9

3K 83 3
                                    

الفصل السابع- حرب مع الراء
اغلق جوزيف سماعة الهاتف .. ما زال صوت والده يدوي في مسامعه .. يعنّفه ويتهمه بأنه جالب المشاكل .. وهو بالفعل جالبها .. لكنه ليس بنادم .. على والده الآن أن يجد تسوية ما .. أن يخرج بحل .. ابتسم جوزيف .. فجزء منه كان سعيداً أن يرى والده الجبار مختل الاتزان .. بالتأكيد هو لا يسعى لتخلصيه لأجل جمال طلعته البهية بل لآنه يخاف على سمعة آل ميلر .. على سنوات تاريخهم المشرف في خدمة الوطن على حد قول والده .. يخاف على أعماله التي يسيرها جوزيف بكل يسر وسهولة مستخدماً ذكاءه ورجاحة عقله .. عاوده الشعور ذاته بأنه لا يملك عائلة .. ليس سوى تينا التي قفزت تحاول ان تحدثه على الهاتف لكن والده نهرها .. ليس سواها من تحبه حقاً .. دون ان تطالبه بشئ ودون ان تحاول ان تفرض عليه شئ .. حبها مطلق وغير خاضع للشروط .. لا ارادياً التفت نحو الباب المغلق الذي تنام خلفه انجل بعد يومين من البكاء المستمر .. لا زال يذكر منظرها المفزع وهي تدخل من باب المطبخ محنية الرأس .. تمشي كأنها آلة .. لقد اخافته حقاً عليها .. هو لا يعلم لماذا يشعر بتلك الحماية ناحيتها .. ويشعر بأنه عليه أن يرعاها ويخلصها من ورطتها .. ربما لأنه يشعر بالذنب لأنه بشكل ما كان طرفاً في ظروف اعتقالها .. خرجت زينة وزينب من غرفتها تمشيان على طرف اصابعهما .. سألهما "كيفهاااا ؟ منيهااااا؟" قلبت زينة عينيها بينما اطلقت اختها ضحكة ساخرة .. قالت له زينة بتأفف "وما الذي يفترض بهذا ان يعني؟" حاول ان يعصر مخه ليتذكر الكلمة المرادفة لكلمة "منيحا" ولمع الادراك في عقله فقال "ياعني هيااا زينااا؟" ضحكت زينب ملئ فمها بينما عبس ينتظر اجابة لسؤاله القلق .. ضربت زينة كفاً بكف وقالت كمن تكلم طفلاً "يا يوسف يا عزيزي اسمها "يعني هي زينة" .. لا تمد الجمل كأنك فتاة مراهقة" اتسعت عينا جوزيف .. هل حقاً يبدو هكذا عندما يتكلم؟ عار على رجولته ان كان كذلك !.. ضحكات زينب قاطعت افكاره وهي تعلق "أجل انظري زينة سيكون اجمل مراهقة وسيلاحقه كل شباب الحي" شاركتها زينة الضحك بينما تجهم وجهه ازاء سخريتهما على لهجته فوضع يديه على خصره وقال بطريقة حاول ان يراعي فيها عدم مَطّ الكلام "زينة؟" هزت رأسها زينة بالايجاب "نعم وتنام بعمق .. زينة كلش .. لا تقلق" .. عبس متسائلاً "كوليش؟" ضحكت زينب وهي تقترب منه وتتعلق بذراعه "يعني كتير ام انك تقولها كاتير؟" رفع رأسه الى السماء يشكو تلاعب الطفلتين بأعصابه بينما واصلتا الضحك وانطلقتا الى الحديقة .. المنزل كان هادئاً .. سامح وهدى يتسوقان في الخارج .. زينة وزينب تلعبان في الحديقة بعد ان اخذتا نصيبهما من السخرية منه .. تلفت حوله .. ولكن عيناه بين لحظة واخرى تعود الى الباب المغلق .. فقط يريد ان يتأكد انها بخير .. نظرة صغيرة لا أكثر .. لن يضر هذا احداً اليس كذلك؟.. تقدم نحو الباب غير قادر على منع نفسه .. ادار المقبض بحذر .. لينفتح الباب بسهولة .. امامه مباشرة احتل سرير صغير وسط الغرفة .. اقترب من جسدها المتكور تحت الغطاء ليتفحصها ويتأكد انها بخير .. وقف مذهولاً على بعد خطوتين من سريرها .. ملامحها الغافية كانت ملائكية بكل ما في الكلمة من معنى .. جفناها انسدلا بسلام .. وجنتيها محمرتان قليلاً من حرارة النوم.. شفتيها منفرجتين تخرج من بينهما انفاسها المنتظمة .. وشعرها يغطي صفحة وجهها .. بينما تعلقت بكلتا يديها بالغطاء كأنها تحمي نفسها من خطر محدق .. رقّ قلبه لمنظرها النائم .. صغيرة جداً لتعيش هذه المأساة .. لتفقد ملجأها الامين وحبيبها كذلك .. ارتعش جسدها فأقترب بشكل لا ارادي لكنه منع نفسه في اللحظة الأخيرة من لمسها .. فأرتدت يده كأنها ترتد عن شئ مقدس ومحرم .. نعم فأنجل تبدو مقدسة بطهرها وبرائتها .. وهو لن يدنسها ابداً .. ولن يسمح لأحد ان يفعل .. تنهدت في نومها وانقلبت لتنام على ظهرها .. سحب نفسه بصعوبة ليخرج من غرفتها قبل ان تستيقظ وتفزع به يتأملها فتظن به السوء كعادتها .. القى عليها نظرة اخيرة .. ثم خرج واغلق الباب خلفه بهدوء
*
جلس مصطفى قرب نافذته المفضلة التي تطل على الشجرة الكبيرة في الشارع .. راقب المطر ينهمر بوقع رتيب على الشارع المتصدع .. اسند جبهته الى الزجاج البارد .. تأمل الظلال القليلة التي كانت تمر .. وعاودته ذكرى ملاك .. كان قبل سنة تقريباً ان رآها تركض تحت المطر بينما كان يجلس في ذات المكان .. كانت تركض دون ان تعلم ان قلبه كان يركض خلفها ويلهث حباً .. ملاك .. افلت اسمها من بين شفتيه كسكين تجرح حنجرته .. لقد ماتت بسببه .. ماتت لتحميه .. هل احبته لهذه الدرجة؟ يا ليتها علمت كم يحبها .. يا ليته مات دوناً عنها .. نظر بقرف الى اللفافات البيضاء التي تغطي ذراعه .. وكاد ان يبكي .. بسبب هذا الجرح .. خسر ملاك .. فقط لو انه سمع كلامها .. لو انه قاوم بطريقة اخرى .. لما كان جسدها الان قد تحول الى اشلاء .. انتقل بنظره الى الطاولة بجانبه .. عليها استلقى كتاب مختارات نزار قباني .. ذاته الكتاب الذي قرأ منه قصيدة "الصليب الذهبي" التي ذكرته بملاك .. امسك الكتاب بيده السليمة وقلبه .. وعاد يقرأ كلمات القصيدة بتمعن .. ملاك التي دُقت الى صليب حبه وماتت دون ان تقول له وداعاً .. دون ان يقول لها وداعاً .. دون ان يخبرها كم يحبها .. او ان يثبت لها .. كيف رحلت؟ كيف؟.. قلّب الكتاب قليلاً واستقرت عيناه على قصيدة تقول

  "حــرب مع الــرّاء"  حيث تعيش القصص. اكتشف الآن