امرأة السفّاح

By Merieme_vani

2.1M 33.7K 17.4K

صفقة زواج وحّدت أكبر سفّاحين عرفتهما البشرية وجمعت تلك الباردة المجردة من الشاعر بذلك القاسي الذي لا يعرف الر... More

-المقدمة الرّواية
1-صفقة زواج
3-تضحِيةُ وفاء
4-بداياتُ الخطر
5-الحقيقةُ المُرّة
6-رائحةُ الرّدى
7-شريكُ الألم
8-مهمّة فاشلة
9-سرٌّ من الماضي

2-صِراعُ الذّكريات

99.3K 3.6K 3.5K
By Merieme_vani

إيطاليا، ميلانو:
قصر المالدونادو:
السّاعة تُشير إلى التّاسعة ليلاً:

في قاعةٍ فاخرةٍ كان اللّونُ الذهبي هو أكثر ما برزَ فيها، اجتمع ثلاثة أفرادٍ من المالدونادو حول مائدة الطّعام الباذخة، ليكون رابعهم آنذاك هو الاستغراب الذي أخذ موضعاً لنفسهِ دون أن يطلب الإذن من غيرهِ...

الأجواء في القاعةِ كانت هادئة بشكلٍ رهيب، فمعلوم أن ديفيد مالدونادو يُصبح مضادًّا للكلام أثناءَ جلوسهِ إلى مائدة الطّعام، إذ تختفي الألفاظ عن الجميع بمجرد ما يعلّق خضراويهِ القاتلتين صوبهم....

لربّما لهذا السّبب بالتّحديد اكتفى كُلّ من كيفن وسيلينا بتبني لغة العيون كمنجدٍ لهما إذ حاولا الوصول إلى غايتهما من خلال تأمّل والدِهما بنظرات حارقة كشفت عن رغبتهما المُلِحّة في معرفة سبب زواج شقيقهم أليرون بكارلين لومباردي....

لكن ديفيد ولأنّه كان شخصا غير مبالٍ استمر في تجاهل نظراتهما كما لو أنّه أعمى بل وكسبيلٍ للتّهرب منهما نده على الخادمة بنبرة باردة هادئة فاتجهت الأخيرة إليهِ مُهرولةً ووقفت أمامه باحترام أجبرهُ على النظرِ إليها بهدوءٍ شديد قبل أن يُصدر أمره:

-"اصعدي إلى غرفة أليرون واستدعي السّيدة كارلين لتشاركنا العشاء"

أومأت الخادمة وخرجت من قاعة الطعام بغية تنفيذ الأوامر فتشجعت سيلينا على الكلام بعد أن فقدت آخر ذرة صبر امتلكتها إذ زفرت بقلق شديد ثم ناظرت والدها بخوف لم تتمكّن من إخفائه:

-"أبي.. أنتَ لم تخبرنا بعد عن سببِ زواج أليرون بتلك المسترجلة."

-"كارلين..اسمها كارلين"

حرّر ديفيد كلماتهُ تلك وهو يرمق ابنتهُ ببرودٍ مخيف، فصمتت بدورها دون وعي وعلّقت عينيها على صحنها تريد التهرب من نظرات الغنضنفرِ القاتلة، لكن بمجرد ما شعرت بهِ وهو يعود للأكلِ من جديد رفعت خضراويها صوبَ كيفن، وراحت تخبره بالإشارات أن يتكلم أيضا، فهمهم بتفهم وسأل والده بهدوء:

"عذراً على التّدخل أبي، لكن أليسَ من حقنا أن نعرف السّبب الذي جعل أليرون يتزوج بهذه الطريقة المفاجئة!"

وضع ديفيد ملعقته جانباً ثم عدّل من جلستهِ وتحدّث بهدوء ناقض رغبته في التّجرد من ثيابهِ والوقوف على الطاولة فقط ليصرخ بعبارة "ما شأنكما أيها الوغدين":

-"أليرون تزوج بكارلين من أجل العمل لا غير فأنا عقدت صفقة مع كريستوفر وفي المقابل اشترطت عليه هذا الزواج كضمان لشراكتنا.."

-"بربّك أبي أتظنّ أنُك تكلّم طفلاً صغيراً! كريستوفر بمثابةِ أخ لك لذا أنا أعلم أنّك لن تشترط عليه شيئاً كهذا من أجلِ صفقة.."

بمجرد ما أفصح كيفن بتلك العبارة أتاه الرّد مباشرة من كارلين التي ولجت إلى القاعة وجلست إلى جانبِ سيلينا مُوضّحةً:

"والدي ووالدك يفصلان العِلاقات الشّخصية عن العمل ففي عالمنا المظلم لا يوجد شيء دون مقابل"

ابتسم ديفيد بجانبية، إذ يبدو أنّ كارلين نجحت في القضاء على شكوك كيفن، فما هي إلّا ثوانٍ قليلة حتى صدرت أصوات الملاعقِ في القاعةِ من جديد، صدرت مُعلنةُ عن نهايةِ تلك الدراما المليئة بالشكوك، إذ اخترط الجميع في تناولِ طعامهم باستثناءِ سيلينا التي تناست أمر الطعام واكتفت بالنظر إلى كارلين من كثبٍ، فتجاهلتها تلك الأخيرة محاولةً التحكم في أعصابها كي لا ترتكب جريمة غير مُبرّرة في حقها..

"لقد شبعت...كنت جائعة إلى أن أفسد كائن ما شهيتي.."

قالتها سيلينا بحقدٍ لم تنجح في إخفائهِ فمدّت كارلين يدها نحو الطبقِ الرئيس وملأت صحنها بالطّعامِ من جديد، ملأته دون أن تنظر إلى سيلينا ودون أن ترسم أيّة تعبير على ملامحها بل فقط فعلت ذلك وهي تُتمتم بسخرية:

"الأكل لذيذ للغاية، يبدو أنّ طباخكم أمهر من طباخنا بكثير."

ضحك ديفيد وكيفن من حركةِ كارلين المستفزة في حين أنّ سيلينا فقدت أعصابها بشكلٍ كلّي وضربت الطاولة بغضبٍ:

"اخرسي يا هذه، أعلم أنّكِ تعملين على مضايقتي بكلامك السّخيف هذا!"

أمسكت كارلين كأس العصير لترتشفَ منها بهدوء شديد ثم وضعتها على الطّاولة من جديد وراحت تناظر كيفن وديفيد مُدّعيةً الاستغراب:

"يبدو أنّ الغضب وراثة في عائلتكم سيّد ديفيد!"

انفجر كيفن ضاحكا للمرّةِ الألف بينما ديفيد ظلّ مستمتعاً بما يحدث دون أن يظهر ذلك لكن يبدو أنّ تلك الأجواء المُشبّعة بالتفاهة حصلت على ترقية رفعتها إلى مُستوىً يفوحُ بالأهوال فسيلينا فقدت سيطرتها على نفسها في آخر ثانية وصاحت بسخطٍ بعدما رمت صحنها على الأرضية الرّخامية:

"سأقتلكِ أيتها المسترجلة البائسة، أنا حتماً سأقتلكِ يا ابنة الفاجرة"

والدتها....

والدتها كانت وستبقى خطّا أحمراً بالنسبة للجميع، وسيلينا الآن تجاوزت حدود ذلك الخط ممّا يعني أنّها أصبحت تحتلّ موضعاً وسطاً بين الموت والموت..

كارلين لم تُحرّك ساكناً في بادئ الأمر لكن بعد دقيقةٍ واحدةٍ أمضتها في صمتٍ ناقضَ ضجيج روحها أغمضت عينيها البُنّيتين وراحت تُحارب نفسها وأعصابها كي لا تنفجر فتؤول الأمور إلى ما لا يحمد عقباه...

سيطرت الأخيرة على نفسها قليلاً ثم فتحت عينيها من جديد وناظرت سيلينا بطريقةٍ مميتة تسبّبت في توتّرها، وما زاد التوتر حدّةً آنذاك هو ضغط تلك الغريبة على سكّين الطّعام الذي توسّط يدَها والذي استمرّت في العبث بهِ حتّى أثناء إفصاحها بعبارةٍ لم تخلُ من الجدّية:

"لا تختبري صبري يا فتاة..أنا حتماً لا أنصحكِ بالعبث فكلمة إضافية ستقابلها دماؤك المخملية.."

في تلك اللّحظة وريثة الجلّاد هدّدت أميرة السّفاحين أمام والدها وأمام أخيها أيضاً مع ذلك لا أحد اجترأ على التّدخل لذا بمجرّد ما أنهت كلامها الحارق نهضت عن الكرسي وخرجت من القاعة بهدوء مرعب فرمق ديفيد ابنته بتحذير وقد طرد البرود عنهُ دلالةً على أنّ الأمور قد ساءت بالفعل:

"إيّاكِ سيلينا...لا تذكري سيرة والدتها على لسانك من جديد، أنا حتماً لن أحبّذ رؤيتكِ لجانبٍ آخر منّي."

ابتسمت سيلينا بسخرية وكادت أن تُجيب ديفيد بكلامٍ ترعرع في أغوار نفسها المظلمة منذ أن كانت طفلةً صغيرة...كلام نتج عن فكرةٍ عقيم كبرت على أساسِها، لكنّها تراجعت عن ذلك كي لا تجرح مشاعر والدها، والدها عينهُ الذي اِلتمست فيه لهيباً كان قادراً على إحراقها لذا فرّت بروحها إلى غرفتها دون أن تفكّر في الأمر مرّتين....

••••••••

ولجت كارلين إلى ذلك الجناحِ الواسعِ المُدْلَهِم لتحتضن الظلامَ كطيفِ شخصٍ عزيز وتفترش بِساطَ الماضي الأليم مُتشاركةً ذكرياته الآثمة مع شياطينٍ بائسة عبثت بها وبمشاعرها فجعلتها أنثى تتنفّس الموتَ وتعيشُ على سوداويةِ الواقعِ المرير...

لقد أزالت الأخيرة قناع اللّامبالاة بسطحية، فأظهرت شرارة الحِقدِ المنسية، أظهرتها وسطَ ذلك الجناح الذي كان كالكهفِ في ظُلمته وكالجليد في برودتهِ..

أجل، لقد أظهرت تلك الشّرارة دون أن تسمح لنفسها بالبكاء حتّى بل فقط أضاءت المكان ووقفت أمام الحائط الحالكِ مُحدّقة بهِ بغضبٍ قاتلٍ فوقتئذٍ انبعث لحنُ العذاب البائس من حفلِ الماضي الصاخب ليُعانق مسامعها عُنوةً، عانقها كي يُحيي ذكريات ذلك اليوم المشروم بداخلها، اليوم الأسود الذي احتضنت فيهِ صراخ والدتها الضعيف واليوم المميت الذي بكت فيه طالبةً الشفقة لكنّها لم تحصل سوى على جملةٍ واحدةٍ لم ولن تغادر مسامعها...

جملة حارسٍ صفيق كان قد أخبرها بأنّها ستصبح بائعة هوى جيّدة تماماً كوالدتها...

حرفيا بعد كلمات سيلينا القاسية أعلنت الذكريات حرباً دامية على وريثة الجلّاد، حرب انتصر فيها الماضي بجدارة إذ غزت أحداثهُ المظلمة فِكر كارلين في لحظةٍ لن تعترف حتى لنفسها بأنّها كانت لحظة ضعفها....

طبعاً، هي حتماً لن تعترف بذلك بل ستستمر في ادّعاءِ الوحشية وعدم الاهتمام، ستعيش على ادّعاء القوّة والبرود، ولن تفكّر يوماً في التّخلي عن الكبتِ وإظهار الهدوء...

كل ما ستُبديهِ الآن سيكون عبارة عن كذبةٍ آثمة وجميعهم سيصدّقون تلك الكذبة كما لو أنّها أصدق حقيقة....

ضغطت كارلين على رأسها ما إن شعرت أنُها ستنفجر ثم تزامناً مع فشلها في تهدئة نفسها شرعت في لكم الحائط بكل قوتها، لقد لكمته لعدّة مرّات ممتابعة دون أن تشعر بالألمِ حتّى، فألم روحها أنساها ألم جسدها....

توقّفت الأخيرة عن اللّكمِ دلالةً على انطفاء نيرانها ثم وبكلّ هدوء علّقت عينيها صوب الطاولة الممتلئة بالخمر لتقترب منها آخذةً زجاجة واحدة كانت الأقوى من حيث المفعول ثم ما عتّمت أن تناولت علبة سجائرها من حقيبتها وقعدت في إحدى زوايا الجناح لتشرعَ في الشّرب والتدخن مُحاولةً تجاهل صوت والدتها الذي زار مسامعها من جديد....زار مسامعها بشكلٍ غير مرغوب فيه، إذ عاد ليذكرّها بيومٍ كانت قد مثّلت أنّها مسحت أحداثهُ من سجلّ ذكرياتها...

