الفصل التاسع عشر

731 20 1
                                    

الفصل التاسع عشر
***
أنتِ قصيدة تائه انا بين ربوعها..
اغفري لبيت بها بلا عنوان..

***
تجاعيد السماء بسحبها المتعرجة الباهتة، تنبئ بيوم بارد جديد أضافه لتلك الأيام الثقيلة التي مرت في فراقها، أسبوعا كاملا وهي بعيدة عنه، طعامه بارد، فراشه بارد، وقلبه مثقوب بفراغ الشوق إليها ..
يتوقف عبد الرحمن  بالسيارة أمام الحي الضيق الذي تسكنه، ليكمل طارق طريقه إليها سيرا على الأقدام ، تغَبَّر حذاءه بتراب حيها، وامتلأ صدره بروائح الأكل الشعبي المنبعثة من نوافذه..روائح مختلطة بين مقلي ومشوى.. أنى لأولئك الناس بالشواء..!
رائحة قهوة.. وشيء أخر برائحة مسكَّرة يجهله..
دبيب كخلية نحل تسعى مبكرا لإنتاج العسل..
يقف أمام الباب يستمع لحديث يدور بالداخل..
ترحب بأم محمود التي أتت للتو تسبق دخوله إلى البيت بلحظات، تمدح الآلات الكبيرة بصوتها الرنان الذي إخترق الباب ليصل لأذنه، غسالة عصريه، فرن حديث، ويخفى عن عينه رؤيتها وهي تخرج منه إناء حراري ملتهب بما فيه، تغلق باب الفرن لتشعر بلسعة حول رقبتها فتتحسس موقع سلسلته الفضية..فتتذكره.. وكيف تنساه وكل ما يحاوطها قطعة من ماله، وإهتمامه الذي يرافقها حتى غرفة نومها بعطوره التي أرسلها مع عبد الرحمن.. محملا بطلبات يومية كثيرة لم تطلبها.
يأتيها حينا يحمل آلة صنع القهوة..
والآخر يحمل أطقم أواني، أجهزة، زجاجات المياة المعبأة الباهظة..
"ما كل هذا يا خلود؟"
تبحلق متسعة العينين فيما حولها، فتعي خلود ما تعانيه أم محمود، هو ذاته ما كانت تعانيه يوم دخلت فيلته إنه "الانبهار"
"لقد أخبرتكِ بأن زوجي ثري يا أم محمود"
"أنا اعلم، لقد شاهدت صوركم على ورق المجلة التي جلب بها محمود شطائر الفول"
تحك مؤخرة رأسها
"هل أكلتِ شطائر الفول فوق وجهي  يا أم محمود"
تتنحنح بخجل
"للأمانة، لقد كان فوق وجه زوجكِ لهذا لم أره جيدا"
توليها ظهرها، منذ أتت على سيرته وهي تؤجج بها لهيبا متناقضا بين غضب وشوق، كعادتها منذ فارقته..
تتحرى أخباره من جدها الذي لم يتوانَ عن نهرها يوميا بسببه، مطالبا إياها بعودة قريبه فقد مل وجوده بينهم، وهم ليسوا بحاجته، فزوجها تحسنت صحته، ويجيء ويذهب كما القرود، بينما هو يرغب بالعودة إلى بيته..
"هل هو وسيم؟"
تسألها أم محمود فتجيبها
"أجل، لكن أنفه كبير، لا أظنه سيعجبكِ"
يلصق جبهته بالباب يقاوم ضحكه.. ينصت إليهم... لاعنا صوت الحداد بالخارج وآلته الصاخبة..
"أنفه كبيرة، عافانا الله، كله الا الانف، فهي تفسد جمال الوجه"
فكرت قليلا ثم أردفت
"عموما..الرجل لا يضره شكله، المهم جيبه..ويكفي ما يحضره لكِ يوميا"
امرأة فارغة العقل، وهل يعيب رجلها سوى جيبه، المال الذي يسخر له كل شيء، إنتقام، افتراء، هوى متشعب في كافة المشاعر والأفعال..
طرقات على الباب، تقترب أم محمود لتفتح..تطالع الطارق ببلاهة، شعر بني، ذقن مهذب، وجه رائق..عيون رمادية كما تشاهد في الأفلام.. فلم يسبق لها أن رأت أعين رمادية حقيقية من قبل.. سألت ببلاهة
"من؟"
أجاب مشيرا الى المذهولة خلفها
"زوجها"
تتفرسها أم محمود وتقول
"صاحب الأنف الكبير! "
إرتبكت خلود من قولها، تنظر أرضا..
