صـــه || HUSH

By merry_ah

95.7K 7.2K 7.8K

{K.TH&J.JK} -حيثُ تحتضِنُ العاصمة لندن القصر الشامِخ لأعظم عائلة سحرة في التاريخ، عائلةُ السيد كيم، دافنةً... More

{مَــدخَــلْ.}
{إعلان الرواية.}✨
{ رَقصَـة - الـرَجُل المُقنَـع. }
{ خَفـيفُ اليـد - عَـرضُ الضـاحيـة }
{ مَتـاهة - عَـرينُ الأخـوَين }
{ عَـشاء - دَاكِـنُ الـعَينين وَثَـقيلُ الـصَوت. }
{ فُرشـاة - أشقَـرٌ مَخملـي. }
{ دَعـوَة - غمـوضٌ وفضـول. }
{ المَاضي - سِـرٌ مَكنون. }
{ تَفسيـرات - قناعُ الأرنَـب. }
{ نَـوايا - ابنُ الـدوق. }
{ حقائق - تِلك الإشارات. }
{ الجناحُ الغربي - مواجَهة أولـى. }
{ ذاتَ الحُسن - سِـرُّ الليدي. }
{ هَمَسـات - قرارُ الـوَريث. }
{ زِيـارة - مكنونـاتُ قَلـب. }
{ تشتُّـت - خطُّ البدايـة. }
{ حِكايـات - الطريـقُ لِلمجـد. }
{ أفكَــار - ثعـابينٌ فضيّـة. }
{ صحـوَة - انطِلاقـة جـديدة. }
إعلانُ الباب الثاني/ فصلُ الصيف.
{بنينُ الـعتمة -مَـلِكُ الرُقعـة.}
{طلَـب -شوكـولا حُلـوَة.}
{خطـوة -غُــرابٌ داكِــن.}
{لُـعبة -نبـضٌ قديـم.}
[وعـود- رابِطـةُ كيـم.]
{التـوأم-همـسٌ وتـاروت.}
[جـولَـة- ذاتَ الكـراميـل.]
{خفايا -الماضي والحاضر.}
{الشـروق-ما يقبـعُ في القلـوب.}
{مُفتـرَق-الـرحلة والنتيجـة.}
{خيـوط -على الأعتـاب}

{افتتاحيّـة -أرنبُ القَصـر.}

1.5K 131 69
By merry_ah

.

.

-----------------

-الصيفُ يتجلّى فتيًا، والأيام المُشمسةُ الطويلة تبدأ.

{الفصلُ الأول من الباب الثاني}
-19-
[العيونُ أحيانًا لا تَرى بالوضوحِ الذي يوفّره مرأى القلوب.]

-----------------

.

.

ضوءٌ ساطِع في الأُفق.. يغشو المكان بوفرةٍ وسخاء من شمسٍ حيوية، وكلُّ ما تستطيعُ رؤيته هو النورُ الذي يعبُرُ جُفنيها الثقيلين. تستطيعُ شمِّ رائحةِ الطين لشوارِع العاصمة المُبللة، تُسافر مع النسمات العليلة التي تُداعب بشرتها بدفئٍ ناعم، تسمعُ صهيلَ الجيادِ وهي تقرعُ الطرقات تتبعها عجلاتُ العربات المتجوّلة. 

كان يُمكنها سماعُ تصفيقٍ وبهجةٍ تنتشر في الأجواءِ مرحًا، لكن كُل تلك الأصوات كانت تبدو.. بعيدةً ومكتومة لأُذنيها، كما لو أنها تضع شيئًا فيهما. أفكارها هادئة.. ورأسها لا يضعُ جهدًا هذه المرة ليُفكر، مُهتمّةٌ فقط بأشعةِ الشمس الدافئة على وجهها وهي تُريح جسدها الصغير.

[لقد كنتَ صبيًا مُطيعًا هذا الاسبوع! جميعكم كذلك! أحسنتم عملًا أيُّها الفتيان التائهون!]

همم.. ما هذا؟ تمكّنت للتو من سماعِ صبيٍّ يهتُف بحيويّةٍ لم تعهدها في روحٍ من قبل، كان واضحًا لها من بين الأصواتِ الأُخرى كما لو أنه جاءَ ليزرعَ البهجة. هذا يُذكّرها بشي.. نعم أنه يُذكّرها بالعروض السحرية الصغيرة على الناصية البعيدة هناك، حيثُ كان الأطفال يتجمهرون معًا ويضحكون مستمتعين.

هذا صحيح.. لقد استيقظت صباحًا لتأتي وترى عرض بيتر بان اليوم، كان هذا صوتُ جونغكوك.. فهي لن تتوهمه أبدًا. أرادت بشدة أن تفتحَ عينيها وترى ذلك المنظر مُجددًا.. الكثير من رؤوسِ الصغار أمامها، يُصفقون معًا بمُتعةٍ جمّة فيما هي ترفع ناظريها.. ويُمكنها أن ترى بسمةً أرنبية واسعة، عيونٌ تلمع بالحُب ويدين خفيفتين تمرحان مع جمهورهما..

لكن ذلك لم يحدُث، لم تستطِع أن تكشِف النقاب عن عينيها.. فقد كان نورُ الشمسِ مُغريًا جدًا لجُفنيها، كما لو أنه يسدُّهما تمامًا بشعورِ الراحة ذاك، يُرسِل الاسترخاء والخدرِ لأطرافها بدفءٍ وهناء.. فيُجبرها وحسب على أن تبقى مكانها مُغمّسة بمشهدِ الضوءِ الذي يُغرقها.

[هذا ليس عدلًا، لمَ الفتية فقط من يحق لهم أن يكونوا ضمن المجموعة؟]

[أُريد أن أكون أول فتاة تنضم لفرقة الفتيان التائهين! مثل جاين!]

آه نعم.. كادت تنسى هذه المحادثات الجانبية، لطالما ظنّتها لطيفة على الدوام، فالكثير من الفتيات الصغيرات كُنّ يتخاصمنَ بشأنِ ذلك، يرغبنَ أن يُميّزهن بيتر بان خاصتهن بشيءٍ أيضًا بدلًا عن الفتيانِ وحسب، ولكن.. تلك الأصوات الطفولية لا تزالُ تترددُ باهِتةً لأُذنيها، مُختلفةً تمامًا عن الصدى الشبحي الناعم الذي يُرافق صوتَ ذلك الصبيِّ بالتحديد..

تتساءلَ أيَّ يومٍ هذا؟ ماذا فعلت قبل أن تأتي إلى هنا؟ لا يُمكنها التفكيرُ في شيءٍ حقًا برأسها الثقيلِ هذا.. ولا أن تتحرك بهذا الجسد الهادئ الذي قرر أن يسترخي تحت الشمس.

يومٌ صيفي..
يُمكنها أن تتخيّلَ اللون الأسود الخافت الذي يخرُج من المداخن الطابوقية ليُعكِّر السماء الزرقاء، وتسمع أحاديثَ العابرين الضبابية فيما يرنُّ جرس أحد المتاجر في البعيد، أغاني الأطفال وهم يلهون معًا وحتى أنها تتخيّلُ لمعةَ الشمس القوية في عينيها.

[بيتر بان! جونغكوك!]

اوه.. أحدهم يُناديه، أحدهم يُنادي ساحِرها الصغير، يُمكنها تخمين أنه طِفلٌ متحمّس جاءَ يعدو، تسمعُ خطواتًا تركض مُترددةً في أُذنيها، وهذه المرة.. يُمكنها تخيُّلُ هيئته، يُمكنها رؤيته ينحني ليجلس على إحدى رُكبتيه حتى يصلِّ إلى مستوى ذلك القصير..

مرّ زمن.. لكنه هناك يرتدي الثياب نفسها حين رأته آخر مرة، قفازه الجلدي الأسود في يده، وحذاؤه الصحراوي المُفضّل الذي يجلب له الحظ. شعره ذو اللونِ الخشبي الدافئ يتمايل تحت الشمس، ولكنها لم تستطِع أن ترى وجهه حينها.. لأنها ترى ظهره من بين النورِ المُشع في عينيها، يضع يدًا على كتفِ هيئةٍ لم تستطِع تخيُّلها بالوضوحِ نفسه.. لكنها تفترض كونه الصغير الذي حادثه بيتر بان بحنوٍ تذوبُ له القلوب..

[نعم أيُّها اللطيف؟]

لا يُمكنها أن تنسى كيف كان يُحادِث الجميع بالنبرةِ الدافئة التي لا تمِل من احتواءِ أحد، لذا كان صوته يُشبع أُذنيها وقلبها حتى دون الحاجةِ لأن تراه، يكفيها وحسب أن تعلم إنه هناك.. في تلك الساحةِ القريبةِ من مكانِ جلوسها يحظى بمحادثاتٍ مع جمهوره البسيط، وجوده وحده كان كافيًا..

[هل يُمكنك أن تُخرِج أمي من القبعة؟ كنتُ أحادثها لفترةٍ الآن ولم تُجِب عليّ بعد.]

اوه.. أجل إنها تذكر ذلك، تذكُر يومَ جاءَ طفلٌ يتيم لجونغكوك طالبًا منه أن يُحقق أُمنيته برؤيةِ والدته.. وهذا فطرَ قلبها تمامًا. لم ترى أبدًا وجه الساحِر الصغير من هناك، لكنها كانت تعلم.. أن خافقه تمزّق لأشلاء في ظرفِ ثانية واحدة، لدرجةِ أنه كان عليه أن يستعينَ بالصمتِ.. فتتخيّل تلك العيون البُنية مفعمةً بلمعانِ النجوم التي انطفأت حُزنًا.

لو كانت مكانه.. لما علِمت أبدًا كيف تجاري الطفل، لكن.. بيتر بان كان يعلم، رُبما احتوى قُطع قلبه المكسور بابتسامةٍ حيوية ودافئة في ذلك اليوم، يُقدِّم باقةَ ورودٍ سحرية أخرجها خصيصًا لزائره الذي لا تذكره..

[ماذا عن هذا الاتفاق يا صغير؟ ستذهب وتُهدي والدتك هذه الأزهار.. وتُصلّي داخلك لتُحادثها. أنا متأكد أنها ستسمعك هذه المرة، طالما أمسكتَ بقلبك لن يُهم مدى ارتفاع صوتك.. لأن الكلمات ستصِلُ قلبها!]

ابتهجَ صوته يُلاطف القلوب بعد صمتٍ مؤلم.. وقد كان مُحقًا، رُبما لن يجعل ذلك أيَّ أحد يرى من فقدهُ عزيزًا، لكنها كانت أكثرُ فكرة دافئة سمعتها إيميليا وقتها.. لدرجةِ أن كلماته بقيَّت عالقة بوضوح في ذاكرتها كُلّما تربطُ الأمر بعائلتها، أولئك الغالين من رحلوا..

