الفصل الرابع - الرسالة الثانية

2K 81 5
                                    


كان المفتش جلين يبدو مكتئب السمات. وكان ـ كما فهمت ـ قد امضى طيلة فترة ما بعد الظهر يحاول ان يكتب قائمة بجميع الأشخاص الذين شوهدوا يدخلون دكان المسز آسكر بعد ظهر اليوم الحادي والعشرين من شهر يونيو وسأله بوارو قائلا:
- ألم ير واحد منهم احدا من الداخلين؟
- اوه بل راو الكثيرين.. راو ثلاثة رجال طوال لهم نظرات مختلسة مضطربة واربعة رجال قصار لهم شوارب كثة واثنين بلحيتين مهوشتين وثلاثة رجال بدينيين وكلهم اجانب ولست ادري لماذا لم يروا عصابة رهيبة يضع رجالها الأقنعة السوداء على وجوههم شاهرين مسدساتهم.
فابتسم بوارو في اشفاق وقال:
- ألم ير احد ذلك المدعو آسكر وهو يدخل الدكان في ذلك الوقت؟
- لا..لم يره احد.. وهذا في صالحه طبعا واعترف الآن اني طلبت من حكمدار المنطقة ان يطلب الإستعانة برجال اسكوتلانديار لأن هذه الجريمة ليست محلية في نظري.
- اني اتفق معك في هذا الرأي.
- اني متشائم جدا يا مسيو بوارو.. احس ان هذه الجريمة ستكون حلقة اولى في سلسلة جرائم متوالية.. ولست ادري لماذا؟.
وكان علينا ان نقوم بزيارة اثنين من سكان اندوفر احدهما المستر جيمس بارتريدج الذي كان آخر من شاهد المسز آسكر وهي لاتزال حية لأنه اشترى منها علبة سجائر في الساعة الخامسو والنصف مساء يوم الحادث وكان المستر بارتريدج رجلا ضئيل الحجم يعمل كاتبا في بنك ويضع على عينيه نظارة قراءة ويبدو دقيقا في كل حركاته وتصرفاته ويقيم في بيت نظيف مرتب، قال وهو يحملق في بطاقة بوارو:
- آه.المسيو بوارو.. من طرف المفتش جلين؟ اني تحت امرك يا مسيو بوارو.
- فهمت يا مستر بارتريدج انك آخر من راى المسز آسكر وهي على قيد الحياة.
فنظر المستر بارتريدج إلى بوارو كما ينظر إلى شيك غير مستوف للشروط ثم قال:
- هذه مسألة لا يمكن الجزم بها يا مسيو بوارو من اين لي او لغيري العلم بان احدا لم يدخل لشراء شيء بعدي؟
- لو دخل احد بعدك لتقدم وادلى بشهادته.
- ان بعض الناس يا مسيو بوارو ينقصهم الشعور باداء الواجب.
- صدقت.. واعتقد انك ذهبت إلى مركز الشرطة للإدلاء بشهادتك متطوعا.
- نعم طبعا..فبمجرد ان سمعت عن الحادث الأليم بادرت إلى مركز الشرطة وأدليت بشهادتي آملا ان القي بعض الضوء على غموض الحادث.
- هذه روح طيبة فعلا.. هل يمكن ان تكرر على مسمعي هذه الشهادة؟
- طبعا طبعا لقد كنت عائدا إلى بيتي هذا وفي تمام الساعة الخامسة والنصف.
- معذرة يا مستر بارتريدج كيف امكنك تحديد هذه الوقت بدقة؟
- كانت ساعة الكنيسة تدق النصف بعد الخامسة فنظرت في ساعتي حيث وجدتها متأخرة وكان هذا قبل ان أدخل دكان المسز آسكر بلحظة.
- وهل كان من عادتك ان تشتري منها بعض حاجياتك؟
- أحيانا.. فان دكانها يقع في طريقي إلى البيت وقد اعتدت ان اشتري منها علبة سجائر بين يوم وآخر.
- هل تعرف شيئا عن المسز آسكر عن ماضيها او تاريخ حياتها؟
- لا شيء تقريبا اني لم اكن اتبادل معها اي حديث الا عن الطقس احيانا.