أفسحت له أم محمود ليدخل، بينما خلود تهدأ هذا الذي وثب بين أضلعها، تقتص وتنهل من وجهه، توبخه وكأنه من هجرها وليست هي..
تستفيق الأخرى من وجهه الوسيم، وتخرج من هوة ملابسه الفخمة، لتمسكه من ذراعه تجذبه إلى الداخل تزغرد
"يا ألف مرحبا يا سيد طارق، لقد زارنا النبي، إنه ليوم سعدي"
يقول بمكر
"هل تقربين لمسعد بياع الفول؟"
"إنها أم محمود صاحبة البيت"
مد كفه نحوها ، يقول باحترام
"مرحبا سيدتي"
تقف بينهما مسرعة تمسك كفه هامسة بتحدي
" لا تصافح النساء"
يشدد على كفها، يأسر عينيها يخبرها بشوقه لها، يحرك إبهامه فوق سطح يدها وقد أثاره الجنون من لمستها، يضرب خافقه ضلوعه مستمتعا بقربها
"هل تريدين شيء يا خلود، سأغادر"
إستفاق من سُكره يُخرج من جيبه المال يناوله لها
"هذا لمحمود، وام محمود، لحسن استقبالها زوجتي"
ومع زوجتي تعلقت عيناه بها، يقيس سرعة نبضها بعينيه التي توقفت عند صدغها، لم يشعر بزغرودة أم محمود وهي تغادر وتغلق الباب خلفها..
كل ما يشعر به الآن، ثورة تزلزل أركانه تدفعه دفعا لضمها، اقترب يضم خصرها اليه، يدفعها نحو أحضانه، يضع كفه خلف ظهرها يلصق جسدها بصدره، لتنفلت آهة مشتاقه من فمه..
تضم يديها حول رقبته ببطء يعاند هشاشتها بقربه، تبكي فوق كتفه، تطمئن برؤيته ، أنه بخير..
وفي لحظات تبدل حالها، تحاول الابتعاد فيشدد من قربها، تتملص من قربه فلا يتركها
"زاد شوقي اليكِ بهذا الحضن يا خلود..ألن تكتفي بتلك الأيام القاصمة بهجركِ"
تتأهب للانقضاض عليه بلسانها تتذكر ظلمه، وينطفىء الحديث بشعلته يعاكسها..بأنفاسه المتأججة..
تتوسد الصراخ، فيضنيها برقته..
عينيها النازفة تعاقبه..ولا تعلم بأن دموعها كالسيوف تمزقه..
"أنا من وكلت محامِ للدفاع عنكِ يا خلود، فقد كنتِ عذابي"
يبعدها عن صدره، ليسجن سواد عيونها بين رماديتيه الرائقة بخطى نحو الشفاء..
"لم أخرج عن دائرة انتقامي الا بكِ، لم تكوني ضمن مخططاتي، أنا لم أظلم أحد لم يظلمني، كنتِ عذاباتي وانا  سبب سجنكِ، وأسر روحكِ، وانا السجين المعذب.."
يلامس كفها، ذراعها، كتفيها..
"أطلعته على قضيتكِ، لأتحرر من ذنب ظننته بسيط، لم أكن أعلم بخسة أيمن وأخته، ومطاردته لكِ في عملكِ"
تبتعد عنه تقاوم عبراتها، يحتضن ظهرها يواسيها
"أنا من قبلتكِ للعمل في الدار، بعد ما رأيت اسمكِ متقدمة للوظيفة، أنا من وافقت على سلفتكِ، كتعويض عما كنت سببا فيه"
" أنت من وظفتني بفيلتك، تغدقني بالمال كتعويض لما فعلته، منحت جدي وظيفة بعد أن ساعد والدك وشعرت بالذبب"
تتآكلها الظنون
"هل تزوجتني لتكفر عن ذنبك يا طارق"
يروض اشتياقه لها، يتحدث الى عقلها أولا، ومن ثم يريدها بأكملها، يعي ما تعانيه، يصبر ويصبر..هو يرجو صفحا، واقتناع بالغفران..
يلتفت اليها، وصوتها المنكسر يحطم كلماته على عتبة خنوعها وإستسلامها لفكرة سواده..