•••••

عودة الى الماضي:

-قبل 15 عاماً-

كانت تلك الجميلة البريئة صاحبة التّسع سنوات جالسة في حديقة القصرِ بملل وقد ظهر الانزعاج على ملامحها بوضوح، ذلك الانزعاج الذي عملت على إخفائه بشدّة حين وصلها صوتُ والدتها الحزين، والدتها التي تغيّرت وفقدت سعادتها بعد فُقدانها لفلذة كبدها...

"كارلين الصغيرة تبدو حزينة، أخبريني فقط من ذا الذي أزعج أميرتي؟"

ابتسمت كارلين بخفة ثم حدّقت بوالدتها وراحت تنظر في عسليّتيها الخاليتين بحزن قبل أن تُعبّر عمّا خالجها بتذمرٍ:

"أمي.. لقد مللت من القصر وأريد الذهاب إلى أيّ مكان لكن أبي لا يسمح لي بالخروج!"

أرجعت هانا شعرها الأشقر إلى الخلفِ بعبثٍ ثم علّقت بحماسةٍ مضحكة، حماسة أجادت تصنّعها بمهارة إذ أرادت إسعاد صغيرتها العابسة من خلالها فهي تشعر أنّها أهملتها جرّاء حزنها الذي أصبح رفيقاً لها منذ سنوات:

"والدك لن يغضب مني مهما فعلت كارلين لذا ما رأيكِ أن نجازف ونخرج معا؟"

قفزت تلك الصغيرة البريئة بسعادة ثم أمسكت بيدِ والدتها تشاركها فرحتها:

"لا أصدّق أمي! يا لها من فكرة... دعينا إذن نتسلل قبل أن يرانا أحد.."

ابتسمت هانا بخفّة وراحت تلبي طلبات ابنتها المدللة دون تردد، إذ تسلّلت معها إلى الخارجِ بمهارة ثم جعلتها تركب على متن السّيارة لتنطلق بها بسرعة البرق، انطلقت بها نحو وجهةٍ مجهولة تماماً كحياتها فشغّلت تلك الصّغيرة أغنية حماسية وأخذت ترقص بطريقة جنونية دلالة على سعادتها الكبيرة لتقهقه هانا من تصرفاتها غيرِ الطبيعية عِلماً بأنّها باتت لا تشعر بالسّعادة إلّا مع زوجها وصغيرتها...

طلبت كارلين من والدتها أن تشاركها الرّقص لكن هانا رفضت ذلك بلُطف نظراً لتركيزها الكبير على القيادة فآخر ما أرادته آنذاك هو افتعال حادث مأساوي وهي برفقةَ صغيرتها.... يكفيها ذلك الحادث الذي خسرت صغيرها بسببه..

ظلّت كلتاهما على ذلك الحال لمدة لا بأس بها، الأمّ تقود السّيارة بهدوء والابنة تعيش السّعادة بكل ما فيها من بساطة لكن فجأةً تعرّضتا لحصارٍ من قبلِ سربِ هائل شكّلتهُ سيارات سوداء فاخرة فقُتِلت المتعة التي تشاركتاها قبل دقائق بمُجرّد ما أدركت هانا أنّ ماسيمو جيوردانو قد عاد بالفعل ليُنهي القصة التي لم تكتمل في الماضي..

ارتعدت فرائصُ هانا حين رأت أولئك الرجال وهم يتقدمون من السّيارة بأجسادهم الضّخمة ثم عانقت كارلين التي كانت ترتعشُ من شدّةِ الخوف وقبّلت جبينها رغبةً منها في تهدئتها:

"لا تقلقي كارلين.. كوني قويّة ولا تجزعي مهما حدث"

ابتلعت كارلين ريقها بخوف شديد:

-"ماما أنا خائفة..هل سنتأذّى!"

-"ربما سنتأذّى قليلاً لكنّنا سنحارب ولن نستسلم مهما حدث، هل هذا مفهوم!"

أومأت كارلين بخوف فسحبت هانا المسدس من مخبئهِ وهجمت على الأعداء بكل شراسة، هاجمتهم تماما كما علّمها كريستو خاصتها قبل سنوات فاستطاعت خلال دقائق قليلة أن تتفادى طلقاتهم النّارية تماما كما استطاعت الإيقاعَ ببعضهم لكنها لم تكن بتلك القوّة التي قد تُهيّئها لإنقاذِ حياتها وحياةِ صغيرتها فهي الآن وحيدة كل ما تمتلكه هو مسدس خالٍ من الرصاص....

زمّت هانا شفتيها بتوتر وراحت تبحث عن سلاح آخر في السّيارة لكنها لم تجد شيئا لذا أغلقت النافذة مُحاولة الفرار لكن أحد الرّجال ابتسم بمكر وكسر النافذة ثم فتح الباب وسحب هانا من شعرها بقوة كبيرة ليتفرّغ حارسٌ آخر لكارلين....

تحرّكت هانا بسرعة ما إن شعرت بالخطر وهو يحوم حول صغيرتها إذ ضربت بقدمها اليسرى ساق ذلك الرّجل الذي حاصرها ثم نطحته بقوّة ودفعته مُحاولةً الوصول إلى كارلين لكن بقيّة الحرّاس لم يسمحوا لها بذلك فقد حاصروها وأرغموها على دخولِ السّيارة التي سبق لهم أن وضعوا كارلين بداخلها ثم أغلقوا الأبواب وعادوا إلى أمكِنتهم ليتّجهوا بصغيرةِ الجلّاد وزوجته إلى جحيم ماسيمو....

أمضت كارلين الطريق بأكمله في البكاء فلم يكن بيدِ هانا سوى أن تُعانقها بحنان مُحاولةً إخراجها من نوبةِ هلعها تلك:

-"لا بأس صغيرتي، سيمضي..والدكِ سيجدنا.. أنا واثقة من هذا."

تعالت شهقات كارلين وهي تُجيب:

-"كلّه بسببي ماما...أنا آسفة"

-"لا تتأسّفي جميلتي، سنكون بخير..هذا وعد"

ظلّت تعمل على تهدئتها دون أن تصل إلى أيّةِ فائدة تُرجي لكن بعد قيادةٍ دامت نصف ساعة توقف السّائق أمام ذلك القصر الكبير ففُتحت الأبواب وظهر الرجال من جديد، ظهروا ليُخرجوا كارلين وهانا من السّيارة بهدوء قبل أن يشرعوا في جرّهما بوحشيةٍ ستجعلك تشُكّ في جوهرهما كبشر وتلجأ إلى التّفكير في أنهما من الحيوانات البائسة التي وقعت في يدِ صيّادٍ يستنشق الجشعَ ويطرح الأنانية....

رفعت هانا عينيها بخوف ظاهرٍ فلمحت ماسيمو وهو واقف أمام بوابةِ القصر بابتسامةٍ مظلمة لم تدل سوى على الجنون لذا رمقتهُ بنظرةٍ حزينةٍ قاسية تسبّبت في ارتسام خطّ الدموع داخل رماديّيه، لكنّه قبل أن يستوكف الدّموع سارع إلى الضحكِ بجنون...

ضحك وهو يضرب رأسه بسلاحهِ دون توقّف ثم أشار إلى رجاله من بعيد بحركة لم تفهمها هانا لكن أولئك الأتباع فهموها جيدا لذا اتجهوا بها وبابنتها إلى غرفةٍ مظلمة من قصرِ جيوردانو ثم أقفلوا الباب عليهما ليبُثوا الهلع في الأرجاء...

بكت كارلين بخوف شديد ممّا كان يحدث فحاولت هانا أن تُهدّئها بكل الطرق لكن الفشل كان نتيجةً استمرّت في تحصيلها بشكلٍ دائم لذا هجم الحارس على تلك الصغيرة وسحبها إليهِ بعنف ثم صفعها بقوة تسبّبت في انطباعِ آثار أصابعه الخشنة على وجنتها الناعمة فوضعت بدورها يدها على فمها تحاول منع شهقاتها من الخروح لكنّها لم تنجح في السيطرة على نفسها ممّا جعل الحارس الحقير يضربها بخيطٍ كهربائيّ كان قد استخدمهُ في تعذيبِ حارسٍ من حرّاس الجلّاد قبلاً...

حرفيّا ذلك الحقير كان يضربها دون أن يراعي سنّها أو حجمها الضيئل، فهو لم يتّسم بالإنسانية التي قد تجعله يشفق على حالها لذا صبّ وحشيته عليها وراح يمتّع مسامعهُ بصوتِ بُكائها الضّعيف فصرخت هانا بقهرِ أمٍّ أُحرقت روحها،  صرخت تُحارب الحرّاس الذين يحاصرونها بكلّ ما امتلكته من قوة لكن حين أدركت أنّها أضعف من أن تقاوم توقّفت وصاحت برجاء:

"أترك صغيرتي أرجوك..أتركها وأخبر زعيمك أن يفعل بي ما يشاء"

لم يأبه الحارس بكلامِ هانا بل اِلتقط قطعةَ حديد ومرّرها على النّارِ محاولاً تسخينها ثم وبكلّ وحشيّة مرّرها على ظهرِ كارلين التي صرخت بألم فبكت هانا حالَ صغيرتها بضعفٍ لم تعهدهُ على نفسها ليقرّر الحارس أنّ يعيد الكرّة رغبةً منهُ في الاستمتاع لكن ماسيمو دخل فجأة وأبعدهُ عن كارلين ثم أمسكهُ من مؤخّرة رأسهِ وجعل وجهه قريباً من الموقدِ النّاري:

"هي لم تفعل شيئا أيها الحقير، الخطيئة كانت خطيئة الكبار..مهمة الصغيرة الآن تكمنُ في العيش بدون أم تماما كما عاشَ ابني بعيداً عن أمه..هيا اهتموا بوالدتها.. اسرعوا.."

أومأ الحرّاس بخوف لتفهم هانا ما يريدونه منها دون أيّ مجهود يذكر، بالنّهاية هي لم تكن غبيّة كي لا تتمكّن من ترجمة نظراتهم الخبيثة التي علّقوها صوبها...

انتفضت الأخيرة أفكارها بأمل وركضت إلى ماسيمو راجيةً إيّاه أن لا يفعل ما يجولُ في رأسه لكنّه ابتعد عنها وغطّى عينيهِ بيديه ثم راح يهمس لنفسهِ:

"لا تفعل ماسيمو أنت لست هكذا..لا تفعل..لا تفعل..لقد كان رفيقك.. كان رفيقك"

ظلّ يردد تلك العبارة وهو يرتعش بشكلٍ غير طبيعي ثم ضحك بعلو ومسحَ دموعهُ باشمئزاز:

-"افعلها ماسيمو فلا أحد يستحق شفقتك..أنت خسرتها لذا هو أيضاً سيخسر..هو سيفقد من يحب وصغيرته ستكبر دون أم تماماً كما حدث مع صغيرك.."

-"ماسيمو لا تفعل هذا أرجوك..صدقني كريس لم"

حين باشرت هانا في التّحدثِ والشّرح خرجَ ماسيمو من الغرفة مظهراً رغبتهُ في عدمِ الاستماعِ إليها فتقدم الحرّاس منها وأخذوا يُلامِسونها بطريقة قذرة ثم ما عتّموا أن جرّدوها من ثيابها وسط مقاومتها الضعيفة فصرخت بدورها تحاول مقاومتهم بكلّ ما امتلكتهُ من قوّة لكنّهم كانوا وحوشاً لا يشبهون البشر البتة، فتوسلاتها لم تحرك شيئاً بدواخلهم المظلمة لأنّهم وببساطة لم يتعلّموا الشّفقة على أيّ كان..

صرخت هانا من جديد بقوةٍ تسبّبت في تمزّق أحبالها الصوتية ثم بكت أسفلهم برضوخٍ:

"لا تقتربوا منّي أرجوكم، لا تفعلوا بي هذا...لا تجعلوني أكرهُ نفسي...أنا أرغبُ في العيش..أريد أن أرى ابنتي وهي تكبرُ أمامي، أريد أن أفي بوعودي لها ولوالدها..أرجوكم أنا لا أريد أن أكرهَ نفسي فأظلمُ من يحبّني، لا تفعلوا بي هذا، يمكنكم ضربي، يمكنكم فعل أيّ شيء بي لكن لا تدنّسوا جسدي..."

لم يأبه الحرّاس بكلامها ذاك بل نفذوا ما أُمِروا به واغتصبوها بوحشية وعنف، اغتصبوها تحت أنظار تلك الصغيرة التي كادت أن تموت من شدة بكائها فقد تناست ألم جسدها وراحت تتوسّل أمام أولئك الوحوش عسى أن يبتعدوا عن أمّها لكن كل ما لاقتهُ آنذاك هو رد ساخر صدر عن أحدهم بعدما رمقها باِزدراء:

"أمّك بائعة هوى جيّدة ومثيرة، أعدك بأنّكِ ستصبحين مثلها"

كارلين إذّاك لم تستطع التّحمل أكثر فقط كانت أصغر من أن تختبر ألماً مختلط بدموعِ والدتها، لقد كانت أصغر من أن تشهد اغتصاب المرأة التي أنجبتها وأحبتها....

هي لم تكن لتتخيّل يوماً بأنّها ستراها في حالٍ كذاك، حال امرأةٍ ضعيفة مغلوب على أمرها..امرأة حزينة باكية، على أرضِ الظلم طُرحت عارية..

