الجريمة والعقاب - فيودور دوستويفسكي

ابدأ من البداية
                                    

كلا إن هؤلاء الرجال ليسوا من لحم ودم بل إنهم من البرونز. هكذا يرى بطل الرواية الإنسان المتفوق الذي يتجاوز كل القيود والعقبات التي يفرضها المجتمع – بأعرافه وقوانينه – في سبيل تحقيق هدفه الأسمى، هذه الفكرة التي سيطرت علي كامل كيانه أراد تطبيقها عملياً ليثبت لنفسه الحالمة أنه أحد هؤلاء البشر المتفوقين، فأقدم على قتل تلك العجوز المرابية لسرقتها بداعي الفاقة واحتياجه المال لاستكمال دراسته، هذه الحجة التي لم تقنعه هو شخصياً والدليل هو إخفاؤه لتلك للأموال وعدم إنفاقها، فنجده مبرراً تلك الجريمة بقوله «إنه ليس مخلوقا بشرياً ذلك الذي قتلته. بل هو المبدأ، المبدأ، ولقد قتلته كما يجب».

الصراع النفسي

تحدثت في البداية عن هذه الحمي التي عصفت براسكولينكوف بطل الرواية فعقب قتله للعجوز المرابية وشقيقتها بدأت ظهور أعراض هذه الحمى التي جعلته طريح الفراش، لكنه رغم تعافيه من حمى الجسد لازمته تلك الحمى العقلية فصار يهذي دائمًا، هذا كان عقابه الأليم الذي حوله تماماً من ذلك القاتل للمبدأ الذي لا يخالجه ذرة ندم من قتل تلك الحشرة – على حد تعبيره – إلى الذهاب في النهاية إلى القسم للاعتراف بجريرته، رغم تعقد القضية وعدم وجود أدلة على إدانته، لقد صار عقل راسكولينكوف بعد ارتكابه هذه الجريمة كطحونة هوائية لا تتوقف، بل تحول إلى محرك ديزل يضج بصخب عنيف هذا الضجيج الذي ظهر جلياً في تصرفاته فجعل من يلقاه يختاله مجنوناً، إن هذا الإنسان الذي رأى نفسه متفوقاً وأهلاً لتجاوز القانون شعر بالفشل في نهاية المطاف ورأى حلمه يتحول لسراب، فندم على هذه الجريمة التي أضحت بلا مبرر.

الألم والحزن

«أنا لا أسجد أمامك أنتِ . . بل أمام معاناة البشرية كلها» هكذا تحدث راسكولينكوف إلى صونيا تلك الفتاة البائسة التي باعت جسدها من أجل أطعام إخوة لها من أبيها الذي ترك وظيفته المرموقة بعد إدمانه الخمر، هؤلاء الأطفال وأمهم المريضة بالسل كان يترصدهم شبح الموت جوعاً، لكنها كانت ملاذهم الآمن – هذا المشهد المؤثر في أحداث الرواية ليس غريباً على دوستويفسكي المعروف بتبجيله للمتألمين فنجده يقول في موضع آخر  «إن أعظم رجل، هو صاحب أعظم حزن في هذه الدنيا»– بالإضافة إلى ذلك فهو بتلك العبارة والإشارة إلى معاناتها يريد أن يلقي الضوء على مساوئ المجتمع الروسي في هذه الحقبة وتفاوت طبقاته. نجده أيضاً يقول عن صونيا في واحدة من أعمق عباراته «الجمال سينقذ العالم» بالطبع لا يتحدث عن جمال وجهها فقط، بل الجمال الذي يقصده هو انسجام الشكل والمضمون، فجمالها يتجلى في عظم إنسانيتها التي دفعتها للتضحية بهذا الجسد من أجل إطعام الصغار.

الخاتمة

لست بمعرض عن تقييم هذا العمل الملهم في تاريخ الأدب العالمي، لذلك اسمحوا لي بدلاً من عبارات الإطراء والمديح التي تتذيل دائمًا كل قراءة لرواية مهمة أن أستعيض بها هذا الاقتباس الأخير الذي توقفت عنده كثيراً، ورأيت فيه ما يحدث في عالمنا المعاصر.

يقول دوستويفسكي على لسان راسكولينكوف «ليهرق كل الناس ما شاءوا من الدم. إن ما سال منه وما سيسيل جازفاً على الأرض، يهرق كما تسفح الشامبانيا. ومن أجله يتوجون في الكابيتول، ويرفعون إلى مصاف المحسنين للإنسانية» (ج3 ص 881).

هذا الإسقاط الرائع الذي أراد به دوستويفسكي أن يصفع ضمير العالم حينها ليفيق من ذلك السبات العميق – الذي ما زال مستمراً إلى الآن مع الأسف – هذا السبات الذي جعلهم يبررون الجرائم طالما من يرتكبونها يتشدقون بالصالح العام، فكم من قائد سفك الدماء ونحتت له التماثيل ووضعت على رأسه أكاليل الغار. لكن سيظل العار والشنار يطارد هؤلاء الذين يرون البشر حشرات لا قيمة لهم وأنهم فقط الأسياد. سيأتي اليوم الذي يدفعون فيه ثمن ما اقترفته أيديهم، سينالون حتمًا العقاب حتى إذا افتقدوا لضمير يؤرقهم كضمير راسكولينكوف.

منقول

   روايات عالمية ( ريفيو )حيث تعيش القصص. اكتشف الآن