الفصل الاول 💕

4K 73 6
                                    


الفصل الأول ...
" فى مصر " منذ عامين

كانت بوادر الربيع تلوح فى الارجاء ...وفلول الشتاء تختفى رويدا رويدا .. فالشمس عادت لرونقها الذهبى فى هذا الوقت من النهار ...لا حرارة ولا برودة ...كان هذا الوقت من العام الذى يجتمع فيه الأحباء ....كان هذا الربيع للأنفس قبل منها للطبيعة ...إلا أن هذا المنزل المصطف فى هذا الحى الراقى القاتم ..لم تفارقه غيوم الشتاء بعد ...ملبد بغيوم مختلفة ...
غيوم أنفس ...
لم تصفى بعد ...
لم تمطر بعد بما تكتنفه من أهات متكاثفة ..
فكيف لشتائها أن ينقضى ولم يبدأ أبدا .....
صوته دوى فى المنزل بغلاظة جعلتها تنتفض بين ذراعيه القاسية التى تقبض عليها بقوة
-" حامل ..."
يهذى بهذه الكلمة مرارا كهذيان الحمى برأس المريض ...
تبعها تأنيبه الصارم :
-" أنت إيه ! طبع أمك الواطى مش راضى يخرج منك أبدا ....إنتى إيه ...إيه الرخص دا ؟ طبعا وهتجيبيه من برا ....كلها خصال الرقاصة الى خلفتك !"
كان يقبض على عضدها بقوة يكاد ينكسر نصفين بين ذراعيه ...ولكنها نجحت فى تخليصه من بين يده والألم يغزو وجهها ...
أبت أن تبكى ...فالبكاء يزيده فخرا فيزيدها ألما ....كيها بحقيقة لا تملك بها أى ذنب ...إحمرت عينيها من الغضب وهى تصرخ بقهر :
-" ولما هى رقاصة ...ولما هى حقيرة إتجوزتها ليه ! خلفت منها ليه ! "
غاظه أن تكون بهذه الدنائة وتقف أمامه بهذا الإنتصاب والقوة ....
بدل أن يحاسبها تنتوى هى محاسبته ...قطع عليها أى أمل فى الصمود ...وربما فى التماسك ...عدم البكاء ...
يده التى هوت على خدها ولدت طنين مزعج ...طنين دفع عيونها أن تبكى حتى ولو لم ترد وهو يصرخ بإزدراء :
-" وليكى عين تتكلمى ....بعد دا كله ...بعتى شرفك لمين ؟؟ مين الى عمل فيكى كدا !"
-" أكيد حد أنضف منك !"
قالتها ...واجهته بعينين تلمعان بتحدى غريب سرعان ما حال لألم وهو يقبض على شعرها بقوة أوجعتها وهو يصرخ كالمجنون :
-" ملعون اليوم الى خلفتك فيه ...أنت مستحيل تكونى بنتى ...دا بنات الليل أنضف منك ألف مرة ...أنت مصنوعة من معجون شياطين ...وياترى النضيف دفعلك ولا طلعتى أرخص من كدا ..."
جاهدت وهى تغرز أظافرها الطويلة الحادة فى يده كى يترك شعرها ..نجحت بعد عناء ...بعدما تمزق معظمه بين أصابعه.....
محطمة ...خائفة ..بل ترتجف ...ولكنها لن تستلم ...
صرخت بقهر ودموعها تنفجر لتغرق وجنتيها :
-" أنا عمرى ما كنت بنتك ...ولا عمرى شوفتك أبويا ...أنت راجل ..واحد كان السبب أنى أجى الدنيا القذرة دى ...عشان أشوفه كل يوم بيحملنى تمن ذنبه هو ...تمن ضعفه ...تمن قلة أصله ...ت..."
لم تكمل ويده تهوى مجددا على وجنتها ...شعرت بالخدر يسرى فى وجهها ....لوهلة عجزت أن تصمد ولكن هذا الحقد بقلبها تحرر ...تحرر وما عاد راضيا أن يتنامى صامتا مسودا حياتها وحدها ...
له نصيبه ويجب أن يأخذه ...
-" أنت لازم تتربى من أول وجديد !"
ضحكت ...بقوة
من القهر ...
من الألم ...
من الظلم .....
سخرت منه بإزدراء :
-" هو أنت ربتنى أولانى ....تصدق تمثيلك للدور نجح ...لدرجة أنى شكيت أنه حقيقة ....
