الفصل الثالث سنجل حتى إشعار آخر حنين أحمد

1.9K 102 0
                                    

الفصل الثالث
(الماضي القريب)
يسير في طرقات البلد الغربي الذي سافر إليه ظاهريا لتحصيل علمي وعملي وباطنيا حتى تتحدد مشاعر تولين تجاهه
فهو على يقين من مشاعره هو.. أفكاره قادته لمكان لا يعرفه ويبدو أنه أحد الحارات وربما يخص المافيا بهذا البلد
فالوجوه التي أفاق من شروده عليها ترمقه باستنكار وكأنه تعدّى على حرمات حيّهم توحي بانتمائها للمافيا.
أخفى ارتباكه فلو حدث له شيء هنا لن يعرف طريقه أحد ولو بعد سنوات لذا استدار بهدوء وعاد من حيث أتى
إلّا أن أحدهم وقف أمامه وهو على مشارف الخروج من الحي..
"ما الذي أتي بك إلى هنا؟ هل أنت جاسوس للشرطة؟"
بادره الرجل بلغة أجنبية لتتسع عينا سِنان بدهشة قبل أن يجيبه بنفس اللغة:
"أنا غريب عن البلد وقد شردت وأنا أسير ووجدت نفسي هنا"
قالها ببساطة وصدق فلم يجد حجّة أخرى قد تقنعه خاصة وأنها الحقيقة كما أن ملامحه العربية واضحة للأعمى ليرمقه
الرجل بغير تصديق وهو يقول:"وهل من المفترض أن أصدّق ما تقوله؟ شرود أحضرك لحي لا يدخله الغرباء؟"
حرّك كتفيه بلامبالاة مصطنعة وهو يقول:"هذا ما حدث!"
أمسك الرجل بتلابيبه بخشونة وعنف واضح وكان يبدو مغيّبا بالكامل ويبحث عن المشاكل خاصة بالجروح التي تملأ
وجهه بطريق دلّت على عنفه وطبيعة انتمائه..
قرأ مصيره بعينيّ الرجل فبدأ يردد الشهادة داخله عندما حدث كل شيء سريعا!
طلقات نارية قريبة ودفعة من الرجل أسقطته أرضا ليجد نفسه يُسحَب ويُلقَى داخل سيارة سوداء معتمة النوافذ
ليتساءل ساخرا هل يتم خطفه؟!
"أنا لا أفهم ما المضحك في التعرّض للقتل؟!"
صوت بجواره أنبأه أنه ليس وحيدا على المقعد الخلفي للسيارة الفخمة ليفتح عينيه ناظرا للرجل بجواره متمعّنا
بملامحه.. عمره الذي ربما يزيد عنه ببضع سنوات, شعره الأشقر, لحيته الخفيفة, عينيه الزرقاوتين وعبوس ملامحه وهو
ينظر له وكأنه مختل عقلي فالوضع لا يدعو إلى الابتسام والتفكّه على الإطلاق إلّا أنه أطلق ضحكة ساخرة قبل أن
يقول بالعربية وبلهجة مصرية:"انا حاسس اني وقعت في فيلم اكشن امريكي"
ليطلق الشاب ضحكة عالية وهو يقول:"كان قلبي حاسس انك مصري الدم بيحِن برضه"
رمقه سِنان بصدمة قبل أن يقول:"انت مصري؟"
"أبّا عن جِد"
أجابه الشاب بعبث قبل أن يمد له يده قائلا:"فارس عوني"
ابتسم له سِنان وهو يصافحه معرّفا نفسه:"سِنان سيف الدين"
******
اصطحبه فارس إلى منزله والذي لم يكن منزلا عاديا بل قصرا بكل ما تحمله الكلمة من معنى حتى فارس نفسه يسير
بحراسة خاصة وهي التي أنقذته من العصابة بذاك الحي كما فهم من فارس وهو يشرح له الأمر..
رمقه سِنان بريبة وهو يسأله:"هو انت بتشتغل ايه عشان تحتاج لحراسة؟!"
ابتسم فارس وهو يقول:"الحراسة مش عشان شغلي, الحراسة عشان عيلتي"
ثم أخذ يشرح له أن والده الوريث الوحيد لعائلة كبيرة وعريقة بالوطن ولكنه نشأ وعاش هنا منذ انتقل به والده بعد
وفاة والدته وهي تلده كما أخبره والده قبلا..
والده الطبيب كان قد ترك كل ثروة عائلته على الرغم أنه الوريث الوحيد لها إلا أن ميوله هو قد اختلفت
عن والده فدرس الهندسة والإدارة وتسلّم منصبه كالوريث الوحيد أيضا للثروة التي زادت على يديه.
"واااااااااو.. مش بقولك حاسس اني وقعت في فيلم اكشن امريكي.. حكايه ولا في الخيال"
ابتسم فارس بتسامح وهو يقول:"انا نفسي اوقات مش بصدّق, واوقات بزهق من الحِمل اللي عليا بس انا اللي
اخترت والدي مغصبش عليا لأن هو نفسه ساب كل ده زمان"
همّ بالتحدّث ليقاطعه ظهور رجل كبير نوعا ما, وسيم بالنسبة لعمره إلّا أن ملامحه شرقية خالصة على خلاف ابنه
فارس بوسامته الغربية..
