الفصل الرابع عشر

71.2K 2.5K 133
                                    



الفصل الرابع عشر

تحسست قلبها النابض فشعرت به يقفز بين ضلوعها، لم تكن وهمًا أو حلمًا عابرًا من نسج خيالها، إنها حقيقة تراها بأم أعينها، أسرعت "نادية" في خطاها نحوها وغريزة الأمومة تحركها بكل حماسٍ، نسيت ما بها من أوجاع، وما قيل من قبل من فضائح تخصها وركزت فقط على كونها قد وصلت إلى ابنتها أخيرًا، وما إن اقتربت مسافة لا بأس بها منها حتى صاحت عاليًا لتلفت انتباهها:

-"آسيا"، بنتي!

تصلب جسد الأخيرة من تلك الكلمات المقتضبة، لوهلة ظنت أنها تتوهم ذلك الأمر، لكن تكرر النداء بنفس النبرة المليئة بالحنان والحزن، التفتت برأسها نحو صاحبته لتتأكد فعليًا من وجودها، بدت مذهولة وهي تتأمل تلك التي تطالعها بنظرات تعكس تلهفًا واشتياقًا كبيرًا، كانت المرأة الواقفة على مقربة منها تطابق الصورة التي رأتها مسبقًا في منزل والدتها، إنها بالفعل هي، وفي أقل من ثانية هاجت الدماء في شرايينها وتدفقت بغزارة في كافة خلايا جسدها محفزة غضبها نحوها، رسمت "نادية" ابتسامة ناعمة على وجهها الحزين وهي تدنو منها لتقول بعدها بعاطفة نابعة منها:

-"آسيا"، أنا مامتك!

تلك الكلمة التي بغضتها لكونها تذكرها بما مرت به من آلام وشعور بالوحدة، أخفت "آسيا" حنقها ببراعة لتحدق فيها بنظرات مطولة، تخشبت أصابع يدها على الكأس الممسكة به، ظلت تضغط عليه بلا وعي مفرغة فيه ما يعتريها حاليًا من شحنات غضب متأججة فلم تشعر به يتهشم بين أناملها، انتفضت "نادية" فزعًا في مكانها هاتفة بتخوفٍ:

-خدي بالك يا بنتي!

لم تكترث "آسيا" للجرح النازف في راحة يدها، بل يمكن القول بأنها لم تشعر بالألم مطلقًا، أخفضت رأسها لتنظر له بغضبٍ مبرر، أخرجت من حقيبتها منشفة ورقية لتوقف نزف الدماء، اقتربت منها والدتها واضعة يدها على ذراعها فنظرت لها "آسيا" كالملسوعة، أبعدت يدها عنها وهي تحدجها بنظرات نارية، ازدردت "نادية" ريقها مستشعرة نفورها الواضح منها، كتمت ضيقها من تصرفها الجاف معها، وبررت لنفسها بأنها لديهل كل الحق لتحزن منها، حاولت أن تلطف الأجواء بينهما فاستطردت قائلة بودٍ:

-أنا بأدور عليكي من زمان

ظنت "آسيا" أنها ستثور فيها فور أن تراها، ستقبض على عنقها وربما تخنقها بأيدٍ عارية دون إبداء ذرة ندم واحدة أو حتى ذرف عبرة واحدة حسرة عليها، ستفعل ما تعهدت لنفسها به منذ نعومة أظافرها، لكنها عجزت عن مواجهتها، هربت الكلمات من على لسانها، فقدت النطق مجازًا، تفاجأت بذلك الإحساس العاجز الذي تملكها، بدت مشلولة التفكير مسلوبة الإرادة أمام تيار الحنان المتدفق منها، تجمدت أعينها عليها مراقبة ردة فعلها الطبيعية نحوها، تخيلتها مثلها قاسية، جاحدة، متكبرة، متعالية، ساخطة، بل وأسوأ بكثير، لكنها وجدت فيها ملامح الأم الطيبة الحنون التي تملأ روحك بالسلام والطمأنينة لمجرد التطلع إلى وجها والظفر بابتسامة رضا من على شفتيها، استنكرت خذلان نفسها بعد ما تدربت مرارًا وتكرارًا على تلك المواجهة المصيرية، أحست بالفشل الذريع، بذهاب كل شيء سدى، بأنها اقترفت خطئًا حينما ظنت أنها قادرة على الانتقام، منحتها نظرة أخيرة تحمل كرهًا مكتومًا قبل أن تعلق حقيبتها على كتفها وتنسحب هاربة من المكان لتخفي ضعفها المخزي، صدمت "نادية" من ردة فعلها بعد أن توقعت عتابًا شديد القسوة، لحقت بها لتستوقفها وهي ترجوها:

المُحترَمُ البَرْبَريُّ ©️ - كاملة ✅حيث تعيش القصص. اكتشف الآن