أقولك يا هشام بيه أنت زعلان ليه ..ولا أقولك يا بابا ...لأن حملى دا دليل كدبك ...كدبك عن أنك أب مثالى ....أنك ربيت ...وأن بناتك شبهك ...
أنت عمرك ما كنت أب ...جى دلوقتى تلومنى أنى حامل ....ممكن أعرف كنت فين وأنا بحلم بكوابيس كل يوم ...أقولك أنا ...كنت برا واخد بناتك فى حضنك ...وكأن الى جوا دى كلبة ...مبتحسش ملهاش حق ...زى ما يكون مش بنتك ....
كنت فين لما كنت بموت من الإدمان ....وأنا كل مرة بشرب فيها ...كنت بهرب ...كنت بدور عليك ...عشان تحضنى ...عشان تقولى بطلى ...عشان تقولى أنى بنتك ...وأنك بتحبنى ...
يا شيخ دا أنت عمرك ما قولتلى بحبك ..
كنت فين سيادتك وأنا بسيب التعليم ...كنت أنت بتلقى محاضرات عن الأبوة المثالية ...عمرك سألت نفسك ...أنا أب ؟ أب مثالى ..؟؟ أنت ...أنت أكتر واحد بكرهه فى حياتى ...لو كنت النهاردة حامل فإنت السبب ....أنت الى موتنى يا ..."
قضمت كلمتها لتنفجر ساخرة :
-" يا بابا !"
كوته بنار حقيقة لطالما تغافل عنها ...كتمها فى قلبه وطلاها بغشاء الإدعاء ....
ليعيش وينسى ...والأحرى يدعى النسيان ...ويستحل ظلمها ....ظلم إبنته ...تلك التى حملت الذنب أمام ضميره لتبرئه من خطيئة إرتكبها بيديه ...هو لا غيره ....
لم تكن إبنته يسرا من قتلت زوجته ....بل كان هو ...كانت خيانته ....كان ضعفه فى لحظة قدر لها أن تكون الفارقة فى حياته ...أن تكون تلك الفجوة التى أتت بيسرا للحياة ....وليتها لم تكن أبدا ...
أجفله صوت شهقات تحاول كتمانها ....وبطرف قميصها تمحى خط رفيع من الدماء إنساب من أنفها ....
لم يسمح له كبريائه بالإعتراف ...
لم يسمح له بالتنازل ....
بالتغافل ....بعناقها ...بالإعتراف ...
لم يسمح له إلا بالإنغماس أكثر وأكثر فى هذه الكذبة الكبيرة ليهتف ببرود قاتم :
-" الى فى بطنك دا لازم ينزل ...بنت هاشم الجندى متخلفش من غير جواز أبدا .."
هذه المرة لم تكن تملك قوى لتضحك ...
سخرت بمرارة :
-" مش قولتلك ....أنت هنا المهم ...وأنا ...يا عم هى جت على دى ! "
فى لمحة حالت نبرتها من السخرية للتحدى ...تحدى صارم أعلنته :
-" بس لا ..المرة دى مش هقول حاضر ...ولا هنفذ ....زمان وأنا طفلة ...كنت بقول حاضر ونعم حتى لو مش مقتنعة....كل دا عشان تحبنى ...عشان تنسى إنى بنتها ...وتفتكر أنى بنتك ....
ولما كبرت ....عملت كل حاجة غلط ...عشان بردو تفتكر إنى بنتك ...لكن المرة دى هعمل الى أنا عايزاه ...أنا هحتفظ بالطفل دا !"
لم يعنيه أى مما قالته ....
لم يهتم ولم يكن ليفعل ....
فكرة واحدة ما تأججت بعقله وإستدعت شيطانيته أن تتجلى ...تتحداه ...تتحدى كرامته وكلمته وسمعته بين الناس ....
ليس مجددا ....لن يسمح بفضيحة أخرى ...
لازال يعانى من الأولى ....فهل حقا سيسمح بثانية ....
لا لن يكون هناك ضحايا مجددا !
..لم تكد تستوعب ..حتى شعرت بنفسها تقحم داخل إعصار يفتك بها ...ولم يكن هذا الإعصار سوى صفعات تنهال على وجنتيها ...وأصابع غليظة تمزق شعرها بقوة .....
الواجع يفتك بها ....يحارب أى أمل فى التماسك بداخلها ....لم تعد تقوى ...صرخ بها :
-" هتنزليه ...ما عاش ولا كان الى يتحدانى ...قسما بربى لو مسمعتى الكلام ...لأدفنك مكانك هنا !! "
تحولت يده لبطنها ....كأنه يقسم أن يحارب تلك الحياة الصغيرة التى تتبرعم فى حشاها ....
