4

5.3K 116 8
                                    


الفصل الثاني – حرب مع الرّاء
عينانِ بنيتانِ باهِتتانِ حدّقتا به باشمئزازٍ .. قرأ الكُره في أعماقِهما .. جسدُها الصغيرُ كان راكعاً على رصيف الشارع .. كاد مايسون الأحمق أنْ يدهسها بقيادته الجنونيّة .. عندما سألها إن كانت بخير .. ازدادت عيونها قتامة وأطلقت سهامَ كرهٍ ونفورٍ تعود على ان توجه اليه مؤخراً لكنها هذه المرة أثرت به بشكل أكبر .. ضاق صدره .. وتمنى لو يستطيع أن يمحي نظرة الاشمئزاز من وجهها .. لكنه لا يستطيع .. هو نفسه يشمئِز من بدلته العسكرية .. صوتها جاء ناعماً ولكنه كان حادًا .. شعرها البني الذي أحالته الشمس إلى الاشقرار تراقصَ حول وجهها .. بينما قفزت واقفة تهرب منه إلى الجهة الأخرى من الشارع .. بعد نظرة مطولة لقامتها الصغيرة والنحيلة عاد إلى السيارة وهو يقول "مايسون أيها الأحمق كدت أن تقتلها " هز مايسون كتفه وهو يقول "ومن يهتم" وعاد يقود السيارة بذات السرعة .. شعر جوزيف بالحنق وكاد أن يضرب مايسون .. مع ماذا يفكر انه يتعامل؟ مع بشر أم دجاج؟ عندما استدارت الهمر من التقاطع مرت السيارة بجانب الفتاة نفسها التي كادت أن تدهسها سيارتهم.. كانت تقف على الرصيف تتشبث بحقيبتها بِكلتيْ يديها .. تنظر بتقطيب إلى الشارع عندما مروا من جانبها رمقته للمرة الأخيرة بذات النظرة المحتقرة .. ورغم أن تلك النظرة آلمتْهُ وعلمَ أنها ستلاحقه في كوابيسه إلا أنه بقي يحدق في العينين الواسعتين .. عينا غزال .. واسعتان و لوزيتان وبنيتان .. لها عينان جميلتان.. في الحقيقة كلها جميلة .. ملامحها دقيقة ورقيقة ولكنها باردة في نفس الوقت .. ونظرة الكره زادتهما بروداً ،، تنهد .. وهو يتحسس ثقل السلاح على كتفه .. كأن جبلاً يجثم عليه .. لكم يكره هذا الزي وهذا السلاح وهذا العمل الذي جاءه مجبوراً .. حتى والده صاحب النفوذ الذي لا يضاهى .. لم يستطع أن يحول دون ذهاب ابنه في الخدمة العسكرية بعد أن تم استدعاؤه .. عندما علم أول الأمر جن جنونه .. هو جوزيف ميلر .. الرجل الذي كان ينظم التظاهرات المعارضة للحرب على العراق .. يصير الآن جندياً مكلفاً في الجيش الأمريكي .. لكم هو مشين هذا الأمر .. حرك أصابعه داخل حذائه العسكري .. كم يشتاق لملمس الرمل ... ويشتاق لمنزله الصيفي على البحر و لأوراقه و أقلامه .. يشتاق أن يرجع هو جوزيف نفسه .. لكنه قد تغير .. لقد رأى من الموت ما يكفي ليشوه معنى الحياة في عينيه .. رأى كيف يتحول أبناء جلدته إلى وحوش .. كيف يتعاملون بلا إنسانية مع الناس هنا .. رغم أنه لم يسئ إلى عراقي أبداً .. لم يقتل ولم يعتقل ولم يرفع صوته حتى على أحد منهم لكنه يعلم