إنّ الطفلَ لا يرضى بألمِ أمّه مهما كان هيّنا.. لا يرضى حتّى بخدشٍ واحد قد يمسّها فما بالكم إذاً بكارلين التي شهدت اغتصاب والدتها من قِبلِ خمسةِ وحوش شبيهة بالبشرِ في شكلها ومناقضة لهم في مبادئها..

تخيّلوا فقط أنّ كارلين الصّغيرة رأت المخلوقة التي تحبّها أكثر من الجميع وهي تنزف بشدة بينما الحراس يستمرون في التناوب عليها كما لو أنّها قطعةَ أرضٍ لا مالك لها!

أجل...

تلك الصغيرة رأت تلك المشاهد وهي تُعرضُ أمامها كفيلمٍ كلاسيكي حزين فكانَت عينيها أقربُ إلى المشهدِ من عدسةِ الكاميرا لكن أصعب شعور اجتاحها أثناء متابعتنا لذلك الفيلم الكئيب هو البؤس الذي اعتراها حين أدركت أنّ ما تعيشهُ ليس إلّا حقيقة محض، حقيقة لن تتغيّر...حقيقة لا كواليس لها لذا صرخت بهستيرية... صرخت بكلمةِ "أمي" وهي تبكي بألمٍ أدمى قلبها فصفعَ الحارس فمها بقوة ثم صاح بغضب:

"اخرسي يا فتاة! هم اغتصبوها فقط ولم يقتلوها"

تأفف بسخط ثم مرر يديهِ على أذنهِ بانزعاج وتابع:

"يبدو أنّ صراخكِ سيقتلني قبل أن يأتي دوري حتّى.."

نزلت دموع كارلين في صمت رهيب إذ شعرت بروحها وهي تتمزّق إلى أشلاء، حرفيا طفولتها انتهت في ذلك اليومِ بأبشعِ طريقة وحتّى براءتها...براءتها قُتلت إذّاك فعوّضت الفطنة مكانها...

كارلين الصّغيرة كرهت نفسها وحياتها بعد كلُ ما شهدته بل وكرهت نعمةَ الابصارِ أيضاً حين رأت الحراس وهم يبتعدون عن هانا ليعوّضهم صديقهم السّادس مُظهراً رغبتهُ في التّجربة عليها فهي وفي تلك اللحظة بالتّحديد شرعت في لومِ نفسها على ما حدث، لامت نفسها وتمنّت أشياء مستحيلة التّحقق...

لقد تمنت لو أنّها لم تخرج من القصر كما أمرها والدها، وتمنّت لو أنّها ظلّت في غرفتها الدّافئة لترتمي بدلالِ طفلة في حضن والدتها الهادئة، لكن ما لا يُخفى عن عقول البشر هو أنّ التّمنيات حين ترتبط بالماضي لا تُعتبر إلّا ندماً قاسياً فالبشر قد يشعرون بالنّدم على أشياءٍ خاطئة قاموا باقترافها تماماً كما قد يشعرون بالنّدم على الأشياء الصحيحة التي منعوا أنفسهم من فعلها، لكن الأمر يبقى سيّان في جوهرهِ لأنّ عواقبهُ غير المتغيّرة ستستمر في مسّ الحاضر وستحاربُ كجنديّ ثائرٍ حتّى تبقى في الذاكرة إلى أن يُفنى الجسد.

ابتعد الحارس عن هانا التي كانت مرمية على الأرضِ بطريقةٍ تقشعر لها الأبدان فعلقت بدورها عينيها على صغيرتها تمدّ لها يدها بصعوبة بالغة لكن صغيرتها لم تتمكّن من الذهاب إليها بحكم أنّ الحرّاس كانوا مُتمسّكين بها بقوّة....

ظلّت هانا رافعةً يدها بأمل إلى أن أصدرت ساعتها صوتاً غريباً هي فقط من فهمته...أجل هي فقط من فهمت أنّ كريستوفر وصل إليها وإلى ابنتهِ لذا ابتسمت بانكسار ثم تكلّمت بنبرةِ امرأةٍ ضعيفةٍ مُنهزمة:

"أنا أُحبّكِ صغيرتي.. كوني قوية من أجلي ومن أجل والدك..لا تعتقدي أنّني أريد ترككِ لكنني لن أنجح في الصمود بعد كل ما فعلوه بي.. والدك أتى لإنقاذك لكنني لن اكون قادرة على مواجهته بعد كل شيء لذا أخبريه أنني أحببته وأخبريه أيضا أنني سأرحل وأنا ما زلت أحبه"

بمجرد ما عانق كلامُ هانا مسامعَ كارلين شرعت الأخيرة في محاربة الحرّاس بضعف شديد، لقد حاربتهم وهي تصرخُ بكلمة "أمي"  إذ أرادت أن تضمها إليها كي لا تشعر بالوحدة، أرادت أن تحتضنها وتمنعها من الرّحيل فاغرورقت عينا هانا بالدّموع ثم ضغطت على قلبها ونهضت بصعوبة لتسحب مسدّساً ثقيلاً  من يدِ الحارس الواقف بمحاذاتها وقبل أن يتدارك الأخير حقيقة الموقف أطلقت هي على نفسها في موضع القلب مباشرة...

أجل، لقد أطلقت على نفسها لتقع أرضاً مُتحوّلة إلى جثّة هامدة وذلك لم يعنِ سوى أنّ المحامية الشّرسة هانا مالاتيستا حصلت على خلاصها بعد عذاب طويل...

هي حتماً لم تكن ضعيفة ولا جبانة إنّما كانت امرأةٌ يائسة تعبت من المقاومة....

لقد تعبت ويئست، سئمت وشعرت أنّها فقدت حقها في العيش، لطالما كرهت نفسها واشمأزّت من جسدها، ولطالما كرهت أنوثتها التي أمضت سنين عمرها في الاعتزاز بها.....

هي حقّا كرهت كل شيء يخصّها بعدما داست على غرورها ورضخت أمام الجبناء الذين مارسوا وحشيتهم عليها بكلّ قساوة لذا وضعت حدا لألمها وأطلقت رصاصةً واحدة من مسدس عدوها..رصاصة أنهت بها حياتها فغادرت العالم تاركةً صغيرتها فيه، صغيرتها التي لم تحرّك ساكناً بعد كل ما حدث بل فقط ظلّت تتأمّل الفراع في شرودٍ كما لو أنها فقدت قدرتها على الإبصار....

لقد كانت صامتة...صامتة رغماً عن الأسئلة التي احتلّت أركان رأسها وتردّدت فيهِ كما تتردد موسيقى الموت في الأفلام العاطفية...

حرفياً تلك الأسئلة لم تكن لطيفة البتة بل كانت عبارة عن علاماتِ استفهامٍ مزقت روحها وكيانها نظراً لتواجد الحقيقة أمامها إذ تذكّرت أنّها وبغباء طفلة حلمت بخروجها من قصرِ الأعداء وهي تُمسك بيدِ والدتها، تبتسمُ لها بينما  تُخبرها أنهما نجتا رغما عن الحياة لكن يبدو أنّها لن تخرج سوى مع جثة قد تبكي رحيلها بينما تخبرها أنّهما فشلتا رغماً عن المحاولات....

•••••••

توقّف سرب هائلّ من السّيارات السوداء الضخمة على أراضي الجيوردانو ليترجل من السيارة الاولى كريستوفر لومباردي الذي لم يكن في صورة إنسانٍ عادي بل كان وحشاً سُرقت منه الحياة..

عيناه بدتا مظلمتين للغاية في حين أنّ وجهه كان أشبهُ بوجه شخص جابه أسوأ مخاوفه، جابهها بعدما كان قد أسرها في نفسهِ وهرب منها لسنوات..

أشار الأخير رجاله بالخروج فترجل من السّيارات الأخرى مئات الحراس الذين لم يظهروا في هيئات بشرٍ إنّما ظهروا كشياطين فارّة من الجحيم لذا إن وصفتهم بكلمات الكون اجمع لن أستطيع منحهم حقوقهم من مواصفات....

لم ينتظر الرجال كثيرا بعد أن أخذوا الإذن من الزعيم إذ سرعان ما هجموا على المكان بشراسة لتشتعل معركة بين الطرفين، معركة قاسية لم تشهد سوى تدفق الدماء، معركة لم يرد منها كريستوفر سوى استرجاع صغيرته وسيّدة قلبه بسلام.

كان ذلك هو ما حدث في الخارج لكن في أعمقِ نقطة من قصر الجيوردانو خرج الحرّاس من الغرفة المُظملة التي استقرّوا فيها قبل قليل، وتقدّموا من زعيمهم الذي كان جالساً على أريكتهِ بحزنٍ وهدوء غامض، إذ حاول أن لا يُبالي بالحرب التي اشتعلت خارجاً...

"سيّدي هل تريدنا أن نخرج وننضم لمساندة رجالنا؟"

ابتسم ماسيمو بشيء من السّخرية ثم علّق عينيهِ القاتلتين صوب الحارس الذي تحدّث:

"موتنا اليوم لا مفرّ منه لذا اكملوا عملكم في هدوء، أريدكم أن تقتلوا روح هانا تماما كما فعل الجلاد بأماندا خاصّتي."

أنزل الحارس رأسه بخوف قبل أن يصرّح لزعيمه بالحقيقة:

"سيّدي السّيّدة هانا ماتت.. لقد قتلت نفسها بعدما أخدت سلاحي على حين غفلة."

تغيّرت ملامح ماسيمو فجأة لتتشبّع بالحزن الثقيل ثم أغمض رماديّيهِ بأسىً وتمتم بنبرةٍ منتحبة:

"أنا آسف لكنّني لم أتمكّن من تجاوز الأمر..أنا أعتذر على ما سبّبتهُ لكِ من ألمٍ يا هانا..أنا لا أزال أذكر وجهكِ البريء..ضحكتكِ الطفولية..دفاعكِ المستمر عنّي بعد كل شجار أخوي كنت أخوضه مع ذلك الحقير..صدقيني أنا لم أرد فعل هذا لكنني كنت مجبراً..كنت مجبراً لأنني لم أعد ماسيمو الذي رأى فيكِ أختاً له..ماسيمو ذاك مات..لقد قتلتهُ بيدي أجل.. هو مات..مات مع حبيبته أماندا"

صرخ بعلو ثم وضع يديهِ على أذنيه وقد فقد توازنهُ بالفعل مما أدّى إلى وقوعهِ أرضاً:

"لا تبكِ..لا تحزن ولا تشعر بالذنب..ماسيمو القديم هو صاحب هذه المشاعر وماسيمو القديم هو رجل لا وجود له..ماسيمو الجديد قتله لذا اخرس..اخرس ولا تشعر بالأسى على ما حدث."

بمجرد ما أنهى كلامهُ ذاك عاد الشر ليغزو تقاسيم وجهه إذ ما لبث أن صرف الحراس عنهُ مُخبراً إيّاهم أن يهتمّوا بالصغيرة ريثما يصل والدها لإنقاذها ففهموا كلامهُ من منظورٍ خاطئ واعتقدوا أنّه رغب في تعذيب الفتاة لا غير لذا اتجهوا إلى الغرفة المظلمة بسرعة وأغلقوا الباب خلفهم كالجنود ثم تقدموا من كارلين لينقضوا عليها بوحشية قاتلة إذ ضربوها بكلّ ما امتلكوهُ من قساوة..

لقد ضربوها بقسوةٍ وقسوة أخرى مسلوبة السين فلم تبكِ ولم تتوسّل كما كانت تفعل من قبل بل فقط ظلت صامتة، لقد صمتت صمتا مرعبا، صمت إن دلّ على شيء فسيدلّ على أنّها لم تعد تهتم بحياتها...أو ربّما سيدلّ على فقدانها لحياتها في مكانٍ مشؤوم خسرت فيه أغلى ما لديها...

أجل كارلين الصّغيرة فقدت روحها في قاعةٍ مظلمة توسّطها جثّة هامدة، قاعة احتضنَت في زواياها القاسية فتاة صغيرة غطّتها الدّماء القانية، فتاة لم تصرخ جرّاء الرّكلات التي كانت تتعرّض لها ولم تبكِ بفعلِ الألم الذي غزا روحها بل فقط ظلّت صامتة تُعلّق أعينها الخالية على جثّة أمّها العارية...

شعر الحراس أنّ كارلين ستموت بين أيديهم جرّاء العنف لذا تركوها وابتعدوا عنها مخلفين على جسدها آثار لن تُداويها السنين...آثار ستستمر في تذكيرها بيومِ مقتلها الكئيب....

في ذلك الوقت، وفي ساحة ذلك القدر الكبير، كانت المواجهة الشرسة قد انتهت بانتصار جلّاد المافيا إذ قضى الأخير على مئات الحراس التابعين لآل جيوردانو و قد بدا ذلك الأمر طبيعياً إلى حدٍّ ما فكريستوفر كان الأقوى من حيث العدد والأسلحة وحتّى بنية الحرّاس...

