بأسئلتها فقرر أن يخبرها  بما لديه كي يقلل عليها مشقة التفكير فبادرها بقوله:
-"نعمة أنسي شرف أخوكي واللي أسمه رضوان، وأتجوزيني وصدقيني أنا كفيل إني أنسيكي كل اللي مريتي بيه فحياتك، هنسيكي وجعك وحرمانك من حنان والدتك وقسوة أخوكي، هقدملك حياة غير اللي إنتِ عيشاها، وافقي وبلاش تفكري فأي حد تاني غير نفسك وبس، لإن مافيش حد أحق بالسعادة غيرك أنتِ، محدش أحق يعيش حياتك غيرك، وافقي إنك تتجوزيني وأنا أوعدك إنك مش هتندمي".

باتت كلماته الواضحة كسهام مُنيرة تضوي أمام عينيها وللحظة تشتت عقلها ليصيح بقوله أي جنون هذا لا يمكن أن يكون صادقاً معي أبداً وحتماً له غرضاً ما بنفسه يخفيه عني، أنا لا أصدق أنه طلب مني أنا الزواج ، فهل يعقل أن يحبني رجلاً كعبد العزيز، رجل بوسامته وشخصيته الفريدة وجاذبيته، رجل تتهافت عليه النساء، يختارني أنا نعمة دونهم، لا لا !.
أنا على يقين بأنني سأستيقظ بأي لحظة الأن لأجد نفسي فوق فراشي، ويكون هذا حلماً من ضرب الخيال.

ولكن واقعها فرض عليها نفسه وحين رفعت عيناها تصادمت بعيناه فضغط فوق يدها بخبرة واضحة وهمس بصوت أجش يعي ما يتفوه به:
-"إنتِ وعدتيني إنك هتفكري فكلامي ومش مجرد تفكير عادي لأ، أنا عاوزك تحسبيها بالورقة والقلم، شوفي مميزات وعيوب حياتك مع شرف ورضوان، وقيمي حياتك معايا يا نعمة وأنا هستنى ردك، وأتمنى إنك متخديش وقت طويل فالتفكير".

ختم كلماته بوضعه دبلتها براحة يدها وأبتعد عنها، فوقفت نعمة وغادرت مكتبه وهي أكثر شروداً وحيرة.

-------------------------------------------
#آخر_الأنفاس
#منى_أحمد_حافظ
ممنوع النقل أو الإقتباس
حقوق النشر محفوظة
------------------------------------------

Continue Reading

You'll Also Like

1.1M 43.8K 42
فتيـات جميلات وليالــي حمـراء وموسيقـى صاخبة يتبعهـا آثار في الجسـد والـروح واجسـاد متهالكـة في النهـار! عـن رجـال تركوا خلفهم مبادئهم وكراماتهم وأنس...
324K 11.2K 43
النساء لا مكان لهُنَّ في حياته، عالمه ينصب على أبناء شقيقه وتوسيع تجارته في أنحاء البلاد. هو "عزيز الزهار" الرَجُل الذي أوشك على إتمام عامه الأربعين...
1.5M 135K 38
في وسط دهليز معتم يولد شخصًا قاتم قوي جبارً بارد يوجد بداخل قلبهُ شرارةًُ مُنيرة هل ستصبح الشرارة نارًا تحرق الجميع أم ستبرد وتنطفئ ماذا لو تلون الأ...
505K 41.2K 16
في عالمٍ يملأهُ الزيف غيمةً صحراويةً حُبلى تلدُ رويدًا رويدًا و على قلقٍ تحتَ قمرٍ دمويْ ، ذئبا بشريًا ضخم قيلَ أنهُ سَيُحيى ملعونًا يفترسُ كلُ منْ ح...