"فارس, انت كويس يابني؟"
هتف الرجل بجزع ليبتسم له فارس بحب وهو يقترب منه يقبّل كفّه بحب واضح وهو يقول بحنو:
"ايوه يا حبيبي انا كويّس ماتقلقش"
وقبل أن يلومه الرجل كان يقدّم سِنان له قائلا:"جيبتلك هدية من مصر.. سِنان دكتور صيدلي"
صافحه الرجل بشوق غريب وكأنه يرى فيه رائحة وطنه الذي تركه قديما ثم دعاه لقضاء أيامه معهما بالقصر بحنو
أبوي لم يشعره يوما من والده ليجد نفسه يستجيب بعفوية لدعوته عدة أيام.. كانت صداقته بفارس قد تعمّقت
وازدادا قربا وكأن كل منهما وجد في الآخر الأخ والصديق والسند.
*******
(بعد عام الماضي أيضا)
شعر بالدهشة عندما عاد من العمل ولم يجد والده في انتظاره فهو عادة يستيقظ مبكرا ويتناول إفطاره معه وسِنان
ويغادران هما ويلتقيان على الغداء خارجا ثم يعودان مساءا وغالبا يعود سِنان قبله ليعود ويجده جالسا مع والده
متبادلا معه الحديث بحنو وكأنه يستقي منه ما افتقده بوالده وقد عرف خلال أحاديثهما الطويلة أي
نوع من الآباء كان والد سِنان ووقتها حمد الله على وجود والده الحنون المحب بحياته..
لم يكن سِنان متواجدا فقد أخبره أنه سيتأخر الليلة بالعمل وسيعود بوقت متأخر فاتجه فارس رأسا لغرفة والده يطمئن
عليه فليس من عادته النوم قبل عودته ليشعر بالدهشة الشديدة عندما وجده بالفراش حقا!
اقترب منه يشاكسه وهو يحثّه على الاستيقاظ علّه:"بابا.. يا سيادة الدكتور العظيم..كده تنام قبل ما ارجع؟ طب انا
زعلان منك"
عدم صدور أي رد فعل أو حتى صوت من والده جعل قبضة من الألم تمسك بقلبه..
جلس جواره ثم مال عليه يقبّل وجنته قاصدا إزعاجه وهو يفكر ربما كان مرهقا لا أكثر ولكن برودة بشرته تحت
شفتيه جعلت الخوف يمسك بتلابيب قلبه وهو يهزه برفق مناديا إياه بخفوت ولازال الصمت ردا!
صوت سِنان المنادي له جعل صوته يخرج متحشرجا وهو يخبره أنه بغرفة والده وصوت داخله يخبره
بما يحدث حقا ولكنه يقمعه بقوة خوفا من أن يكون حقيقة وحقيقة كهذه لن يحتملها أبدا.
دلف سِنان ليجده بجوار والده على الفراش ووجهه شاحبا بطريقة أخافته وهو يقترب منه سائلا:
"مالك يا فارس؟ ايه اللي حصل؟"
ثم رمق الجسد النائم على الفراش وهو يقول بدهشة:"هو عمو نايم وال ايه؟"
حرّك فارس رأسه علّه يستفيق ويجد كل هذا مزحة ما عندما مدّ سِنان يده يربّت بها على يد والده بحنو سرعان ما
تحوّل لشهقة مكتومة وهو يمسك بيده يتحسس نبضه ثم يزيح فارس عن طريقه وهو يتحسس النبض بعنقه ويقرّب
وجهه لفمه قبل أن يبتعد ببطء وهو يرمق فارس بنظرة جعلته يغمض عينيه بألم وهو يصرخ:"لاااااا"
******
شهرين قد مرّا على وفاة السيد جواد عوني والد فارس إلا أنه مازال يشعر وكأن وفاته كانت بالأمس فقط
فمازالت مشاعر الحزن بل البؤس إذا أراد الدقة تحيط بالمنزل وبهما فارس الذي لم يخرج من المنزل منذ قام بدفن
والده واستقبال المعزيين والذين كان عددهم كبير نسبة لمكانة الدكتور جواد وفارس ومكانة عائلتهما..
حتى والده قدم من مصر ليقدّم التعازي الحارة في بادرة شعر بغرابتها قبل أن يعلم أن والده صديق قديم للدكتور
جواد وكان مازال على تواصل معه على فترات متباعدة حتى فترة قريبة من وفاته وهو ما جعله يشعر بالدهشة
الكبيرة فوالده مختلفا كليا عن الدكتور جواد ما الذي جمع بين رجلين مختلفيين سوى الخلفية العريقة لعائلتهما!
زفر بقوة وهو يذهب رأسا لغرفة الدكتور عوني والتي يقبع بها جواد منذ وفاته وكأنه يأبى أن يصدّق أن والده قد
غادر حقا وهو لم يملك إلا أن يتركه.. ففترة قليلة كعام عاشه مع الرجل جعلته يعلم أي خسارة شعر بها فارس بوفاة
والده.
طرق الباب طرقة واحدة قبل أن يدخل وهو يقول بمرح مصطنع:
"اوعى تكون قالع وتبوّظ أخلاقي يا واد يا اشقر انت"
تجمّدت ملامحه حالما وقع بصره على فارس الذي كان جالسا على فراش والده وهو يمسك بيده دفتر يبدو قديما
نوعا ما وملامحه شاحبة وبعينيه نظرة ضياع غريبة عليه ولا تمت بصلة لضياعه عقب وفاته والده..