" وهل يربط المرء مصيره بأحدهم شفقة، أو تكفيرا عن ذنب، أنا من رحم الحياة ومن مشيمة الظلم خلقت، أشعر بما تعانيه يا خلود، أشعر بنقمتكِ وسخطكِ علي، ربما لو مزقتني لن أغضب، أتفهم معاناتكِ جيدا.. إلا بعدكِ عني لا أفهمه ولا أقبله"
يبتعد عنها خطوتين، وبصوت حزين يكمل
" كنت تائه، لا أرى الكون إلا ملطخا، أنحني وأقدم ما يريده الآخرون في محاولة رخيصة لمقايضتهم بما اريد.."
إهتزاز جفنيها بدموعها جعلته يحتضن وجهها يقبلها، يدعوها ليغدقها بشرعية عشقه... وبقرب انفاسه يخبرها
" سامحيني يا خلود"
تشتم صدقه، تستشعر أسفه.. وتشفق عليه من عذره..
خارطة متداخلة المدن والمعالم هي أعذاره..
زرقاء بأسفاره يبحر في انتقامه..
سوداء كغرابيب سود بأرواح يدمرها في طريقه..
صفراء كقلوب من يساعدوه.. ومن ثم يطعنوه..
"أنا أحبكِ، تزوجتكِ لأجل عقلكِ وحكمتكِ، أنا ذائب في أفكاركِ التي توجهني وتطهرني"
يخرج من جيبه زجاجتين دواء، يبسطهم كل واحدة بكف، تحول مزاجه المشتاق الى رجل متلعثم الافكار يخطو بفتور نحو ردات الافعال
"كلاهما زجاجات دواء، تجرعها أبي قبل موته، وجدتهم بغرفته فارغتين"
يضعهم فوق الطاولة، يستطرد
"لقد أخبرني كمال، بأنه أرسل دواء جديد يختبره ايمن لعلاج حالة أبي"
شهقت وقد فطنت لتلميحاته
"تقصد أن الدواء هو المتسبب في قتل والدك"
لحظات صمت، عقلها وتروسه السريعه توصلت الى
"جدي قتله؟!!"
"وعاليا من أوصلت الى جدكِ الدواء"
يجلس ويكمل حديثه
"مخطط محكم، يقيدني، لن أستطيع الابلاغ عن فعلتهم فالجميع مدان، يمكنني تحليل الزجاجتين وتوضيح الفارق بين محتوياتهم.. واللجوء للطب الشرعي، وأسير في اجراءات قانونية... ستضرنا جميعا في النهاية"
تجلس قربه مصدومة
"لا تخبر جدي يا طارق أرجوك، سيموت إن علم بانه تسبب في قتل احدهم"
يرفع حاجبيه بانهاك
"لهذا جئتكِ، لا أعرف طريقا اسلكه لحل هذه الكارثة"
تتوسد كتفه وقد نسيت شجارهم
"جدي، لالا، لا ينبغي له أن يعلم..لن أتحمل سوءا قد يمسه، سأموت"
يلف يديه حولها، يقبل رأسها بين أحضانه
"ليس لدي سوى اللعب مواريا الحقائق، لكن لكلٍ منمها نقطة ضعف، وسأفعل مثلما فعلوا"
تشد يديها حول خصره، تردد بخوف
"لن أسامحك هذه المرة إن كنت سببا في سجن جدي وبعده عني"
تتوسله بشفتيها ويديها وكلماتها..
لا تعلم أي سعير أوقدته به، أي اشتياق تمكن منه، يلامس شفتيها..
يقترب من وجهها..يلمس فكها
"خلود، لقد اشتقت اليكِ"
تصدع جدار صلابتها أمام كلماته..
ألهمها الشوق والتهمها بعشقه..
يتضور جوعا إليها وقد حرمته الشبع منها..
طغيان الشوق تشقق فأغرقهما طوفان العشق..
تلك الشدائد المحيطة بهم، جعلتهم فوق سفينة مثقوبه، غمرتهم المياة من كل مكان ولم يتبقً لكلاهما، سوى كلاهما..
***
يتململ في أربطته، لقد خضع لجراحة عاجلة منذ ايام..
كاد أن يفارق الحياة..يحرك رأسه يمينا ويسارا بتعب ومرض تمكن منه..
ذراع مجبرة، وساق مضمدة، وصدر كالتابوت يحمل ميتا بين اضلعه تعفن وفاحت رائحته.