أنهم يكرهونه .. نظراتهم إليه كانت كالخناجر تطعن روحه .. وتلاحقه في كوابيسه كل ليلة .. عيونهم المتهمة إياه بالقتل والتوحش .. وأصوات صراخهم وبكائهم ودعائهم تلاحقه أيضاً .. حتى لو لم يكن يفهم لهجتهم لكنه كان يعلم أنهم يدعون عليه .. وهو خائف جدا أن يستجيب الرب لهم فيهلك .. نظر إلى الشوارع المغبرة .. وصلت الهمر إلى ساحة أبو جعفر المنصور في حي المنصور .. في السابق كان هناك تمثال لحاكم عربي قديم اسمه أبو جعفر مثبت على القاعدة الصخرية الخالية الآن .. لقد قرأ عن هذا البلد كثيراً .. ولقد أحب عراقته .. وقد آلمه أن يكون هو جزءًا من الجيش الذي دمر جماليات هذا الوطن .. وسلبه ضحكات أطفاله .. أطفالُهُ الواقفون الآن على إشارات المرور يبيعون المحارم والألعاب البلاستيكيه بحثاً عن مورد رزق لعائلاتهم الفقيرة .. كان هذا المنظر بحد ذاته جريمة .. شعر بألم في قلبه .. وعذاب الضمير لا ينفك يقض مضجعه .. لقد صار رجلاً ملعوناً بزيه .. بجنسيته .. لقد صار قاتلاً .. في نظر الجميع حتى نفسه !
وصلوا إلى المقر أخيراً ،، في غرفته خلع جوزيف عن نفسه السلاح والدرع بقرف .. اخذ حماماً سريعاً وجلس أمام حاسوبه الشخصي .. لا بد أن أخته الصغيرة تينا تنتظربريده الإلكترونيّ .. تينا هي الشخص الوحيد الذي يحبه بصدق من بين كل أفراد عائلته .. ارتسمت ابتسامة ساخرة على وجهه .. عائلته؟ وهل لديه فعلا عائلة؟ هو يراهم في معظم الأحيان على شكل عصابة أو منظمة لا تتمتع بأي شرف! .. لقد انضم إلى ركب هذه العائلة في سن متأخر من مراهقته .. كان يعيش في كنف أمه اللبنانية .. الخادمة البسيطة التي أغواها ابن صاحب القصر الذي كانت تعمل فيه .. القصص التي لطالما يظنها الناس مجرد "أفلام" كان هو احد أبطالها .. لكنْ هذه المرة كان الابن المدلل يتحلى ببعض المروءة فلم يدع الفتاة الحامل تواجه مصيرها .. بل اشترى لها بيتاً متواضعاً .. والتزم بصرف راتب شهري لها .. منذ أن وعى هو على هذه الحياة تقبل فكرة انه ابن غير شرعي لرجل غني وانه لا يحق له أن يطالب ببعض حقوق الأبوة من والده لأن السيدة العريقة التي كان والده متزوجاً منها رفضتْ تماما أن يختلط أبناؤها بابن "خادمة" .. ولذا لم يكن يوماً على وفاق مع والده وحتى أنه لم يقابل يوماً أخوته من أبيه .. لقد كانت والدته لمدة طويلة هي كل ما يملك في الحياة .. وعندما فقدها شعر بالخواء .. بأنه يقع في براثن الوحدة .. صبي في الخامسة عشر لا يعرف ماذا يفعل في حياته .. ترك المدرسة وبدأ بالعمل .. رغم أن والده استمر في دعمه لكنه كان يريد أن يعتمد على نفسه .. حتى جاء اليوم الذي زاره والده بكامل غطرسته وبذلته الأنيقة وطلب منه أن يحزم