يده الصلبة التى طالت جسدها لم تترك به إنشا واحدا لا يئن من الألم ...
قاومت ...
بل إستماتت كى تبقى واعية ...تحاول التملص منه ..الفرار ...
لم تنجح ...وبدا الألم يتملك بطنها ....وعينيها تنبئها بقرب النهاية ....
لم تكن تعرف أنها البداية ....
شعرت بالباب يفتح بقوة وأختها إسراء أختها الكبرى تتدخل بجسدها تفك هذا الإلتصاق الصارم بينهما ...لتتلقى هى ما بقى من صفعات وهى تصرخ محاولة تخليصها :
-" يا بابا ...إستهدى بالله ...حرام عليك هتموت فى إيدك !"
-" الضرب مش حل ! البت بتموت !"
كانت صرخاتها صوت رنين باخرة الإنقاذ ..ينبئها بقرب الخلاص ...
كان صوته القاتم ناقوص الهلاك وهو يهدر زاجرا :
-" إبعدى يا إسراء الى زيها لازم يموت ! "
-" جبتلى العار ! القذرة ...لكن لا ...لا عاش ولا كان الى يدفن راسى فى التراب ...والله أقتلها ...ولا إنها تلوث سمعتى بقذارتها !"
ترهات ...كلمات بلا معنى
صراخ ..يد كلما طالتها تؤلمها ...
ولكن ليس هذا ما يهمها ....
جنينها يغادرها ...هذه الروح الطيبة التى أنبتت ...تخشى فراقها ...
كيف لا ؟
هى من شخص كان لها عالمها الخاص ...عالم إكتنفها بحنوه فبدل مرارة أيامها ...حلاوة ....
لن تفعل ..إن كانت تخلت عن عمر مجبورة الأن ...فلن تتخلى عن أمانته لديها ....
نجحت إسراء فى تخليصها وهى تصرخ بها مقيدة والدها بقوة ...بجسدها الهش جاهدة لإثنائه عن هيجانه :
-" روحى على أوضتى دلوقتى ...يلا يا يسرا !"
لم تبدو واعية ...ووجهها يشحب من الضعف ..ولا تشعر بجسدها يعينها على الحركة ....لكنها نجحت رغم عجزها تخرج من غرفتها دون أن تطالها يده ...
رغم ترنحها ..
ضعفها ...
بكائها الصامت ...
قلبها المقهور ....
تحركت نحو غرفة أختها ...وهى مع كل خطوة ترسم طريق لدنيا جديدة ...هى من ستبنيها ...هى من ستملك الحق حياتها ...
أن تختار ..من سيبقى بعالمها ...ومن ستلقيه بهوة النسيان للأبد .....
---------------------------------------------
هى أيام لم تكمل الأسبوع بعد ...
فى السابعة صباحا وربما أبدر ....هبطت من السيارة ...متلفحة بملابس شتوية ثقيلة ...رغم إعتدال الحرارة كانت نسمات الربيع الهافية على جسدها الهزيل أشبه بقذائف الثلج ..
لم تكن يسرا هى من تقف على هذا الميناء تنتظر باخرتها ...بل كانت عروس من الخيط ....تحركها الحياة نحو قدر لا تريده ...لكنها خاطت رفضها وتلبسته خديعة تحتال بها على قدرها ...
لتعيش ولو مرة واحدة بإرادتها الحرة ....
نجحت إسراء فى إقناع والدها أن تسافر معها إلى فرنسا ...حيث جامعة إسراء التى ستحضر بها رسالة الماجستير التى تخصها ...
لم يوافق شفقة أو رغبة فى ترويح ...
بل كما إعتاد رغبة فى إراحة باله ...وترحيل مسؤليتها من على عاتقيه ..
كما كان يفعل دوما ...لم تكن تهمه ولن تصبح بين يوم وليلة ...
وافق على عهد أن تخضع لعملية الإجهاض هناك ....
نجحت فى تمثيل الطاعة وحتى إن كانت متمردة على الأمر ؟
أولم تكن تفعل دوما !
أجفلها صوت صفير الباخرة ...فعلمت أن الوقت حان ...
أنهت إسراء كل ما يتعلق بالأمر ...لتقترب من يسرا بإبتسامة داعمة ..تهمس بمأزرة :
-" كل حاجة هتبقى كويسة ...بإذن الله ثقى فيا ..و سيبيها على الله !"