يتذكر كلمات أيمن المرتعدة..الذي غادره منذ لحظات
"لن أستطيع مساعدتك أكثر من ذلك..لقد هددني طارق، أنت تعلم بأني لن أقف أمامه لاجلك"
رؤية مشوشة من كثرة الدواء الذي يتناوله
"هذا أقصى ما يمكنني تقديمه لك بعد أن أشفقت على حال ابنتك وهي متخبطة ليست تدري سبيلا لخلاصك..لقد خضعت لجراحة دامت ساعات كنت بين الحياة والموت، هذه الغرفة في مسكن بعيد عن الاعين، تابعة لصديق لي، فور استرداد عافيتك، وجبت مغادرتك"
لازال يصارع أشباحه..سلمى، أين هي!
لم يخبره أيمن عن مكانها وهو ينصرف تاركا اياه كالجثة التي تنتظر الحرق.
غرفة خافتة الانوار..مرض يحاصره ..لا يقو على الحركة..
يردد اسمها بتعب
"سلمى..سلمى.."
بينما سلمى في ذات الوقت كانت تطالع مثلث مقلوب باللون الوردي لفت إنتباهها في ميدالية مفاتيح الماكث جوارها ملقاه في السيارة..تذهب معه الى حفلة ماجنة أخرى وقد إستجاب جسدها لكل ما هو فوضوي وعبثي...
"الى ماذا يرمز هذا المثلث؟"
يمعن النظر فيها بإستغراب
"حقا لا تعلمين يا سلمى!"
أومأت بالايجاب فقال مبتسما
"هو رمز المثلية..الكلمة التي أكرهها، لما يروجه البعض عن مفهومها، هم لا يعلمون بأنها فطرة..وميول مختلفة..دوما ما نخشى المغامرة، وكل ما هو جديد نسميه شاذ..هم لا يعلمون شيئا عن متعتنا، لم يصلو ا لما نصل اليه نحن..يرتدون أقنعة فوق وجوههم..وينكرون وجودنا كي لا يوصمهم المجتمع بالمحاباة والتشجيع.. بينما يشعرون بالغيرة لأنهم لا يستطيعون تقليدنا"
مختل يتباهى بشذوذه، يقنِّع الكذب ويقنن المحرمات، يخرج من جيبه ميدالية في طرفها مربع صغير بألوان قوس قزح يناولها إياها
"هذه لكِ"
"وعن ماذا تعبر تلك؟"
صف السيارة يستعد الى النزول بصحبتها..
"هو إختصار ال بي جي تي.."
إستوضحت بوجهها، بانعقاد حاجبيها وانكماش وجهها، فأجاب
"حركة لتحرير المثليين والمثليات ومزدوجي الميول"
غمز بعينيه يشير اليها
"مثلكِ"
تضحك بتخبط، تضع يدها بيده...
تشعر بالهواء الطلق الذي ضربهم بترجلهم من السيارة..
يكتنفها التيه، تسير جواره وتلمسه بينما روحها عالقة هناك.. خائفة، مرتعدة..
حيث مواجهتها مع والدها، ومن ثم إستيقاظها على دماءه فاقدا للوعي، لا تستطيع نسيان وجهه المتورم والدماء الكثيرة التي تحيط به، لا تشعر بالشفقة تجاهه انما بالخوف... لحظات متجمدة بين فزع وترقب وحيرة، لم تر جثة عن قرب من قبل، هي حتى لا تعلم كيف تفحصه لتتأكد أنه لازال على قيد الحياة، أخرجها رنين هاتفه من تلك الحالة المتبلدة، تجيب على هاتفه بأصابع مرتعشة وهي ترى المتصل يسبق اسمه كلمة الطبيب، فتحت الخط تتحدث بهلع وقد وجدت من تستنجد به
"أرجوك.. ابي.. دماء... سريره، أبي مات، رصاصات.."
ثم تركت الهاتف  لتفر من المنزل خائفة.. هاربة.. وكأنها هي من قتلته.. تركض بلا توقف بلا وجهه..
لتجد بين مرتادي الحفلات سكن..
وتكون وجهتها المجون المطلق..
ودليلها مجموعة من المختليين المختبئين في شق الجدار.
***
تساعدها في ارتداء ملابسها..تمشط شعرها أمام المرآة بشرود، تتذكر كلمات طبيبتها عن مساعدة من يحتاج، ونسيان الالم الذاتي والذوبان في ذوات الآخرين..
لازالت تكرة تعرية عطبها أمام أحد حتى لو طبيبتها، وتعاني انحسار الكلمات في وصف ما بداخلها..
مرارة في وصف شوقها لوالدها رغم كل ما عاناه من حولها منه..الا انها اشتاقت لاحضانه في حياته وبعد موته..لماذا نشتاق دوما للمستحيلات!
