الفصل الثالث

Start from the beginning
                                    

______________منذ أربعة أعوام___________

فى الجزائر ....

-" أنا بحبك ..."
رنت هذه الكلمة على مسمعها ....فكانت هى لحن تعزفه نبرته الرخيمة الواثقة ...وكانت هى طرب تناغمت عليه مشاعرها ...ودف ضرب فتراقصت عليه أنوثتها بتغنج ....
فى هذا المكان الشاعرى الهادئ ....يحمل عبق الماضى وسحر الحاضر وزهوة المستقبل ..ملتقى لكل ما هو جميل قلبا وقالبا
هنا حيث رأته لأول مرة ...حيث أعجبها ...وتسلل حبه لقلبها ..وهنا مع إعترافه الساحر كانت إيذانا بتملك عشقه لقلبها ....
لوهلة نكزها عقلها ألا تسعد بعلاقة مكتوب فى قدرها الفشل والنسيان ....
فكيف لا وهو يحب شخصية وهمية تفننت هى فى رسمها ....شخصية لا تمس حقيقتها السوداء أبدا !
كانت عينيه تطلب الجواب ...ومهما كانت كاذبة فكلماتها كانت أصدق ما كانت تملكه حينها
-" وأنا كمان بحبك .." زفرت ببيأس ضائق ...
-" وبتقوليها بضيق ليه ؟ "
-" عشان مكنتش عاملة حسابى ..عشان مكنش ينفع أحبك يا عمر !"
كلماتها غريبة لأول مرة منذ عرفها تكون بهذا الغموض ...وهذه السوداوية :
-" بس الحب مش بيتحسبله حساب ...دا قدر !"
همست بحرزن منكسر :
-" أنا عمر قدرى ما كان حلو ...تفتكر دا مش سبب عشان أخاف ..."
-" بس أنا جنبك ...وبحبك ومش هسيبك !"
-" وأنا مش هستحمل أنك تسيبنى !"
مد يده ليحتضن يدها يمسد كفها باعثا الدفء به ...لتهدأ ..ولم يحسب أنه هكذا يحثها على البكاء...سالت دموعها فتعجب أكثر ...لما فجأة خيم هذا الحزن على ملامحها ....
وهو الذى إنتوى أن يخبرها أخيرا ....أن يغدقها بأبيات وأشعار ليعبر لها عن تلك المكانة الوردية المزدهرة التى صنعتها بداخله ....حال كل هذا فجأة لرغبة فضولية فى معرفة سبب هذا الحزن ...
ليطمئن ...وليطمئنها ...
-" رنا أنتى مخبية عليا حاجة ...."
تهكمت فى داخلها وتمنت أن تخبره بها " الكثييييير " لكنها حركت رأسها رفضا بدلا عن ذلك ...وهى تكتم شهقاتها وتحاول جاهدة أن تتحكم بعاطفتها البائسة مبدلة حال ملامحها من العبوس إلى التبسم ...لتهمس برفق :
-" هخبى عنك إيه يعنى يا عمر ..."
-" أمال خايفة من علاقتنا ليه !"
-" أهلى مش هيسمحوا بالعلاقة دى !"
همست بها وهى تعلم أنها كاذبة مجددا ولكنها لم تكن تدرك أن الكذب صار مختلطا بدمائها كلما حاولت الفرار منه كلما تمكن منها أكثر ....
سمعته يهمس بحرارة وإندفاع :
-" وأنا مش هسيبك يا رنا ...لأنك الوحيدة الى أنا حبيتها ! يمكن وضعى دلوقتى مش كويس بس هحسنه ...هحسنه عشان خاطرك ...عشان أقدر أتقدملك !"
كانت تود البوح بها وشعرت بها ثقيلة على قلبها ...
-" هتتجوز بنت الراجل الى أنت بتكرهه يا عمر ! "
لكنها فضلت الإحتفاظ بها كما ستحتفظ بهذا الحب طى الغموض ....لن تضع نفسها موضع إختيار بين ماله الذى يريد إسترجاعه وبين حب مزيف لها ...
