لعنة البن

141 2 3
                                    

الزمان : نهاية ثلاثينيات القرن العشرين.

المكان: قرية البن العاشق-شمال بورندي-إفريقيا، وبورندي هي إحدى البلدان والمقاطعات المكونة للإمبراطورية البلجيكية، وتعتبر إحدى الأملاك الخاصة للملك البلجيكي.
وقد سميت هذه القرية بهذا الإسم لشهرتها بإنتاج أحد أجود أنواع البن في العالم ولإنتشار خرافة هناك تقول بأن كل من يتعود على شرب القهوة من هذا البن، فلا بد أن يخوض العديد من تجارب العشق.

السيد جاكوب ضابط رفيع المستوى في الجيش البلجيكي وهو المشرف والحاكم لهذه القرية التي يعمل جميع سكانها عنده في زراعة البن، هذا البن المميز والمطلوب بشدة في كامل أنحاء أوروبا.
عند السيد جاكوب يعمل المآت و كلهم من السكان الأصليين للمنطقة ويعاملون معاملة العبيد، فهم لايملكون الحق في شيئ، حتى الحق في الإنقطاع عن العمل أو مغادرة القرية.
أحد هؤلاء العبيد يدعى " كالينغو "، شاب من سكان القرية ويعمل كما الجميع هنا في حقول البن، وهو متزوج من "أتيلغا" وهي أيضا إحدى عشرات العاملات في قصر السيد جاكوب.
كالينغو وأتيلغا متزوجان منذ أكثر من ستة سنوات لكنهما لم يرزقا بطفل بعد.
يستيقظ كالينغو باكرا جدا، فهو مطالب بأن يكون بالحقل و يبدأ العمل مع إطلالة أولى أشعة الشمس، وفي فترة الحصاد يكون مطالبا بحصاد كمية كبيرة قد لاتكفيه ساعات عمله المتواصلة على مدار اليوم للوصول إليها وهو ماقد يعرضه لعقوبة كالجلد أو الحرمان من الطعام.
أما اتيلغا فتقضي كامل يومها بالعمل في القصر، و هو مايجعل الزوجان غالبا، لا يلتقيان إلا في ساعات قليلة يكون أغلبها مخصصا للنوم لكي يستطيعا النهوض باكرا وبدء يوم جديد من العمل الشاق.
لم يكن هذان الزوجان يشعران بأي نوع من الأسى أو الحزن على هذه الحياة التي يعيشانها فالإعتقاد السائد هنا بأن سيطرة البلجيكيين البيض على العباد والبلاد، هو مايجب أن يكون وإلا فإن السكان الأصليين لوحدهم لن يكون لديهم مايشتغلون به ولاحتى مايأكلونه، دونهم؛ فهم من يوفرون لهم تلك الوجبة الشحيحة كل يوم.
لكن المشكلة بالنسبة لكالينغو وأتيلغا كانت الإنجاب بعد كل هذه السنين من الزواج، وهو مادفعهما إلى الإستنجاد بالكثير من المشعوذين والسحرة المنتشرين بالمنطقة والذين عادة مايلجأ إليهم السكان في حالات المرض، لكن دون جدوى.
وكثيرا ماكان كالينغو يعود لكوخه متأخرا ليجد أتيلغا غارقة في دموعها لهذا السبب.
وفي كثير من الليالي أيضا، لم يتمكن كالينغو من النوم ولنفس السبب دائما. لقد كانت غاية أمنيتهما أن يكون لهما إبن أو بنت كالجميع.
وتشاء الأقدار أن تحمل أتيلغا بعد تناولها لعشبة جبلية نادرة، وطبقا لنصيحة من عجوز رحالة، إستقرت بقريتهم لبضعة أيام.
وتغير حال الزوجين بعد ظهور علامات الحمل على أتيلغا، كانت الفرحة بادية على وجهيهما، وصارا أكثر إقبالا على الحياة حتى وإن كانت بتلك الظروف.
أثناء فترة الحمل إضطر كالينغو للعمل بساعات أكثر وبمهام أكثر وذلك مقابل أن يسمح لزوجته بساعات إضافية من الراحة. لكنه لم يستطع فعل أكثر من ذلك، فأتيلغا مضطرة للعمل حتى وهي حامل فلا حقوق هنا إلى مايعطيه السيد جاكوب...
وبعد تسعة أشهر من الإنتظار الملطخ بالعذاب، أنجبت أتيلغا. وكانت ولادة صعبة جدا، كادت الأم أن تموت أثنائها، لكنها نجت وأصبح لكالينغو وأتيلغا بنتا. سمياها آرنجا. على إسم تلك العشبة التي كانت السبب في أن يتحقق الحمل بعد كل هذه السنين، حسب إعتقادهما.
بلغت آرنجا الآن من العمر سنة ونصف، وأصبحت ملاكا أسمرا بعيون زرقاء بحرية، رموش طويلة سوداء، وضحكة لطيفة تشع براءة وجمالا. كان كل مافيها جميل وصغير. و شكلت الفرحة بالنسبة لوالديها.
في تلك السنة كان محصول البن قياسيا في القرية وكان الطلب على البن الإفريقي قد شهد إرتفاعا كبيرا مما كان يحقق لجاكوب أرباحا ضخمة ومما جعل من بورندي محط أنظار الملك البلجيكي.
مساء يوم الأحد، الرابع من مارس آذار من سنة ألف وتسع مائة وأربع وثلاثين.
إجتمع العاملون في الحقول في حدود الساعة الثامنة مساءا، بعد قضاء يوم مرهق في الحقول، إجتمعوا ككل يوم ليتم تفقد وإحصاء الكميات التي تم جمعها ذلك اليوم، وكان كالينغو أحد الواقفين بإنتظار دوره.