كان ذلك إحدى المواقف التي شهدتها مذ أصبحت فردًا من جمهورِ الناصية، لكنها لم تستطِع أبدًا أن ترى شيئًا.. فكُلُّ ما حدثَ نسجته ذاكرتها كتخيُّلٍ أمام عينيها الغارقتينِ بالنور، كما لو أن كُل شيءٍ ضبابيُّ وبعيدٌ عن متناولها رغم أنها شعرت لوهلة بأنها تجلسُ هناك.. على مقعدٍ خشبي تحت الشمس.

غريب.. لم تعُد تستطيع تخيُّله، فقد اختفت الأصوات وابتعدت راحلة، وكأن المشهد يخُفت من جديد ليُحيلَ محيطها واقعًا، يسلُب منها الرخاءَ والشعور بالثُقل..

[آنسة إيميليا؟]

لمعَ العسلُ في عُمقِ عينيها.. كما لو أن ملعقةً ذهبية حرّكت ركوده. رّفت جفونٌ مُزيّنة برموشٍ حالكة، رقيقةٌ كأجنحةِ الفراشات، ورمشت تسِرُقُ نفسًا صغيرًا عندما عادت الروحُ لها مُدرِكة.. بأن هُنالِك من نادى اسمها. جسدها يتأهّب بِخفة فورما عَلِمت أوصالُها أنها كانت تغرق في رخاءٍ عميق.. وأُذنيها توقظانها أخيرًا حين نجحَ الصوت الناعم من اختراقِ مسمعيها. 

شرودها ولّى.. والمشهدُ حيّى عدستَي الآنسة من جديد عندما أشرقت شمسُ الظهيرةِ الناعسة في مرئيها. رأت انعكاسًا لامعًا لسطحٍ أملس كادَ يكونُ كمرآةٍ صافية.. وصورةٌ لأُنثى تُحدق فيها برمشاتٍ صغيرة تُقلِّد ما تفعل، لم يكُن هذا صعبًا.. مِذ أن أطرافها ثابتة، ساكِنةُ الملامح، عسليةُ الشعر..

 إنها هي، كانت تنظرُ في انعكاس صورتها على أرضيةِ رواقٍ تفرشُ عليه خطوطُ النورِ وهجها.. فتختلط الألوان الناعمة في المشهد، لون الذهب.. ونقاءٌ ملائكيٌّ ناصِع لقُماشٍ يُغلّف جسدها.
الأبيضُ يتمثّل بفستانٍ رقيقٍ كنسيجِ الغزل، ينسدل بانسيابيةٍ حريرية لمسافةٍ تتجاوز رُكبتيها بقليل، أنيقُ الانحناءاتِ وبسيطُ المعالِم كصفحةٍ تنتظِرُ حبرًا يُلطّخها، كلاسيكيٌّ يتغنى بترفٍ ورِقةٍ فيكتورية، جنبًا إلى جنب مع فردتَي الحذاء الناصع والصغير.. كما لو أنه صُنِع لخطواتِ فراشةِ باليه.

كانت ترمش بخفوتٍ كما لو أنها مسلوبةُ التركيز، تُتابِعُ نظراتها الضائعة بشرتها الحنطية المكشوفة من تحت أكمامِ الفستان القصيرة عبر الانعكاسِ هُناك.. فتُلاحِظ يدها الممتدة باتجاهٍ ما، تحمِل في كفّها بعض الأوراقِ المحتجزةِ معًا في ملفٍ داكِن، وبعد رمشاتٍ أُخرى من تلك العيون الشاردة.. تمكّنت من استيعابِ المشهد.

أخيرًا.. يُمكنها الآن رؤية هيئةٍ أُخرى تقِف إلى جوارها، كما لو أن ذلك الجسد ظهر للتو في الانعكاس ليُباغِتها، أو أنها ببساطة كانت لا تزال مشغولةً داخليًا بضيافةٍ تلك الذكرى التي حلّت عليها فجأة.. فلم تنتبه لمحيطها.

رفعت عينيها لتُحييهما بعد غفوتهما، حائرةٌ في السبب الذي جعلها تفقِد تركيزها وتُسارع للعودةِ إلى واقعها.. فانعكسَ الضوء عن الزجاجِ اللامِع، وومضت التُحفيات والأثاث الساكِن في عدستيها الّتين رُسِمت فيهما صورةٌ لوجهٍ صغير مشوش.. يرمشُ بتساؤلٍ حيثُ تُحدق فيها عيونٌ زرقاء كزجاجتين صافيتين، تحبِسانِ أمواج البحر.

شعرُها الأحمر كوهجِ نارٍ خافت يجتمِع معًا متفقًا على صُنعِ كعكةٍ مجعّدة بلُطف على رأسها، وزيُّها الرسمي يخلِط اللونين المتضادين، الأسود والأبيض، هِندامٌ ملكّي حتى بالنسبةِ لخادمة.. فأدقُّ التفاصيلِ المنقوشةِ فيه مُبهِرة. جسدُ الفتاة الناعم يقِف قريبًا منها.. ويدُها مُمتدةٌ بأدب مُعلّقة في الهواء حين لاحظت تجمُّد آنستها.. فما كان منها إلا أن تقِف هناك مشوشة بالكامل، بحاجبين معقودين تُحدقان فيها..
لقد كانت آنا.

يبدو أنها حاولت أن تسأل إيميليا ما إن كان هنالك خطبٌ ما، ولكن شرودها بهذا الشكل أمامها، كما لو أنها تخشّبت كآلةٍ تعطّلت على غفلة، جعلها ترتدي كُل تلك التعابير القلِقة.. خصوصًا وأنها لم تُجِب على ندائها حتى كررته مِرارًا، وها هي تنتفض برمشاتٍ صغيرة عندما التفتت نحوها إيميليا أخيرًا.. تُحدقان في بعضهما بصمتٍ غلّف الرواق بأكمله لثوانٍ، كما لو أن كلتاهما تحاولان استيعاب ما حصل للتو.

 أدركت إيميليا بأنهما تقفان معًا في رواقٍ ذهبي يمتدُّ إلى نهايةٍ لا تراها، محاوطتين بهدوءٍ ونورٍ خلّاب يجعلُ تفاصيلَ المكان الأثري تبرُق بوهجٍ من العظمة، وبعد رؤيةِ تعابيرِ آنا المشوشة.. استطاعت إيميليا توًا أن تُتابِع سيرَ الأحداث في رأسها سريعًا، وتتذكّرُ بأن آنا رافقتها عُقبَ تناولِ غدائها، وحيدةً كالعادة في غُرفةٍ واسعة فاخِرة وصامتة، وراحت تُخبرها بأنها انتهت من توظيبِ غرفتها..

وقبل قليل.. قبل قليلٍ فقط من سقوطها في ذكرى سحبتها عميقًا، طلبت منها أن تأخذ ذلك الملف الصغير وتُعيده إلى غرفتها فيما تتجه هي إلى مشغلها، كان هذا مسارها أليس كذلك..؟

لم تكُن متأكدة تمامًا.. لكنها سارعت في السيطرةِ على تعابيرها التي تُدقق آنا فيها بقلق، فقد فرّقت شفتيها في محاولةٍ منها للاطمئنان عليها.. إلا أن الآنسة غافلتها ببسمةٍ صغيرة.. فأوقفتها، تراها تُرخي وجهها وتستعيدُ تلك المعالِم الخافتة التي لا توحي حقًا بأي شيء، غير أنها تمنحها ابتسامةً ناعمة كشَفت القليل من وجنتيها.

لم ترغب أن تتحدث في هذا، لذا وببساطة.. مدّت يدها لمرةٍ أُخرى بعد نحو آنا، كأنها تُكرر طلبها، والخادمةُ الصهباء كانت مشوشة لا تزال تحتفظ بعُقدة حاجبيها الصغيرة، تودُّ أن تعلم بما جرى، ولكن بعدَ نظرةٍ متفحّصة أخيرة بتلك العيون الزرقاء.. علِمت أن آنستها تحاول تجاهل الأمر وتلافيه، فهي ترى تلك العدستين العسليتين خامِدتي البريق بالرغم من تلك البسمةِ على شفتيها.. 
يا للرماديةِ في رسمتِهما.. هل يُمكن لأي عينين أن تكونا فارغتين لهذه الدرجة؟ أم ربما.. أنهما فائضتين في الأفكار لدرجةِ أنهما لا تتمكنان من التعبير عن أيٍّ منها؟

 بدونِ إضافةِ كلمةِ أُخرى في المشهد.. امتدّت يدها أيضًا لتلتقِط الملف الذي كان ينتظر لوقتٍ طويل الآن، فتحكُم امساكه بحرص وتُقرّبه من صدرها، فيما تبقى اصابع إيميليا في الهواء لثوانٍ.. بعدها تتراجع نحو فستانها الناصِع. لم تختبِر آنا الكثير من الغرابةِ من شخصٍ لا ينتمي لعائلةِ كيم التي تخدمها، لذا رؤية تلك الآنسة ذات الشعر العسلي المنسدل على كتفيها يجعلها تتساءل.. 
هل حصلت على ما يكفيها من ساكني القصر؟

رُبما هي تموتُ من الداخل.. أو تُعيد إحياء نفسها، أحيانًا لا يُمكن تحديد الفرق بينهما في بشري حتى يحدُث أحدهما.

انحنت الخادمة بأدب لآنستها، تطلبُ منها الانصراف لتلبيةِ مطلبها سريعًا، فيما تُراقبها إيميليا بالابتسامةِ الناعمة ذاتها، تنتظِر منها أن تتركها وحيدة..
وهكذا.. تبِعت عيناها الهادئتان الرفرفة الصغيرة للقماش الأسود في زيِّ آنا في الرواق الذهبي، صوتُ خطواتها يجلبُ الحياةَ لثوانٍ قصيرة في المكان.. وتأخذها بعيدًا مرة أخرى حين بدأ وقعُها يتلاشى في البعيد، أكثر وأكثر.. حتى غرق مُحيطها في الصمت، وتبقى هي ساكِنة كالتُحفيات اللامعة هناك.

رفّ جُفنيها بخفوت.. وابتسامتها الصغيرةُ بدأت تتلاشى رويدًا، فيعودُ السكونُ مُرحِّبًا بتعاليمِ ذلك الوجه الحسِن، يستحلُّه وتُصبح تلك الفتاة ومن جديد.. هادِئة التعابير. هي رمشت عِدة مراتٍ وراحت تسرِقُ الهواء مُطوّلًا لرئتيها.. لتحاول استعادة تركيزها وإقدامها على المُضي بذلك اليوم، فتُطلِقُ زفيرها طاردةً معه ضيقَ صدرها.