اقترب منه بهدوء خاصة عندما لاحظ أنه لم يشعر به ولا بصوته المرح وما إن وصل إليه حتى أمسك بذراعه مستفسرا
ليشهق فارس بقوة وهو ينتفض قبل أن تتقابل عيناهما وفارس يتمتم:"مطلعش ابويا! ابويا ماطلعش ابويا يا سِنان!"
عقد سِنان حاجبيه بعد فهم وهو يقول:"انت بتقول ايه يا فارس؟ هو مين اللي مطلعش ابوك؟"
فتح الدفتر وأعطاه له مفتوحا على الصفحة التي كان يقرأها منذ قليل فقرأ ما كتبه الدكتور لنفسه قبل أن يكون
لفارس وانعقد حاجباه بقوة وكلما قرأ كلما شعر بالخوف على فارس ورد فعله الآن لن يمثّل شيئا أمام رد فعله عندما
يفيق حقا من الصدمة.
وضع الدفتر بعدما انتهى من قراءته بهدوء قبل أن يقول بهدوء:"وياترى بتفكر تعمل ايه دلوقتي؟ تمحي الراجل اللي
وقت جنب والدتك زمان وضحّى بحياته كلها عشانك حتى انه ارتكب اثم عشانك وعشانها من حياتك وتروح تدور
على واحد مايستاهلش حتى انه يتقال عليه راجل؟! وال هتعيش دور المصدوم والمخدوع وتسيب كل ذكرياتك
الحلوة مع الدكتور تختفي بس عشان مطلعش والدك الحقيقي؟"
رمقه فارس بضياع آلمه ولكن لابد أن يكون أكثر قوة في مواجهة ما عرفه حتى لا يضيع منه فارس كما هو واضح
على ملامحه المصدومة..
"كل حياتي كانت كذبة يا سِنان انت مدرك لده؟"
قال فارس بعدم تصديق ليقول سِنان بهدوء:"ماظنش ان الاسم هيفرق معاك في حاجه يا فارس.. الدكتور سواء
والدك الحقيقي او لا ولكن يكفي حبه وتضحيته عشانك وعشان والدتك قبلك.. يكفي تعامله معاك
واللي الآباء الحقيقيين اللي عرفتهم مابيعملوش نصه"
صمت للحظات وهو يجد فارس ينتبه لما يقوله ليتابع:"الأب هو اللي بيربي ويحمي ويسند.. هو اللي اول ما تقع في
كارثه تجري عليه تقوله وتستنجد بيه.. الأب يعني السند والحماية.. يعني القلب اللي بيحتوي ويخفف, يعني الحب
الصادق من غير اي دوافع ولا مصالح وأظن أن الدكتور كان ليك كده وأكتر كمان"
لمح الدموع الحبيسة بعينيّ صديقه ليضيف بألم:"سنة واحده هي اللي عيشتها مع الدكتور إلا انه كان فيها نِعم الأب
والسند ليا.. خلاني احمد ربنا اني دوقت معنى وجود اب في حياتي ولو لسنة واحده الا انها رغم قلّتها كانت احسن
سنة في حياتي كلها"
صمت هذه المرة لفترة قبل أن يغادر بهدوء وقد قال ما لديه والباقي يترتب على فارس وحده.. هل يريد محو سنواته
كلها من أجل اسم شبه رجل تنكّر لوالدته وله قبلا أم أنه سيتعامل مع الأمر كأنه لم يكن؟!
والإجابة جاءت سريعة إذ بعد أسبوع واحد قابله فارس على الإفطار الذي كان يحشره حشرا بفمه حتى لا يسقط
مغشيا عليه في مرحلة ما بين ركضه لتسريع رسالته وبين عمل فارس الذي كان يديره سِنان حتى عودة فارس وبين
عمله الخاص والمشترك بينه وبين ابن خالته كاظم في الوطن..
لم يوجّه إليه حديثا حتى بادره فارس:"صباح الخير سِنان"
"صباح الخير"
ردّ التحية باقتضاب قبل أن يقول:"واضح انك قررت اخيرا تفوق وترجع لشغلك"
أومأ فارس وهو يقول بهدوء حزين:"أيوه مش هضيّع كل ال عمله بابا عشان حاجه مالهاش لازمه"
ونعته للدكتور جواد بالأب جعله يدرك انه قرّر تجاوز ما قرأه بدفتره ليقرر إخباره بما بحث عنه من أجله وساعده
والده الذي كان دوره فعّالا بالأمر فهو من ساعد جواد على التزوير قديما ومعرفة كل المعلومات
اللازمة عن والد فارس البيولوجي فنهض بهدوء واتجه لحقيبة عمله قبل أن يمنحه أوراقا كانت بحورته منذ يومين بناءا
على طلبه وهو يقول:"في الحالة دي اقرا ده عشان تتأكد ان قرارك صح"
ثم غادر وتركه بصحبة الأوراق دون كلمة واحدة.