بصدر يملؤه الأمل في التحقق!
لماذا تتعلق عيوننا بكل ما هو غائب؟
هو حنين للنقص! ربما بغية الكمال!
نبحث عن إجابات بين الموتى... نحنّ لعناق شخص لا وجود له... انما بقي منه رفات أخلاق.. معاملات.. أموال... وسيرة.. إن كانت طيبة رُفعت بها الى السماء... وإن كانت سيئة لاحقتك حتى موتك..
لماذا لا تتعلق قلوبنا بما هو متاح.. ويمكن إيجاده!
هي رغبة الإنسان دوما في البحث والبحث، إن وجد الحب يبحث عن الأخوة، وإن كان له أخ ذكر يتأفف ولمَ لا أنثى.. وإن وجد المال... يبحث عن الاسرة في حين شَغَلَه جمع ماله عن تكوين أسرة..
محظوظ هو من يجد مال واسرة وحب...
ليته لا يبحث الآن عن الصحة!
تتلعثم كل مرة في فهم ذاتها، متأرجحة بين الرفض والكره، ووأد طفولتها بالحبس والتقييد..
هي مجموعة من الشظايا في جسد مضطرب، تتعجب من مكوناتها..
تلف شعر عمتها تجمعه في كعكة صغيرة بما تبقى من شعرها الأبيض الخفيف، تعطرها..
تشعر بلماسته فوق شعرها فور دخوله إلى الغرفة، يدعم حبوها نحو السلام وان كان بطيء..تسأله
"كيف حال خلود.. ألن تعود قريبا يا طارق؟"
يبتسم إليها برضا بعد ما ناله من تلك الناعمة..يفكر في توقه إليها منذ الآن، ورغبته في العودة إليها
يمنحها لمسة حانية
"ستعود، قريبا جدا يا عاليا"
ابتسامة منهكة، وهي تلحظ إشراقة وجهه.. ليته حصل على الحب أخيرا والأسرة.. تشير نحو عمته  ليأخذ نصيبه من العناية بها، وغادرتهم..
يجلس بين يديها يتشمم طيب عطرها، هكذا هي السيدة منيرة بهيئتها الارستقراطية الشامخة..
يشد على روحه الباسلة التي تتناسى ما فعل بها، بعد أن كان يجلد روحه بسياط الكره لأجلها..
كيف شك للحظة بأنها لم تغضب لما حدث له، يمسك وجهها بين كفيه يقبل راسها مرارا، كيف ظن بأنها تبحث عن زوجها لشدة حبها له، وهي التي  أحبته هو أكثر من نفسها ، يتحدث اليها ويعلم انها لن تفهمه
"سامحيني..لا اعرف كم مرة علي ان اعتذر، أخطائي بحق الكثير تثقلني، تهشيمي لحيوات كثيرة بيدي يقتلني..أنا آسف يا عمتي..آسف"
يساعدها على الوقوف والتدثر بلحافها..
" ليتكِ تذكرين يا عمتي فتحرريني من ذنبي، صدقت خلود عندما اتهمتني بتحجر قلبي، أقسم بأني تألمت وأنا أرى وجهي الآخر في كمال وهو يعذبكِ.. بت انازع غضبي وحبي لكِ.. كنت متناقض.. أسير بغير هدى.. سامحيني"
تغشى عينيه الدموع وهو يتذكر كيف كان وحشا مجرد من الرحمة معها.. لقد أسعفت خلود قلبه بصدمة حبها فعاد ينبض من جديد.. يقبل رأسها ثانيةً..
يطالعها بوجه حزين منكسر يقول لها قبل أن تغيب في نومها
" قولي سامحتك يا طارق"
تربت على رأسه لا تعرفه، لكن دموعه ووجهه المتوسل جعلها تردد
" سامحتك يا طارق"
يستتر في صدرها بخزيه.. ممنيا نفسه بسماح مزيف لا تعيه، لكن قلبه يريده... حتى لو قسرا..
تربت على خده كطفل تمنته وكبر ونمت ذقنه..
تفسح له مكانا جوارها.. تدعوه للنوم جوارها
"هل تعشيت؟"
"أجل.."
يخلع حذاءه، يتمدد جوارها بطول جسده
"إذا فقد حان وقت النوم"
وقبل أن يشد الغطاء حوله، كانت تغط في نومها، ضحكت عينيه..وبصوت خافت
"أيتها الماكرة منيتني بليلة أنعم فيها بدفء حنانكِ، ومن ثم تركتني لأجل أحلام بخسة"
يزيح الأغطية، يتناول حذاءه... يردف
" إنها ليلة خلود على كل حال"
بعد لحظات..