استغلّت الهدوء في محيطها الترِف لتُعيد تنظيم أفكارها، ثم رفّ جفنيها بخفوتٍ لترفع ناظريها نحو النافذةِ القريبة، كبيرةٌ ولامعةُ الزجاج، تعكسِ وهجَ الشمسِ بلُطفٍ على عدستيها الّتين تشبّعتا برؤية المحيطِ الأخضر خارجًا. أُفقٌ سماوية لامتناهية في الأعلى.. ومساحاتٌ مُنعشة تلوحُ فيها الأزهار الملوّنة في الأسفل.

أحبّت صباحياتِ القصر، مهما بدا ساكنًا ومُريبًا.. ومهما افتقرَ لزقزقةِ العصافير المُبكرة أو أي صوتٍ يبثٌّ الحياة فيه.

رُغم الصمتِ العميق الذي يتربّص.. لكِن صوتَ الحفيفِ الصغير لم يهابه.. بل كان يلعبُ ناعمًا في البعيد، يُراقِص أوراق الشجر ويمرحُ بين أشعةِ الشمس المتوهجةِ بحيوية فوق عرشِ السماء، الغيومُ تهرُب.. والزُرقة المنتعِشة تملأ الأعالي.

إنه الصيف.

ابتسمت لوهلةٍ في سِرّها، شفتاها تتجهان معًا نحو زاويةٍ واحدة بهدوءٍ دافئ، وعينيها البُندقيتين تسكُنانِ بسلام عندما لمعتا تحت النور. كانت تستمتع بلحظةٍ صباحية أبدَلَت وجهها المُتعب بآخرَ مُستبشر، كما لو أنها تُفكر في مكانٍ ما داخلها.. أنها تظنُّ خيرًا في الأيامِ الصيفية المُقبلة، تريدُ أن تؤمن.. بهذه الفكرة.

الصيف.. متى كان آخرَ صيفٍ رأت فيه بسمةَ فايوليت؟ أو شعرت بمسحةَ يدِ دميان على شعرها؟ ماذا تتذكر عن والدتها التي كانت حبيسةَ غرفتها أغلبَ الوقت؟ غريب.. هذا يبدو وكأنه حدث منذ سنواتٍ طويلة، الآن وهي تقِف في مواجهةِ تلك السماء الزرقاء المنعكسة في عدستيها من خلفِ الزجاج.. تريدُ أن تتذكر أيضًا الصيفَ الذي هرولت فيه في شوارِع العاصمة، حتى تصِلَ إلى تلك الناصيةِ الصغيرة.. حيثُ كان يحدُث السِحر.

هدأت عيناها.. ولوّحت قممُ الأشجار في عدستيها بوهنٍ عندما زارتها ذكرى حُلُم الأمس، تمنّت لو لم يكُن مُجرد حُلم.. لكنه جاءَ ليُذكّرها بشيءٍ نسيته منذُ فترة، شيءٌ قاله ذا الابتسامةِ الأرنبية.
تتذكّرُ وجهه المُشرِق وعينيه المقوستين، وصوته الذي يهتِفُ مرِحًا لجمهوره الصغير..

(لا يُهم إن غابت الأمور عن أنظارنا، فهذا لا يعني أنها ليست موجودة! العيونُ أحيانًا لا تَرى بالوضوحِ الذي يوفّره مرأى القلوب.)

تردّد صوتٌ حيويُّ في أُذنيها كشبحٍ يعدو في ممراتٍ خاوية، لكن من البعيد.. بدت كما لو أنها تستطيعُ سماع الكفوف الصغيرة تًُصفق له وتهتفُ سعيدة، ببهجةِ تلك الناصية التي أحضرَ إليها السِحر.

هذا صحيح.. لقد حلُمت به ليلةَ أمس من جديد، زارها ليتأكدَ أن يُذكرها بأكثرِ الأشياء أهمية، في حين أنها حقًا ظنّت.. بأنها كانت تجلسُ على الناصية.

نحنُ ننسى أن نؤمن ببعضِ الأشياء فقط لأننا لا نراها بأعيُننا، تلك التي لا نلتقطها باليد ستلمسها قلوبنا. أظنُ إذن أن مرأى الانسان الحقيقي أحيانًا هو القلب.. وهي كانت تُفكر أنها لن تكون عمياءَ القلب مًجددًا أبدًا. فقدت طريقها طويلًا، كل حواسها منطوية على ذاتها تحبسها بعيدًا.. لكن ليس بعد الآن، إنها تظن أنها أبعد خطوة يمكنها أن تتخذها في الوقت الحالي.

ربما اليوم وسِرًا.. كانت تعلم لمَ ارتدت الأبيضَ أيضًا، فهي تريد أن تُلوّن نفسها من جديد.. أن تختار لونها الخاص، وعسى أن يكون الصيف بدايةً حقيقية لرحلتها في ذلك.

ابتسمت وقتها بخفوتٍ للشمس.. تُحيي الأشجار في عدستيها بشفاهٍ مقوّسة للأعلى أخيرًا، وهجٌ هادئ في تلك الابتسامة الصغيرة التي واجهت فيها السماء، تشعر وكأنها ترى النور وفيرًا أكثر من قبل، الألوان أكثر بهجة واللون الأخضر مُنعشًا. ستحبُ لو أنها ترى كل شيءٍ بديعَ الجمال في كل مرة تشعرُ بالسلام والهدوء.

أُمي.. أخي وأُختي.
كانت ترى صورهم في ذهنها واضحةً هذه المرة، الطريقةُ التي تتقوّس فيها عيونُ فايوليت الحيوية، غمازةُ دميان حين يبتسم إليها بدفئ، نظرةٌ هادئة تعيشُ في عدستي والدتها العسلية.. وأسنانٌ أرنبية لطيفة لشفاهٍ تنطِقُ بالسِحر. قد لا تكونُ تفتقِد حياتها القديمة تمامًا.. لكنها بالتأكيد تشتاقُ لوجودهم حولها.

أسدلت جُفنيها بسلامٍ هادئ لتتعانق رموشها وتحتضن بركتي العسل تحتهما، كأنها تستمتع وحسب بوهجِ الشمسِ الصيفية على جُفنيها في حضورِ ذلك الصمت، تنوي أن تأخذ أنفاسها برويّة.. كما لو أنها وللمرةٍ الأولى.. تُحادِث نفسها وتُطمئنها، رغم أنها لا تعرفها تمامًا بعد.. لكنها أرادت أن تقطع وعدًا لها، ولذكرى أولئكَ الراحلين.

(أشتاقُ إليكم. أنا أعدكُم جميعًا.. بأني لن أقِف في مكاني وحسب، ولن أرضى بأقلِّ الأشياءِ لروحي.. لأني سأُثمّنها.)

نعم.. هذا ما تريد قوله لليوم، هذا ما رددته داخلها حتى تمضي.

ما هو التعريفُ الصحيح لتثمينِ وحُب النفس؟ لا تعلمُ حقًا، ربما يملك الجميع فكرتهم الخاصة عن إجابةِ هذا السؤال، لكن كيف نعرف ما إن كانت فكرتنا عنه صحيحةً أم لا؟ هل نقيسها فقط بكونها تناسبنا وتمنحنا الأمان؟ ماذا لو كانت.. شيئًا آخر عمّا ظنناه؟ ماذا لو كنا نظن أننا نحب أنفسنا.. ثم حين نلتفت إليها نجدها لا تزال تفتقِدنا؟ هذا يحتاجُ الكثير من الحُب الذي ننفقه غلى الآخرين.. علينا أن نُشبع أنفسنا أولًا قبلهم.

ابتسامتها الصغيرةُ لا تزالُ على شفتيها.. تُخبر نفسها أن لا بأس بذلك، فقد يكون الأمر صعبًا لتكتشفه ويكون الطريق طويلًا، لكنه طريقها هي في النهاية. أحبّت أن تأخذُ نفسًا عميقًا قبل أن تمضي في يومها.. فراحت تهدأ وتُفرّق جُفنيها بِبُطءٍ تحت النورِ الذي يتوهّجُ بين رموشها الفاتحة..

لكن.. من بينِ الصمت الذي استكنَّ طويلًا بسلام، باغتَ أُذُنيها صوتُ رفرفةٍ لقُماشٍ ثقيل يترددُ في الرواق ويحِلُّ ضيفًا مفاجئًا، هيئةٌ ضبابية تظهرُ أمام الشمس على غفلة، تسدُّ المنظرَ الهادئ عنها تمامًا حيثُ تقطعُ سبيلَ النورِ إليها، وظلٌ كبير يطغى عليها كما لو أن القمرَ أكلَ الشمس أمام عينيها. اتّسعت عيناها العسليتان بخفة لينفرجَ جُفنيها بعجب.. فقط لتتّضح الرؤية لناظريها وتتراجعُ خطوةً مُترددةً ومتفاجئة للخلف.

كانَ جسدًا متوسطَ البُنية، مُغلّفًا ببذلةٍ حالكة لمعَت فيها خيوطُ زينةٍ ذهبية، يظهرُ ببساطةٍ من النافذة التي كانت تنظرُ عبرها قافزًا بِخفةٍ ورشاقةٍ هائلة أمام عينيها، قدميه تحطّان بسلاسةٍ على إطارِ النافذة نقيِّ اللون ويديه تتمسكّان به ليُثبّت جسده. رأت قًفازًا جلديًا يُعانق إحدى تلك اليدين، تنعكس في حدقتيها المتفاجئتين خصلاتٌ داكنة تتمايل مع النسماتِ بنعومة.. ووجهُ أرنبٍ أبيض ساكِن الملامح يُقابِلها صامتًا.

هدأت سترته متوقِفة، وسكنَ جسده مُقابلَ جسدها بصمت. حدثَ ذلك في ظرفِ ثانيةٍ فقط.. وها هو المُقنّع يقبعُ أمامها.

كانَ وجهُها ينمُّ عن تفاجؤٍ شديد، عيناها ترمشانِ باتّساع، صامتةٌ وتُحدق بداكنِ الشعر الذي يرتدي قناعَ أرنبٍ مُريب. جسدها متجمدٌ مكانه وكأنها جرّبت شعور الأزمةِ القلبية للتو، بيديها المتصلبتين في الهواء ونظراتها المُتسائلة تجاه هذا الشخص المُريب الذي يطبِقُ شفتيه هادئًا، لكن الأهم..