- أكنت تعرف ان لها زوجا سكيرا اعتاد ان يبتز منها المال بالقوة؟
- لالم اكن اعرف عنها شيئا من هذا القبيل.
- انك تعرفها بالنظر فهل رايت في مظهرها ما يدل على انها كانت في حالة غير طبيعية في ذلك الحين؟
- لابل كانت كعهدي بها تماما.
ونهض بوارو قائلا:
- شكرا لك يا مستر بارتريدج على هذه الإجابات. هل أستطيع ان اجد لديك دليل أ.ب.س للسكة الحديدية اني اريد ان اعرف مواعيد القطارات المسافرة إلى لندن من اندوفر.
- ان الدليل على الرف يقع خلفك وعلى ذلك الرف وجد بوارو مجموعة من المجلات بينها دليل برادشو والكتاب السنوي لأعمال البورصة الأوراق المالية ودليل كيلي التجاري ودليل شخصيات معروفة "هو :من هو".
وتناول بوارو دليل أ.ب.س للسكة الحديدة وتظاهر بالبحث عن مواعيد بعض القطارات فيه ثم اعاده إلى مكانه وكان الشخص الثاني الذي اردنا مقابلته هو المستر البرت ريدل وكان رجلا يختلف جدا عن المستر بارتريدج كان يعمل في محل لطلاء المعادن وكان جهم الوجه متحفظا في الحديث كبير الجسم عريض الوجه يبدو الإرتياب الطبيعي في عينيه وكان حين استقبلنا في ردهة بيته قد فرغ من تناول عشاءه وراح يشرب قدحا من الشاي الأسود قال لنا وهو يحملق في وجه كل منا بسخط شديد:
- لقد قلت كل ما اعرف ولم يعد لدي المزيد من الأقوال.
وهنا اقبلت زوجته من المطبخ وقالت:
- يحسن ان تذكر للمسيو بوارو ما لديك من اقوال يا البرت.
فصاح بها ثائرا:
- اسكتي انت الا يكفي استجواب رجال الشرطة الملاعين لي؟
فقال بوارو برفق:
- اعتقد انك ذهبت إلى مركز الشرطة بمحض ارادتك.
- ولماذا افعل بحق الجحيم؟ ما شأني انا حتى لو انطبقت السماء على الأرض.
- ان المسألة خطيرة.. جريمة قتل.. واعتقد ان من واجب كل مواطن ان يذكر كل ما لديه من معلومات تساعد الوصول إلى الحقيقة.
- ان لدي اعمالي الخاصة.. وهي التي منعتني من الذهاب إلى مركز الشركة بارادتي.
- لقد قيل لرجال الشرطة انك شوهدت تدخل دكان المسز آسكر حوالي السادسة ولهذا جاءوا إليك في هذا الشأن فهل اقتنعوا باقوالك؟
- ولماذا لا يقتنعون؟
ولما هز بوارو كتفيه قال الرجل في تحد وعنف:
- ماذا تريد ان تقول يا هذا؟ ان كل الناس يعلمون من هو القاتل انه زوجها اللعين بطبيعة الحال.
- ولكن احدا لم يشاهده هناك في فترة وقوع الجريمة بينما شوهدت انت.
- اتريد ان تثبت التهمة علي ايها الأجنبي؟ أتظن اني قتلتها لأسرق علبة سجائر او لفافة تبغ او مجلة؟ اتريد ان تقول عني كما يقول غيرك اني احب منظر الدم.
ونهض الرجل مهتاجا مهددا متوعدا ولكن زوجته قالت في توسل:
- البرت لا تقل شيئا كهذا.
وقال بوارو بثبات:
- هدئ نفسك يا سيدي.. اني اريد فقط ان اعرف شيئا عن ظروف ذهابك إلى الدكان.. ولست أجد اي مبرر يمنعك من ان تذكر لي هذا.
فتهالك المستر ريدل جالسا وقال:
- ومن قال اني ممتنع؟
- هل كانت الساعة السادسة عندما دخلت الدكان؟
- نعم كانت قبل السادسة بلحظات ولكن هذا لا يهم وكنت اريد شراء علبة سجائر فدفعت الباب ودخلت..