زفر كريستوفر بغضب ثم دخل إلى القصر مُسرعاً فملح ماسيمو وهو جالس على الأريكة بكل برود...لقد لمحهُ بعد سنوات طوال...فماسيمو اختفى منذ أن فقد زوجتهُ أماندا... لقد غادر بمجرّد ما عُلّقت أصابع الاتّهام على كريستوفر....

هو اختفي كي لا ينتقم من شخصٍ كان قد اعتبرهُ أخاً له في يومٍ مضى لكن حالتهُ العقلية المضطربة لم تسمح لهُ بالبقاء على قرارهِ ذاك...

تقدّم كريستوفر من ماسيمو بغضب ثم حدّق بهِ رامقاً إيّاهُ بنظرةٍ قاتلة، نظرة لامهُ بها على الكثير والكثير:

"زوجتي وابنتي، أين هما!"

ابتسم ماسيمو بسخرية لاذعة ثم ربت على كتف كريستوفر بحزن زائف:

"صغيرتك في الغرفة الأخيرة من الطابق يا رجل أمّا زوجتك فقد قتلت نفسها بعد أن اغتصبها رجالي.."

انقلبت ملامح كريستوفر إلى الصّدمة المشبّعة بالأحزان فإن كان كلام ذلك الأحمق المختل صحيحاً يعني أنّهُ سيموت دون أدنى شك...

ضغط الأخير على يديهِ بغضب ثم دون وعيٍ منه لكم ماسيمو بقوّة وحاوط عُنقهُ بكلتا يديه:

"كفاكَ إفكاً، هانا لن تتركني هكذا، أنت كاذب.."

زهزقَ ماسيمو بشماتة:

"رائع، لطالما تمنّيت رؤيتك وأنت تتألّم.. يبدو أن اليوم تحققت أمنيتي بالفعل لذا لا يهمّ إن متّ على يديك في هذه الثانية.."

احمرّت عينا كريستوفر من شدة الحُزن والغضب ثم وبكلّ شراسةٍ انقضّ على ماسيمو ضارباً إيّاه بوحشية، ماسيمو عينهُ الذي لم يقاومه حتى... هو لم يُقاومه رغم قدرته على ذلك إذ حقّق هدفهُ بالفعل لذا موته لن يتسبّب سوى في اجتماعهِ بأماندا خاصّته...

نزل ذلك المراهق الطائش من غرفتهِ جرّاء أصوات التّكسير المُنبعثة من الصالون فوقعت عيناهُ على ذلك المنظر الذي أرعب روحهُ لذا ركض إلى حيثُ يقف كريستوفر وأمسكهُ من يدهِ بضعفٍ ورجاء:

"اترك والدي أرجوك، لا تفعل هذا.. لا تؤذي أبي.. أنا لن أتمكّن من العيش بدونه.."

لم يعر كريستوفر كلام الولد أيّ اهتمام بل فقط سحب ماسيمو من ثيابهِ كالحيوان ثم اتّجهَ به إلى الغرفة التي أخبرهُ عنها ليرميه بداخلها دون رحمة، لكنّه فجأةً تسمر في مكانهِ بعدمِ تصديق، لقد تسمّر ما إن رأى جثّة هانا المرمية أرضا، جثّتها العارية المهملة التي لم تخلُ من الدّماء والكدمات المُفتعَلة...

اغرُورِقت عينا الأخير بالدّموع وقد كانت تلك هي أول مرة يبكي فيها منذ سنوات طوال...

سُحقاً، كيف لهُ أن لا يبكي إن كان قد احترقَ حزناً على امرأة أمسكت بيدهِ ومضت بهِ إلى دهاليز الهوى...امرأة جعلت قلبهُ ينبضُ لها ولأجلها...امرأة كان يعيش فقط ليتأمّل وجهها...

اقترب كريستوفر من هانا بتردد ثم دنا منها ولامس جسدها العاري بيديهِ المرتجفتين ليشرع في تقبيل جروحها كالمجنون قبل أن يدثرها بسترته التي تجرّد منها ويشرع في هزّها بعناد:

"هانا...أنتِ تسمعينني صحيح!"

لم تجبه بشيء، لم تتحرّك ولم تمنحهُ ولو إشارة واحدة قد تُعيد لهُ حياته...

كل ما كان يراه آنذاك هو جثّة هامدة تفتقر إلى الرّوح التي كلف بها...جثّة تفتقر إلى نبضات القلب التي كان يعيش من أجلِ سماعها...

انهمرت دموع العينِ على خدّيهِ خوفاً وقهرا ثم ضمّ زوجتهُ إلى صدرهِ بألمٍ دفين، ضمّها إليه وهو يقبّلها بينما يكلّمها برجاء:

"افتحي عينيكِ هانا، لا ترحلي أرجوكِ...أنتِ النور في حياتي لذا لا ترحلي بعد أن جعلتني أنسى كيف يكون الظلام...."

ازدرد ريقهُ وتابع بنبرةٍ حملت أملاً مؤلم:

"البارحة، البارحة فقط قرأت ملاحظتكِ على آخر حدثٍ من الرّواية التي اشتريتِها مؤخّرا، لقد كتبتِ أنّكِ تريدين الحصول على زفاف آخر تماماً كما حدث مع الأبطال، سأخبركِ إذن أنّ قاعة الزّفاف جاهزة، العريس جاهز، الشّروط السّخيفة التي كتبتها أسفل الملاحظة التزمتُ بها كلهّا لذا لم يتبقّ سوى ذهابنا إلى المكان الذي جهّزته من أجلنا..هيا توقّفي عن التّمثيل هانا.. توقّفي ودعينا نرحل، كل شيء جاهز، أيعقل أن تتركِي عريسكِ في المنتصف؟"

مرّة أخرى هي لم تجبه، لم تُظهر حماستها كما كانت تفعلُ سابقاً، لقد كانت صامتة لدرجة أغضبته لذا صرخ بها بأعلى صوته، صرخ بها صرخةً ارتجّ لها المكان وتسبّبت في إخراجِ كارلين من صدمتها إذ علّقت عينيها صوب والدها واستنجدت بهِ بضعف شديد، فالتفت كريستوفر إلى ابنتهِ بصدمة ما إن وصلهُ صوتها الحزين، التفت إليها كما لو أنّها لم تكن مرئية بالنسبة لهُ حين دخل الغرفة ثم بمجرد ما وقعت عيناهُ الدّامعتين على شكلها المُدمى شعر بروحه وهي تحتضر، شعر وكأنّه محاصر بالرّدى من كلّ جهة...

ابتعد الأخير عن هانا رغماً عنه ثم ركض إلى صغيرتهِ وعانقها بحنان لكنّه ما عتّم أن ضغط على أسنانهِ متوعّداً في سرّه للحرّاس الذين كانوا يناظرونه من بعيد بخوفٍ شديد فأوامر زعيهم تنصّ على تقبّلهم للموت دون تعرّضهم لكريستوفر ولو بالخطأ....ليس حُبّا فيه طبعاً بل ضماناً لعيشهِ والألم لما تبقّى له من سنين...

نهض ذلك الأخير عن الأرض كالأسد الجريح، نهض بعد أن همس بكلامٍ ما لابنتهِ ثم تقدّم من الحرّاس ليكسر عضامهم واحداً بواحدٍ، لقد شوّههم وحوّلهم إلى كائنات حمراء لزجة وغريبة ثم قيدهم واقترب من ماسيمو بخطىً مرعبة ليشرع في تعنيفهِ تزامناً مع دخول ابنهِ لويس إلى الغرفة فضحك ذلك المختل بسُخرية مستفزّة:

"ألمي هذا لا شيء أمام أوجاع قلبك صديق، أنت الآن تشعر بأضفاف مضاعفة من ألمي..هذا جميل،  جميل  جدّا"

صرخ كريستوفر بغضب ثم لكم ماسيمو لكمةً أمالتهُ وأوقعتهُ أرضاً ليدوس على وجههِ بحذائه الأسود مظهراً عنفاً غير طبيعي فتقدّم لويس منه وتحدّث بخوف:

"أرجوك سيّدي لا تفعل بهِ هذا، ربما هو سيئ لكنه كل ما أملك..لا تأخذه منّي أرجوك."

ككلّ مرّة لم يهتم كريستوفر بكلام لويس بل فقط راح يقيّد ماسيمو بكلّ حقد، ماسيمو عينهُ الذي سارع إلى التّحدثِ بهدوء:

"لا تتوسّل أمام أحد أيّها الأسد، الموت هو آخر ما يمكنك الخوف منه في عالمٍ مرهون بالفناء، اليوم نحن سنموت معا وإن لم نفعل ستعيش لوحدك كي تنتقم لي، أهذا مفهوم؟"

نفى لويس برأسه وانخرط في البكاء فابتعد كريستوفر عنهُ وتقدّم من صغيرته ليقبّل جبينها بحنان ثم همس لها بجدّية بينما يُوجّه مسدّسهُ نحوها بحكم أنّها مدرّبة على استخدامهِ:

"قتلة والدتك أمامك الآن كارلين، اخبريني هل تريدين الانتقام؟"

أومأت له بحقدٍ ظهر في عينيها لأوّل مرة، حقد أوحى أنّها كبرت عن عمرها بسنوات وسنوات ثم دون أن تقول شيئاً أخذت المسدس من يد والدها واتجهت بهِ نحو ماسيمو وحراسه ببرود لتُطلق عليهم وعلى رجولتهم دون أن ترمش حتّى لكن حين علّقت المسدّس صوب ماسيمو تدخّل لويس يُحاول منعها:

"لا تقتلي والدي أرجوك...لا تحرميني منه، أنا أهاب الوحدة...هو كل ما أملك..."

تبا كم أصبحت تكرهُ الضّعف وكم باتت تمقتُ التوسلات، لطالما وعدت نفسها بأن لا تشفق على أيّ كان، هي حتماً لن تشفق على أيّ مخلوق بعد كل ما حدث معها، لأنّها حين ترجّت وبكت لم يهتم أحد لها لمَ قد تهتم بغيرها إذاً؟

تذكرت الأخيرة صراخ والدتها وتوسّلاتها، تذكّرت كيف اغتُصِبت وكيف ضُرِبت و هذا كان كفيلاً بجعلها تضغط على الزناد بوحشية مُفرغةً باقي رصاصات المسدّس على رأسِ ماسيمو...

صرخ لويس بضعفٍ شديد ثم جثا على ركبتيهِ ليبكي وفاة والدهُ الذي قُتل فاتجه كريستوفر نحوه بتردد ورفع سلاحهُ الثّاني صوبه لكن كارلين سارعت إلى إيقافهِ ببرود:

"أبي هذا المراهق لا ذنب له بشيء.."

تنهد كريستوفر بضعف:

"هو سيشكل خطراً في المستقبل فدماء ماسيمو تجري في عروقه وهو مجروح كما جرحتِ أنتِ لذا سيحاول الانتقام دون أدنى شك."

هزت كارلين رأسها بالنفي وكأنّها ترجو والدها أن لا يؤذيه فأومأ لها الأخير واتجه نحوها بقلق يحاول حبس دموعه ثم داعب وجنتيها بحنان ونبس بهدوء:

"كارلين أنت كل ما تبقى لي، لا تكبتي حزنك صغيرتي، ابكي أمامي، البكاء ليس عيباً."

لم تجبه الأخيرة بشيء بل ظلّت صامتة... لقد ظلّت صامتة لأنّها لم تعد تقوى على إظهار مشاعرها وقد تفهّم كريستوفر ذلك لذا ضمّها إليه بقوة كبيرة ومسح على شعرها بخفّة:

"أنتِ كل ما تبقى لي كارلين لذا لا تضعفي بل كوني يدي اليمين..كوني فخري ومصدر قوتي.. كوني نوري وسط ظلمتي."

أنهى كلامهُ ليبعدها عنه مُقبّلاً جبينها بحنان ثم فقط حين تأكّد من أنهم قتلوا صغيرته بنجاح استوكف الدّموع من جديد وتنهّد بحسرة من حالها الضعيف لكن هي في تلك اللّحظة بالتّحديد تحدّثت بنبرة خالية من أي شيء:

"أنا أُحبّكِ صغيرتي.. كوني قوية من أجلي ومن أجل والدك..لا تعتقدي أنّني أريد ترككِ لكنني لن أنجح في الصمود بعد كل ما فعلوه بي.. والدك أتى لإنقاذك لكنني لن اكون قادرة على مواجهته بعد كل شيء لذا أخبريه أنني أحببته وأخبريه أنني سأرحل وأنا ما زلت أحبه"

تلك الكلمات التي نطقت بها كارلين حوّلت كريستوفر لومباردي المعروف بلقبِ الجلّاد القاسي إلى رجل خائر القوى، رجل ضعيف خطّ الحزن جمالياتهُ على وجههِ الكئيب...

احمرّت عيناه جرّاء الدموع المتجمّعة في حدقتيهِ ثم اقترب من حبيبتهِ هانا ببطءٍ شديد فوجبَ قلبه بعنفٍ حين رآى جثّتها من جديد مع ذلك ضغط على قلبهِ وانحنى إلى مستواها مُقبّلاً جبينها كما لو أنّه يُقدّم لها قبلة الوداع ثم بعد ذلك مباشرةً حملها بين يديه واتّجه بها إلى الخارج فلحقته كارلين في صمت رهيب لكنّه وبالرّغم من صمتها لاحظ ضعفها الشّديد...