حقائبه لأنه سيأتي ليعيش معه .. عندما استوضح الأمر علم أن زوجة والده قد هجرته وهكذا فقد صار بالإمكان أن يعود الحَمَل الضائع إلى بقية القطيع .. يومها رفض بشدة .. لكن والده العنيدَ وصعوباتِ الحياة أجبرته أخيراً على التزام جانب العقل والذهاب معه .. لم يفاجأ بأنه قوبل بموجات كبيرة من الحنق والنفور من أخويه اللذيْن يكبرانه ببضعة أعوام لكنه في الحقيقة تفاجأ من ترحيب تينا الطفلة الصغيرة به .. فقد تعلقت به وهي تقول له "لماذا انت عابس هكذا؟" الطفلة ذات السبع سنوات حفرت حبها في قلبه حفراً .. هو لا يزال يتذكر ضفائر تينا الشقراء و التي كانت تتذمر لأنها تكره أن تقوم الخادمةُ بضفرِها لها لأنها تربطها بقسوة فأجبرته هو جوزيف المتحجر على تعلم ضفر الشعر ليضفره لها .. هي الوحيدة التي كانت تجعله طوع بنانها وللأمانة فهي ما زالت تفعل ! .. عندما انضم إلى أعمال العائلة توقع الجميع منه الفشل .. لكن دماءه العربية العنيدة رفضت فكرة الفشل وهكذا فقد سهر الليل مع النهار .. درس كل مبادئ المحاسبة بنفسه واطّلع على الاقتصاد واخذ فكرة عن عمل البورصات ثم دخل مضمار العمل بثقله .. وقد أُدهش والده و كذا الجميع بكفاءته .. بعد خمس سنوات كان جوزيف ميلر الذراع الأيمن لوالده في العمل .. مما أثار أحقاد أخويه وفخر تينا .. ورغم نجاحه هذا لم يشعر يوماً انه يجد نفسه في هذا النوع من العمل .. برغم الوجه القاسي الذي يحمله وعيْنيْه الباردتيْن .. إلا انه كان يحمل خيالاً خصباً وأحلاماً يخجل حتى أن يسميها رومانسية .. ربما ورث هذا الجانب عن أمه .. التي كانت دوما مفعمة بالعاطفة .. أغانيها العربية بصوتها الدافئ كانت ترنيمات سماوية أزهرت في قلبه مشاعر جميلة خبأها بمهارة ليطلقها على الورق .. كانت تجربته الأولى في كتابة الروايات تجربة احتفظ لنفسه بها .. لكنه في المرة الثانية شارك صديقه الصحفي المشهور جارد تايلر بالفصل الاول من الرواية الجديدة فانبهر تايلر وألحّ عليه بوجوب إكمالها ونشرها .. وإزاء هذا التشجيع مصحوباً بالرغبة الدفينة لجوزيف بان يطلق أفكاره وأحاسيسه أمام الناس دون أن يعرفوه .. أكمل روايته الأولى ونشرها تحت الاسم المستعار حداد وولفمان .. لقد اختار حداد لأنه اسم عائلة والدته أما وولفمان (أي الرجل الذئب) فقد اختاره لأن قصة ليلى والذئب التي كانت تقصها عليه أمه عندما كان صغيراً كانت من مفضلاته .. بعد النجاح غيرِ المتوقع لروايته الأولى ، توالت أعماله .. ست سنوات تقريباً منذ بدأ النشر وكتبه دوماً تحتل المركز الأول في المبيعات .. لم يخبر أحداً عن حقيقة انه هو حداد وولفمان نفسه حتى عندما رأى تينا تقرأ روايته بشغف معلقة على إبداع