هذا هو الطابق الثاني من قصرِ كيم! وأعني بقصرِ كيم مكانٌ هائل وطابقه الثاني مُرتفع عن مستوى الأرض، كيف تمكّن من القفزِ أو التسلُّق بكل بساطة حتى هذا الحد؟

أطلقت سراحَ تنهيدةٍ مطوّلة من شفتيها وهي تُغمض عينيها بهدوء تحاول أن تتمالكَ تفاجؤها وهي تضمُّ يديها معًا، تزدرد ريقها وتُبلل شفتيها قبل أن تُفرّق جُفنيها وتنظُر في ذلك الصامت كأنها على وشكِ توبيخه عندما وجّهت إليه تلك النظرة التي تلومهُ فيها، وتقولُ في وجهه بنبرةٍ جادة..

[لقد أخفتني!]

اعترفت بذلك وكأن التفاجؤ الذي غافلها يظهرُ كُلُّه في صوتها، تحدّق فيه بحاجبين انعقدا بخفةٍ وترمقه بنظراتٍ مُتفحّصة كما لو أنها لا تزالُ تحاول معرفة كيف صعد إلى هنا بحقِ الرب، بينما أمالَ هو رأسهُ قليلًا لليمينِ كما لو أنه لم يتوقّع أو يقصُد إخافتها، تنزلِقُ خصلاتٌ قصيرة وسلسة كخيوطٍ حريرية حول قناعه الساكِن وهو يضمُّ شفتيه بخفة كردِّ فعل.. يجعلها ترمش في وجهه بلحظةٍ غريبة يلفُّها صمتٌ عميق كونها نست لوهلة أنه لا يستطيع حقًا أن يُجيبها.

ارتخت أطرافها رويدًا تتخلّصُ من التصلُّبِ الذي لازمها لثوانٍ قصيرة، تهدأُ في مكانها ريثما تُراقِب جسده ينزِل برشاقةٍ عن إطارِ النافذة، يصنعُ نسمةً صغيرة ريثما تحطُّ قدميه على الأرضيةِ اللامعة للرواق.. الذي يعكِسُ الآن صورتهما معًا. تحركَ جسدها خطوة إلى الخلف فيما تتفحّص عيناها قامةَ هذا الرجل الطويل، وبالرغم من أنه كانَ مريبَ الهالة والمظهر.. إلا أنه لم يكُن مخيفًا حقًا. 

وقفا معًا هناك فيما هي تضمُّ يديها بخفةٍ ووجهها الهادئ يُقابله، لم يبدو أن هنالك تغيُّرًا كبيرًا أبدًا في المكان، فإنه لا يزالُ.. صامتًا، ويُمكنها سماعُ الحفيفِ البعيد في الحديقة. عدستاها العسليتان لا تنفكان تنظران نحو القناع الأرنبي الساكِن. رأت شفتيه ترسمان بسمةً صغيرة وصامتة كادت أن تجعلها تعقِد حاجبيها ريبةً منها، لكنها سرعان ما ارتخت عندما شاهدتهُ يرفع يدًا بخِفة نحو صدره، ثم ينحني نصفه العلوي بهدوء، بكُل أناقةٍ ودقة يؤدي لها التحيّة اللائقة.. كما لو أنه يعتذر عن مفاجأتها بتلك الطريقة.

حسنًا.. هي لا تعرف لمَ قد يتسلق جدران القصر كعنكبوت بدلَ استعمال السلالم، سيكون طريقًا مختصرًا نعم لكن.. ليس آمنًا تمامًا. على أي حال بالنظرِ إليه يبدو أنه اعتادَ القيام بتلك الأمور، لذا هدأت تعابيرها وناظريها يجولانِ بين يده التي تعلو قلبه وشفتيه المُطبقتين.. يستقيمُ أمامها بصمتٍ وخُصلاته القصيرة تنتظم من جديد بعدما كانت تتمايل، ويُخفِض يده ليعاود ضمّها إلى الخلف كما لو كانت حركاتُه كُلها مرسومةً بدقة.

تَعجَبُ لرؤيته واقفًا كالأُمراء.. مع أنه من الواضح كونه يعمل وحسب تحت إمرةِ قصرِ كيم، لكنها لم تُطِل التفكير في ذلك كثيرًا.. بل ناظرتهُ بصمتٍ تفهمُ رغبته في الاعتذار، وكإجابةٍ صغيرة أومأت له برأسها بأدب كما لو أنها تعرّفت على وجوده وتعذِرُه، وهذا كان آخر ما دارَ بين ذنيك الهادئين.

هي لا تعلم حقًا ماذا يفعل هنا.. ولا تعلم لمَ يقفان بصمتٍ أمام بعضهما وكأن الموقف بأكمله غريب، الصمتُ المُحيّر هناك جعلها تضمُّ شفتيها كما لو أنها تمنع نفسها من الحمحمة، حاجبيها ينعقدان بخفة وهي لا تنوي أن تكونَ وقحة وتنصرِف دون قولَ شيء. لا ترغب في أن يفكر بأنها تتجاهله ولكن.. ليس وكأنها تملك شيئًا آخر لتقوله لمُقنّع مُريب لا تعرفه، وليس وكأنه سيستطيع إجابتها بالمقابل!

رمقت الطويل بنظرةٍ أخيرة وهي لا تعلم حتى ما إن كان يستطيعُ رؤيتها تنظر إليه عبر ذنيك الثقبين الأسودين في القناع، لكنها صنعت تعبيرًا مُترددًا صغيرًا كما لو أنها تُخبره أنها لا تملك حقًا شيئًا لتقوله.. ولا تملك أدنى فكرة عمّا إذا كان يُعجبها التعامل معه بعد، كما أنه يقف وحسب دون أن يُبدي حركةً أُخرى ولا تعلم إن كان يبتغي منها شيئًا، فافترضت أنه يُمكنها الانصراف وحسب.

التفتت بهدوءٍ تنوي أن تُكمل مسيرها حيث كانت تصبو أولًا، علّه سيكون بخيرٍ تمامًا لوحده. عيناها اتّجهتا للأمام واتّخذت خطوتها الأولى.. لكنها ما أن تبِعتها بأُخرى حتى لاحظت حركةَ الجسد الصامِت خلفها، فرمشت تتوقف في مكانها فورًا، والتفتت برأسها من جديدٍ تنظُر إليه لتتأكد.. وبالفعل كان المُقنّع قد غيّر موضِعه باتجاهها، كما لو أنه تحرّك بعدها بثانية.

حدّقت في وجهه.. بل في قناعه بصمتٍ، تتساءلُ عمّا حدث له وكأنه ينوي تقليدها. لو شاهدهما أيُّ أحد الآن من بعيد لظنّهُما تمثالين لشِدةِ غرابتهما وهما يُحدقان دونَ حرفٍ في بعضهما. عيناها الكبيرتان ترمشان وهي تُفكر أن تأخُذَ خطوةً أُخرى لترى ما إن كان سيفعلها مُجددًا ويلحق بها، لذا بهدوءٍ وبُطء حاولت أن تسيرَ لخطواتٍ معدودات ورأسُها مُتّجهٍ لمسارها، لكن عيناها تنظُران جانبًا كما لو أنها ترغب بضبطِه مُتلبّسًا. 

حينَ بدأ حذاءيها بقرعِ الرواق اللامع.. لاحظته يتّخذ خطواته الهادئة والخفيفة حتى كادت تفوّت الأمر، فهو لم يصنَع صوتًا مثلها حتى ولا نسمة صغيرة! هذا جعلها تنتفض بِخفة كما لو أن هنالك شبحًا يطفو خلفها بكُلِّ هذا السكون.. لذا توقفت على غفلة تتجمّد قدميها مكانهما، ويبدو أن المُقنّع كاد يصطدم بجسدها القصير مُتعثّرًا به، لكنه رمش بخفة وتوقف من فوره مُتداركًا الأمر باللحظةِ المناسبة تمامًا. 

بعدَ لحظةِ سكونٍ صغيرة التفتتَ إيميليا بُغتةً نحوه بجسدها كما لو أنها على وشكِ توبيخه، ويبدو أن الطويل انتفضَ بِخفة وابتعدَ خطوةً عن مساحتها الشخصية كما لو أنه أرنبٌ قفزَ للتو بعدما رفرفَ ذيله الزغبي قلقًا، لكن في الواقع لا يُمكن رؤية تعابيره من خلفِ ذلك القناع.. بل كان يمُكنك تخمينُ أنه يُحدّق فيها مُترقِّبًا لردِّ فعلها وحسب. 

كانت تنظُر فيه بحاجبين معقودين بخِفة، عيناها تُحدقان كما لو أنها تُظهِر فيهما أنها لا تُحب حقًا أن يتبعها أحد، وفِكرةُ أن أحدَ الإيرلين أمَره بأن يتبعها تجعلُها غير مُرتاحة وتنوي معرفة السبب، ففرّقت شفتيها من جديد تستفسره عن الأمرِ مُباشرةً، تحاول أن تُبقي صوتها هادئًا رغم الشكِّ الذي رافقَ نبرتها..

[لمَ تتبعُني؟ هل أمرَ الإيرلين بشيءٍ أجهله؟]

لا يُمكنها أن تُفكر بسببٍ آخر يجعلهُ يكون هنا بل ينوي أن يلاحِق خطواتها أيضًا، فهي لم تفعل شيئًا ولا تذكُر أن أيَّ أحد أخبرها أنها ستحظى برفقةٍ اليوم. تعلم أنه لا يستطيع التحدُّث إليها لسببٍ آخر تجهله -يا للمفاجأة- لكنها ترغب أن يُظهِر لها على الأقل شيئًا لتفهم ما يجري. 

في الحقيقة هو استطاعَ أن يشعُر بانزعاجها من الفكرة ظنًا منها أن شيئًا جديدًا سيطرأ رُغمًا عنها، لكنه فاجأها عندما رفع كلتا يديه سريعًا أمامه.. يجعلها ترمِش بحيرة وهي تناظِر  كفّيه الذي يختبأ أحدهما خلف قفازٍ أسود، يُشير لها بالرفض بهدوء ليجعلها تفهم أنها مُخطئة، وقبل أن يتمكّن التساؤل والتعجُّب منها أخذَ يُحركهما بِخفة في الهواء بحركاتٍ سلِسة.. تتبعها عدستيها المشوشتين علّها تفهم ما يحاولُ قوله لها.

كان يبدو وكأنه يُشير إلى نفسه.. ثم نحوها ويصنعُ خطواتًا صغيرة في الهواء باصبعيه، يمِدُّ كفيه نحو الرواق كما لو أنه يُخبرها بأدب أن تمضي أمامه ويتركها تتصدّرُه.. ثم سيتبعها هو. 