لقد كان من الواضح أنّها على وشك فقدان وعيها لذا حملها هي الأخرى بيدٍ واحدة وخرج بها مع زوجتهِ الرّاحلة من ذلك القصر الذي فقد فيه روحه... القصر الذي فقد فيه ابنتهُ وامرأة قلبه...

تقدّم كريستوفر من سيّارتهِ بملامحٍ احتضرت ألماً ثم حدّق بحارسهِ الشّخصي وتكلّم ببرود ناقض النّار الملتهبة بداخلهِ:

"هناك طفل في الداخل، خذوه إلى الملجأ الخاص."

نهاية العودة إلى الماضي

•••••••

دلف أليرون إلى جناحهِ بعد يومٍ شاق طويل فكانت رائحة السّجائر المختلطة بعبقِ الكحول هي أوّل ما عانق أنفه الحاد المستقيم لذا علّق عينيهِ الخضراوين الباردتين صوب زوجته الجالسة في إحدى زوايا الجناح كما لو أنّها جثّة الهامدة، جالسة بلا حراك ولا تعابير ممّا أدّى إلى تعالي أصوات غريبة في مسامعه، أصوات انبثقت من الماضي البعيد...

الصّوت الرئيس في حفل الماضي كان عبارة عن تحشرج أنفاس امرأة مُحتضرة في حين أنّ الأصوات الثانوية تمثّلت في بكاءٍ هستيري يليهِ صوت سُعالٍ قاتل....

اشتدّ صراع الأصوات ذاك في ذهن أليرون فلم يجد نفسهُ إلّا وهو يضغط على أسنانه بغضبٍ قبل أن يتقدّم من تلك الباردة ليُكلّمها بحدّة بدت غريبة عليه:

"توقّفي عن التّصرفِ بهذا الشكل فإن رأيتكِ وأنتِ تدخنين بهذه الطّريقة المؤذية من جديد لا تلومي إلّا نفسكِ."

ضحكت كارلين ببرود ثم نهضت من مكانها ووقفت أمام أليرون بشكلٍ مباشر، وقفت أمامهُ وهي تُناظره بعينين خاليتين من المشاعر:

"نبرتك سيّد إليون"

صمتت قليلاً لتسحب نفساً آخراً من سيجارتها باستفزاز عظيم ثم اقتربت منه ونفتت الدّخان على وجهه قبل أن تُكمل:

"فلتعمل على إخفاض نبرتك ولتتعلم كيف تلقي الأوامر على من هم أقل شأناً منك فقط فأنا لا آخذ الأوامر من أحد أيّها السّفاح...أنا لم أعتد ذلك."

أومأ لها ذلك الأخير مُحاولاً تمالك أعصابهِ ثم ضغط على راحة يدهِ ومنحها ردّا لا يخلو من البرود وقد عمل على جعل نبرته هادئة:

"كارلين...أنا رجل سريع الإشتعال أمام الاستفزاز لذا حاولي أن لا تعبثي معي، أنتِ الآن أصبحتِ زوجتي وأنا حتماً لا أريدك أن تتحوّلي من زوجتي إلى ضحيّة من ضحايا غضبي.."

أنهى كلامه ليريها ورقة توثيق زواجهما فتأففت بملل ثم مسحت على عنقها بتعب ومالت برأسها تحدّق بتلك الورقة تارةً وبأليرون تارةً أخرى:

"سيّد إليون، لا تنسَ أنّ زواجنا مجرّد صفقة لذا توقّف عن التّحكم بي وبتصرّفاتي ولا تتجاوز حدودك معي لأنّني لست الفتاة التي قد تسمح لك بفعلِ ذلك."

أظلمت عينا أليرون بشدّة ولم يجد نفسه إلا وهو يقترب منها عادما المسافة بينهما ثم وبكلّ خفّة أمسكها من كتفيها وأسند جبينهُ على جبينها قبل أن يهمسَ لها بجدّية:

"لسانك يا فتاة، أنا على وشكِ قطعه. وأنا حتماً لا أمازحكِ."

دون أن تظهر كارلين غضبها الذي تآكل بداخلها دفعت أليرون بعنف ثم رفعت إصبعها السّبابة في وجههِ كنوعٍ من التّحذير:

"لا تحاول الاقتراب منّي بهذه الطريقة القذرة من جديد! إيّاك أن تعاود الكرّة يا هذا."

ابتسم أليرون بسخرية ما إن توصّل إلى المعنى الخفي من كلامها ثم تجنّباً للتّهور سحب سلاحهُ وراح يفكّكهُ طوراً ويعاود تركبيهُ طوراً آخراً وطبعاً أثناء فعلهِ لذلك لم ينسَ أن يُوافي زوجتهُ بردّ هادئ مستفزّ:

"انظري إلى نفسك كارل، أنتِ تُشبهين رجالي وأنا لا أميل إلى جنسي لذا لا تجزعي أنا لن افكر بكِ بطريقة قذرة كما تظنين."

هو الآن أخبرها وبكلّ بساطة أنّه لا يميل إلى جنسه، بمعنى أنّه شبّهها برجالهِ دون أن يخجل من نفسهِ أليس كذلك! لا بأس إذن فكارلين تُجيد قلب الموازين أكثر من أيّ شيء آخر لذا دون أن تظهر أيّ تعبير على ملامحها أجابتهُ ببرودها المعتاد:

"أخيراً اعترفت أنّك مخنّث لذا لا تميل إلى النّساء وتعتبرهنّ من جنسك."

وحدها تلك الإجابة من أرجعت لها غرورها ونجحت في استفزاز أليرون إذ سرعان ما احمرت عيناه غضباً وبدأت يداه بالارتجاف ثُمّ دون وعيٍ منه انقض عليها كالوحش القاتل وأمسكها من عنقها بعنف شديد ليشرعَ في خنقها بقوة بينما يسألها كالمختل:

"من هو المخنث أيّتها الحمقاء! أخبريني من المخنّث!"

ابتسمت في وجهه باستفزاز ليس وكأنها قادرة على الموت بين يديه في أيّة لحظة ثم وبحركة كانت قد درستها في عقلها تناولت سكينها من جيب بنطالها وغرزته في ظهرِ يده بكل قوة وحقد فابتعد عنها بدورهِ وحدّق بجُرحهِ كما لو أنّه لا يُصدّق ما حدث لتتحرّك كارلين من مكانها باستفزاز إذ جلست على الأريكة رافعةً ساقها اليسرى على الطّاولة دون أن تبعد عينيها الحادّتين عن ذلك الأخير:

"أعلم أنك أقوى مني بكثير أيّها السّفاح لكن لا تنسَ ما سأقوله لك الآن، انا لست فتاة قد يستهان بها، أنا كارلين، لعنةُ الشياطين التي أرعبت كبار المُجرمين، ووريثة الجلاد التي كبرت في وسط لا يرحم المغفّلين، خطأ في حقّي يُقابله الموت لا غير، تذكّر هذا جيّداً.."

نظر أليرون إلى يده المُدماة في صمتٍ رهيب لكنّه ما عتّم أن ضحك مُظهراً سخريّته اللّاذعة من كلامها ذاك:

-"لسانك أطول منك بكثير كارل، ولن أكذب إن قلت أنّك تُجيدين التّهديد، جدّيا لو كنت وقحاً أكثر معكِ لأرسلتكِ إلى الرّقعة السوداء كي تنامي فيها رفقة الجثث المُشوّهة فوجوكِ هنا يخنقني."

-"يُسرّني الاعتراف إذاً بأنّ ليلة مع الجثث تبقى أفضل بكثير من ليلة مع مخنث"

ادّعي أليرون أنّه لم يسمع كلامها ذاك إذ عاد إلى الخلف وقعد على طرفِ السّرير ثم شرع في العبث بسلاحهِ ككلّ مرّة فتذكّرت هي غضبها الذي لن تنجح في السّيطرة عليه إلّا بالدماء ممّا يعني أنّ ولوجها إلى الرقعة السوداء أضحى أمراً لا بدّ، لأنّ تلك الرقعة عبارة عن أُحجية غامضة تقبع تحت أرضِ هذا القصر العتيق....أحجية كل ما استطاع الغير أن يعرفه عنها هو أنّها مخصّصة للاستجواب والتّعذيب....

استفاقت كارلين من شرودها على حين غرّة لتقترب من أليرون ناويةً التّحدث إليهِ لكنّه سبقها إلى ذلك إذ تكلّم دون أن يُحرّك عينيهِ أو يعلّقهما صوبها حتّى:

-"لا تتحدّثي كارلين فجدّيا كلمة مستفزة أخرى قد تمنحك رصاصة كهدية"

-"مع الاسف تهديدك هذا سيرعب فتاة بريئة لكنه لن يجدب نفعا معي أيّها السّفاح..على كلّ أنا أرغب في الذّهاب إلى الرّقعة السّوداء لأنّني بحاجةٍ إلى تعذيب ضحاياك القابعين هناك، سأستجوبهم بطريقتي ثم أعود إليك فأنا غاضبة ولا أريد إيذاءك."

ابتسم أليرون بطريقةٍ استفزّتها ثم علّق خضراويه صوبها بجدّية:

"إن كانت هذه رغبتكِ فأنا لا أمانع، لكنّكِ لا تعرفين شيفرة الدخول لذا سأرافقك إلى البوّابة.."

أومأت له ببرود فخرج من الغرفة واضعاً سيجارته بين شفتيه لتلحقه بدورها إلى حيث تقبعُ بوّابة الرّقعة السّوداء، وطبعاً في طريقهما إلى هناك كان يوصيها على مجموعة من الأشخاص المحتجزين فأنصتت لهُ بتركيز وتشاركت معه بعض الأفكار بطريقة ستجعلك تشكّ في حقيقة أنّهما نفس المختلّين اللّذين كانا يتقاتلان قبل قليل!

وقف أليرون أمام تلك البّوابة السوداء الدّاكنة وقام بفتحها أمام كارلين ثم تكلّم بنبرة ساخرة:

"تفضّل سيّد كارل، أرجو أن تستمعَ بوقتك في الدّاخل."

ابتسمت بدورها مُحدّقة بهِ ببرود قاتل:

"السّيدات أوّلا إليون، أولا تُريدين التّجول بي في المكان؟"

أنهت كلامها لتحرك يدها برُقي تخبرُ ذلك السّفّاح أن يدخل فلعن بسخط وضغط على يديه يخبرها بنبرة مميتة أن تلِجَ إلى الدّاخل بصمت فابتسمت لهُ باستفزاز ثم رفعت إصبعها الأوسط في وجهه ودخلت إلى تلك الرقعة التننة لتنزل الدرج الطويل ملوّحة بيدها لزوجها الصّفيق الذي دفع الباب ورحل من هناك بغضبٍ باطن وبرود ظاهر فتجوّلت كارلين في أروقة الرّقعة السّوادء التي كان من المفترض أن يُطلقوا عليها تسمية القصر الأسود....

حرفيّا الأجواء فيها كانت تثير الرهبة فالجثث المشوّهة تناثرت على الأرض كما تتناثر الرّمال في الصّحراء في حين أنّ الجماجم عُلّقت على الجدران تماماً كما تُعلّق عظام الحيوانات في المتاحف وبطبيعة الحال أي فتاة طبيعية كان عليها أن تخاف أو تتقزز من تلك المناظر لكن بربّكم من ذا الذي كذب عليكم وأخبركم أنّ كارلين لومباردي فتاة طبيعية!

التفتت الأخيرة على يمينها فوجدت رقعة الأحياءِ من الضّحايا، أي ذلك المكان المُخصّص لأولئك الخونة الذين سيموتون بعد قليل، فقد سبق لأليرون أو إليون كما تُناديهِ هي أن أوصاها بالاهتمام بالرّجل الذي قُيّد على الكرسي رقم ستّة لأنّهُ يخفي سرّا ما أمّا البقية فهم مجرد أغبياء قادهم جنونهم إلى تحدّي السّفاح لذا ستكتفِي بتعذيبهم دون استجوابهم...

تقدّمت كارلين من مصدر سعادتها الدّنيوية وباشرت في تعذيب الرجال العشر الذين كانوا قد خادعوا زوجها اللّئيم وبحكم أنّها فتاة تكره الخونة وتعشق دماءهم تفنّنت في تعذيبهم بطرقٍ أرسلت شعور الخوفِ إلى الأسير رقم ستّة تماماً كما أرادت هي....