ينزل الى البهو، يجلس شاردا بما كان، وبما سيكون..
يشعر بثقل أكتافه، وانهزام آخر يزحف لقلبه متخوفا..من ضربة"كمال" اللاحقة..
لا يعرف مكانه، ولا ابنته الماجنة، لكنها حتما ستكون في منفى قاذورات يسهل عليه اقتفاء أثره..سيجدها بالتأكيد..فبعد أن تبعها رجله وهي تسير بغير هدى..مشتتة..هلعة- كما وصفها- الي مخور سافر حتى الساعات الأولى من الصباح، وعند عدم خروجها دلف-الرجل- الى المكان فوجده خاليا.. فساعات الصباح والبكور ليست لخفافيش الظلام..
"أريد أن أعرف لماذا أنا هنا؟"
يلتفت نحو جد خلود، يبتسم ثغره..
"حتى تلين ابنة ابنك وتعود لرشدها وبيت زوجها؟"
"أنا لا شأن لي بلعب الصغار هذا، أنا رجل صاحب أعمال، وبيتي القديم بالقرب من الدار، اريد العودة اليه"
"لا تكن كالاطفال، امنحني الوقت فقط لاراضيها"
يمرر أصبعه فوق انفه
" لا اتوقع ضربة كمال الآن، هو يحتاج الكثير من الوقت ليتعافى مما فعلته به، لا بأس في استرداد بعض اللحظات الشيقة معها، ولتصبر أنت يا عجوز"
"هل اخبرتها بانك من وكلت لها محامي"
"اجل"
"وقبِلتها عاملة عندك"
"اجل"
"وهل أجدى ذلك نفعا؟ "
يضحك بسعادة
"أجل"
يمسد رأسه
"كنت انت سهلا في الاقناع أكثر منها"
يتنهد برضا.. يستند بظهره على كرسيه
"أعلم بانك تعاني بني، لن انكر ضعفي وقلة حيلتي وهي بعيدة عني في تلك المحنة، خاصة وأنا أتوسل محاميا.. جارا لي فرفض لأني لا أملك أتعابه، قصر اليد والحاجة..وشعور الظلم اشد وطأة، خاصة وانت لا تعلم متى سينقضي"
يربت على كتفه، يستسمحه بلمسات مهدهدة كالاطفال
"لقد أخطأت في حق الجميع"
تدارك هذا الأسى الذي يزحف إليه ليردف
"هي بخير الآن مع ام محمود، لقد اعجبت بتلك المرأة"
يجيب بأسف
"أنت لم تسمعها وهي تسبنا، تلقي بنا وبامتعتنا في الشارع تطاردنا بصراخها وشتائمها"
عقد حاجبيه، من تلك التي تسب زوجته، ينهض مغادرا.. يحثه شوقه إليها لترك كل شيء لأجلها.
"هناك حراسة حول الفيلا، انتبه لعاليا وعمتي، لي عودة قريبة بصحبة خلود..خذ حذرك"
يمشي معه إلى السيارة..يلمح عبد الرحمن بداخلها فيشير إليه مرحبا..فيبادله التحية.. ووجهه متجهم.. وكأنه يعاني شئا ما.
***
تتناول شايها بنهم، تستمتع بحركة الطريق التي تغمره الضوضاء..صافرة هنا..دراجة هناك..أحدهم يسب الآخر.. حكايات تلامس أذنها بين الجارات..من تقص سوء معاملة زوجها وتنتظر إجابة الأخرى..
في أيام معدودة من عمرها، منذ غادرت حيها وهي ترى العجائب، ظنت بأن الخروج من قن الدجاج الى متسع الحياة سيغمرها سعادة... إلا أن الأرض ضاقت عليها بمجرد تخطيها أبواب القن..
طارق وعالمه المغمور بالمشكلات، المستفحل الأخطاء..
المتطرف في انتقامه..لندن وتجربة قريبة، وسعادة مجنونة تلتهمها..
تضحك وهي تتذكر مراعاته لها، هي كوكبه الذي يولي وجهه نحوه.. وقبلته التي يرتحل إليها ومعها...