تحركت إسراء مشجعة يسرا أن تتبعها وفعلت ....
بعدما إستقرت يسرا فى مكانها فى هذه الرحلة ....خرجت إلى سطح الباخرة ...إستوت على مقعد وثير ...تحتضن ملابسها لتدفئها ...تراقب الماء وهو يحمل الباخرة نحو هدفها ...
كما حملها قلبها له ..
كما حملتها مشاعرها أن تعترف له ..
كما حملها عقلها أن تتركه ...
كما حملها خوفها أن تهجره ....
راقبت البحر ...لتبحر هى بذكراها الخاصة ....
كان الأمر منذ عام....
كان هذا موعد مولدها الجديد ...بشارتها من هذه الظلمة التى ألت إليها ...
كانت وقتها أنهت علاجها من الإدمان بعدما بقت فى المصحة لأكثر من عام ونصف تتلقى علاج ترفضه لتستخلص سم من جسدها ....
سم جعلها تتحمل .تتعايش ...تبتلع هذه المرارة وتصمت ....
سم جعلها قاتمة ...
والحال أنها لم تولد هكذا ....
ولدت طفلة نقية بفطرة سليمة ....وما ذنبها أن أمها راقصة !
وما ذنبها أن أباها وغد ...يتبرأ من أخطائه ويسعى ليحملها لغيره !
وما ذنبها أنها نذير شؤم على عائلة لم تعرف عنها شئ من الأصل !
كانت نقية تحارب لتظل هكذا ...
حاربت فحاربوها ....
قاومت فأجبروها ...
سعت فثبطوها ...
أنهكوا عزيمتها أن تنشأ إنسانة ....فلم تترك سئ إلا وفعلته ....
هل كان إنتقاما ؟
من نفسها ! من أبيها ! من أمها !
لا تعرف سوى أنها إرادت إثبات نفسها ولو للحظة ...للحظة حتى لو كان كل هذا خطأ ...
لكن ....
هو الشخص الوحيد الذى لم تحتاج أن تثبت نفسها له ...رأها بعين ليست كباقى العيون ....
عين جردتها من هالتها السوداء ....لتقتحمها وتصل لهذه البذرة البيضاء التى خلقت بها ...
عرفها ...
أحبها ...
أحب روحها ...
فلم تبالى ....
سلمته مقاليدها ...كلها ...كانت له ...
كانت كاذبة فى معرفته ...
والأن ...الأن هى هربت !
هربت وتركته ...
خشيت أن تكشف فيتركها ...أخذت المباردة وغادرت ...
لم تكن ستتحمل نظرته لها حين يعرف أنه ما أحب سوى وهم كبير ...
وهم كبير إختلقته وتمنت أن تعيشه يوما ما ....
هو لم يحب يسرا الحقيقة ..
يسرا المشوهة ...
هو أحب هذه الفتاة الملائكية التى أبدع عقلها الشيطانى فى رسمها ....
زفرت يسرا وهى تراقب أسراء تتهادى نحوها ....جميلة ...جمالها هادئ ...شعرها أسود ليس ثقيلا ولكنه ناعما ...كشخصيتها الهادئة بالظبط ...جسدها ليس مثالى ولكنها شخص مثالى وهذا يكفى ...
لم ترث منحنيات أنثوية جبارة كتلك التى ورثتها يسرا ...بالطبع فأمها لم تكن راقصة ....بل كانت طبيبة ...فكيف لا ترث منها هذه الروعة فى كل شئ ....
إسراء كانت الشئ الجميل الوحيد فى حياتها ....كانت اليد التى لطالما إنتشلتها مما هى به ...كلما وقعت لم تجد غيرها لينهضها ...حين تتفجر من البكاء لم تجد غيرها لتهون عليها ....
من أنقذتها من الموت ...من الكحوليات ....من الإدمان ...من كل شئ ...
فى صفاء إعجابها به ...طوت حقد دفين غير مؤذى منها ....
لماذا لم تكن هى هذه الفتاة الجميلة التى ينظر لها الجميع بالإعجاب ؟
لماذا لا تستبدل نظرات الإزدراء التى يحيطها بها الجميع لنظرات الإعجاب الخاصة بإسراء ...
لماذا لا تستبدل الشفقة بالغبطة ؟
الدونية بالتمنى ...
لأنها ليست سوى يسرا إبنة الراقصة .....تلك القاصية الغجرية فى كل شئ ...وهى إسراء الجميلة المتعلمة ذات الذوق العالى والنسب الرفيع ...مال العين ستعلو عن الحاجب !