حدقت إيميليا فيه بحاجبين تزدادُ عُقدتهما كما لو أنها تحاول ربطَ تلك الاشارات واستيعابها، تبدو مُشابهة لما قالته ولكن.. لو حاولت أن تُفكر فيها أكثر فهي تدُّلُها لشيءٍ جعلها تُطيل الصمت الذي لفّ المكان لثوانٍ أُخرى، ثم تتردد للحظة قبل أن ترفع يدها نحوه في محاولةٍ أن تُخبره بتخمينها.. فتنظُر في ثُقبَي القناع وتقولُ بصوتٍ صغير كما لو أنها غير واثقةٍ تمامًا من كلماتها..

[أنت.. ترغب بمُرافقتي فقط؟]

 لمَ تشعُر وكأنها تُحادث جروًا وجدته في الأزقةِ أو ما شابه؟ هذا ما تخيّلته عندما تصوّرت تلك الفكرة، أنه ينوي أن يتبعها وحسب دون أن يقول أو يفعل شيئًا ومن دونِ أن يحمِل إذنًا من أحدِ الإيرلين أيضًا، هذا وحده يجعل الأمر مُريبًا أكثر حتى مما كان سيكون عليه لو كان مُجرَد أمرٍ منهُما.. لذا كان طرحُ تلك الفكرة عليه يجعلها مُترددة ولا تعلم كيف تشعُر تجاه هذا الطلب لو كان صحيحًا.

في النهاية يبدو أنها كانت مُحِقة.. فهي لاحظت زاوية شفتيه التي ارتفعت بخفةٍ دلالةً عن الرِضا، وضمّ كلتا يديه أمامها كما لو أنه يطلُب اذنها بلُطفٍ وهدوء، هذا جعلها مشوشة أكثر.. وراحت تنظُر فيه بحيرةٍ دفعتها إلى التزامِ الصمتِ لثوانٍ، فهي لا تعلم حتى كيف تشعر بشأنِ هذا. لمَ يطلُبُ منها شخصٌ لا تعرفه ولا تعرِف ما إن كان أهلًا لثقتها أن يأتي معها؟ كيف يعلم أساسًا أنها سترغب برفقته؟

لم تفهم دافِعه لذلك أبدًا، لذا لم تكُن مرتاحة تمامًا لفكرةِ الذهاب مع مُقنّعٍ صامت، سيكون هادئًا نعم ولكن.. لا تعلم ما إن كانت ترغب بتركه يمضي وقته معها. هي ترددت لثانية قبل أن تُبلل شفتيها وتحاول أن تختار نبرةً لا تُشعِره بأنها تحاول التخلّص منه بوقاحة، فطريقةُ طلبه الصغيرة تلك بضمّ يديه معًا تجعل الأمر أصعب لرفضه بالنسبة إليها..

 [لماذا؟ أعني.. أليس لديك مسؤولياتٌ أُخرى وما شابه؟ أنا.. متوجهة لمشغلي وحسب.]

أخبرته بذلك في محاولةٍ منها أن تحصُل على تلميحٍ آخر منه، علّه ربما يُغيّر رأيه في النهاية وتعاود المُضي بهدوء في هذا اليوم وحدها، لكن على ما يبدو فإن المُقنّع هز برأسه بخفة.. تتمايلُ معه خُصلاته الداكنة ريثما يُشير بيده مرةً أُخرى، يجعلها تتبعُ حركاته من جديد بناظريها.. وأول إجابةٍ استطاعت تخمينها هو أنه لا يملك شيئًا آخر لفعله، ولا يُمانع مرافقتها إلى مشغلها.

واو.. إنها تشعُر بالغرابة التامة عندما تُدرك أن لا إجابة ولا حتى صوتٌ صغير يصُدر منه، لو سمِعها أيُّ أحد من بعيد لظنّ أنها تُحادِث نفسها! على رأسِ ذلك.. هل يحاول قول أنه هنا فقط لأنه يشعر بالملل كونه لا يملك أي شيءٍ آخر لينشغل به؟ لا يُمكنها حقًا أن تعزِم قرارها ومشاعرها تجاه الأمرِ بعد، فهي لا تريد أن تفهمه بطريقةٍ خاطئة.. ولا أن تكون فظة معه مذ إنه كان هادئًا دومًا معها ولم يتسبّب لها بشيء.

لوهلة خفّت عقدة حاجبيها.. وجُفنيها اللذين يُغلفان عدستيها المصبوغتين بالعسل رفّا بخفة، كأنها أدركت للتو شيئًا ما جعل الرجل أمامها يُحدق، ويُخفِض كلتا يديه بصمت يُناظِر تلك الفتاة التي يبدو أن فكرةً ما سرقت عقلها بعيدًا على غفلةٍ منها. كانت تُفكر.. هل هذه الأفكار والرغبة نابعةٌ من إيميليا نفسها حقًا؟ كانت تشعر إنه الشيء الصحيح لفعله.. الشيء الذي ترغب هي بفعله، لذا هي حاولت أن تُبقي نفسها على المسار الذي تظنّه صحيحًا وتتوقف عن التفكير طويلًا.

لم ترغب في أن تضيع في أفكارها أمامه.. فعندما استعادت تركيزها أدركت أنها كانت تُحدق بتعبيرٍ مشوش في سُترةِ المجهولِ الواقف هناك، فرمشت عدة مرات بخفة كما لو أنها تنفُض عنها الأفكار وتفرض أن تتعلّق بها الآن، ترفعُ ناظريها من جديد نحو الثقبين الأسودين في القناعِ الصامت وتُشير له برأسها بهدوء بأنها فهمِت.. ولم يبدو أنها ستنطقُ بالرفض أو المعارضة تجاه طلبه.

التفتت بهدوءٍ تعاودُ مواجهةَ طريقها بجسدها، تتخذ خطواتها من جديد نحو مسارها بشرودٍ هذه المرة، وكأنها لا تعلم لمَ وافقت على أخذه معها. رمقته بين ثانيةٍ وأُخرى نظرةٍ إلى الخلف كي ترى ما إن كان فهِم إشارتها، وبالفعل.. فإنها لاحظت شفتيه ترسُمان بسمةَ رضا بالكاد تفضح تعابيره، فهي لا يُمكنها تخيُّلها لسببٍ ما.

يبدو أنه سُرَّ لقرارها الذي جعله يتبعُ خطواتها هذه المرة بإذنها، يضمُّ يديه خلف ظهره ويسيرُ بمسافةٍ مقبولة بينه وبين الآنسة التي لا تزال تتساءل عن السبب الذي يجعل خطواته هادئة هكذا عكس خطواتها الصغيرة التي تقرعُ صوتًا في المكان، جنبًا إلى جنب مع صمته وهدوءه المُريب.. فهي لن تستبعد كونه شبحًا رُبما.

كانت عيناها مشغولتانِ به، كما لو أنها تحاول تجزئة تفاصيله الغريبة, على حدِّ علمها فهو يبدو كبشريٍّ تمامًا.. أعني كما هو واضح، ولكنها ترمِق قناعه بنظراتٍ سرية فيما هما يصنعانِ طريقهما للأمام كما لو أنها ليست متأكدة من أنه يملِك وجهًا حقيقيًا. لا بُد أن تكون هنالك ملامحٌ ما خلف ذلك الحاجز، تتساءل كيف رُسِمَت؟ فهي تؤمن أن ما يرسُم البشر يُحدد روحهم أيضًا.. وأيّ نوعٍ من الناسِ هُم، طالما لا ترى وجهَ هذا الرجل.. فهي لا تأتمِنه كثيرًا حقًا.

كان صامتًا جدًا.. يعلمُ أنها تنظُر فيهِ سرًا، لكنه لم يؤتِ بشيءٍ أبدًا. 

يبدو أنها فكرت فيه طويلًا، عن حقيقةِ وموقع هذا الأرنب في القصر وحتى عن السبب الذي أحضره إلى هنا، لأنها لم تكُن قد تخلّصت من أفكارها التي تُحاصرها بعد.. فسُلِب تركيزها لثوانٍ ولم تتمكّن من رؤية تلك المزهريّة اسطوانية الشكل تعترض طريقها، على الرغم من طولها وحجمها! كانت مُستقرّةً بشكلٍ غريب وسطَ الرواق الذي كانا على وشكِ أن يتّخذاه مُنعطفًا في مسارِهما.

في اللحظةِ التي رمشت بها بصمتٍ وقد قررت النظر أخيرًا إلى طريقها.. اتّسعت عدستاها ترى خزفًا يلمع أمام وجهها تمامًا، يفصلها اصبعٌ واحد فقط عن الاصطدام بها لدرجة أنها استطاعت رؤية نفسها تتألم ويتردد في أُذنيها صوتُ تهاوي المزهرية وحُطامها الذي سيتناثر بقسوة على الأرضية اللامعة..

لكن ذلك لم يحدُث أبدًا.. كادت تتراجع خطوة إلى الخلف حتى تتفادى الأمر، لكن اليد المُغلّفة بقُفازٍ حالك امتدت سريعًا أمامها.. تستطيع الشعور بنسمةٍ صغيرة على وجهها عندما رمشت في اللحظة التالية، خُصلاتها العسلية تتمايلُ بخفة وهي تشعُر بثُقلٍ يضغط على كتفها، وترى تلك اليد تُعانق الخزف الذي تمرجحَ لوهلةٍ في الهواء ليوقِفها.. يُثبّت كليهما في مكانيهما في الوقتِ المناسب تمامًا.

حلّت لحظةُ صمتٍ صغيرة.. تستفيقُ فيها إيميليا من شرودها وناظريها ينخفضان حيث كتفها، ترى يده الأُخرى تُساعدها على الاتزان، ثم ترفعهما نحو المزهرية الساكنة لتراها قُطعة واحدة عكسَ ما تخيّلته للتو. لم تُصدق سرعةَ وخِفة هذا الرجل الذي جعلها تنظُر فيه من جديد.. ترى القناع الساكن موجهًا نحوها كما لو أنه يحاول التأكد من كونها بخير.

لوهلة كادت تقشعر من الشعور الغريب الذي يراودها بمقابلةِ ذلك القناع بهذا القرب، لذا سحبت جسدها قليلًا حتى تجعل يده تنزلق بخفة عن كتفها بعيدًا، تُطلِق نفسًا حبسته بعد هذا الموقِف الذي كاد يتحوّل لكارثة، فهي لا تعلم ما إن كانت هذه الخزفية شيئًا يُقدّر بملايين الدولارات أو ربما أسوأ.. قد تكون ذكرى أو ورثًا عائليًا! كل ما تعرفه أن كل شيء في هذا القصر يساوي حياتها وربما مئةُ روحٍ معها، لن تبالغ في هذا.. ولا تظن أن الإيرلين سيأبَها لو تحطّم أي شيء يستطيعان استبداله، لكنها لن تُغامِر.