الكاتب .. شعر بالفخر لكنه التزم جانب الصمت .. هذا الجانب سري جداً في روحه .. لا يريد لأحد أن يكتشفه .. انه جانبه الأضعف والأرق وهو نقطة قد يضربه فيها أعداؤه وأولهم أخويه .. تنهد وهو يطفئ حاسوبه بعد أن أرسل الايميل لتينا .. الحياة صعبة .. وهذا الوضع العسكري يشعره بالضيق .. ونظرات الكره من حوله تكاد تفتك به .. لكم يتمنى أن تنتهي هذه السنة على خير .. فقد اشتاق جداً لحياته السابقة .. لكنه علم في قرارة نفسه انه لن يعود كما كان في السابق .. لقد واجه الحياة من أصعب زواياها .. وعاشر الناس في أقسى محنهم وبدل أن يكون إلى جانبهم كان في صف من يعتبرهم مدانين .. التقارير التي أكدت عدم وجود أي أسلحة كيماوية في العراق جعلته يشعر بغضب مرير .. كان يعرف منذ البداية انه لا شيء هنا لكنه لم يستطع إلا أن يشعر بالغضب بعد أن تأكد من كل شيء .. ها هم يقتلون ويدمرون بذريعة واهية .. هل هذا ما يجنيه الإنسان عندما يسعى وراء الثروة؟ وراء السلطة والقوة؟ لكم تبدو تلك المفاهيم دنيئة أمام روح الإنسان الغالية التي تهدر بالمئات في هذا المكان المشبع بالموت .. موت قد لا يكون شريكاً فيه فعلياً لكنه جزء منه وهو وصمة عار ستبقى في جبينه وهو كذلك حِمل سيرهق ضميره حتى آخر العمر .. استلقى على سريره وأغمض عينيه .. لم يكن بذلك يدعو النومَ ليطرُق أجفانه لكنه فاجأه بالزيارة بدون استئذان .. بعد لحظات وجد نفسه يقف وحيداً في الظلام على حافة هوة سحيقة تصدر منها صيحات يعرفها تماماً .. تلك الصيحات البريئة والدعوات المظلومة التي تطالب الرب أن يقتص منه كانت تتعالى من الهوة ... خطى خطوة إلى الوراءِ ليبتعد عن حافة الرعب تلك ، لكنه سمع صوتاً من خلفه "الى أين جوزيف؟" استدار بفزع .. عينا غزال طالعتاه .. شعرٌ بني مشقَرّ .. وفم مزموم بقوة .. كان شكلَ وجه يعرفه جيداً .. وجهٌ نظرت إليه صاحبته باشمئزاز منذ ساعات توسل إليها "أنا لا ذنب لي" .. تقدمت نحوه ببطء "أنت قاتل" تراجع "كلا كلا .. لم اقتل" .. وضعت يدها على صدره "بل فعلت .. أنت مجرم" ثم دفعته في صدره ليتراجع إلى الخلف ساقطاً في الهوة السحيقة لتتلقفه صيحات الأبرياء.. هب من نومه فزعاً .. جبينه متعرق وصدره يعلو ويهبط باضطراب .. لقد حلم بها .. بعيونها الناطقة بالكره .. جرت يداه في شعره وهو يقول "يا ربنا الرحيم" ... ها هي ضحية أخرى تنضم الى زواره الليليين .. تغضن جبينه بألم .. ونهض غاضباً من سريره عندما وقعت عيناه على السلاح .. امسك بالسلاح ورماه أرضا ألحقه بالبذلة العسكرية .. ثم تناول علبه سجائره وأشعل واحدة وراح ينفث دخانها بنهم .. ثم سحق عقبها المتبقي في المنفضة كأنه يسحق روحه المحطمة.