******
رمق الأوراق بين يديه بخوف قبل أن يأخذ نفسا عميقا ويزفره بقوة وهو يفتحها ويبدأ بالقراءة لتتسع عيناه شيئا
فشيئا وهو يجد كل المعلومات التي قد يفكر بالبحث عن والده البيولوجي والمعلومات لم تكن مشجعة أبدا كما
توقع.. فوالده الحقيقي كان فقيرا, نصّابا, يتلاعب بالفتيات الثريات ويحصل منهن على كل ما يستطيع الحصول عليه
دون زواج إلا أنه تورّط بزواجه من والدته هو لأنها لم تكن كالأخريات بأخلاقها فلم يحصل منها على شيء دون
زواج شرعي إلا أنه أيضا لم يستطع التلاعب مع جده لوالده والذي تبرّأ منها حالما هربت وتزوجت به بل
أعلن أنها قد ماتت بوباء ما كما قرأ قبلا بمذكرات الدكتور ثم طلّق والدته وهي حامل وتزوج بعدها على الفور بفتاة
أخرى من الحارة التي عاش بها طوال عمره وبعد ولادته كان يبحث عنها وعن الطفل الذي كان بحوزته والسبب أن
والدها قد توفي وكانت شقيقتها تبحث عنها ربما لتمنحها إرثا أو لتعيد العلاقات لا أحد يعلم ولكن صُدِمَا كلاهما
أنها ماتت وقد أعلن الشيخ الذي كانت تعيش معه وزوجته أنها قد أجهضت قبل وفاتها حتى يقتل كل أمل لشبيه
الرجال ذاك بأي منفعة قد تأتي بسبب الطفل.. شقيقتها قد عادت أدراجها باكية أما شبيه الرجال ابتعد يائسا أن
يحصّل أي منفعة وتم قتله بعدها بفترة على يد أحد الرجال الذي خدع ابنته يوما لينمحي أثره وتتحقق العدالة
الإلهية.
لقد كان الدكتور جواد صادقا بعد كل شيء.. فلم يزيّف الحقائق لصالحه كما ظنّ للحظة بل كان صادقا كما عهده
دوما حتى الدفتر كان حديثه لنفسه عن محاولته للتوبة عن الإثم الذي ارتكبه بتزوير الوقائع ونسبه الطفل له
دون وجه حق إلا أن فارس أدرك أنه لو عاد به الزمن لفعلها مرة أخرى وكم كان ممتنا أنه فعل.. فلم يتخيل أن
يكون ابنا لسواه أبدا.. بل إنه يعلم جيدا أنه حتى لو وجد ذاك الأب البيولوجي على قيد الحياة لم يكن ليقترب منه
أو يحاول تغيير هويته واسمه, فهو سيظل دوما فارس جواد عوني ولن يعلم أحد عن الحقيقة سواه وسِنان والذي هو
على يقين أنه لن يذكرها مرة أخرى.
*******
(الحاضر)
عادت لمكتبها وهي تعلم أنها ربما فقدت وظيفتها التي استمتعت بها لشهرين كاملين فقد علمت بالطبع أنّ ذاك
الأشقر الوسيم الذي سخرت منه قبل قليل ما هو إلا مالك الفندق الذي تعمل به ولكنها لم تملك إلا أن تسخر منه
بقوة على ما يرتديه فكيف لمليونير شاب يذهب للعمل بسروال قصير وقميص دون أكمام وكأنه يتنزه على
شاطئ البحر والأدهى من ذلك أنه يرتدي هذا بمنتصف الشتاء القارص والذي يجعلها تكاد ترتدي كل ما بالمنزل
تحت ملابس العمل علّها تشعر بالدفء دون جدوى..
هذا غير نزلة البرد التي قلّما تغادرها طوال الشتاء وبعد كل هذا يتعجّبون أنها تكره فصل الشتاء؟!
زفرت بضيق وهو ترتب أشياءها قبل أن يفتح باب مكتبها بوقاحة ويدلف هو مغلقا الباب خلفه مسندا ظهره عليه
وهو يرمقها ببرود أثار حفيظتها مع كل تصرفاته ولا  تعلم لماذا يستفزها رجل بالكاد رأته منذ عدة دقائق!
"نعم؟"
بادرته مهاجمة وهي تذكّر نفسها أنها خسرت العمل وانقضي الأمر ولكنها لم تحسب رد فعله الصادم وهو ينفجر
ضاحكا بقوة وهو يرمقها بعدم تصديق..
زمّت شفتيها بقوة تكبح سبابا كاد ينطلق من بين شفتيها ثم قالت ببرود:"ايه شايف اراجوز قدّامك؟"
هدأ ضحكه قبل أن يشير إليها قائلا:"ايه اللي انتي لابساه ده؟ كرنبه متحركة"
شهقت بقوة من وقاحته لتهتف به بغضب:"كرنبه لما تلّفك وانت عامل شبه البتنجانه كده انت مين اللي سمحلك
تدخل هنا؟"
تكذب فهي تعلم أنه مالك الفندق المنتظر ولم يكن يتصرّف بهذه الوقاحة والثقة لو لم يكن هو ولكنها تظاهرت بعدم
معرفته ليبتسم هو بعبث.. يعلم جيدا أنها تدرك مكانته ولكن عدم اهتمامها بمكانته وثرائه وحتى وسامته إضافة
للسانها الذي يحتاج للتهذيب جعله يراها مميزة ولم يرَ مثلها قبلا.