غادر أولئك الحمقى العشر حياتهم البائسة فلم تجد كارلين نفسها إلا وهي تضحك بمكر، تضحك دلالةً على وصولها إلى الشّخص الذي ستتسلى به في وحدتها إذ اتجهت نحوه حاملةً في رأسها أبشع الافكار وأذمّها ثم حرّرت قطعة القماش من فمهِ وسألتهُ ببرود:

"اخبرني فقط، ما الذي أتى بك إلى هذا الجحيم؟"

ابتسم لها الآخر بهُدوء مصطنع:

-"أنا هو الشخص الذي وقع في يد السّفاح فداءً لزعيمه"

-"يا للبؤس، هل تريدني أن أشغّل موسيقى حزينة كي يبدو كلامك مؤثرا أكثر؟"

اضمحلّت ابتسامة ذلك الرّجل دلالة على هلعه فهو حقّا كان خائفاً منها لأنّها بدت غرببة لدرجة غير معقولة...

نظراتها كانت توحي بأنّها باردة كالموت في حين أنّ ابتسامتها المَرَضِيّة دعّمت احتمالية جنونها لا غير، وقفتها كانت وقفة امرأةٍ قويّة واثقة لكن نبرتها الهازئة بدت قريبة إلى نبرةِ الرّجال خاصةً من حيث الإصطلاح...

"المعلومات التي بحوزتي تحتاج إلى موسيقى صاخبة لا حزينة أيّتها المسترجلة"

قالها الأخير مُحاولاً أن لا يظهر خوفه أمام كارلين فأومأت له بدورها بهدوء ثم رفعت اكمام قميصها الأسود لتعلّق على كلامهِ بنبرة ماكرة:

"إيقاع قبضتي على جسدك سيُنتجُ موسيقى صاخبة لن تكتمل إلّا بصوت صراخك ثم بالمعلومات التي تحاول إخفاءها أيها الرّجل الخِبّ."

ضحك الأسير باستهزاء رغم أنّه في حقيقته كان يرتجف خوفاً:

-"دعينا نستمتع بموسيقى اللّكمات دون أيّ كلامٍ يذكر"

-"حسنا لك ذلك، طلباتك تُحترم."

أنهت كلامها لتلكمه بقوة لم يتوقعها من فتاة إذ سرعان ما امتلأ وجهه بدماءِ أنفهِ المتناثرة...

لم يتخطّ الأخير صدمة اللّكمة حتّى أتتهُ الثانية فالثّالثة وصولا إلى العاشرة والأخيرة، فحينها فقط سحبت كارلين سكينها الحاد من جيب بنطالها ثم رفعت يدي الأسير لتفكّ قيده دون تردد فهرع بدوره ناوياً فكّ قيد رجليه أيضاً لكنها امسكته من عنقه بقوة وثبّثت رأسهُ عليها بتحذير:

"لا تتذاكَ كثيرا أيها السّافل، أنا لا أقاتل الضعفاء أمثالك، بل أقتلهم مباشرةً لذا لا تتعب نفسك فلا مهرب لكَ من هنا.."

نظر الأخير إليها بحقد فأخدت تتحسس يديه الخشنتين بكلّ برود:

"يداك قد نالتا إعجابي يا رجل وأنا لا أترك شيئاً يعجبني دون أن أُفسده بل أشوّهه كي لا يُعجب غيري."

أنهت كلامها لتغرز سكِّينها الحاد في ظهر يده بقوة ولعدّة مرّات متتابعة دون رحمة أو شفقة فما كان عليهِ سوى أن يصرخَ طالباً منها أن تتوقّف لكنّها لم تفعل إلّا بعدما شعرت أنّها اكتفت من ذلك، حينها فقط وضعت السّكين على فمه ونبست ببرود:

"اخبرني الآن، ما هي المعلومات التي بحوزتك؟"

نفى برأسه يخبرها أنّه لن يفصح أمامها بشيء فلم تفكر مرّتين قبل أن تمرر سكينها على شفتيه بقوة مُمزّقةً إيّاهما بقسوة فصرخ بألم وسمح لدموعه أن تنزل جرّاء الوجع...

ابتسمت كارلين بطريقة مخيفة ثم أمسكته من عنقه هامسةً ببرود:

"المعلومات التي تمتلكها ستنقذك، أخبرني فقط ماذا كنت تفعل داخل مقر السّفاح، ماذا ألا تريد إخباري؟حسنا أنا أحترم رأيك.. أخبرتك قبلاً أنّ رأيك يُحترم."

هكذا فقط وبنفس السكين راحت تمزّق صدره مستنشقةً دماءه ثم بكل برود حملت آداة كانت مرمية على الأرض بإهمال وقد كانت أشبه بكماشة لكنها أشدّ حدّة منها فالتقطتها بهدوء وأمسكت يدَ الأسير من جديد ثم قطعت أصابعهُ اليمنى دفعة واحدة... قطعتها دون أن يرف لها جفن وحينها فقط فقد الآخر أعصابه تماما وراح يصرخ بينما يتنفّس بصعوبة من شدّة الألم:

"توقفي.....توقّفي أرجوكِ....أنا جاسوس تابع لآل ريتشي، هم يريدون استرداد شيء ما من الغضنفر وهم لن ينجحوا في ذلك إلّا إذا مات السّفاح لذا أرسلوني إلى المقر الرئيس كي أتجسّس على السفاح وأتأكّد من عدم اكتشافه لخطّتنا لكنّ أحد الحراس اكتشف وأتى بي إلى هنا قبل ساعات."

أومأت كارلين بتفهم ثم طلبت منهُ التحدث بوضوح أكثر فازدرد ريقعه مُضيفاً:

"لقد اتّفق زعيم آل ريتشي الحالي مع زعيم إحدى العصابات الكندية التي يتعامل معها السفاح عادةً، فقد أُغرِيَ ذلك الزعيم بعرضٍ أجهله ووافق على اغتيال أليرون غدا أثناء ذهابه لاستلام الشحنةِ في مهبطِ الطائرات الخاص بالمالدونادو."

ابتسمت كارلين برضاً بمجرّد ما وصلت إلى غايتها ثم طرحت سؤالها الأخير على الأسير:

"أخبرني فقط ما خطتهم لتدمير السفاح؟"

ابتلع الأخير ريقه ولم يجد ما قد يُجيبها به لذا أمسكت كارلين يده الأخرى ومررت الكماشة على اصبعه السّبابة لكن قبل أن تقطعه صاح باندفاع:

"السّفاح سيذهب إلى المهبط مع رجال النخبة العشر بينما العصابة الكندية ستأتي بمئات الحرّاس وأقواهم على الإطلاق ليتخلصوا من السّفاح في الحدود وبعد أن يتخلصوا منه ستضعف إمبراطورية -موسترو- وسيتمكّن آل ريتشي من الغضنفر."

أومأت له برضاً ثم ابتعدت عنه بهدوء وراحت تمسحُ دماءهُ  على قميصها الأسود:

"سأحرّرك الآن بما أنّك كنت مطيعًا، سأحررك كي لا تجرب تعذيب وسخط السّفاح، أنت ميت في كلتا الحالتين لكن الموت بطلقة أرحم بكثير من الموت كل ليلة"

هزّ رأسهُ باستسلام فما قالتهُ كان صحيحاً، الموت بطلقة أرحم بكثير من الموت كلّ ليلة لذا أغمض عينيهِ سامحا لكارلين أن تطلق على جمجمته ففعلت ذلك دون أن يرفّ لها جفن...

هكذا فقط خرجت من الرّقعة السّوداء مفتخرةً بشكلها الدموي إذ أقفلت الباب وراءها بهدوء وارتياح ثم صعدت إلى غرفة ذلك السّفاح الذي تشتهي قتله، فقابلها بمظهره الهادئ وهو يجلس على السّرير بينما يحدّقُ بورقةٍ لا تخلو من النقاط الصغيرة...

ربّما الأمر كان ليبدو غريباً على غيرها لكن ولأنّها معتادة على ذلك علمت مُباشرةً أنّه يدرسُ خطّته للغد لذا وقفت أمامه مقاطعةً تركيزه بكلامها الجاد:

"العصابة الكندية تريد الإطاحة بك غدا فهم يعملون مع آل ريتشي لذا توخى الحذر"

هزّ رأسهُ وكأنّه يشكرها دون أن يقول شكراً ثم أرجع تركيزه على الورقة فجلست مقابلةً له وتكلّمت بسخرية:

"ما زلت تريد الذّهاب مع عشرة رجال أليس كذلك"

رفع أليرون عينيه صوبها بهدوء ثم ابتسم بطريقة مظلمة:

"لا أريد إفساد خططهم...يبدو أنهم تعبوا في التّخطيط."

هزّت كارلين رأسها بخفّة ثم اتجهت إلى خزانتها ووقفت أمامها لتختار ملابسها ثم بمجرد ما انتهت من الاختيار تقدّمت من بوّابة الحمّام وحدّقت بأليرون مقترحةً عليهِ فكرتها:

"يمكنني مرافقتك إن أردت، حينها سنقضي على الجميع في دقائق معدودة، سنفعلها دون حاجتنا إلى الرجال العشر حتّى"

لو كانت فتاة طبيعية لانتظرت ردّه على اقتراحها لكن ولأنّها كانت تعلم أنّه سيرفض دخلت الحمّام دون أن تستمع إلى رده حتى فابتسم بجانبية ومسح على عُنقه قبل أن يُتابع وضع النّقاط على تلك الورقة الغريبة...

انتهى أليرون من رسم الخطّة فاستلقى على السّرير وراح يفكر في المهمة التي تنتظره غدا، المهمة التي سيبعث من خلالها ردّا لآل ريشتي فعندما يقضي على الجميع سيثبت لهم أنّ السفاح أقوى مما يعتقدون بكثير......هم يظنّونه سهلاً...يستخفّون بقوّته كثيرا، إذا سيحصلون على ردّ يجعلهم يعاودون حساباتهم...

آل ريتشي هم أعداء والده قبل أن يكونوا أعداءه مع ذلك هو لا يريد إبادتهم بسبب الماضي البعيد، الماضي الذي حماهم منه وتلك الحقيقة التي برّرت العداوة بالنّسبة له على الأقل...

بعد دقائق قليلة خرجت كارلين من الحمام وهي ترتدي ثياب نوم سوداء واسعة جدا، ثياب لم تُظهر شيئا من جسدها ثم وبكلّ هدوء استلقت على الجهة الفارغة من السّرير واغمضت عينيها مُحاولة النّوم لكن الأمر كان دون فائدة فتأففت بملل ولجأت إلى تلك الأقراض التي تخفيها في الدرج إذ ابتلعت قرصاً واحداً منها ثم استرخت من جديد لتنجح في النّوم بعد مدّة لا بأس بها...

شعر أليرون بانتظامِ أنفاسها فعقد حاجبيهِ باستغراب ثم تحرّك قليلاً وتفقّد الأقراص التي ابتلعتها كارلين قبل قليل ليهزّ رأسهُ بشيء من البرود:

"الحمقاء تريد الموت دون أدنى شك، تبّا أيّ انتحار هو هذا.."

أنهى كلامه ذاك ليُخفي علبة الدواء عنده ثم استلقى في مكانه وراح يفكّر في عدّة أمور لكن ما إن سمِع صوتاً غريباً صدر عن كارلين التفت إليها مُسرعاً ليُلاحظ تعرّقها الشديد فجال في رأسهِ مباشرة أنها ترى كابوسا ما وحرفيا هذا ما اثبتته له بعدما شرعت في التّفوّه بكلمات لم يفهمها....

حاول الأخير أن يبقى ساكناً لكن ما إن سمعها وهي تستنجد بأمّها ضعُف أمامها...حرفيّا بمجرّد ذكرِها لكلمة أمي تضاربت عدّة مشاعرٍ بداخله ولم يجد نفسهُ إلّا وهو يسحبها إلى حضنه البارد إذ احتضنها باهتمام ومسح على شعرها بخفّة ثم حين شعر أنّها هدأت قليلاً همس لها بنبرة حاول جعلها هادئة:

"لا تخافي..أنتِ في أمان، إنّه كابوس."

ظلّت الأخيرة تتحرّك بفزعٍ فاستمر هو في تهدئتها بطريقته الخاصّة وحين شعر أنّه نجح في ذلك تنهّد بارتياح ولم يشعر بنفسه حين نام بعدها مباشرة، نام دون أن يُبعدها عنه.....

•••••••

مجّت الشّمسُ ريقها في قصرِ المالدونادو فاستيقظت كارلين من نومها لتجد نفسها مُختبئة في حُضن أليرون!

اتّسعت عيناها بصدمة لاعتقادها بأنّها تصرّفت بغباء وفرضت نفسها عليه بعدما حسبتهُ وسادتها السوداء القاسية....تلك الوسادة الغريبة التي اعتادت على احتضانها منذ أكثر من سنة!

ابتعدت كارلين عنهُ بسرعة جرّاء تفكيرها ذاك ثم نهضت عن السّرير واتّجهت إلى الخزانة لتسحب منها بدلة سوداء وحذاء من نفسِ اللّون ثم وبشكلٍ مباشر اتّجهت إلى الحمّام مُقفلة الباب وراءها لتخرج منهُ بعد رُبع ساعة وهي ترتدي الثّياب التي اختارتها بينما ترفعُ شعرها البُنّي المختلط بالذّهبي على شكلِ كعكة لم تتمرّد منها أيّة خصلة...