شيء غريب تراه عاليا يمتزج مع ملامحها وهي تراقبها، رقيقة أكثر، حالمة جدا، تبدو كحمامة بيضاء ترفرف وسط هذا المكان القذر الذي تسكنه
"خلود، يجب أن تعودي معي، هذا المكان الذي تقطنيه عشوائي، لدرجة مغيظة"
ضحكت وهي تقدم لها كوب الشاي بالنعناع، شعرت عاليا بتفتح مسامها حالما تذوقته
"أمم، لذيذ"
"هذا المكان العشوائي ولدت به وكبرت يا عاليا، هل يمكن لأحد أن يجبركِ على ترك الفيلا"
هزت رأسها نفيا...
" لكنه ليس بيتكِ الآن"
فتحت أم محمود الباب الموارب لتدخل تقاطع حديثهم، فتصيح خلود بنفاذ صبر
"مرحبا أم محمود، هل هناك شيء"
قالت بحرج
"لا..لكني جئت للاطمئنان عليكِ، من هذه الكعكة الحلوة"
عرفت عاليا نفسها لتلك الفضولية التي إقتحمتهم..
"أنا عاليا، أخت زوجها"
هشت وبشت تهم بإطلاق الزغرودة المعتادة، إستوقفتها خلود
"لقد مر وقت الزفاف والزغاريد، أرجوكِ توقفي، وهل يمكنكِ الإستئذان قبل الولوج لبيتي"
"وكيف تستأذن والباب مفتوح هكذا لكل من هب ودب"
صوته الثائر جعل ثلاثتهم يتجمدن...
إقترب من عاليا
"كيف تغادرين الفيلا دون إذني، أو إصطحاب أحد الحراس، ومتى أتيتِ الى هنا لقد تركتكِ للتو هناك؟"
مر على خلود، يقول بغضب
"كيف تتركين بابكِ هكذا، ألم أخبركِ بالخطر المحدق بنا"
جاء دور أم محمود فبسط كفه ليقول
"أعطني المال الذي أخذته مني وغادري على الفور، فقد سببتِ زوجتي ذات يوم"
ترتعد أوصالها..تحاول إخراج المال الذي لم يفارق صدرها منذ الصباح وتعطيه له مرتعشة، وقد رأت تحول وجهه الوسيم الذي رأته من قبل الى وجه قاتم غاضب
يلتفت الى عاليا يشير نحو باب المنزل، ستجدي عبد الرحمن بالخارج سيعيدكِ الى الفيلا، لا اريد حركات طفولية منذ الآن، كوني على قدر المسؤلية يا عاليا"
تفرك كفيها
"أنا خائفة.."
يتنهد مقتربا منها
"يومين وساعود بها، اعتني بعمتكِ جيدا"
تحمل حقيبتها، ترفع قلنسوة سترتها لتحميها البرد، وعينيها تملأها الوعود بأنها لن تخزله مرة أخرى وستكون على قدر المسؤولية.. وتغادر..
يغلق الباب خلفها ويلتفت لتلك الحارة أمامه، تلملم أكواب الشاي تحترق من صياحه بها منذ قليل..
"لقد ذهبنا لطبيبة.."
تغير لونها وهي تترك ما بيدها و تقول
"مجددا، طبيبة تنام أمامها وتسرد عليها تفاصيل طفولتك"
ضحك رغما عنه
"المهم النتيجة"
إعترضت على قوله، بأكاذيب تختلقها
"الاطباء الرجال أمهر"
"الطبيبات النساء أحلم"
"الأطباء محددون، لا أخذ ولا رد"
"الطبيبات، أرق وألطف"
ضربته على صدره فجذبها اليه
"أنتِ غيورة"
لم ترد، تتميز غضبا.. وإحتياجا
"تغارين من أم مسعد؟ "
أخرجها من مزاج الاحتياج الى مزاج الضحك
"أم محمود"
بين يديه يهدهدها بعيون رمادية عذبة، شبقة نحو الحياة..
بوجه عاشق تتملى ملامحه الحبيبة التي إشتاقتها..
قرب بقرب..حتى بات لا يفصلهما سوى أنفاسهما، علِقت شفتيه بأنفها
"أحبكِ"
كلمته، جرعة المخدر في طرف شفتيه انتقلت لجلدها فتخدرت تماما، عبث بها بإستمتاع وشوق، يصارع أفكار وكلمات جاء يخبرها بها، لكن لا بأس، فليسكن شوقه الآن وبعدها يحدث ما يحدث..
وبصوتٍ غائم قالت
"توقف"
بأنفاس متلاحقة أخبرها
"توقفي أنتِ عن إغرائي"
يديه غير ساكنة، تشبه تنهيداته..