"اووبس, هو انا دخلت مكتب غلط؟ مش ده برضه مكتب مساعد المدير جهاد عبد السلام؟ واضح فعلا اني
غلطت في المكان لأني مش شايف أستاذ جهاد هنا"
واسمها بهذه النبرة المستفزة مع نسبه اسمها لرجل كان أقصى ما تستطيعه في هذه اللحظة فاتّسعت عيناها
بصدمة قبل أن تهتف به بغضب أعمى:
"استاذ بعينك, يا أعمى البصر والبصيرة, شايفني راجل قدّامك؟"
تظاهر بالدهشة وهو يسألها:"انتي الاستاذ جهاد؟ اووه سوري اقصد الآنسة جهاد؟"
جهاد جهاد جهاد يبدو أنه يتعجّل بموته هذا اليوم..
"انا جيجي مساعدة مدير الفندق والمسؤلة عن العلاقات العامة والترجمة اي خدمة؟"
قالت بمهنية شديدة حتى توقفه عن استفزازها فلم تعد تعرف لو زاد من استفزازها ربما تقتله حقا وتنتهي حياتها بين
جدران السجن أو ربما بحكم إعدام بما أنها ستقتله مع سبق الإصرار والترصّد.
ابتسم بخفة وهو يمد يده ليصافحها قائلا بهدوء وقد تخلّى عن مشاكستها حالما شعر أنه قد زاد عن الحد الذي قد
تحتمله:"فارس عوني"
ولم يزد عن اسمه شيئا وكأن اسمه وحده كفيلا أن يوضّح مكانته وقد فعل فرسمت على شفتيها ابتسامة مهنية وهي
ترحّب به وتصحبه بجولة بالفندق الذي لم يزره من قبل وتطلعه على برامج الفندق للترفية عن السياح خاصة أن
أغلب نزلائه سياحا لينقضي الوقت سريعا ولدهشتها استمتعت بصحبته بعيدا عن وقاحته ومشاكساته.
*****
لا تفهم لماذا تتحاشاها والدتها منذ انتقلا لمنزل جدها بل منذ وفاة والدها على وجه الدقة؟ لماذا لا تحظى بأم تشبه
والدتيّ جيجي ورغدة اللتين يهتمان بهما في كل شيء؟! لماذا لا تعيش حياة عادية بأم تكون هي محور اهتمامها وأخ
يشاكسها ويثير جنونها إنما يهتم بها ويرعاها ويكون سندها وقت الحاجة.. لماذا تشعر دوما أنها مجبورة على تقبّل
الفتات الذي تحظى به وليس من حقها أن تطالب بأكثر مما يمنحونها إياه؟!
هي لا تطلب الكثير, فقط أم تهتم بها وتسألها عن حالها, عن دراستها, عن أي شيء يخصها!
تحاول تزويجها حتى لا تطالها العنوسة كما تفعل باقي الأمهات.. ولكنها لا تجد من والدتها سوى التجاهل التام وكأنها
قد ندمت أنها قد أنجبتها من الأساس وكم آلمها هذا الإحساس خاصة عندما علمت بنيّة والدتها الزواج مرة أخرى
هي لم تنكر حقها بالزواج مرة أخرى خاصة أن والدها توفي منذ سنوات طويلة إلا أنها تشعر بالألم أن الأمل الذي
كانت تعيش من أجله قد انطفأ فها هي والدتها ستغادر المنزل بعد أسبوع على الأكثر وستنقطع الصلات بينهما
أكثر مما هي بالفعل.
على الجانب الآخر جدها يغدق عليها بحنانه لا تستطيع الإنكار ولكنه يظل جدها لن يعوّضها مكان والدها أو حتى
والدتها أبدا.. خاصة وقد علمت أن والدها كان بسببا بالقطيعة بين جدها ووالدتها فقد تزوجته رغما عن جدها مما
اضطره لقطع العلاقات بينهما حتى مات والدها فلم يتنكّر لابنته وقتها بل احتضنها وابنتها على الفور.
وسِنان.. زفرت بقوة عندما وصل تفكيرها له.. سر سعادتها وعذابها!
سرّها البريء الذي حفظته داخلها لسنوات ويبدو أنها ستقضي نحبها وتصحب سرها معها إلى القبر...
فحتى صديقتيها لم تخبرهما عن مشاعرها لسِنان ابن خالها والذي طالما كان البطل السرّي لأحلام طفولتها ومراهقتها
وحتى هذه اللحظة!
سِنان الذي احتضنها منذ خطت بقدميها باب منزل الجد لتعتبره والدها وشقيقها وفارس أحلامها ومازال حتى هذه
اللحظة يمثّل لها كل شيء.
زفرت بقوة وهي تغمض عينيها تفكّر ماذا لو تزوج سِنان! ماذا ستفعل وقتها؟!
هي لن تحتمل انتمائه لأخرى ولن تحتمل أن يبتعد عنها وألّا تمتلك الحق حتى للتفكير به فكيف يمكن أن تواجه يوما
كهذا خاصة أن خالها أصبح يلح عليه كثيرا بهذا الأمر ورفضه لا يعني أنه لن يتزوج يوما هو فقط ربما لم يجد المرأة
المناسبة له.
وضعت يدها على قلبها الذي آلمها من تخيّل الأمر فقط.. سِنان لأخرى تحبه وتدلّله وتحتوي ألمه وتعوّضه عن سنوات
اليتم ووالده على قيد الحياة, هل يمكن أن يحتمل قلبها كل هذا؟!
طرقة هادئة قاطعت أفكارها لتنهض بهدوء وترتدي ثوب الصلاة على منامتها الطفولية قبل أن تفتح الباب لتجد
مصدر أحلامها وآلامها واقف أمامها.