لكن ذلك اليوم كان مختلفا، حيث وصل مبعثون من الملك للقرية لحضور موسم حصاد البن. وهو الأمر الذي شكل ضغطا على الحاكم جاكوب وهو نفس الضغط الذي سلطه جاكوب على العبيد أيضا.
فقد أصدر أوامره للمشرفين والقائمين بأن تتم معاقبة أي عامل تقل كمية البن لديه عن خمسين كيلوغرام لليوم.
وبالفعل كان قد تم معاقبة بعض العاملين، طيلة الأيام الماضية وتم جلدهم عشر جلدات مقابل كل كيلوغرام ناقص.
جاكوب في ذلك اليوم أنذر العاملين بأن العقوبات ستتضاعف وستصبح أقسى إلى حد غير مسبوق لكل من يتهاون في العمل.
وبحضور مبعوثي الملك، كان الجو شديد التوتر، و أمر جاكوب بأن يتم إحتجاز كل المتهاونين في تلك الليلة.
كان كالينغو متخوفا، حيث شعر بأن الكمية التي لديه قد لاتبلغ النصاب؛ كان فكره مشوشا طيلة اليوم نظرا لأنه ترك آرنجا مريضة رفقة أمها وهو كذلك لم ينم في الليلة الماضية فآرنجا كانت في حالة سيئة، كل هذا أثر على كالينغو وعلى مردوديته...
ووصل دور كالبنغو، كان يشعر بالارتباك الشديد فهو يريد أن يعود إلى كوخه للإطمأنان على حالة آرنجا قبل كل شيئ.
تم إحتساب الكمية التي لديه من البن وللأسف كانت أقل من المطلوب؛ تسعة وأربعون كيلوغراما فقط؛ فتم إحتجازه.
في تلك الليلة احتجز سبعة من العبيد وتم إخبارهم بأن عقوبتهم ستكون فريدة من نوعها وستنفذ في الغد.
في صبيحة اليوم الموالي أمر جاكوب بإحضار عائلات العبيد الذين اعتقلوا.
ومع أولى ساعات الصباح، كان جاكوب يجلس رفقة مبعوثي الملك وكان الكل بإنتظار معرفة ماهية العقوبة.
ثم أمر جاكوب جنوده المدججين بالسلاح بوضع السبعة رجال في قفص من الخشب والأشواك أعد لهم خصيصا، وأمام أعينهم تم إفتكاك أبناء المحتجزين من أمهاتهم، فقد قرر جاكوب أن تسلط العقوبة على الأطفال، فهو لايريد أن يأذي الرجال بل يريد تأديبهم عبر أبنائهم، ففي حقيقة الأمر هو بحاجة إلى الرجال، خاصة في هذه الفترة من أجل الحصاد.
كانت آرنجا أحد الأطفال الذين ستسلط عليهم العقوبة وأصغرهم. ولسوء حظها كانت مريضة تعاني إرتفاع الحرارة والإسهال ولم تكن تفقه شيء مما يدور حولها، كانت فقط تبكي.
في تلك الأثناء بدأ الآباء المعتقلون، بالمناداة على أبناءهم ومحاولة كسر قفص الإحتجاز فيما كانت الأمهات تحاولن تخليص أبنائهن، طالبين الرحمة من جاكوب الذي لم يكن يأبه في ذلك الوقت إلا بضيوفه مبعوثي الملك.
طالبت الأمهات بأن تقع العقوبة عليهن بدل الأطفال لكن جاكوب رفض، فإزداد الهيجان والتشنج في صفوف العبيد مما دفع الجنود لإطلاق الرصاص في الهواء، فسكت الجميع بإنتظار معرفة مصير الأطفال...
ثم سارع جاكوب بإصدار أوامره بالتنفيذ، لقد قرر قطع اليد اليسرى لكل طفل، حتى لاينسى آباءهم ذلك أبدا ولايقصروا بعد اليوم. وتعالت صيحات الأمهات وبكاؤهم وبدأت علامات الهيجان و التمرد تتصاعد، فأطلق الجنود النار على أرجل البعض ممن أظهر إحتجاجه. وبدأ تنفيذ العقوبة.
أغمي على أتيلغا في وسط الحشود فهي لاتقدر على تحمل مشاهدة عذاب ابنتها. فيما كان كالينغو في قفص الإعتقال يبكي محاولا كسر القفص في محاولة يائسة.
تقدم سبعة من الجنود في يد كل واحد منهم سيف طويل حاد الشفرة.
تم تقييد الأطفال، وإمساكهم بعنف وشدة، أرنجا كانت تبكي بعنف طفولي، تبكي ألام المرض وتبكي الخوف الذي كان ظهر على ملامح وجهها الجميل، لكنها قبل لحظة من تنفيذ العقوبة إبتسمت عن جهل وبراءة في وجه الجندي الذي سيقطع يدها... ثم إلتفتت باحثة عن شخص ما؛ عن أبيها الواقف داخل القفص،ولمحت عيناها الجميلتان كالينغو، كأنها تستنجد به إبتسمت له وتمتمت بكلمات خيّل لكالينغو من خلالها أنها نادته ، ''بابا''، وهي الإبنة التي مازالت لم تتكلم بعد والتي كان يحلم دوما بأن يسمع منها تلك العبارة. ولبرهة توقف خلالها الزمن، متضامنا مع الطفولة، ثم هوت السيوف على الأيادي الصغيرة.;
وقطعت أيادي الأطفال السبعة في نفس اللحظة، بعد إشارة من يد جاكوب.
لم يستطع جسد آرنجا الصغير والمريض تحمل الآلام ونزفت كثيرا، حاولوا إسعافها، حاولوا إنقاذها، لكنها فارقت الحياة بعد يومين.
وبعد شهر من الحادثة ماتت آتيلغا حسرة وكمدا على الملائكة السمراء.
فيما بقي كالينغو معتقلا لمدة شهرين نظرا لتوعده بالإنتقام وبعد محاولة الإعتداء التي قام بها على أحد الجنود عندما أطلق سراحه لأول مرة.