بالطبع لن يختارها ! ومنذ متى إختارها أحدهم !!
أومأت برأسها مبتسمة بهدوء :
-" وأنا هستناك يا عمر ! "
بعدها بإسبوعين ....
كانت قد أعدت كل شئ لتغادر ....لتترك شخصية رنا هنا بين أحضان الجزائر ..ولتعود لشخصيتها الحقيقة بعودتها لبلادها ....لم يهن على قلبها أن تغادر دون أن تودعه ....دون أن ترى عينيه الرمادية للمرة الأخيرة ....دون أن تخبره أنها تحبه للمرة الأخيرة ....
تركت حقيبتها بالفندق الذى تقيم فيه ....وإستقلت سيارة أجرة لبيته فى أحد شوارع الجزائر ....كانت متأنقة ببساطة لطالما أثنى عليها تخالف شخصيتها الغجرية كثيرا !!
دقت الباب فلم يجيب ...دقته مرة أخرى فتأخر الرد ...قلقت ....وزاد قلقها حين فتح الباب بوهن ولم يبدو أبدا بحالة جيدة .....عيناه الرمادية الاسرة حالت دموية من البكاء ...وعروق وجهه الأسرة حالت منتفضة من الغضب !
لوهلة ظنت أنه كشفها ....أطلق ناقوس الخطر بداخلها وإستعدت مسامعها لكل ما هو سئ وموجع لتتلقاه ...هى من أقدمت على هذا الغباء وهى من ستتألم الأن !!
كان ظنها خاطئ !
جذبها من يدها بقوة لتصطدم بصدره العريض وهو يلف ذراعيها ليقبض على خصرها بقوة ويترك العنان لدموعه ...أن تنهمر ....ليهمس فى أذنها بما جعلها تنتفض :
-" أنا خسرت كل حاجة يا رنا ..خسرت أهلى وشغلى ودلوقتى خسرت رأس مالى كله ..... ......"
لم تملك شيئا سوى أن تحتضنه بقوة وتمسد على ظهره ....
قدر ساخر .....أن يكون العناق الذى يخفف عنه هذه المصيبة ....هو من نسل الشخص الذى تسبب بها ....وكيف لا ووالدها الجليل هو الأساس فى هذه القصة الصغيرة ....
دخلت معه للداخل بعدما أغلقت الباب وكان متعلق بها كالطفل المتشبث بعناق أمه ...رافضا أن يتركها ....نجحت فى جعله يستريح على أحد المقاعد ....ولازال يحتضنها ....وتحول لجرو مثير للشفقة وهو يلقى برأسه على صدرها يبكى بقهر ...شاركته البكاء فى صمت ....وهى تمسد ظهره داعية إياه نحو الهدوء عاجزة هى عن الوصول له .....
همس من بين شهقاته :
-" خليكى معايا يا رنا بالله عليك ....متسبنيش ....أنا محتاجلك أوى ! مفضليش حد غيرك دلوقتى !"
هذا التوسل ضرب قلبها فى مقتل ....همست بإندفاع لم تحسبه وهى تلقى بكل شئ خلف ظهرها لتكون معه على الأقل الأن ....
-" أنا جنبك يا عمر ....أنا جنبك يا حبيبى مش هسيبك ...."
أطمأن لكلماتها وكانت له مسكن عن ضربة مؤلمة لم يحللها عقله ولم يستطع حتى تحملها ..نام بين ذراعيها وتركها حائرة ....حائرة وهى تبكى بصمت عاجزة عن البوح بما تشعر به ...
بأى صفة ستجلس معه !
بأى صفة ستكون له هذا العناق الذى يتمناه وهذه الصحبة التى يرجوها !
هل بصفتها رنا هذا الملاك الذى وقع فى طريقه فجأة وإنتشله من الوحدة .....أم أنها يسرا ..يسرا إبنة الرجل الذى سرق والده وتسبب فى غربته ....