تشعُر بالاحراج لأنها حدقت في هذا المجهولِ بدلًا عن طريقها، لكنه تصرّف وكأن شيئًا لم يكُن.. بل أبعد يديه عن إيميليا والخزفية بهدوء وعاودَ يقف بقربها كما لو أنه جاهِزٌ لمتابعةِ المسير من جديد. هي ناظرته لثانية قبل أن تومئ له برأسها شاكِرة، شيءُ ما يُخبرها أنها لم تكُن أول مرة يقومُ فيها بسحبها بعيدًا عن المشاكل، لكن إيماءتها له كانت كافية بجعله يحني رأسه كإجابة وبسمةٌ صغيرة ترتسم على شفتيه الّتين كانتا التفصيل الوحيد الذي رأت رسمَه حتى الآن.

أخذت تهدأ مرةً أُخرى وهي ترفع يدها لتُعيد بعض خُصلاتها التي تبعثرت وأضاعت مكانها عندما تمَّ جذبُها بعيدًا عن الخزفية، لكنها رمشت بخفة فورَ أن انتبهت لشيءٍ آخر تراه الآن.. فعقدت حاجبيها بخفة وأخفضت يدها ريثما تجوّل ناظريها هنا وهناك بحيرةٍ مما يجري.

إنها تعلم أن الخدم يقومون بجولاتِ تنظيف كل صباح في القصر، فهي تراهم مذ أصبحَ الاستيقاظ هنا روتينًا لها، ولكنها لم تتوقع أن ترى هذا العدد منهم متجمّعٌ في مكانٍ واحد! الكثيرُ من الأجساد المُغلّفة بالزيِّ الرسمي الأسود والأبيض تتحرّك في المكان لدرجة أنه أصبح مُزدحمًا تقريبًا، يعملون بانتظامٍ معًا وتلك الأيادي الدقيقة والحريصة تُنفِضُ الستائر الثقيلة، بعضها يُساعد في مسحِ الرواق الذهبي والآخر يُنظِّمُ ترتيبَ الزينة ويستبدِل الأزهار الملوّنة بأُخرى أكثر حيوية.

كانت حقًا متفاجئة من ذلك، ظنّت أن شيئًا ما مميزًا سيحدث.. لكنها تعلم أن القصر لا يستقبل الضيوف أو ما شابه، حسنًا عداها هي لسببٍ ما، ولكنها وجدت الأمر غريبًا والجو يملؤه الحيوية والعزم أكثر من قبل. كانت تستطيع رؤية ذرات الغبار الصغيرة تتطايرُ بوهن تحت نورِ الشمس، تسمعُ بعض الهمساتِ والأحاديث المُختصرةِ بين الخدم اللذين ينظمون العمل بسلاسةٍ لم تعهدها.

من كانوا قريبين من مكانِ وقوفها استطاعوا أن يتنبّهوا لوجودها، فينحنون لها كي يؤدوا التحيّة اللازمة قبل أن يعاودوا ما يشغلهم سريعًا. كانت تُجيبُ لهم التحية بشرودٍ حائر، منظرهم الجاد والرتيب جعلها تُتمتم رُغمًا عنها بذلك السؤال الذي جذب انتباهَ المُقنّع..

[ماذا يحدث؟]

مُجددًا.. هي تعلم أنه لن يُجيبها، لكنه يحاول على الأقل، لذا التفتت نحوه بعينيها تتوقّع أن يقومَ بتلك الإشارات من جديد. يبدو أنه لاحظَ الفضول في نظراتها المُثبتة عليه، خصوصًا بعدما شعرت بتلك الأجواء الجديدة. كان يظهرُ أن الخدم المسؤولين عن جولاتِ المساء يُساعدون في هذه الترتيبات أيضًا، لأن عددهم هذه المرة كان أكبر كما لو أن هنالك موعدًا مُحددًا لهم لإنهاءِ هذا العمل.

حرّك يديه وقتها بهدوء حتى يشرح لها، فالإجابةُ لم تكُن مُعقدةً أبدًا هذه المرة.. بل اكتفى بحركةٍ واحدة وسلِسة، يقومُ فيها برفعِ إحدى يديه في الهواء كما لو أنه يُمسِك شيئًا، يتبعُها بالأُخرى التي تُقابله كما لو كان سيحتضن أحدًا.. ثم يتمايل بجسده بخفة فيما يُحدق ذلك القناعُ فيها. 

لوهلة هي عقدت حاجبيها ترمش في وجهه بصمت، فقد كانت الإجابة واضحة تقريبًا ولكن.. هناك شيءٌ يمنعها تمامًا من تصديقِ تلك الفكرة التي قفزت في ذهنها، لذا راحت تجولُ بعينيها المشوشتين بين الخدم والمُقنّع الذي ثبتَ مكانه يتساءل ما إن كانت حركته غير كافية عندما أمال برأسه نحو اليمين لتتبعهُ خصلاته، بينما كانت إيميليا تُقلِّب كل الأفكار في رأسها فقط لأن فكرتها الأساسية مستحيلة نوعًا ما. 

عندما لم تستطِع أن تُفكر في هذا وحدها.. حافظت على عُقدة حاجبيها اللذين دلّا على كونها حائرة، وراحت تنظُر فيه كأنها هي نفسها لا تُصدّق ما كانت على وشكِ قوله، لأن صوتها انطلقَ صغيرًا وغير متأكدًا بالمرّة، مُكلّلًا بالتفاجؤ والدهشة..

[حفلةٌ.. راقصة؟ هنا في القصر؟!]

نبرتها تلك جعلته يرمش من خلف القناع كما لو أنه يتخيّل أنها على وشكِ هزّه من كتفيه وإخراجِ الكلمات منه عنوة حتى لو جعلته يتحدّث بصوته، فذلك الخبر لمن لا يعرِف القصر جيدًا سيكون مفاجئًا للغاية. كانت مشاعر الحيرة وعدم التصديق يحتلان وجهها كما لو أنها تُفكر بعدد المرات التي أخبرها فيها الجميع تقريبًا أن قصر كيمَ لطالما عُرِف بكونه قصرًا مُقفلًا لا يدخله أحد سوى سُكّانه، فهذا ما يطلقه عليه الإعلام. 

الهزة الصغيرة التي حصلت عليها من رأسِ المُقنّع وهو يؤكد لها ببساطة قولها جعلها تُحدق فيه لثوانٍ، ثم تتّسع عدستيها بخِفة كما لو أنه تهتف داخليًا بِـ (حقًا؟!). الأمرُ ليس وكأن عائلة كيم لم تقُم أبدًا بحفلةٍ راقصة من قبل.. لكن في قصرهم الخاص؟

مهلًا لحظة.. هذا التساؤل جعلها تُغيّر تعابيرها خلال ثانية. عُقدة حاجبيها تلاشت تدريجيًا فيما كانت عيناها تُحدقان في الفراغ كأنها تحاول استخراجَ شيءٍ ما من ذاكرتها.

في أيِّ فصلٍ نحن؟ إنه الصيف بلا ريب.. وفي كلِّ صيفٍ يطلُّ على العاصمة الانكلترية تُشرق الحيوية والاستعدادات لأهلِ المدينة. لطالما كان الصيفُ مميزًا لسببٍ ما.. ماذا كان؟ رغم أن الحفلاتُ الملكية تُقام طوال العام في أرجاءِ لندن، ولكن في الصيف.. 
في الصيف.. تقيمُ عائلة كيم حفلة في قصرها مرةً كل عام!

هذا صحيح.. لقد نسيت هذا الأمر تمامًا! فهي منذ قدومها لم تأبه لشيءٍ سوى أفكارها الخاصة ولم تواكب تغيُّر الأيام وتواليها. إنها تتذكر حماس الناس كل عام حين يأتي الصيف طوال حياتها تقريبًا، ليس وكأنها كانت تتابع الإعلام بكثرة.. لكن يُمكنها استعادةُ مشهدٍ من صغرها، حين كانت تمرُّ بالشوارع وتلاحظ أن حفلةَ عائلة كيم تتصدّر الصفحات الأولى للجرائد في هذا الوقت من السنة، لم تكُن تعلم أنها حفلةٌ خاصة بهذا القدر لتكون داخل قصرِ وريث العائلة بنفسه.

لم تتوقع ابدًا أن يأتي يومٌ تكون فيه داخل القصر عندما يحين موعد الحفلة المميزة هذه، أعني ليس وكأنها ستكون مدعوة إليها بسبب ذلك وحده ولكن.. يُمكنها الآن أن تفهم حماسَ العوائل النبيلة بالقدومِ إلى قصرٍ بديع كهذا، فبكل تأكيد هناك قائمة مُحددة بالحضورِ كل عام.. ولا يحضُرها سوى الأشخاص المهمين، يا للمفاجأة.

تتساءلُ عن قصةِ هذه الحفلة.. تلك الوحيدة كل عام، لكن الأهم من ذلك.. أنها تذكّرت شيئًا جعلها ترفعُ يدًا لتلمِسَ شعرها وكأنها تحاول للحظة أن تمنع تصادُم الأفكار في رأسها عندما راحت تُتمتم شيئًا من بين شفتيها، عيناها تُركزان في الفراغ كما لو أنها في الواقع تنظُر داخل رأسها الذي تحاول تنظيمَ الخطط فيه..

[آه ولكن هذا.. على الإيرلين أن يُقيما عرضًا بعدَ عِدة ليالٍ، ظننتُ أنهما سيتجهزان لذلك أولًا.]

لم تكُن لتهتم فعلًا بحفلةٍ للعوائل النبيلة، أعني أنها تشعر بالفضول بشأنها نعم، ولكنها لم تستطِع أن تمنع نفسها من أن تُفكر أولًا بشأن العرض، ذلك الذي رفض الإيرلين دعوة السيد مافريكي من أجلِ أن يُقيماه في العاصمة. كان عليها أن تكون مسؤولةً عن الأدواتِ التي سيستخدمها النبيلين منذ الآن وصاعدًا، لذا لا يُمكنها أن تفكر بخصوصِ حفلةٍ ما وهي تملك تلك المهمة الجادة بين يديها.

عليها أن تكون مُستعدةً تمامًا لأي شيءٍ قد يحتاجاه، فالحفاظ على سرِّهما وخصوصيتهما مهم فيما يخصُّ الأدوات التي سيأخذاها منها.. لأنها تعلم جيدًا أن الكثير من الأشخاص سيحاولون كشفَ خُدعهما كما انتهى الحال ببقيةِ مؤدي عروض السِحر، الكثيرُ منهم مثل.. ابن الدوقِ كيم سوك جين.

التفكيرُ فيه من جديد يجعلها تعقد حاجبيها بهدوء، عيناها تغرقانِ في الشرودِ الجاد فيما هي تتذكّرُ حديثها مع ثعلبيِّ البسمةِ ذاك. مهما كانَ الثمن.. هي لا تُريد أن تكون السبب في فشلِ أو تسرُّبِ تفصيلٍ واحد من خلالها، ليس لأن الإيرلين كابوسُ من يُصبِح عدوّهما وحسب.. بل لأنها تحرِص بشدة على سريّة العمل بينها وبين زبائنها، هذا ما علّمه إياها دميان منذُ وقتٍ طويل.