- هل كان الباب مغلقا؟
- نعم.. وكنت اظنه مغلقا بالمفتاح ولكنني وجدت من الممكن فتحه ففتحت مصراعه ودخلت ولكنني لم ار احدا فأخدت ادق بقبضة يدي على منصة البيع ولما لم يسمعني احد انصرفت.. هذا كل ما حدث.
- كأنك لم تر الجثة المكومة وراء المنصة؟
- لا.. ان رؤيتها كانت تقتضي ان انحني فوق المنصة لأنظر إلى ما وراءها فلماذا أفعل هذا؟
- هل كان على المنصة دليل السكة الحديدة؟
- أجل وكان موضوعا بالمقلوب ومن ثم خطر لي ان المرأة العجوز سافرت فجأة ونسيت ان تغلق
الدكان بالمفتاح.
- هل لمست الدليل او حركته من مكانه؟
- لا طبعا..ولماذا افعل؟
- ألم تر أحدا ينصرف عن الدكان وانت متجه اليه؟
- لا.. وقد ذكرت لك كل ما اعرفه عن هذا الموضوع.
ونهض بوارو وقال وهو يهم بالإنصراف:
- شكرا يا مستر ريدل.
و في الطريق نظر بوارو إلى ساعته وقال:
- إذا اسرعنا فربما استطعنا ان نلحق قطار الساعة السابعة إلى لندن..هلم اليه.
وفي مقصورة الدرجة الأولى بالقطار قلت لبوارو:
- ما رأيك؟
- ان القاتل رجل متوسط الطول احمر الشعر احول العينين يعرج بقدمه اليمنى قليلا ويوجد تحت لوحة كتفه اثر جرح قديم.
فهتف قائلا:
- ما هذا يا بوارو؟
فضحك قائلا:
- ماذا تريد مني ان اقول وانا اراك تنظر الي متوسلا وكأنما ترجوني ان اخرج لك القاتل على طريقة شرلوك هولمز؟ اني لا اعرف شيئا عن القاتل لا عن شكله ولا عن محل اقامته ولا ادري كيف سيمكن القبض عليه.
- لو انه ترك وراءه اثرا فقط؟
- لقد ترك وراءه دليل السكة الحديدية.
- اتظن انه تركه وراءه خطأ؟
- لا طبعا والدليل على ذلك بصمات الأصابع.
- ولكنه لم يترك على الدليل اية بصمات.
- وهذا ما يجعلني أؤمن بانه تركه عامدا. فنحن في شهر يونية والحر شديد وليس من المعقول ان يسير رجل وفي يديه قفازات. ومادام لم يكن مرتديا قفازات فلا بد ان يكون قد ترك عليه بصمات اصابعه وهو يحمله ولكننا لم نجد بصمات اصابع فمعنى هذا انه حرص على مسح ما على الدليل من بصمات اصابع ولو كان الذي ترك الدليل رجلا بريئا لما اهتم بمسح بصمات الأصابع من فوقه ولكن لماذا تركه القاتل وراءه؟..هذا هو السؤال.
- ألا يمكن ان نستدل بشيء بسيط عن هذا الطريق؟
- لا اظن يا هاستنغز ان المجرم كما يبدو شخص يعتز بذكائه الخارق ومثل هذا الشخص لا يترك وراءه سلسلة من الأدلة والآثار التي تنم عليه.
- اذن فدليل ا.ب.س لا قيمة له في هذا الأمر.