حدّقت الأخيرة بأليرون الذي كان قد استيقظ بالفعل ثم قعدت على الأريكة بشرود، قعدت مُتجاهلة وجودهُ بشكلٍ ظاهر فنهض بدورهِ بهدوء واتجه إلى الحمام ناوياً الاغتسال وفقط حين انتهى عاد إلى الغرفة وهو يدثر أسفله بمنشفة طويلة في حين أنّ صدرهُ العضلي بقى عارياً....

حسناً، يبدو أنّ صدرهُ أراد أن يتعرّف على كارلين لذا لا بأس بذلك....الفكرة ليست سيّئة.

علّقت الأخيرة عينيها صوبهُ ببرود فلاحظ بدورهِ أنّها لم تُبعد ناظريها عنه كما اعتادت أن تفعل دائما لذا ابتسم بنرجسية ثم مرّر أصابع يدهِ على خصلاتِ شعرهِ المبللة بهدوء:

"أين غادرَت امرأة السّفاح غير المبالية؟ أخبريني هل حدث خلل ما في رأسكِ فسُحرتِ بجسدي ووسامتي؟"

ابتسمت كارلين بتكلّف ثم رمقتهُ بنظرةٍ ساجية وأجابتهُ بجدّية:

"لم تكن تلك هي نيّتي، لكن كلامك وضّح لي أنّك تخطط لإغرائي بالفعل لذا خرجت عاري الصدر أمامي."

اقترب أليرون منها دون أن يتوقّف عن العبث بشعرهِ الحالك ثم تحدّث مُصحّحا لها كلامها:

-"هذه الغرفة هي غرفتي، لذا حتى وإن أردت التّجول في أرجائها عاريا لن يتمكّن أحد من منعي، هل تريدين أن اثبث لك ذلك؟"

-"لن أُمانع الأمر، فأنت لست أول شخص أراه عاريا"

فقط حين وافتهُ بذلك الرّد الحارق تغيّرت ملامح وجههِ الهادئة إلى أخرى غاضبة فمنحتهُ هي إحدى ابتساماتها الباردة ثم غادرت المكان ووقفت في نهاية الرّواق لتُمتّع مسامعها بأصوات التّكسير الصّادرة عن الغُرفة!

ظلّت على حالها لدقائق لكن حين شعرت بالملل هزّت رأسها بسخرية ونزلت عبر الدّرج ثم التفتت على يسارها وولجت إلى ذلك الصّالون الفاخر ثم من هناك انتقلت إلى قاعةِ الطّعام، أين لمحت أفراد العائلة وهم جالسون مع رجل وامرأة كانا قد انضمّا إلى مائدة الطّعام قبل دقائق وبطبيعة الحال هي لم تتعرّف عليهما...

تقدّمت بدورها من المائدة ثم جلست في مكانها المعتاد بعدما ألقت التّحية على الجميع فتغيّرت ملامح سيلينا الهادئة إلى أخرى حانقة وقد كانت على وشكِ قول شيء ما لكن نظرة التّحذير التي خصّها بها ديفيد جعلتها تصمتُ مُباشرةً...

"يورغن يقول أنّه وجد ابنة باتس فاقدة للوعي في منزلها، وهو آتٍ بها إلى القصر الآن، أتُريدني أن أحقّق في طبيعة الهجوم الذي تعرّضت له تلك الأخيرة؟"

قالها ذلك الهادئ الوسيم الذي اتّسم بعينينِ زرقاوين امتزجتا بخُضرةٍ مثيرة للاهتمام، ومُيّز ببشرةٍ برونزية خالية من العيوب وكذا شعر بُنّي كثيف تناثر على وجههِ بشكلٍ سيجعلك تظنّ أنّهُ لوحة أسطورية أبدعتها ريشة فنّان لا يستمدّ إلهامهُ سوى من عالم الجمال والمثالية...

حرفيا وسامة ذلك الرّجل لم تكن طبيعية، وحضورهُ الذي فرضتهُ هالتة الباردة الجلِيدية لم يكن بالشيء الذي قد يتمكّن المرء من تجاهله بطريقة عادية فكل شيء متعلّق بهِ سيجذبكَ إلى الهاوية الفاصلة بين المنطقيّة وانعدامها وبين أراضي السّكينة وما يُناقضها...

تنهّد ديفيد كاسراً الصمت الذي احتل القاعة بعد كلام فيتوريو إذ شابك أصابع يديهِ ببعض وعلّق ببرود:

"لا أعلم من أين ظهر أعداء باتس ولا أريد أن أعرف طبيعة ما يحدثُ الآن لذا لا تشغل نفسك بالأمر، باتس أوصاني على ابنتهِ وبما أنّه شخص ساهم في تطوير أعمالنا القانونية دون غيرها فمن واجبي أن ألبّي طلبهُ.."

تنهّدت سيلينا بأسىً بعدما حلّلت كلام والدها في رأسها:

"كدتُ أن أموت خوفاً حين وصلني اتّصال لورا قبل ساعة، من الجيّد أن يورغن وصل في الوقت المناسب وإلّا.. "

صمتت لعدم قدرتها على الإكمال فهزّ ديفيد رأسهُ بهدوء ولم يجبها بشيء بل فقط حدّق بكارلين ليجدها تعبثُ بصحنها دون أن ترسم أيّ تعبير على وجهها...

خيّم الصّمت على المكان وعاد الجميع لتناول طعامهم لكن ذلك الصّمت فقد سيطرته وطُرد ما إن تحرّكت صاحبة الشّعر البلاتيني الثلجي القصير من مكانها ثم حملت صغيرها البالغ من العمر سّنة ونصف وعلّقت عينيها البنفسجيّين على ديفيد لتتكلّم بنبرةٍ هادئة جدّا:

"أستميحكم عُذراً لكنّني منكهة من السّفر، سأصعد إلى الغرفة لأرتاح قليلاً.."

أومأ ديفيد بهدوء فحدّق فيتوريو بزوجتهِ إيمالينا رامقاً إيّاها بنظرةٍ متفحّصة، فصحيح أنّ تعبها في حقيقتهِ كان ناتجاً عن السّفر لا غير لكنّهُ من النّوع الذي يقف وقفةً متأنّية أمام أصغر الأمور التي تخصّها، بالنّهاية هي زوجته....

حرّكت إيمالينا رأسها مُطمئنةً ثم غادرت قاعة الطّعام مع صغيرها ليعود الجالسون إلى تناول طعامهم من جديد  ثم بعد دقائق قليلة من الصّمت ولج إلى القاعة ذلك الرّجل الوسيم الملتحي الذي امتاز بعينين زرقاوين تُشبهان البحر الثائر في غموضهما والجليد القاسي في برودتهما....

شعرهُ الكثيف كان مائلا إلى البُنّي أكثر  ممّا هو مائل إلى الأحمر بينما بشرتهُ بدت أقربُ إلى ذلك الحدّ الفاصل بين السُمرة والبياض إذ كانت مزيجاً ترنّح بينهما...

ترك الأخير كتف الفتاة التي أتى بها إلى القصر، الفتاة عينها التي تميّزت ببشرةٍ سمراء صافية وعينين عسليّتين صافيتين إضافة إلى شعر أشقر طويل....

ملامحها الشّاحبة كانت طفولية بشكلٍ ناقض حقيقتها، بينما جبينها كان مُغطىً بلاصقة طبّية..

ركضت سيلينا إليها وعانقتها بخوف ثم ابتعدت عنها مُتفحّصة إيّاها باهتمام لم تُحاول إخفاءهُ حتّى:

"لورا، اخبريني هل أنتِ بخير! أتريدينني أن أستدعي الطبيب!"

نفت لورا برأسها وهي تبتسمُ لها بلُطف:

"الأمر لا يستحق سيلينا فأولئك الحمقى لم يتمكّنوا من إيذائي، حين اعتدى عليّ أحدهم بالضرب فقدتُ وعيي جرّاء الخوف لكن بمجرد استفقتُ من جديد وجدتُني في سيّارة يورغن...من الجيّد أنّه وصل في الوقت المناسب..."

كادت لورا أن تكمل سرد الأحداث على سيلينا لكنّها اِرتاعت من سؤال فيتوريو المُفاجئ:

"اخبرني يورغن، هل استطعت أن تعرف من تسبّب في هذا الهجوم؟"

نفى الآخر مُحرّكاً رأسه بهدوء شديد:

"لم أصل إلى شيء، فعندما بلغتُ القصر لم أجد سوى جسد لورا وهو ملقىً على الأرض.."

ككل مرّة، فيتوريو لم يظهر أيّ تعبير على ملامحه رغم أنّه في حقيقة الأمر كان مندهشاً ممّا سمعه وطبعاً يورغن لم ينتظر شيئاً ما منه بل فقط جلس إلى المائدة بهدوء تزامناً مع دخول أليرون إلى القاعة...

اتّسعت ابتسامة لورا ما إن لمحت ذلك الأخير ودون وعي منها رفعت يدها مُلوّحةً له:

"مرحباً أليرون! لقد مضى وقت طويل على آخر لقاء."

هزّ الأخير رأسهُ بهدوء شديد ثم تخطّاها بطريقةٍ جعلتها تموتُ غيظاً ووقف أمام والدهِ ليهمس لهُ بشيء ما قبل أن يغادر القاعة برفقة فيتوريو الهادئ ويورغن الذي ظهر الانزعاج على تقاسيمه، انزعاج لم يكن بادٍ عليهِ قبل ثوانٍ!

تنهّدت سيلينا بخفّة وربتت على كتفِ لورا تُحاول تهدئتها ثم سحبتها معها إلى المائدة وجلست إلى جانبها في صمتٍ رهيب لكن تزامناً مع انسحاب كيفن وديفيد من المائدة علّقت تلك الشّقراء عسليّتيها صوب كارلين بعجرفة ثم تحدّثت بنبرةٍ غزتها الوقاحة:

"لم أعلم أنّ ذوق أليرون سيّئ لهذه الدّرجة"

وضعت كارلين الشّوكة جانباً ثم أسندت يديها على ظهرِ الكرسي وناظرت لورا ببرود وعدم اكتراث:

"وأنا فكّرت بنفسِ الأمر حين رأيتكِ لكنّني أدركتُ أنّ ذوقه لا يخلو من المثالية ما إن علمتُ أنّه لم يمنحكِ شرفَ التّحدث إليهِ حتّى."

لقد كان من الواضح أنّ كلام كارلين أدهش لورا وبشدّة فهي لم تعلم أنّ كيفن المجنون كشف أمام زوجة أخيه كلّ الأسرار لأنّه حين كان جالساً معها  يدّعي الهدوء كان في حقيقة الأمر يحكي لها عن لورا وعن محاولاتها الفاشلة في جذب انتباه أليرون، أليرون عينه الذي لم ينتبه لها ولو لمرّة واحدة فمعلوم أنّ ذلك السّفاح لم يدخل في علاقة مع أية أنثى قبل أن يتزوّج كارلين بغتة...

كارلين بحدّ ذاتها لم تصدّق ذلك لكن جدّياً الكلام الذي قالهُ لها عن لورا جعلها ترغبُ في إلقاء نفسها من الشّرفة جرّاء القرف فحرفيّا أكثر ما تكرهه في الكون بعد الخيانة هو وجود أنثى قد تركض خلف رجل ما كالكلبة.....الأمر يلعبُ بأعصابها....

تبّا، لو أصبحت تلك الأنثى عدّاءة وكسبت ثروة هائلة من خلال موهبتها في الرّكض لكان أفضل بكثير من إضاعتها للنّعمة في مُلاحقة رجل....الأمر مزعج بحق.

احتست كارلين كأس النّبيذ دفعة واحدة ثم نهضت عن مكانها وغادرت القاعة لتقف أمام سيارتها السّوداء الفاخرة التي أحضرها سائقها قبل ساعات فركبتها مُنطلقةً بها إلى قصر لومباردي، ذلك القصر الذي بلغتهُ بعد دقائق قليلة من القيادة فعبرت بوّابتهُ الواسعة وتوقّفت بسيّارتها أمام النّافورة لتترجّل منها وتمشي بهيبةٍ ووقار في أرجاء تلك الحديقة الواسعة...

اصطدمت عينا كارلين الباردتين بوجهِ كلارك الوسيم ما إن توغّلت في المكان فابتسم لها الأخير ببلاهة وتقدم منها مُرحّباً:

"أهلا زعيمتي، كيف حالك! من الجيّد أنّكِ أتيتِ."

وضعت كارلين يديها في جيب سترتها ثم رمقت كلارك بنظرة شزراء:

"نادني بزعيمتي من جديد كي أقتلع رأسك الفارغ وأرميهِ لأطفالي الصّغار."

قهقه الأخير بخفّة ثم طرحَ سؤالهُ عليها وهو يعقد حاجبيه:

"صحيح كارلين على ذكر الصّغار هل تُريدين أخدهم معكِ إلى قصر المالدونادو؟"

أومأت لهُ بهدوء ثم راحت تتجوّل معهُ في الأرجاء بينما تتبادل معهُ أطراف الحديث فكلارك لم يكن مساعد والدها فحسب ولم يكن مجرّد حارسٍ شخصي كُلّف بحمايتها منذ سنوات بل كان أكثر من ذلك بكثير لطالما اعتادت كارلين على تواجدهِ معها منذ الطفولة....