يبدو أنها غرقت أكثر مما يجب في أفكارها.. لأن الأرنب الذي كان يلتزم الصمت طوالَ الوقت يُحدق فيها متسائلًا، يُلاحظ اصابعها التي ارتخت بين خصلاتها العسلية عندما استحلّها الشرود، وعينيها التين تنظران في اللامكان مركزتين بشدة لدرجةِ أنها لم تنتبه أبدًا حين اقترب خادمين من مكانِ وقوفها، أدّا لها التحية بأدب ثم همّا بحملِ الخزفية التي كانت ستُطبع عليها وجهها منذ دقيقةٍ فقط.

توقعا بأنها ستبتعد لتُفسح لهما المكان.. لكن المُقنّع رمش يُدرِك أنها لن تفعل، فمدَّ يده ببساطة وأمسكَ بذراعها بلُطفٍ وهدوء كي لا يُجفلها.. ثم يجذب جسدها الصغير جانبًا ليسمح للخادمين أن يحملا الخزفية معًا ويُعيداها إلى مكانها. كُلُّ هذا وإيميليا تُطيع الحركة التي يفرُضُها عليها جسدها دون أن تتساءل أو تنتبه لملمس يده الخفيفة على ذراعها.. كأنها لم تشعُر بنفسها تتحرّك أساسًا، كأن حواسها سافرت بعيدًا مع تركيزها. 

بعدما حرّكها كدُمية كانت علامات التساؤل على وشكِ أن تطفو حول رأسه، لم يكُن يعلم أن رأسها يعجُّ بفكرةِ الحفلة الصيفية التي باغتتها، بمسؤوليتها القادمة وخطط أيامها المستقبلية كلها دُفعةً واحِدة، لذا ما فعله تاليًا هو أنه ربّت بلُطفٍ على كتفها حتى يُنقذها من شرودها.

شعرت إيميليا أخيرًا بتلك التربيتات عليها، فما كان منها إلا أن ترمش بخفوتٍ عدة مرات كما لو أنه أوقظها من غفوة. استعادَت عيناها الساكِنتان حيويّتهما، وانتفضت بخفةٍ ترفعُ ناظريها المشوشين نحو الطويل الذي استقبلها بصمتٍ يُحدّق، كما لو أنه أرادَ أن يتأكدَ بأنها استعادت تركيزها الآن.

أدركت أنه لم يكُن عليها فعلُ ذلك، لذا ترددت للحظة قبل أن تُخفض يدها التي كانت مُعلقة بين خصلاتِ شعرها لفترة، وجوّلت ناظريها في المكانِ المشغول حولها.. والذي لم يكُن مناسبًا أبدًا لتفقِد انتباهها فيه، لذا ربما عليها أن تكون شاكِرة أكثر لهذا الغامض هنا..

لكن جُفينها رفّا بخفة عندما جذبتها حركةُ يديه من جديد، يبتغي انتباهها لربما يمنحها إجابة تُساعدها على تنظيمِ أفكارها لئلا يتمكّن التوتر منها فلا تُجيد ضبطَ خُططها لاحقًا، وفورَ أن ناظرت عيناها يديه قامَ برفعِ اصبعٍ واحد.. ثم بالإشارةِ إلى البهرجةِ والمكان الواسع، راحَ يتبعها برقمِ اثنين وحركةِ الرقص السابقة قبل أن يتوقف ويُحدق في وجهها حتى يعلم إن كان نجح في إيصال الرسالة إليها.

كانت تُضيّق عينيها تدريجيًا خلال ذلك الوقت، كأنها تحاول صبَّ تركيزها معه لتفهم ما يريد قوله، لكن يبدو أنها تتمكنُ من فهمه سريعًا عكس ما توقعته، فاستطاع استنتاجها أن يجعل عُقدة حاجبيها تتلاشى فيما هي تبوحُ بما فهمته له، تنظُر في الفُتحتين الداكنتين كما لو أنها ستحصُل على التأكيد منهما، رغم أنهما لا تُظهرِان عينيه من خلفهما..

[العرضُ يأتي أولًا.. ثم الحفلة؟]

كان من الغريب أن تجري مُحادثةً يعلو فيها صوتٌ واحد من الطرفين، أما الثاني فيعتمد على اشارتِ يديه وجسده كما لو كانا يخوضانِ لُعبة، فهي لم تفعل ذلك من قبل و.. لتكون صادقة فإن مظهره وهو يقوم بتلك الحركات طريفٌ نوعًا ما، فهو سلِسٌ وخفيف، ويحرِص على أن تفهم ما يحاول قوله حتى لو عنى ذلك أنه سيقوم بأكثر الحركات غرابة.

ما يفعله حتى الآن لطيفٌ لها، فكرت بذلك وهو تراه يومئ برأسه تأكيدًا على قولها، تلاحِظ تلك الخُصلة الناعمة من شعره الداكن وهي تنزلق على قناعه بخفة.. بينما تتفحصهُ إيميليا بصمتٍ بعد أن حصلت على الإجابة. لم تتوقع أن يكون مُقبلًا على التفاعل معها جيدًا، لأن هذا عكس ما يفعله معظم أهل القصر كما ظنّت حين وصلت إلى هنا أول مرة.

على أي حالِ.. حقيقةُ أن الحفلة تأتي لاحقًا لن تغيّر شيئًا من مخُططها لحسنِ الحظ، لكن لا يزالُ عليها أن تنتظر إرشادات ورغبات الإيرلين قبل أن تُحدد ما عليها تطويره من أدوات، فهذا سيعتمِد على الخُدع التي سيُقدمانها خلال العرض.

خلال تلك اللحظات.. أدركت إيميليا أنها تستطيعُ سماع صريرَ عجلاتٍ صغيرة على الأرضية، الصوتُ يقترب فيما هي ترى شيئًا بطرفِ عينها، ويبدو أن المُقنّع تنبّه لوجوده أيضًا، فالتفتَ رأسيهما معًا نحو المنعطف الذي جاءا منه، تمامًا حيثُ ظهرت منه عربةٌ بيضاء اللون، على مِتنها بعضُ الأواني والخزفيات اللامعة التي تسبِق جسدًا يسيرُ خلفها.

كادت تلك العربة أن تصطدم بها، لذا أوقفتها سريعًا عندما ثبتت يدها على حافتها تمنعها من الاقتراب، ويبدو أن من كان يدفعها انتبه لذلك وكاد يظنُ أنها علِقت بشيءٍ ما لولا أنه أخيرًا أطلَّ بجسده ووجهه واضحًا من خلف الجدار.

لوّحت لهم خُصلاتٌ شقراء بلونِ الشمسِ الحيوية، لدرجة أن عينا إيميليا اتسعتا بخفة لثانية ظنًا منها أنها تعرِف صاحبها جيدًا، لولا أنها تمهّلت فورَ أن حيّتها تلك العدستين البلوطيتين اللتين تلمعان بهدوء، تنظران في هيئة الآنسة والرجل قبل أن تتسعا بدورهما كونه لم يتوقع أن يصادف هذين الاثنين هنا.

بالانتباه إليه أكثر الآن.. فهو يرتدي زيّه النبيذي الرتيب والمميز، ولونُ البلوط ينامُ دافئًا في عينيه الواسعتين اللتين تقوستا بهدوء، يستقيم بجسده أمامها بأدبٍ يُظهره للآنسة.. ثم يرتفع صوته اللطيف وبسمته الغنية بالسلام عندما حياهما معًا..

[اوه صباحٌ سعيدٌ لكما، وبشكلٍ خاص للآنسة إيميليا!]

كان جونغهيون، رئيسُ الخدم الذي لم تظن إيميليا أبدًا أن أي شيء سيُنافس شعورَ سماع الحفيفِ الهادئ سوى صوته، تلك النبرة التي يحنو القلبُ لها دون مقاومة. شيءٌ ما بشأنه يجعلها مرتاحة وهادئة عندما تتعامل معه، تراه يُبعِدُ العربة عنها ويبتسم بودٍّ للمُقنّع الذي حيّاه بإيماءة، بينما ضمّت هي يديها معًا وتبِعت الأرنب في ذلك، تُرحّب به بصوتها الناعم والصغير..

[صباحٌ سعيد سيد جونغهيون، اعذرني من فضلِك.]

كان عليها أن تعتذر لأنها اعترضت طريقه، فعلى ما يبدو أنه يقوم بمساعدة طاقمه بنفسه بدلَ أن يكتفي بإدلاءِ الأوامر عليهم وحسب.. هذا يجعلها تُفكّر بحجمِ مسؤوليته، بل وأيضًا حجمُ وأهمية هذه الحفلة الصيفية المُنتظرة. ذلك الأشقر رسمَ ابتسامةً حانية لها تجلّى فيها دفءٌ مُطمئن، وأسرعَ ليتقبّل اعتذارها بأدبٍ رُغم أنه من قوّس حاجبيه دلالةً على أسفه، يُشير إلى العربةِ الكلاسيكية التي كان يدفعها..

[اوه أرجوكِ لا تهتمي آنستي، أنا من يستوجِب عليه الاعتذار.. كوني على عجلةٍ من أمري بعض الشيء، فهناك الكثير لفعله.]

كانت مُحقة في كونه مشغولًا جدًا، لذا لم تُحِب أن تبقى في طريقه أكثر رغم أنها أهدته بسمةً صغيرة من شفتيها كإجابةٍ له، ثم تنحّت جانبًا بخِفة رِفقةَ الرجلُ الغامض إلى جانبها. عيناها تفحصتا سطحَ العربة وكُل تلك الأشياء اللامعة التي تفترضُ أنها ثمينة، وسيتمُّ تزيين القاعاتِ والأروقةِ فيها. 

لم تُفكر في الأمر من قبل.. لكن كل شيء يتم تدبيره هنا هو من قِبل جونغهيون، أناقةُ ونظافة قصر وريث العائلة على الدوام من مسؤوليته الكاملة، وكونه يستطيع إبقاء كل هذا العدد من الخدم تحت إمرته بانتظامٍ ودقة كلّ يوم يتطلّب جُهدًا كبيرًا، هذا يجعله رجلًا متكاملًا للوظيفة حقًا، لكنها لا تستطيعُ أن تتخيّل حتى إن أي شخصٍ سيتمكّن من فعلِ هذا دون أن يفقد صوابه في يومٍ ما.. أو بدونِ أن يرتكب خطئًا على الأقل.