سمع طرقا على الباب تلاه دخول المجندة ميراندا دون أن يأذن لها .. "ااااه يارب هذا ما كان ينقصني" فكر جوزيف بانزعاج .. بينما تمايلت ميراندا في مشيتها بمجون .. هذه الفتاة الحمراء الشعر لا تكف عن التزلف إليه ومحاولة استدراجه وهو قد تعب منها ومن ملاحقتها .. لقد بين لها بأكثر من صورة انه غير مهتم لكنها كما يبدو بطيئة الفهم .. "مرحبا جو عزيزي" ،، قالتها بنبرة عابثة أثارت اشمئزازه أجابها بصوت ضجر" أهلا ميراندا .. ما الأمر؟" أجابته بغنج "لا شيء عزيزي فقط جئت اطمئن عليكَ واراك .. لقد اشتقت اليك" ،، كاد جوزيف أن يتقيأ من طريقتها المقرفة في إثارة اهتمامه .. فأكثر ما يكره فحياته هو ترخيص الإنسان لنفسه لأي غرض .. لقد علمته أمه أن أهم شيء يملكه الإنسان هو عزة نفسه وكرامته و إن أهدرهما فقد إنسانيته تماماً وميراندا بالتأكيد تهدرهما معاً على أعتاب دعوتها الصريحة له .. فهي تعرف أنها جميلة جداً وان جميع من في المعسكر يجري وراءها كما يعلم تماما أنها لا تهتم به كشخص إنما فقط تريده انتصاراً صغيراً في مجموعة انتصاراتها .. لتتباهى أنها أوقعت "رجل الثلج" كما يسمونه هنا في شباكها في حين فشلت في الأمر باقي المجندات.. لكن ميراندا ستفهم عاجلاً أم آجلاً أن هذا الهوى الرخيص لا يهمه أبداً لذا قال لها بلهجة صارمة "لكنني لم اشتق إليك .. أرجوكِ انصرفي فأنا بحاجة للنوم" ابتسمت بخبث وكأن إهانته لها لم تزعجها "هل تريدني أن أساعدك في تدفئة فراشك" أغمض عينيه بانزعاج .. لماذا لا تتركه في حال سبيله فيكفيه ما لديه .. نهض من مكانه وفتح لها باب الغرفة في إشارة واضحة لرغبته في انصرافها وهو يقول "لا شكراً" تحول الدلال في عينيها إلى حنق فرفعت رأسها عالياً وهي تقول باشمئزاز "مغرور" وتركت الغرفة حتى حينٍ ، فهو يعلم أنها ستعاود الكرة كما تفعل كل مرة .. اخرج سيجارة أخرى من علبة سجائره .. ودخنها بعصبية .. لقد طفح كيله بهذه الحياة وهذا الوضع .. فعلا لقد طفح كيله ! 
*
اتجهت ميراندا إلى غرفتها وهي ترغي وتزبد .. هذا المغرور المتعالي من يظن نفسه؟ بطريقته الباردة تلك يجعلها تشعر أنها امرأة لا قيمة لها .. هي ميراندا سامرز الفاتنة التي يجري خلفها كل من في المعسكر على اختلاف رتبهم ووظائفهم .. يقهرها هذا الجندي المكلف برفضه؟ نظراته الباردة المتعالية تذبح كبريائها الأنثوي .. هي لم تتعود على كلمة "لا" .. فالرجال يأتون إليها حتى دون أن تطلب .. مجرد نظرة عابثة لاهية في عينيها تجعلهم يلهثون خلفها .. لكن مع رجل الثلج هذا تتجمد كل ألعابها وحيلها في صقيعِ لا مبالاته .. أكثر ما يزعجها فيه أنها لا تستطيع أن تمسك عليه زلة .. فهي لم تره يبالغ في مجونه كباقي الموجودين .. لم يرقص يوماً على إيقاع صاخب .. لم يحتسِ الخمر بكثرة لدرجة الترنح .. لم يقترب من امرأة يوماً .. حتى ظنته غير مهتم بجنس النساء بل بجنس الرجال .. لكنها عادت لتنفي هذه الفكرة من عقلها فشخص برجولة ميلر لا يمكن أن يكون شاذاً .. رجل مهذب وبارد لم تسمعه يشتم يوماً .. يزعجها جدا هذا الكمال في شخصيته الأرستقراطية.. وتلك الخطوات الهادئة الخفيفة كخطوات النمر تثير جوعها إليه .. الجوع الذي لا ينفك يزداد قوة وقسوة فيجعلها تعيد الكرة معه مرة ومرتين وثلاثة دون أن تمل من رفضه لها .. عليها أن تعترف لنفسها أنها تهيم بجوزيف كما أن عليها أن تعترف انه لا يعيرها أي اهتمام .. تنهدت بحسرة .. لو انه فقط يقبلها ... لو انه فقط يقربها .. لكن المغرور لا يفعل أبدا .. أليست له رغبات؟ أليس من البشر؟ ألا تنتابه الكآبة والضجر من هذه الاستقامة .. استقامة وجدتها شاذة في ظل مفاهيم مجتمعها المنفتح .. لم تفهم أبداً ولن تفهم أن جوزيف ميلر رجل تربى على قيم المجتمع الشرقي أكثر من المجتمع الغربي .. لقد تربى على يد آمه التي كانت تضع الحب سبباً وحيداً لا يشاركه أي سبب آخر للامساك بيد من تحب .. كيف لميرندا أن تفهم عذرية المشاعر النقية وهي الغارقة في وحل التحضر الزائف لمجتمعها المنحرف؟! 