*****
"ايه؟ عمتي هتتجوز بجد؟!"
هتف سِنان لجده باستنكار فأومأ جده بهدوء وهو يقول:"ايوه يوم الخميس اللي جاي قعده بسيطة كده بعد كتب
الكتاب وبعدين هتروح معاه"
"وتولين؟"
تساءل خوفا وألما.. خوفا أن تذهب معها فيفقد حتى القليل من الذي يملكه منها وألما عليها وهو الذي يعلم جيدا
مدى ألمها من معاملة عمته اللامبالية بها.
"تولين مش هتخرج من بيت جدها إلا لبيت عريسها إن شاء الله"
قال جده بصرامة ليعقد حاجبيه وهو يقول بصرامة مماثلة:"قصدك لبيتي انا يا جدي"
رمقه الجد بتلاعب وهو يقول:"لو وافقت هي اكيد مش همانع ولو اني ماشوفتش اي تقدم من وقت مارجعت من
السفر"
زمّ شفتيه بحنق.. ماذا يخبر جده؟!
هل يخبره عن احتضانها إياه عقب عودته من السفر والذي صدمه بقوة من عنف المشاعر التي يكنها لها
حتى أنه يخشى عليها انفلات مشاعره فحتما ستخشاه وقتها أم يخبره عن تحاشيها إياه منذ ذلك اليوم ومعاملته كأي
غريب حتى حديثها العادي لم يعد موجودا كما قبل ولا يعلم هل هذا خجل مما حدث أم أنها تنفيه من حياتها
استعدادا لشيء ما؟!
زفر بقوة قبل أن يقول:"عايزني اتعامل معاها ازاي يا جدي؟ حضرتك ربّتنا على احترام الدين والحدود بينا فايه اللي
ممكن اعمله يلغي الحواجز بينا من غير ماتعدّى على الحدود دي؟"
ظلّ جده يرمقه بصمت للحظات قبل أن يصدمه بقوله:"اتجوّزها"
*****
يسير لغرفته وكلمة جده ترن بعقله مرارا وتكرارا.. (اتجوّزها)!
هل يعلم جده أن قلبه انتفض بقوة داخل صدره فقط من هذه الكلمة؟!
فما بالك أن تتحوّل لحقيقة ماذا سيحدث له وقتها؟!
وجد نفسه يقف أمام غرفتها ويطرق الباب لتفتح قبل أن يقرر التراجع عما نواه
"أبيه سِنان؟ فيه حاجه؟"
سألته تولين بدهشة من وجوده بهذا الوقت أمام باب غرفتها وهو الذي يتجاهل وجودها تقريبا منذ حضر فارس
صديقه ..
"ماشوفتكيش النهارده فقولت لازم اشوفك قبل مانام ولقيت النور مفتوح عندك عرفت انك لسه صاحيه"
قال سِنان بتفسير لتبتسم له بفرحة وهي تقول:"انت كمان وحشتني اوي"
براءتها تقتله, تجعله يريد خطفها وتعليمها معنى أن يحبها رجل مثله ولكن ماذا يفعل بالحدود التي تفصل بينهما!
(اتجوّزها)
سطعت كلمة جده بعقله بغتة ليرمقها بغموض وهو يقول لها:"ماقولتليش ايه رأيك في الشغل؟"
كان قد ضمّها لطاقم العمل بشركته وكاظم علّه يتقرّب منها ولم يعلم أنها ستبتعد عنه أكثر فلم يستطع أن يتقرّب
منها أمام العاملين بالشركة وكان مضطرا أن يعاملها كأي شخص آخر حتى لا يسيء إليها..
ابتسمت وهي تتذكّر صدمتها فور رؤيتها لكاظم خطيب رغدة بل ومعرفتها أنه قريب لسِنان على الرغم أنها لم تره
قبلا وعلمت بعد ذلك أنه كان بالخارج وعاد قبل سفر سِنان ليحل محله بالخارج ويمارس كاظم عمله من الوطن..
"الشغل حلو اوي يا أبيه, بس اتصدمت لما شوفت أبيه كاظم"
قالت تولين بمرح ليرفع حاجبه لأعلى وهو يكتم ضحكته فلو سمعها كاظم تنعته بأبيه وهو خطيب صديقتها لمات
بنوبة قلبية لا محالة.. هل يبالغ لو قال أنه لا يريدها أن تنسب هذه ال (أبيه) لسواه؟!
أجل على الرغم أنها حاجز من الحواجز التي عليه تخطيها للوصول إليها إلا أنه لا يريدها أن تقولها لسواه..
يريدها كلمة خاصة به فقط.. ابتسم بخفة وهو يفكر يبدو أن قد أصابه الجنون بسبب أميرته الصغيرة.
"كاظم راجل كويس اوي, صاحبتك محظوظه بيه"
قال سِنان بهدوء لتومئ تولين بحماس وهي تقول:"والله قولتلها مش هتلاقي زيه ابدا وانها بكره تحبه وتموت فيه كمان"
برقت عيناه بقوة وهو يصِر على أسنانه والغيرة تكاد تقتله وهو يسمعها تمدح صديقه ببساطة أمامه وكأنه صديقة لها
وليس ابن خالها الغارق بحبها حتى أذنيه!