[أتصوّر أن كونك سيد الخدم في قصرٍ كهذا صعب..]

تلك الكلمات هربت من بين شفتيها بتمتمةٍ خافتة عندما كانت تُفكر بكل هذا، عيناها شاردتان كما لو أنها أصبحت مُدرِكة للمسؤوليةِ التي يتعيّن على كلِّ فرد يعيش في القصر.. بل من يكون حولَ الإيرلين مهمن كان صغيرًا أو كبيرًا أن يحتملها، لذا.. كان عليها هي أيضًا أن تحتملها دون عناءٍ يومًا ما، مثل جونغهيون ربما.. أو جانين.. أو حتى ذلك الأشقر العابث. 

التقطَت مسامع كِلا الرجلين تلك الكلمات الصغيرة في اللحظةِ التي اعتلت فيها يدُ جونغهيون مقبضَ العربة، فهدأ المُقنّع مكانه صامتًا.. بينما كان يبدو أن كبيرَ الخدم لم يكُن يتوقع سماع ذلك، لأن جُفنيه رفّا بخفة كأنه تجمّد مكانه متوقفًا، يُفكر في مقصدها وعدستيه تتجهان نحوها من جديد لتتفحصا تعابيرها، فقد بدت شاردة وهي تُحدِق في الأغراضِ الساكِنة.

حلّت لحظةُ صمتٍ قصيرة قبل أن يضعَ ابتسامةً حيوية على شفتيه، تتقوّسُ عينيه بسلام ويُحادِث الآنسة عندما قرر هذه المرة أن يختار نبرةً مُلاطِفة، تجعلُها ترفع ناظريها نحو وجهه الودّي حيثُ استقبلتها عدستين لامعتين بلونٍ دافئ..

[لم أعنِ ذلك آنسة إيميليا، فعملي تحت إمرةِ سيد كيم فُرصةٌ عظيمة، أنا أبذل جُهدًا مضاعفًا وحسب لأننا نستعِد لاستقبالِ أقرباء الإيرلين.]

حاولَ أن يجعلها تفهم أنه لا يتذمّر أبدًا من كونه مشغولًا، بل في الواقع كان يبتسم وكأنه سعيدٌ وراضٍ تمامًا عمّا يفعله، وهذا جعل إيميليا تنظرُ في تلك الابتسامةِ التي أشرقت في وجهها بعدما رفّ جُفنيها. كان يبدو كما لو أنه لا يأبه أبدًا إن كان الأمرً صعبًا.. فهو يفعلها بكُل ما يملكه من الجهد. لوهلة.. ظنّت إنها رأت طيفَ جانين وجيمين يلوحان لها من زاويةٍ بعيدة في رأسها، تتذكّرُ أنها ترى فيهما الرضا نفسه.. الثقة نفسها.

إنهم جميعًا.. محاوطون بهالةٍ لم تشعر بها من قبل، فحتى ذلك المُقنّع المجهول الذي يقِف ثابتًا كلوحةٍ قديمة لن يُفاجئها لو كانَ يحمل هو أيضًا دورًا ما مُهمًا، ويكون مُحمّلًا بفكرةِ الرضا مثلهم.

لكن.. الأهمُ من ذلك كُلّه هو أنها عقدت حاجبيها بخفة عندما أدركت أنه قال شيئًا مُهمُا، شيئًا لم يسبُق أن علِمت به، جعلها حائرة للحظة وهي تُحدق به كأنها تطلبُ أن يتمهّل بعد ملاحظته لتعجُّبها من شيءٍ ما، فراحت تُكرر عليه كلامه كما لو أنها تحاول التأكُّد بنبرتها المشوشة..

[أقرباءُ الإيرلين؟]

ردُّ فعلها جعلَ ابتسامة جونغهيون تتلاشى تدريجيًا، يُبادلها النظر برِفق كأنه لم يفهم سببَ استغرابها هذا الأمر، فهي جوّلت ناظريها بينه وبين المقُنّع الواقف هناك كأنها الوحيدة التي لا تعلم بشأنِ هذا، هل القصرُ في حالةِ استعدادٍ أيضًا لاستقبالِ أفرادٍ آخرين من العائلة؟

 في لحظاتِ الصمتِ تلك أدركَ كبيرُ الخدم أن هنالكَ شيئًا ما خاطئًا بشأنِ هذا.. لذا راجعَ بعض الأمور في ذهنه سريعًا قبل أن يُطلِق (آه) صغيرة من بين شفتيه، ويبدو أنه سيقولُ شيئًا بالنسبة لإيميليا التي طالبت نظراتها بالإجابة فورَ أن عاودَ جونغهيون الابتسامَ بهدوءٍ لها هذه المرة، يومئ برأسه لها مؤكِدًا ويُضيف بلُطف..

[أفترضُ أن الخبر لم يُعلَن بعد، اعتذاراتي. قصرُ كيم يتوقّع استقبالَ أفرادٍ مُهمّين بعد عِدة ساعات.. وعلينا أن نكون مستعدين في أي لحظة.]

كان عليه أن يعتذرَ لأنه سبب هذا الإرباك لها بعدما جعلها تستلِم الخبر بهذه الطريقة، ليسَ وكأن عليها أن تفعل أيّ شيءٍ مُميز.. لكنها مع ذلك تفاجأت تستبدِل حيرتها بتعابيرِ الاندهاش بسماعِ أنهم سيكونون هنا خلال فترةٍ قصيرة فقط، عِدة ساعات! هذا الأمر يُجبرها على أن تُفكر أنها سترى "المزيد" من الإيرلين.

لم تعلم كيف لها أن تشعُر بشأنِ هذا، لم يكُن الأمر وكأن أحدًا طلبَ منها استقبالهم وما شابه، لكنها تتساءلُ الآن عن طبيعةِ أولئك الأقرباء وأهميتهم ليكون على القصرِ أن يكون مستعدًا لهذه الدرجة لاستقبالهم، رُبما كان كل هذا العمل من أجل الحفلةِ ولكن.. كان هذا كثيرًا على يومٍ واحد بالنسبة لإيميليا.

يبدو أن جونغهيون لاحظَ أمرًا خلفها، فهي رأته يصنعُ ذلك الوجه الهادئ عندما صبَّ نظرته الجدية في شيءٍ ما قبل أن يعاودَ النظرَ فيها بِرفق، ينوي أن يُنهي محادثتهما القصيرةَ ويزاوِل العملَ عندما اومأ لها برأسه احترامًا، وأهداها بسمةً هانئة بالودِّ يستأذِنها للذهاب..

[أرجو المعذرة منكِ الآن آنسة إيميليا.]

رفَّ جُفنيها مُدركةً أنها تشغلهُ عن أداءِ عمله لأطولَ مما خططت، فأسرعت تُجيب له الإيماءةَ بتفهُّم.. وتسمحُ له بالمغادرة عندما حرصت ألا تكون في طريقِ عربته هذه المرة.

[بالطبع.]

أهدى الأشقر بسمةً أُخرى لطيفة للمُقنّع قبل أن يدفع العربةَ بيده التي كانت تستريحُ عليها طوال الوقت، وقادها بحذرٍ هذه المرة يسيرُ أمام الاثنين اللذين تبِعاه بعينيهما يتّجه نحو أحدِ الخدم الذي كان يقِف مسؤولًا على رفعِ مرآةٍ لامعة ذات إطارٍ مُزخرّف بدقة، يوقِفه بوضعِ يده الحُرّة على ذراعه ويُشير له بأمرٍ ما لم يسمعاه، بينما كانت إيميليا تعجبُ لرؤيةِ تعابيره الجادة حين كان يُخبر الشاب الأصهب ما عليه فعله، هذا كان احترافيًا منه.

هدأت تعابيرها وقتها تُشاهِد كبيرَ الخدم ينغمِس في العمل فورَ وصوله، فيما تُرِكت هي وحدها صامتة مع أرنبِ القصر الذي أصبحَ هدفًا لناظريها، تراه يوجّه رأسه نحوها في اللحظةِ نفسها ليُحدق ذنيك الثُقبينِ فيها. شيءٌ ما داخلها الآن فضولي بشأنِ موقعِ هذا الرجل هنا بالتحديد، فكما أصبحت تعلمُ.. لا أحدَ بسيطُ المسؤولية داخل القصر.

رُبما كان هذا سؤالًا ليومٍ آخر.. فقد أشاحَ الأرنب وجهه عنها بهدوء، يدفعها إلى الصمتِ بشأنِ فكرتها تمامًا حاليًا، لكنها راحت تُفكِّر بما هو أهم..

عرضُ الإيرلين الذي صارت جزءًا منه، حفلةُ القصرِ الصيفية وحضورُ أفرادٍ آخرين من العائلة العُظمى. لم تتصوّر أن كل هذا سيحدث في غضونِ الأسابيع القليلةِ الأولى من الصيف، كان كلُّ شيءٍ يبدو كما لو أنه "افتتاحية" لأحداثٍ أخرى لن تتوقعها.

رُبما في النهاية.. هذا الصيفُ سيكون مختلفًا جدًا عمّا اختبرته طيلةَ حياتها.

-----------------
.

.

.

.

.

انتهى!

هلا يحلوين كيف الامور؟🌚✨ شرايكم بالمفاجأة اليوم؟
قررت انزله لأن اليوم تاريخ جدا مميز، ٢٠٢٢-٠٢-٢٢❤️

اهمشي تقيمولي بداية الباب الثاني وكيف شفتوه كافتتاحية للأحداث القادمة، وطبعا تتركولي توقعاتكم وتحليلاتكم👀🌺

دُمتم جميعًا بخير~

Continue Reading

You'll Also Like

21.1K 1.4K 20
كيف تكونين شرسة و لطيفة طيبة و شريرة هادئة و ثائرة كالبركان انتى حقا مزيج مختلف انتي حلوة و حارة أنتي حلوتي الحارة
118K 14.8K 17
-الرواية خاصة للمتابعين فقط- " انتً جُرعةٍ اتنشط بها في الصباح ، وجُرعةٍ يلجأ اليها قَلبي حتى يبقى مُستيقظاً لأجلكَ في المسَاء " •جيون جونغكوك •اوه...
765K 16.3K 54
تحتفل روايات الحب _ في الغالب _ بهزيمة الرجل أمام الأنثي فلا شئ فالحب أقوي من تسلط الانثي ، فهي وحدها من تستطيع تمزيق الرجل وبعثرته ، ثم تجمعه وتشكله...
256K 6.2K 33
❝ إذا زوَجـتُك لا تُمـتِعُك يا اخَـي ، انا سـأفَعل ❞ بـارك بيـكهيون. أحـببُت اخـي حُـباً مُـحرم قـذراً بِـه مـن الدنـاسَه والنجـاسه والقـذاره كـماً...