بعد مرور أشهر عديدة،أظهر كالينغو الطاعة والإستسلام وعاد للعمل في حقول البن.
ومرة سنتان قضاهما كالينغو بين العمل بجهد كبير وبين التأمل والبكاء كل يوم أمام يد آرنجا المقطوعة والتي إحتفظ بها.
وفي صبيحة يوم أحد آخر، كان كل العبيد منشغلين كالعادة بحصاد البن، وحضر جاكوب في ذلك اليوم للإشراف على العمل بنفسه، وكان كالينغو يراقبه من بعيد، ثم بدأ بالإقتراب منه شيئا فشيئا دون إثارة الإنتباه.
وعندما أصبح على مقربة منه، إستل خنجرا كان يضعه بين ثيابه ووثب عليه وثبة واحدة كانت كافية بأن تمكنه من غرس خنجره برقبة الطاغية، الضابط السامي بالجيش البلجيكي، فيما أطلق الجنود النار بكثافة على كالينغو فسقط ميتا في وسط بركة من دمائه ودماء جاكوب.
هذا الأخير لم يمت ذلك اليوم بل بقي حيا لمدة ثلاثة أيام كان خلالها يبقى مستيقظا أغلب الوقت يتألم ولايقدر حتى على الكلام فيما لم يقدر الأطباء على إسعافه، فتورم ثقب رقبته، وظهرت عليه علامات التسمم أيضا، لقد كان خنجر كالينغو مسموما.
وحتى شربة الماء التي يسقونه إياها كانت تخرج من الثقب الذي أحدثته له طعنة كالينغو في رقبته .
في يومه الأخير خرجت من جسده رائحة نتنة حتى صار الجميع ينتظر موته، وأمر الطبيب بدفنه قبل أن يموت، فتلك الرائحة قد تشكل خطرا على صحة الأشخاص من حوله و بالفعل تم رمي الضابط السامي جاكوب حيا في بئر عميقة،وتم ردم تلك البئر.


You've reached the end of published parts.

⏰ Last updated: Jul 04, 2018 ⏰

Add this story to your Library to get notified about new parts!

لعنة البنWhere stories live. Discover now