فهز بوارو كتفيه وقال:
- ان له قيمة من الوجهة الإستنتاجية فقط.. فالقاتل شخص ينوي ان يبقى مجهولا باسمه ولكنه مع هذا اراد ان يلقي بعض الضوء على شخصيته من حيث لم يشأ.. فنحن من جهة لانعرف عنه شيئا ومن جهة اخرى نعرف عنه الكثير فانا مثلا ارى ان شخصيته بدات تتكون في غموض امامي انه رجل يكتب بخط واضح جيد ويستعمل في رسائله ورقا من النوع الجيد وفي اشد الحاجة للتعبير عن شخصيته اني اراه في طفولته طفلا مهملا لا يهتم بامره احد واراه في شبابه ينمو وهو يحس بانه اقل شانا من غيره وبانه مظلوم من الناس ومن المجتمع ومن ثم ارى ذلك الحافز الداخلي.. الحافز الذي يدفعه للتعبير عن كيانه وشخصيته لتوجيه الإنتباه إلى شخصه وظل هذا الحافز يقوي ويشتد ولكن الطروف كانت تحطمه وتكتبه بقسوة وعنف وتضيف المزيد من الشعور بالإهانة في نفسه وهكذا انتهى به الأمر إلى هذا الطريق الرهيب للتعبير عن ذاته.
فقلت معترضا:
- هذا كله مجرد استنتاج.. انه لا يفيد في الكشف عن غموض الجريمة.
- انك تفضل دلائل اخرى.. طرف عود ثقاب رماد سيجارة اثار حذاءه مسامير خيط حريري وما إلى هذه الأدلة التي لم يعد المجرمون المحدثون يتركونها وراءهم ولكن يمكننا ان نسال انفسنا لماذا ترك وراءه دليل ا.ب.س. للسكة الحديدية؟ ولماذا قتل المسز آسكر بالذات؟ ولماذا اتخذ بلدة اندوفر مسرحا لجريمته؟ ثم الرسالة المجهولة التوقيع لماذا ارسلها الي انا بالذات؟..كل هذه اسئلة يمكن ان تلقي بعض الضوء على هذه الغوامض كلها؟
وبعد برهة صمت قال:
- وماذا تنوي ان افعل؟ اني لست ساحرا ولا قارىء غيب وكل ما يمكن ان اقوم انا به في هذا السبيل سيقوم به رجال المباحث على وجه اكمل.
ثم اردف بعد برهة صمت اخرى:
- الشيء الوحيد امامي هو الإنتظار.. انتظار الرسالة الثانية.
فحملقت فيه مندهشا وقلت:
- اتتوقع ان تاتي اليك رسالة اخرى؟
- بكل تاكيد يا عزيزي ان نجاح المجرم في الإفلات من نتائج الجريمة الأولى سيغريه بارتكاب جريمة ثانية.
وهززت كتفي في شك ومضت الأيام وحفظ التحقيق في قضية مصرع المسز آسكر وافرج عن زوجها.. ولم يشا رجال البوليس بناء على توصية بوارو ان يشيروا اثناء التحقيق إلى الدليل أ.ب.س للسكة الحديدية وعلى الجملة لم تلفت الجريمة اهتمام احد خارج بلدة اندوفر بل ان اهالي البلدة انفسهم لم يلبثوا ان بدأوا ينسون الحادث بعد ايام معدودة واعترف اني شخصيا كنت على وشك نسيان الحادث ايضا لولا انني تذكرته بقوة في صباح اليوم الخامس والعشرين من شهر يوليو كنت قبل ذلك اليوم لم ار بوارو مدة يومين او ثلاثة حيث شغلت ببعض المهام في مدينة يوركشاير ولما عدت يوم الإثنين بعد الظهر رايت بوارو يصعد إلى المسكن بعد الساعة السادسة وهو يحمل خطابا وجده في صندوق بريده وما كاد يفتحه حتى هتف قائلا:
- لقد وصلت.
- ماذا تعني؟
- الرسالة الثانية..
ورحت أحملق اليه في ذهول بينما دفع بالرسالة الي وطلب مني ان اقراها:
" عزيزي المستر بوارو حسنا..ما رايك؟..لقد انتصرت عليك وجعلتك تقف حائرا عاجزا امام جريمة اندوفر ولكن المباراة بيني وبينك لا تزال في اولها والآن دعني الفت نظرك إلى مصيف بكسهيل في اليوم الخامس والعشرين من هذا الشهر.. يا لها من مباراة رائعة مسلية يا مستر بوارو "
المخلص: ا.ب.س

روايات اجاثا كريستي حيث تعيش القصص. اكتشف الآن