*
أستعد جوزيف للخروج .. ملابسه لم تكن عسكرية .. شعر بالراحة .. اليوم موعد القداس الباسيلي في كنيسة يوحنا المعمدان .. ستمتلئ روحه بنقاء الإيمان أخيراً.. سيخلص جسده من الآثام وعقله من الذنوب .. وسيشعر بالسلام الداخلي الذي توفره الصلوات الطيبة .. سيذهب برفقة بعض من رفاقه .. لقد كان أكثر من سعيد عندما أذن له الأب زكريا أن يحضر القداس برفقة أصدقائه قائلاً أن الكنيسة بيت الرب وليس لأحد حق أن يمنع الناس من زيارتها .. حتى لو كان هؤلاء الناس جنود أمريكيون .. فهم قبل كل شيء رعايا الرب ولا حق لأحدٍ في منعهم.. كان يعرف أن الأب زكريا غير راضٍ تماماً لمجيئهم فهو كغيره من العراقيين يرفض وجودهم كما هو جوزيف نفسه يرفض هذا الوجود .. لكن الفرق أن عينيْ الأب زكريا كانتا مليئتين بالسلام الذي حمله إليه الإيمان بالقضاء والقدر ولم تمتلئا بالكره والحقد .. نظرة غير راضية كانت الإشارة الوحيدة في وجه الأب السمح تدل على رأيه الحقيقي في حضورهم .. لكن جوزيف لم يستطع أن يقاوم الحاجة إلى حضور القداس .. كانت روحه معذبة .. أليس من حقه أن يصبو إلى قليل من السلام .. قليل من المحبة الإلهية ؟ ام انه قد تمادى في ذنبه حتى استنفذ كل حظه في طلب المغفرة؟ انه يريد من الله أن يغفر له سكوته هذا ووجوده هذا وعمله هذا .. يريد من الله أن يخلصه من هذا الوضع المزري الذي وصلت إليه سكينة نفسه المضطربة.. طرقة على باب غرفته أخرجته من أفكاره.. اطل وجه صديقه مارك يخبره انه قد حان موعد الذهاب .. سيذهبون كمجموعة مكونةٍ من خمسة شُّـبانٍ وفتاتين في سيارتين عاديتيْن .. هذا الظهور قد يكون أفضل بكثير من الظهور بسيارة عسكرية وبملابس الجيش .. على الأقل ربما يخفف من نظرات الاحتقار التي سيرميهم بها المصلون هناك..