"وانتي يا تولين؟ مش ناويه تتجوزي؟"
سألها محاولا تغيير مجرى الحديث والابتعاد عن صديقيه ليبهت وجهها فجأة وتنطفئ ملامحها وتعبير غريب يظهر
عليها جعل قلبه يئن ألما عليها قبل أن تقول:"لا.. انا مش بفكر في الجواز دلوقتي"
وقبل أن يقول شيئا آخر كانت تلقي عليه تحية النوم وتغلق باب غرفتها بوجهه!
*******
"كنت فين يا فارس قلقتني عليك!"
هتف سِنان بقلق ليرفع فارس حاجبه لأعلى وهو يقول بمرح:"ايه يا سنسن, مالك عايش دور مراتي ليه كده؟"
"سنسن! انت شارب حاجه؟"
تساءل سِنان بريبة وهو يراه يرمقه بعبث ليقهقه فارس عاليا وهو يقول:
"ايوه شارب حاجة بيضا بشعر بني ف دهبي وعيون زرقه شقيه ونظارة المفروض تخلّيها جد انما هي مدياها منظر
مغري اكتر"
ارتفع حاجبي سِنان لأعلى حتى كاد يلمس منابت شعره وهو يسمع صديقه يصف له فتاة ما يبدو أنها حازت على
إعجابه وهذا في حد ذاته صدمة له ففارس الذي عاش حياته كلها ببلد لا دين لها ولا ضوابط لم ينظر
يوما لفتاة مرتين مهما ارتمت تحت أقدامه النساء لوسامته وثروته على حد سواء فما الذي حدث له بأول يوم له
بفندقه الذي لم يزره قبلا!
"ودي مين ال جابت راسك من اول نظره دي"
سأله سِنان ساخرا لتلتوي شفتيه بابتسامة وهو يستعيد شقاوتها وردها عليه الجملة بعشرة قبل أن يقهقه عاليا وهو
يقول لسِنان:"دي مساعدة مدير الفندق ومديرة العلاقات العامة وقسم الترجمة, يادوب طايلة كتفي بس لسانها ولا
عشره متر"
قهقه سِنان وهو يرى مزاج صديقه الرائق والذي تم سبّه على ما يبدو من تلك الفتاة ورغم ذلك يبدو رائق البال
ومنتعشا كما لم يسبق له أن رآه.
"واد يا فارس.. انت رايح تحب وال رايح تشتغل؟ افتكر هنا مش زي هناك"
قال سِنان محذّرها إياه من التمادي مع الفتاة ليلوي فارس شفتيه ساخرا:
"يابني انت فاكرها قطه مغمضة زي تولين؟ دي ممكن تاكلني انا شخصيا لو قولتلها كلمة واحدة غلط اصلا"
ثم أخبره بما حدث بينهما اليوم لينفجر سِنان ضاحكا وهو يهتف:
"يا نهار ضحك! مش متخيل المنظر بجد.. يخرب عقلك يا فارس حد يروح الشغل بشورت وتيشيرت حمّالات وفي
عز الشتا ده؟!"
"شتا ايه يابني انت بتهزّر؟ هو اللي هنا ده شتاء؟ امّال التلج اللي كنت عايش فيه هناك ده كان ايه؟ يابني شوية
البرد والمطر دول لعب عيال بالنسبة لي وحقيقي كنت حرّان انت عارفني مش بتحمّل الحر"
قال فارس ببساطة ليبتسم له سِنان قائلا:"عارف يا اخويا بس ع الاقل ابقى البس بنطلون وقميص عشان منظرك
يا اخي قدّام موظفيك حتى"
أومأ وبداخله يعلم أنه لن يفعل فإن كان هذا يثير حفيظتها إذا فالمرة القادمة ربما يذهب دون شيء فقط حتى يراها
تنفجر غاضبة بهذه الطريقة الرائعة المميزة.
******
(مين فيكم فاضيه تيجي معايا عشان اجيب فستان لكتب كتاب ماما؟)
كتبت تولين بالمحادثة الجماعية لتكتب لها جيجي مع وجه ترتسم عليه الدهشة
(كتب كتاب مين؟ تولين انتي بتهزري؟)
وجوه ضاحكة أرسلتها تولين متظاهرة باللامبالاة قبل أن تكتب
(شوفتي بقى ماما هتتجوز وانتي لسه سنجل.. شدّي حيلك بقى عشان تلحقيها)
ظهرت أيقونة يكتب ثم اختفت عدة مرات.. تعلم أن صديقتيها يشعران بها حتى لو لم تتحدث
كما تعلم أن أيّ منهما لا يحب والدتها ووالدتها تبادلهما الشعور إلا أنها توقّفت منذ فترة طويلة عن الاهتمام بما تحبه
والدتها أو تفضّله.
أغلقت المحادثة بعدما كتبت لهما أنها ستخرج بعد قليل لتحضر ثوبا جديدا لعقد قران والدتها لتجدهما أمام المنزل
حالما فتحت الباب الخارجي..
ابتسمت لهما بحب وهي تفكّر أن الله يمنح بقدر ما يأخذ وأكثر فلن تستبدل جيجي ورغدة بأي أحد مهما حدث.
"بتقفلي الشات بوشي يا بت؟"
هتفت جيجي بغضب مصطنع لتبتسم لها تولين بمرح وهي تقول:
"ايون وكل يوم هعمل كده بدام هشوفك ف الاخر"
ابتسما لها بحنو قبل أن تلقي بنفسها بين ذراعيّ جيجي فرغدة وهما تتلقيانها بحب وحنو أخوي مميز.