أجل.. منذ الطّفولة، فعندما قام والدها بإحضارهِ إلى القصر لأول مرّة كان هو في سن العاشرة بينما كانت هي في سن السابعة ممّا يعني أنّها حين عرفته كانت لا تزال ترتدي طباع الطفلة البريئة، طفلة لم تكن تعرف للإجرامِ طريقاً...

لاحظت كارلين توتّر كلارك المبالغ فيه فسحبت سيجارة لنفسها ووضعتها بين شفتيها ثم تحدّثت بهدوء وهي تُشعلُ رأسها:

"أخبرني كلارك، كيف حالك مع والدي، ألم يحاول قتلك بعد رحيلي؟"

ضحك الأخير بخفة ما إن تذكّر معاناته مع زعيمه ثم وافى كارلين بردٍّ متذمٌر:

"أرجو أن تُصدّقيني حين أقول لكِ أنّه رفع مسدّسه صوبي ثمان مرات بعد رحيلك!"

حرّكت كارلين رأسها باستهزاء ثم ضربت كتف عديم الحظ بقوة ليس ببسيطة ..تبا وهل توقع أن يحصل على شيء لطيف منها كأن تربت على كتفهِ بحنان أنثى! طبعاً لا...مستحيل...إن حدث ذلك سينتحر دون أدنى شك لأنّه لن يتحمّل نسخةً لطيفة من تلك المخلوقة الغريية...

أساساً هو لم ولن ينجح في تخيّلها وهي تتصرف كفتاة طبيعية لأنها وببساطة لم تكن كذلك....

هي لم تعش حياة طبيعية كي تغدو طبيعية فقد تربت وسط الوحوش وكبرت بين الذكور، كبرت بينهم تتعلم مختلف أساليب القتال التي استصعبها حتى الرّجال...

كارلين بعد ذلك اليوم المشؤوم دخلت إلى مدرسة خاصّة بتدريب صغار المافيا على فنون القتال وطبعاً لجمال حظّها تلك المدرسة كانت الأفضل على الإطلاق لكنّها كانت خاصّة بالذّكور فقط...

بصراحة تلك المشكلة لم تكن عظيمة بالنّسبة لها  لأنّها وبإصرار منها جعلت والدها يجبر مُؤسّس المدرسة على قبولها وبطبيعة الحال لأنّ والدها يكون حاكم اللّاقانون في إيطاليا، الأمر أُجرِي على أتم وجه فكارلين لومباردي دخلت تلك المدرسة بالفعل وعاشت مع أولئك الذكور لتشهد على تحوّلهم إلى رجال بعد سنوات عدّة وبطبيعة الحال كل تلك الأمور أثّرت على شخصيتها لأنّها دون أن تعي أصبحت شبيهةً لهم في تصرّفاتها....

انتهت كارلين من تدخين سيجارتها فحدّقت بكلارك بهدوء ثم كلّمته بنبرةٍ باردة:

"اخبر الرّجال أن يأخذوا صغاري إلى قصر المالدونادو في الحال، لا تنسَ أن تُراقبهم جيّداً وهم يفعلون ذلك فكما تعلم صغاري لا يرتاحون لغيري."

أومأ كلارك بهدوء ثم غادر المكان قصد تولي مهمة نقل كِلاب كارلين أو صغارها كما تُسمّيهم إلى قصرِ السّفاحين فأدخلت هي يديها في جيْبيْ بنطالها وراحت تمشي بتلك الطّريقة التي ستجعلك تشكّ في حقيقتها كأنثى....

عبرت الأخيرة بوّابة القصر الثانية لتجد نفسها في المدخل الذي غزتهُ القطع الأثرية المسروقة من الدّولة ثم مباشرةً اِلتفتت على يسارتها وولجت إلى ذلك الصّالون الكلاسيكي الفاخر، أين تمركزت فخامة الأسود وألقت سحرها في الأرجاء بعفويّة، فالأرائك السوداء الجلدية توزّعت في القاعة الواسعة بأناقة تماما كما احتُلّ الوسط من قبلِ طاولتين فاخرتين كانا من نفس اللّون هذا دون أن نغفل عن بقية الأثاث الذي أضفى لمسةً سحرية إلى القاعة، لمسة صوحبت بظُلمةٍ عبّرت عن شخصيّة ذلك الزّعيم الذي انشغلَ في قراءةِ كتابٍ ما وهو يجلس على إحدى الأرائك كما لو أنّهُ ملك زمانه.

اقتربت كارلين منه ثم جلست إلى جانبهِ وأسندت يديها على ظهر الأريكة تزامناً مع طيّها لقدمها اليُسرى على حِساب ركبتها اليُمنى فوضع كريستوفر ما كان يقرأه جانباً وعلّق عينيهِ صوب ابنته بهدوء:

"كارلين! يا لها من مُفاجأة."

ابتسمت كارلين بهدوء ثم رفعت رأسها قليلاً وحدّقت بوالدها لتضمحلّ ابتسامتها تلك تزامناً مع وقوع بُنّييها على ملامحه الشّاحبة فوجهه الذي اعتادت على رؤية النّور فيه أصبح مُصفرّا كالكتاب الذي كان بين يديهِ قبل ثوانٍ بينما عيناهُ الحادّتين المخيفتين احتلّتهما لمعةُ الضّعف والسّقم...

لقد كان من الواضح أنّ الزّعيم لم يكن بخير لذا وبمجرد ما استردّت برودها سألتهُ بجدّية:

"زعيم، لمَ أشعر أنّك لست على ما يُرام! اخبرني بصراحة ما الذي يحدثُ معك؟"

ابتسم الأخير بجانبية ثم رفع يدهُ الموشومة ومسح على وجنتيها يحاول أن يُطمئنها عن حالهِ:

"أنا بخير كارلين، لقد أمضيتُ اللّيل بأكمله في معالجة بعض المشاكل التي تعرّضنا لها مؤخّراً لكن لا تقلقي أنا بخير."

حدّقت كارلين بوالدها مظهرةً شيء من السّخرية في نظراتها:

"انظر إليك زعيم، هل تريدني أن أريكَ كم أنّك تبدو بخير!"

كان يودّ لو يجيبها بكذبةٍ ما لكنّها لم تسمح له بفعلِ ذلك فما إن أنهت كلامها ذاك سحبت هاتفها والتقطت صورة مفاجئة له ثم أدارت الهاتف إليهِ وسألته بجدّية:

"اخبرني فقط زعيم هل ترى أن هذه الصورة تتطابق مع مواصفات ذلك الرّجل الذي أخبرني أنّه بخير ولا يشتكِي من شيء؟"

قرّب كريستوفر الهاتف منهُ ثم نفى برأسهِ بكلّ جدّية:

"بصراحة لا، بل تتطابق مع مواصفات شابّ وسيم أهلكهُ الهوى، أنا حقّا أبدو عشرينيا طائشاً في هذه الصّورة..."

رفعت كارلين حاجبيها كما لو أنّها تبدي صدمتها من الثّقة التي يمتلكها والدها ثم ضحكت لثانية واحدة فقط ونوت سحب هاتفها من جديد لكن كريستوفر أبى ذلك إذ تمسّك بالهاتف وتكلّم بجدّية:

"دعينا نلتقط صورة معاً، فكرة جميلة أعلم."

مهلاً لحظة....

تلك كانت المرّة الأولى التي يطلب فيها كريستوفر من كارلين شيئاً كذاك لذا لن أكذب إن قلت أنّ صدمتها في تلك اللّحظة كادت أن تخترق قناع برودها وتظهر لترى العالم!

حرفيّا هي ومنذ أن تخرّجت من مدرسة الشؤم تلك لم تعد تربطها بوالدها سوى مجموعة من الأوامر والطّلبات هذا دون أن نُهمّش بعض من حكايات الماضي الطّريفة التي كان يسردها عليها أمام زجاجات الكحول لذا للمرّة الألف سأخبركم أنّها لم تعِ ما قاله لها إلى أن سحبها إليه وعانقها ملتقطاً تلك الصّورة العفوية معها ثم رمى الهاتف إليها وابتسم بغرور:

"محظوظة أنتِ عزيزتي كارلين، الآن أصبحتِ تمتلكين في هاتفك صورتين لرجلٍ لن تتكرّر وسامته في هذا العالم مرّتين."

مرّة أخرى ضحكت كارلين بخفّة ثم حدّقت بالكتاب الأصفر الذي كان يقرأه والدها قبل قليل وتساءلت عاقدةً حاجبيها:

-"اخبرني زعيم، أهذه رواية جديدة؟"

-"أجل، الجزء الأول منها صدر قبل سبعة عشر عاماً بينما الجزء الثامن صدر قبل شهر واحد فقط، والدتكِ كانت تحبّ هذه الرواية كثيراً وقد نجحتْ في قراءة أوّل جزئين منها بالفعل لكن الحظ لم يسعفها كي تطّلع على الباقي لذا قرّرت أن أكمل القراءة بدلاً عنها.."

أجل، هو أكمل قراءة تلك الرّواية فقط من أجلها، لطالما اعتاد أن يزور قبرها بعد كلّ جزء ينتهي منه، يزور قبرها وهو يحمل باقة الورود السّوداء التي تفضّلها في يد وقارورة الشّامبانيا التي تحبّها في اليد الأخرى ثم دون أن يشعر بالملل يُمضي ساعات أمام قبرها فقط كي يسرد عليها أحداث الرّواية التي قرأها بدلاً عنها....

كان يفعلها وهو يؤمن بحقيقة أنّها تستمع إلى كلماته الهادئة فربّما هانا غادرت العالم لكنّها لم تغادر قلبه يوماً، هي الآن تعيش بداخله....

استفاق كريستوفر من شروده ليعلّق عينيه على كارلين فلاحظ أنّها أقتنت البرود وأرجعته إلى ملامحها من جديد لذا حمل بدوره الكتاب وفتحهُ على صفحةٍ لم تكن بعشوائية ثم ابتسم بجانبية ونبس:

"انظري، أراهن أنّ والدتكِ كانت ستعجبُ بهذه الفقرة وطبعاً أنا كنت سأجعلها تعيشها في الواقع دون أدنى شك.."

ابتسمت كارلين بهدوء ثم تناولت الكتاب وقرأت الفقرة المحاطة بإطارٍ رسمه والدها لتضحك بعدم تصديق:

"المحامية ستيفانيا تسبّبت في إدخال حبيبها إلى السّجن فقط كي تتمكّن من تحقيق حلمها الهوليودي وتنقذه بطريقة مليئة بالإثارة!"

ضحكت من جديد تتخيّل لو أنّ الموقف حدث مع والدها بعدما جاوز السّتين، حرفيا ذلك الأمر أضحكها وأخرجها من هدوئها لكن حين تذكّرت أنّ الأمر لن يحدث وأنّ والدتها ليست موجودة من الأساس كي تجعله يحقّق لها رغبتها توقّفت عن الضحك وراحت تحدّق بوالدها في هدوء، هدوء لم يخترقه سوى كلارك الذي دخل إلى الصالون بغضبٍ قليلاً ما يظهر عليهِ، غضب اختلط بخوفٍ من ردّ فعل زعيمهِ حين يسمعُ الخبر الذي أتاه بهِ...

عقد كريستوفر حاجبيهِ باستغراب ثم هزّ رأسهُ دلالةً على رغبتهِ في معرفة ما حدث مع كلارك فازدرد ذلك الأخير ريقهُ بصعوبة....

•••••••••

نهاية الفصل الثاني>>>>

أحممم ما توقعاتكم للشخصيات الجديدة (فيتوريو، إيمالينا، يورغن)  هذه الشّخصيات لم تكن في النسخة السّابقة.

رأيكم بالأحداث؟ وتوقّعاتكم للأمر الذي تسبّب في إغضاب كلارك....

Continue Reading

You'll Also Like

138K 8.3K 23
~~ اشعر بالألم يخترق اجزاء صدري بلا رحمه حقاً ديميتري ؟ أهي مهمة اكثر مني ؟ انت لم تراني لعشر سنين ؟ عشر سنوات .. وهكذا يكون لقائنا ؟ هذا كان ا...
918 77 4
✩︵⏜︵​✩︵⏜︵​✩︵⏜︵​✩ في أعماق الظلمات، قد تبحث عن شريط من النور لينير طريقك، لتجد نفسك تسير على درب مختلف، دربًا مليئًا بالغموض والتحديات، ولكنك تتحدى هذ...
3.7M 54.8K 66
تتشابك أقدارنا ... سواء قبلنا بها أم رفضناها .. فهي حق وعلينا التسليم ‏هل أسلمك حصوني وقلاعي وأنت من فرضت عليا الخضوع والإذلال فلتكن حر...
11.7M 925K 70
صرت اهرول واباوع وراي شفت السيارة بدأت تستدير ناحيتي بمجرد ما يجي الضوء عليه انكشف أمامهم نجريت من ايدي وگعت على شخص ردت اصرخ سد حلگي حيل بعدها أجان...