*
"طف هينا إنتي إفنوتي ناي نان
إنتيف شينهيت خارون إنتيف سويتم
إيرون إنتيف إيرفويثين إيرون
إنتيف تشي أن ني تيهو نيم ني طفه إنتي
ني إثؤواب إنتاف إنطوطو إي
إهري إيجون إبي آغاثون إنسيو نيفين
إنتيف كانين نوفي نان إيفول" 

الكلمات المنسابة من فم الشماس .. كانت تخرج بهدوء لتبلسم روحه الملتاعة .. وقف في آخر الصف .. أخفض رأسه .. تجنب نظرات الاستنكار التي نطقت بها عيون الناس من حوله .. شعر بأنهم يتهمونه بإفساد روحانية المكان .. كأنه مرض أو شيء ملوث .. أليس هو كذلك؟ .. أليس هذا ما يشعره تماماً فلماذا يلوم الآخرين إذا شعروا بنفس الشيء ؟ .. لكنه لم يستطع أن لا يشعر بالألم .. الألم الذي يشبه سابقه عندما هاجمه حين دخل الكنيسة .. الكنيسة التي لم يهتم احد بها .. على جدرانها الخارجية كتبت شعارات كثيرة بالعربية لم يفهمها .. لكنه لم يستسغها فقد شوهت روحانية المكان بالخطوط السوداء المزعجة .. بساطة التجهيزات وفقرها جعله يقارن بين كنائس امريكا المرتبة وكنائس العراق المهدمة تقريباً .. شعر بالحنق .. كلها مساكن الله فلماذا هذا التفريق .. لماذا يكون عند البعض الحق في أن يقيموا صلاتهم آمنين مطمئنين في مكان مريح بينما آخرون يقيمون صلاتهم على عجل كأنهم يخافون الموت المختبئ وراء الجدران العتيقة لكنائس لا يهتم بتجهيزها أحد.. هناك ظلم .. كل شيء هنا ظلم .. أغمض عينيه .. ثم فتحهما وقد رفع رأسه قليلاً .. لم يعرف حقاً ما الذي اجتذب نظره إلى الصف الأمامي على يساره .. لكنه لمح صفحة وجهها .. الفتاة بعيني الغزال التي رمته في الهوة السحيقة في كابوسه قبل أسبوع .. كانت تضع شالاً خفيفاً بلون ابيض .. أعطاها مظهراً نقياً عززه خشوع عينيها وانحراف شفيتها للأسفل بحركة حزينة متضرعة .. وجهها شعّ بنور جميل .. لم يستطع أن يرفع عينيه عنه .. بدت قطعة من السماء .. وكمن أحس بأن هناك من يحدق به .. التفتت إليه بحركة سريعة فضبطته متلبساً بتهمة النظر إليها .. عيناها الخاشعتان تحولتا إلى حجرين قاسيين باردين .. نظرت إليه ذات النظرة المحتقرة لكنها هذه المرة كانت واضحة أكثر إذ جالت على شكله من رأسه إلى قدمه بنظرة مهينة شعر معها انه مجرد حشرة تدهسه صغيرة الحجم تلك بقدميها .. عيناه عكستا بروداً مماثل ورد لها النظرة .. لم تكن مهينة كنظرتها لكنها كانت قاسية جعلت شفتيها ترتعشان بشكل لا يكاد يلحظ قبل أن ترمقه بنظرة كره أخيرة وتستدير لتردد مع الناس الصلاة .. إزاء مقتها له تبخر جو السلام حوله وفيه .. اضطرب نبضه .. وشعر برغبة لا مبرر لها في محو نظرة الازدراء تلك ... عيناها صريحتان جداً .. مرآتان لروحها الممتلئة بكرهه هو وكل بني جلدته على ما يبدو .. ضاق صدره .. انه محاط بالكره .. لماذا جاء؟ من الغباء أن يفكر بأنه يمكنه أن يكسب نظرة ود واحدة أو نصف نظرة حتى من تلك الوجوه السمراء التي كدّها التعب .. همس في داخله "يا ربنا الرحيم" وحاول بكل قوته وإرادته أن يركز على ما يقوله الشماس ليستعيد صفاء روحه ولو للحظات .. لكن عينان كعيني الغزال أبت أن تتركه .. لقد ظلت في خياله تنظر إليه بكره مهين كأنها تود أن تقتله .. ولو سنحت لها الفرصة لربما فعلت !

  "حــرب مع الــرّاء"  حيث تعيش القصص. اكتشف الآن