******
مرّ يوم عقد قران والدتها بخير وحالما غادرت المنزل مع زوجها كادت تولين تتنفّس الصعداء فقبّلت جدها قبل أن
تصعد لغرفتها وعينا سِنان تتبعانها بقلق..
"تولين قويه يا سِنان ماتخافش عليها"
رمق جده بصمت ليتابع الجد:"بس رغم كده عايز اوصّيك عليها, هي مالهاش غيرك بعد ربنا يابني لو جرالي حاجه
ماتسيبهاش لوحدها"
زفر بضيق وهو يجلس جوار جده يرمقه بعتب قائلا:"ليه الكلام ده يا جدي دلوقتي؟ انت زي الفل وهتعيش لحد ما
تشوف عيالنا كمان"
ابتسم الجد بمرح وهو يقول غامزا إياه:"طول ما هي بتقولك أبيه ماظنش هشوف عيالكم ابدا"
قهقه فارس الذي وصل على جملة الجد ليهتف:"في دي عندك حق يا جدي, المفروض يخلص من ابيه اللي لازقه في
لسانها بقى, مش معقول هيتجوز واحده بتقوله ابيه ده حتى شكله هيكون وحش اوي"
رمقه سِنان بغيظ قبل أن يقول:"بس انت يا بتنجانه, ليك عين تتكلم بعد ما اتهزقت"
قهقه الجد عاليا وهو يراهما يتمازحان بمرح ويشعر بالسعادة لوجود فارس مع سِنان فهو يخرجه عن الجدية التي
يتسلّح بها خاصة بوجود والده.
*****
"بت يا رغدة هو كاظم معدش بيجي ليه؟ ده بقاله يجي اسبوعين ماجاش؟"
سألت سوسن والدة رغدة لتقول بلامبالاة مصطنعة:"بيقول عنده شغل كتير وكان مسافر تقريبا"
رفعت سوسن حاجبها لأعلى بصدمة وهي تردد:"تقريبا!"
لتتأوّه رغدة حالما ضربتها والدتها على رأسها وهي تهتف بها بغيظ:"انتي يا بت مفيش دم خالص؟ خطيبك مابيجيش
ولا بيكلمك وفي الاخر تقوليلي مسافر تقريبا؟ تلاقيه طفش منك مانتي يتفاتلك بلاد والله"
شهقت رغدة وهي ترمق والدتها بحنق قائلة:"في ايه يا ماما؟ هو انا بنتك وال هو الله"
"ياريته هو اللي كان ابني كان زماني جوّزته ست ستك.. لكن هعمل ايه ف حظي اللي بلاني ببت لسانها طويل
ومعندهاش دم"
هتفت سوسن برغدة بغيظ وهي تتركها وتغادر حانقة لتزم رغدة شفتيها بحنق وهي تتمتم:
"وانا ذنبي ايه إذا كان هو اللي اتقمص! كل ده عشان قولتله يمكن مانتجوّزش! غلطت انا يعني وال غلطت ده ايه
ياختي ده.. عيال ايه اللي نفكّر باساميهم من دلوقتي وآل ايه عايز سته.."
تذكّرت ملاحظة جيجي المرحة عن العدد عندما أخبرتهما:
"ما هو الحائط ده لازم يجيب سته امّال انتي فاكرة ايه هيبقى حائط كده منظر بس! ياختي ياريته كان خطيبي انا كان
زماني جيبتله عشره مش سته بس جتك وكسه"
هل تنكر أنها شعرت بالغيرة؟! لا لا تستطيع أن تنكر أمام نفسها أنها شعرت بالغيرة تحرقها بقوة عندما تخيّلته مع
أخرى ولكنها عنيدة وتعلم هذا جيدا..
فبعد جملتها الوقحة ساد الصمت تماما قبل أن ينهيا طعامهما بصمت مطبق حتى شعرت أن طعم اللحم كطعم
الفحم تماما وقاد بها للمنزل ورفض حتى أن يشرب قهوته مع والدها متعللا بالنوم باكرا من أجل العمل ومنذ ذاك
اليوم لم تسمع منه خبرا وهي لم تجرؤ على مهاتفته بعدما أرسل لها رسالة بعدها بيومين أن لديه الكثير من العمل
ولن يستطيع رؤيتها..
تذكّرت اقتراح تولين أن تذهب لرؤيتها بالعمل وبهذا تراه وكأنها صدفة..
رفضت الاقتراح على الفور وقتها ولكن الآن ترى أنها فرصة جيدة لأن تراه.. أرسلت لتولين رسالة أنها ستذهب لها
باستراحة الغداء باليوم التالي وجاءها الرد ضحكة مرحة منها ووجه يغمز فزمّت شفتيها بحنق وهي تفكّر أنها تتنازل
من أجل خطيب هي غير مقتنعة به ليصدمها الصوت داخلها وهو يهتف بها..
(وما الذي يمنعكِ أن تحلّي الخطبة؟)
وأجابت الصوت بحنق لأنها لا ترى به عيبا واحدا سوى أنه ابن صديق والدها وتقدّم لها بطريقة تقليدية لا كما تحلم
دوما!
نهاية الفصل

نوفيلا سنجل حتى إشعار آخر بقلمي حنين أحمدحيث تعيش القصص. اكتشف الآن