لم تكن يسرا تملك كثيرا لتترك غيرتها تفسد العلاقة الوحيدة الراسخة فى حياتها ...ربما هى أكثر ثباتا من حياتها نفسها !
أجفلها صوت إسراء الهادئ وهو يخرجها من طور تفكيرها :
-" هتفضلى ساكتة كتير ؟ مش عايزة تتكلمى !"
كانت بائسة فى تفكيرها فهمست ببرود مع إبتسامة مزرية :
-" حتى لو عايزة ....مبقاش فى فايدة أنا عايزة دا ولا لا ....أنا إكتشفت إنى عايزة حاجات كتير أوى يا إسراء ....بس معملتش منها أى حاجة ...أنا معملتش غير الى أنا كارهاه ورفضاه ...عملت كل حاجة غلط عشان غيرى يشوفنى ....يحس فيها ...ونسيت فى كل دا نفسى ...نفسى الى مبقتش عارفاها ...ولا عارفة هى عايزة إيه !"
منطق بائس من شخصية أكثر بؤسا ...وكعادة إسراء ما سمحت لقتامة اليأس أن تتواجد فى محيطها إلا وحاربتها بتفاؤلها ...إيمانها ....
-" مفيش حاجة إنتهت ...والمكسور فى إيدنا نصلحه !"
-" والمشوه ...إيه ممكن يمحى جروحه !"
-" بإيدينا نجمله ....نرسم حواليه حكاية وردية ...نخليه ذكرى ...ذكرى عن عقبة فى طريق حلمنا ..."
تهكمت يسرا من هذا المنطق الوردى الجميل ....هذا الذى لا يمت للواقع بأى صلة ...
-" كلام جميل من شخصية جميلة ....بس مبيأكلش عيش يا إسراء ...عمر الى راح ما بيرجع و..."
قاطعتها بحدة لم تقصدها :
-" بس بإيدينا نصنع واحد غيره ...أيا كان الى راح دا إيه ...."
-" حتى لو روحك !"
أومأت بعزم :
-" حتى لو روح ....وهى الروح إيه غير حياة ربنا زرعها جوانا ...هو القادر ينتزعها ...وطول ما هى جوانا هى أمانة ...لازم نجتهد عشان نحافظ عليها ...حتى لو اذناها فى إيدنا نخليها تسامحنا ....
بإيدنا ننجح !"
لازال الياس متمكن منها بقوة ...لم يكن يأس من الحياة بل كان ياسا من شخصها البائس !!
-" بس أنا فاشلة !"
همست بجفاء خاو....فقابلتها الأخرى بتحدى مندفع :
-" الفشل إختيار مش قدر ...وبإيدك تتحرى منه !"
مدت إسراء يدها لتحتضن يد يسرا وهى تهمس بدعم :
-" بصى يا يسرا أنا مش هسألك إيه الى حصل ...ولا مين أبو الطفل دا ...ولا هعاتبك على ذنب لا أملك إنى أعاتبك عليه ....بس لازم تعرفى حاجة واحدة ...الرحلة دى لازم تكون بداية حقيقة ليك...بداية خير ..وعزم ...أنك مترجعيش زى ما كنتى !
لو هتنجحى يبقى عشان نفسك ...ولو إستسلمتى للفشل فبردو عشان نفسك ...أنا جمبك ومعاك لحد ما تقررى أنتى عايزة إيه !"
لأول مرة كلمات كتلك التى تلقى فى التلفاز والمسرحيات ...تؤثر ولو لوهلة بقرارها ....قرارها أن تعيش هذه المرة لنفسها ...ولهذه الروح الصغيرة التى تنمو بداخلها ....
____________________________________
الأن
فى مصر ....
فى منزل عائلة هاشم الجندى ...
كان الوقت لا يزال مبكرا ....لم تتجاوز الثامنة صباحا بعد ...
ولكنها كعادتها الدءوبة للنشاط عنوان ....
عادت إسراء من جولة الركض الخاصة بها بعدما جابت حيها الراقى ذهابا وإيابا عدة مرات ....لتحافظ على رشاقتها ...لازالت جميلة كما هى ...اصقلها حصولها على درجة الماجستير والان تبقى لها مجرد مناقشة لرسالة الدكتوراة الخاصة بها ....ورغم هذا لم تتغير ...لازالت إسراء العازبة ...محبة العمل ...ذات الروح الطفولية ...التى تعززت بوجود " رهف " إبنة يسرا ...هذه الذى لا يعلم والدها عنها ...والأحرى لا يعلم أحد عن وجودها ...إبنة العامين الأن ....