وإن بقت ...هل سيسامحها يوما ...
هل ستملك يوما وجه فى قولها الحقيقة ؟
أم أنها ستعيش دوما داخل هذه الشخصية الوهمية التى صنعتها ...وزيفت أوراقها ....
وهل عليها حقا العودة لشخصيتها الحقيقة التى تمقتها ...ألا يمكنها العيش هكذا "رنا" !
وما الذى يمنع ...لن يسأهلا أحد هنا عن كيانها ...ولديها حبيب يحبها كما هى ...ولتتخلص من شبح أبيها وهيمنته على حياتها ....ولتتخلص من ماضى أسود لم ينفك يلاحقها .....
إرتاح عقلها لهذه الفكرة وإنتفض قلبها ...فبرغم مساؤها لم تكن يوما مخادعة ...
ويعز عليها حين تكون ...أن تخدع اقرب قلبا لها وأمسسهم بها شعورا .....
حين لمست نومه ...تحركت محاولة فك عناقه الحاد لها لكنه رافض ...متمسك بقوة ...
لكنها فى نهاية المطاف نجحت ! مددته على الأريكة وإلتقطت غطاء ثقيل دثرته به ....وإتجهت إلى المطبخ لتعد له شيئا يغذيه ويدفئه ....ولتخرج كل ما يعتمل بداخلها فى أكثر شئ تحبه الطبخ !!
_____________________________________
بعدها بساعات ....
كانت فى المطبخ بعدما تحررت من بعض ملابسها ...لتبقى ببنطال من الجينز ..و ثوب أبيض بحمالات رفيعة ....كانت تخرج كل ما بداخلها فى هذه الصينية التى تطبخها ....كانت عصبية إلى حد كبير فلم يجفلها إلا رأسه التى إرتمت على كتفها بوهن ...ويده التى حاطت خصرها بقوة ....إحتياجه وضعها بين نارين ...
لم ترد التخلى عن نفسها فى دوامة لم تعرف لها نهاية وتسمح بتكرار خطأ إمها ....
ولم ترد صده والتخلى عنه فى عز إحتياجه لها ...
تأففت خفية وهى تحاول التملص منه دون جرحه فسمعته يهمس بضعف :
-" تتجوزينى يا رنا !"
صدمها ....بل إنتفضت على وقع كلمته ...بتهور أجابته :
-" عمر ...أنت كويس ! عمر أنت لسا واقع فى مصيبة ..."
-" عشان كدا عايزك جمبى ...عشان مش هعرف اقوم إلا وأنتى جمبى ...مش هعرف أخد حقه من غير دعمك ...عشان بحبك !"
وجهه كان غامضا ..عابس بقتامة لا تلائم أبدا هذا العرض بالزواج ....
فهمست وهى تحتضن وجهه تمسد ذقنه ووجنته وتهمس :
-" يا عمر أنا هفضل جمبك لحد ما تعدى ...لحد ما تحقق إلى أنت عايزه ..."
-" أنت رافضة الجواز منى عشان أنا مش فى مستواكى صح ؟ عشان كدا عايزة تسيبينى وتمشى ..عايزة تسافرى وتسيبينى يا رنا !"
تعجبت من كلماته ...والادق من معرفته بالأمر ...رفعت حاجبيها وعيناها تطلب التفسير ...فاردف وهو يريها هاتفها :
-" فى رسالة على تليفونك بتأكيد حجز تذكرتك فى رحلة العودة يا رنا ....هتسيبينى ! هنقنع اهلك بس وإحنا سوا ...."
سالت دموعها وهى تقع الأن بشر أعمالها ...
-" خايفة يا عمر ..."
بقوة همس :
-" من إيه يا روح عمر !"
-" قرار زى دا مينفعش يتاخد فى لحظة حزن أو ضعف يا عمر ...مينفعش ...أنت محتاجلى دلوقتى ...بس الإحتياج دا هيروح ...هيروح وهتفضل حقيقة واحدة ...إننا إتسرعنا !"