بعد لحظات تحطمت فيها كلمتها وعزتها، نسيت ظلمها والكلمات العصماء التي تغنت بها..
رفعت راية حبها عاليا لتكون ملاصقة لزوجها وعشيقها..
تمرغا في الحب فلم يتبقَ من الهجر والفراق سوى رماد، حملته الرياح بين ذراتها فغاب واندثر.
" عودي معي"
تتأرجح بين الخدر..والواقع..
"خلود، أنا أحتاج لعقلكِ الآن"
حاولت استجماع تعقلها ففشلت، وعلى ذات الحال أجابت
"و أنا لا أريده الآن"
استدركته لنعيمها ..وقد نسي لماذا أتى، متسائلا هل سيرحل!
***
يبتاع حبات الطماطم بعناية، يجب أن تكون حمراء، ليس بها ثقب، دون نقاط صفراء تدل على مرضها، ليست باللينة ولا بالصلبة.
هكذا أخبرته خلود بعد أن أحضر إليها الطماطم الفاسدة بالأمس..وحينها صاحت في وجهه
"هو مال سايب، أنت لم تتعب في الحصول عليه، تلك الطماطم فاسدة سنلقيها في القمامة"
نظر إليها مبهوتا
"عفوا، من تعب إذا في جلب المال"
تثرثر ببرود
"ليس من شأني، عد الى البياع وبدلها"
رفع حاجبيه، انفرجت زاوية بفمه بشبه إبتسامة
"كيف، وهل يمكن؟"
"أجل، إذهب اليه وقل له، خلود تقول لك ...."
قاطعها وقد اتسعت عينه
"ماذا..هل سأذهب الى الرجل وأخبره بأن والدتي ترسل سلامها وتأمرني بتبديل الخصروات"
مسح وجهه بكفه
"كنت أعلم أننا سنصل لهذه النقطة يا طارق، دعني انا في البيت وشؤونه واهتم انت بالعمل والمال"
"الم يكن مال سايب، وخذ من التل يختل، الآن اعترفتي بأني اعمل..هذا خطأي منذ البداية، انا من دللتكِ واستحق ما يحدث لي"
جلست بحزن على كرسيها، فتراجع عن كلماته
"أنا..فقط..أردت المساعدة، لقد ضايقكِ البائع بالأمس، وشكوتِ لي غلاءه وتطاوله عليكِ"
"ها، أكمل..وماذا فعلت انا...خلعت حذائي وأخذت حقي"
تنهد مبتسما
"وهل هذه هي طريقتك في أخذ الحق"
إنتقلت عدوى الإبتسام إليها وهي تقول
"نعم"
"وأنا، أريد حقي، كيف آخذه"
غمزت له
"لقد أخذته كثيرا"
أمسك بأكياس الخضروات وأعطاها ظهره
"سأذهب لأبدلها، أخبريني ماذا اقول مجددا..لكن عندما أعود، أعدي حقوقي جميعها لأني أرغب في مناقشتها جميعها بهدوء وراحة"
ضحكت تحتضن ظهره
"قل له خلود تقول لك بدل هذه الأشياء، ولا بأس في إظهار تلك له، كي يرتدع"
تلمس عضلة ذراعه فيقول
"عندي واحدة أخرى في الذراع الآخر"
ثم ترك الاكياس، عازفا عن خروجه والتفت اليها، يشير الى صدره
"وعندي هنا..الكثير"
وضمها اليه، تتحسس عضلاته بنهم، وهو يتحسس حبها بشغف، تستشعر الحماية تحت جناحه، وتغرق بحبه الذي لطالما أكد عليه، ترتعش نظراته فوق وجهها كي يحتويها، يترك عينيها لينزلق الى أنفها وشفاها، شعرها، يركض بالنظرات والهمسات فوقها...ينازع حبه فيها..وشوقه الذي لا ينتهي لها..
"هل يمكن لأحد أن يحب أحد بهذه الطريقة يا خلود"
تتحدث بأنفاسه
"أنا"
"هل يمكن لأحد حلو الملامح والصفات، أن يعلم بأنه حلو"
"وهل تعلم أنت؟"
تشير لحلاوته، يتذوق شهدها...
تخبره عن عشقها، فيميزها بنظرته المكتفيه..
وصلا الى حد الإشباع، والإمتلاء، وكل مرة يقولا بأنهما وصلا للإكتفاء..يكتشفا أنهما لا زالا في بداية الطريق.

Abasement (إذلال).. 🔥حيث تعيش القصص. اكتشف الآن