دلفت إسراء للمطبخ لتعد الفطور وتوقظ أختها الصغيرة الشقية سارة ....لكنها قبل كل هذا وضعت سماعات أذنها لتتصل بأختها يسرا تطمئن عليها ...ثوانى وأجباتها بصوت مضطرب كأنها تقوم بعمل شاق...
-" أيوا يا إسراء يا حبيبتى إزيك !"
ضحكت سارة وهى تسمع صوت رهف يزمجر فعلمت سبب تعب أختها :
-" مالك يا بنتى ! أخبار فرنسا على حسك إيه !"
عبست يسرا ...وأدركت إسراء هذا من زفيرها المضطرب المتهدج بثقل فهمست تصالحها :
-" بهزر معاكى ...مقصدتش !"
همست يسرا بيأس :
-" ولا تقصدى مبقتش فارقة كتير ...بس أنا عايزة أنزل مصر بقى يا إسراء "
-" ما انتى فى مصر يا يسرا ...إنتى صدقتى الكدبة ولا إيه ؟"
هتفت يسرا وهى تعدل من وضعية إبنتها ..لتعدل كذلك من وضع الهاتف وهى تهتف بصوت مختنق :
-" هى الكدبة الى أنا فيها دى عيشة يا إسراء ...أنا تعبت ..أنا عايشة محبوسة ...وبنتى ...بنتى بنام وأنا مرعوبة عليها ....حرام الى أنا فيه دا ...أنا مبشوفش الشارع خالص يا إسراء !"
كانت إسراء مدركة لكل ما تمر به أختها من معاناة ....
ولكنها لا تملك أى حل ! هى واقعة بين تمسك أختها بإبنتها ...وبين عزم والدها على التخلص منها لو إشتم فقط رائحة وجودها ...
لن يسمح لها بتسوئ سمعته ....
زفرت إسراء بيأس وهى لا تملك أى حيلة :
-" أعملك إيه بس يا يسرا مهو إختيارك ....مفيش حل غير دا ...على الاقل أنتى جمبها دلوقتى ...مش أحسن ما تكونى حطتيها فى ملجأ وعشتى حياتك بعيدة عنها !"
شعرت بصوت أختها يختنق وكذلك أنفاسها تضطرب ...فعلمت أنها تبكى هتفت غسراء بإندفاع :
-" يسرا ...أنتى هترجعى تعيطى تانى ...أحنا قولنا إيه ...فترة وهتعدى بإذن الله هنلاقى حل ...بس بنتك دلوقتى محتاجة ليكى ...أنتى كل عيلتها دلوقتى ...أنت قدها !"
همست من بين شهقاتها بتأكيد :
-" قدها يا إسراء ....عايزة أفرحك !"
إبتسمت إسراء وهتفت تدعمها بطريقتها :
-" قولى يا أخرة صبرى !"
-" أنا قدمت فى جامعة فرنسية عشان أدرس عالنت وإتقبلت ...هكمل دراسة هنا فى فن المطبخ ..."
هللت سارة بفرحة وهى تهتف بغنج :
-" ايوااااااااا ...أيوااا بقى يا يسرا ...هنبقى شيفات قد الدنيا !"
نهرتها يسرا بقوة :
-" أبوكى يسمعك بالله عليك وطى صوتك !"
زمجرت إسراء هاتفة ببرود بائس بعدما أطفأت هذه البائسة حماسها :
-" أبوكى فى المستشفى من إمبارح ...هاخد لبس وأروحله عنده مؤتمر مهم !"
بصوت حزين سالت :
-" يعنى مش هتعدى عليا النهاردة !"
-" لا صعب ...بس بكرا إجازتى هزرع أى حجة وأجى أقضى اليوم معاكى ومع رهف ...أطبخيلنا حاجة حلوة كدا ...يلا هقفل بقى عشان ورايا حاجات خلى بالك من القمر الصغنن ومن نفسك !"
إبتسمت إسراء وهى تغلق الهاتف ...لتتحرك نحو غرفة أختها لتوقظها ...
فتحت الغرفة فكانت مظلمة تماما ...ورائحة معطر الفراولة الخاص بأختها جعلها تشعر أنها فى علبة للمربى الفراولة كبيرة ....
شعرت فجأة بشئ يهتز وبصوت غريب يصدح فى الارجاء

صندوق الدنيا 💕حيث تعيش القصص. اكتشف الآن