ضايقته كلماتها ..
نكزه ضعفه وكواه بلا رحمة ....
الأن هو ضعيف ...خائف ...فقير ومعدم ...
لا يملك أى شئ ....لا يملك سواها هى ...هى وحبها له ....فكيف بربه أن يتخلى عنها ..
-" أنتى ليه متخاذلة فى علاقتنا كدا ...ليه خايفة ومتراجعة ....ندمانة على حبك ليا ؟
خايفة من حاجة مخباياها ؟ "
-" أنا خايفة عليك !" إرتجفت شفتيها وخرج صوتها ضعيف ....وجسدها ينتفض من البكاء ....
-" أنا أقوى بيكى !"
لم يترك للكلام بقية ...وهو يحتضن ذقنها لترفع عينيها وتواجهه وهو يسألها مجددا ليس بكلمات عابرة ولا صوت أهوج
بل بقلب عاشق ...
وروح محتاجة
وحال مهترئ ...
-" تتجوزينى !"
لم تملك حل وهى تحتاج ...تحتاج له ...تحتاج أن تكون له ...لتعيش تجربة بحياتها ..تجربة لها هى ...دون أن تعير لأحد ولا لعرف ولا لقانون بالا ...فماذا فعلت الأعراف سوى أنه ظلمتها وأذاقتها ثمن جرم لم ترتكبه ....
لتتحرر من يسرا إبنة الراقصة ....ولتكون الأن رنا ...رنا المحبة .....ولو لفترة قصيرة ...
لم تدرك شيئا بعد ذلك سوى أنها تمضى ورقة صغيرة تحمل إسميهما كميثاق مؤقت لهذا الزواج ...
ولم تدرك غير أنها باتت بين أحضانه فعليا ....تشاركه جنون اللحظة وعنفوانها ...
تسلم له قلبها الصادق ...
لم تشعر بغير قبلاته على عنقها ...جيدها ...يلثم شفتيها بجموح وهو يستعير روحها ليحلق بها فى عالم من الجنون والرغبة والشغف ....
يشعرها أنها مرغوبة وأسرة ...
وقادرة أن تخلق عالم خاص بها تكون هى ملكته .....
تحررت من ملابسها ومن ماضيها ومن كل شئ ...
بعدها بساعة ...
كانت بين أحضانه يفترش شعرها الداكن صدره العارى ....يغط بنوم عميق تاركا إياها تستوعب بعد ..ما حدث ...أنها إجتازت مراحل كثيرة بتهورها ...
ربما برغتبها فى الحصول على هذه الحب بكل مراحله ..
أو ربما رغبتها فى إيلام والدها بمصيبة جديدة كهذه .....
لم تعلم سوى أنها خاضت تجربة مثيرة جميلة أنعشت تهورها مجددا الذى أخمده العلاج من الإدمان لتدفعها نحو هوة مستعرة تسمى المستقبل ....
ماذا ستفعل ؟
إنه يريد توثيق هذه الورقة ليضمن أنها ستكون زوجته !!
هل حقا ستفعل !
شيئا ما دفعها لتنهض وهى تتأكد من نومه العميق ...ترتدى ما طالتها يدها من ملابسها الملقاة ...لتكتب ورقة عريضة توسطتها جملة واحدة ...
-" إنسانى يا عمر ...أنا أسفة " أخذت تلك الورقة التى وقعا عليها سويا ...
ورحلت ....رحلت هاربة من هذه اللحظة ولم تعلم أنها حفرت بداخلها ....أنها ستلازمها ما بقى من عمرها
...................
عادت من ذكراها ودموعها تنسدل على وجنتيها ....قبلت وجنتى إبنتها ...وإنغمست فى عناقها تدس أنفها فى عنقها للصغيرة ....تستمد هى منها القوة ...والإطمئنان ......
_____________________________________

صندوق الدنيا 💕Where stories live. Discover now