مقدمة محقق الكتاب *

Start from the beginning
                                    

م قد تشفع بي أن لا أفارقه وللضرورات حال لا تشفعه
وكم تشبث بي يوم الرحيل ضحى وأدمعي مستهلات وأدمعه
لا أكذب الله ثوب العذر منخرق عني بفرقته لكن أرقعته
إني أوسع عذري في جنايته بالبين عنه وقلبي لا يوسعه

ولم يكن ، عدا اختلاف اللهجة ، من تباين بين المجتمعين العراقي والشمال اﻹفريقي كما لم تكن من حدود تمنع الناس من الهجرة من مكان ﻵخر ، ولا تجد في كل الشعر الوارد في المخطوط أي بيت من الموشحات ، أو الشعر الغنائي اﻷندلسي ولم يأت بالشعر أسماء مواضع في اﻷندلس أو المغرب العربي ، بل بالعكس جاء بغير الشعر ذكر الثرثار الموضع العراقي ، وتغنت الجواري أو بطلي القصة بالشعر العربي الكلاسيكي الشائع عند العرب آنذاك خصوصاً في المشرق العربي.

الشعر العاطفي والصور الجميلة التي تتنوع بالرواية تذكرنا أيضاً بشعر الفترة المظلمة ، حيث يهتم الشاعر بالمحسنات اللفظية أكثر من اهتمامه بالمعنى أحياناً ، واستغرب من قول الأستاذ نيكل ما نصه : (إنه لمن الواضح أن الرواية كناية عن رواية خرافية شرقية - يتخللها بيوت شعر - كتبت بأسلوب فارسي) ولم ألاحظ هذا الأمر ، فكلمة (خرافة) أساساً لا موضع لها هنا فهو ربما يريد (غير واقعية).

ولا أدري لماذا شبه اﻷستاذ نيكل هذه القصة باﻷدب الفارسي ، بل إنه ذكر قربها من شعر الشاعر الفارسي العظيم سعدي الشيرازي في كتابه (كلستان) *** ، فلو كان هذا التقارب موجوداً حقاً ، فبرأيي لقرب الشيرازي من اﻷدب العربي وليس العكس ، فالشيرازي سكن بغداد ودرس بالنظامية في شبابه المبكر (في الرابعة عشر من عمره) ، وغادرها بعد إتمام تحصيله للحجاز ثم الشام ولبنان ، وكلها مدن تنطق العربية وتكتبها ، إن لغة الثقافة والعلم كانت العربية آنذاك ، حتى إن الشيرازي نفسه كتب بعضاً من أشعاره بالعربية ومنها قصيدته في رثاء بغداد بعد أن اجتاحها المغول وقال في أحد أبياتها :

نسيم صبا بغداد بعد خرابها تمنيت لو كانت تمر على قبري

والقصيدة كلها بالعربية ، أما ما ذكره اﻷستاذ نيكل عن تشابه الرواية بما كتب سعدي الشيرازي في كلستان ، فإن ما جاء في كلستان من قصص الحب ليس به أي شبه بقصة رياض وبياض ، باﻹضافة إلى المعاني العرفانية الفلسفية التي لا نجد لها أثراً بالقصة التي بين أيدينا ، فليس لنا أن نقول إن نفساً فارسياً يلوح لنا عند قراءة قصة بياض ورياض ، وربما لاحظ القارئ أن اﻷستاذ نيكل في مقدمته اختلط عليه اﻷمر حتى فب اسمي العاشقين بياض ورياض ، معطياً اسم الحبيب للمحبوبة والعكس ، ولا أدري لماذا يترك اﻷخطاء النحوية دون التلميح لها على أقل تقدير ، كما قال في المقدمة ، ولا أشك أنها من أخطاء النساخ إن وجدت ، ﻷن الشعر والنصوص كلها تدل على براعة المؤلف لغة وفناً.

هناك ملاحظة أخرى استوقفتني كثيراً ، ألا وهي الرسوم التي وردت بين النصوص لبعض المواقف المهمة على سبيل المثال لا الحصر ، الملابس واﻷشجار والريازة الخارجية للقصر ، والنواعير التي نجدها منتشرة على نهر الفرات (في المنطقة السورية العراقية اليوم) ، وفي الرسوم والمنمنمات العربية نجد تشابه الخطوط العامة مما يشبه الوجوه المغولية والفارسية في أغلب الرسوم الشرقية وهذه المخطوطة أيضاً ، بينما نجد التصوير اﻹسباني اﻷندلسي متأثراً بالفن اﻹغريقي لحد ما. إن المتمعن بالصور المرفقة بقصة بياض ورياض لن يشك في مصدر القصة ، ومكان إنشائها بل وكتابتها ، إنما نقلها نساخ في المغرب العربي فأضافوا إليها بعض التعابير المتداولة هناك!

إن وجود نسخة واحدة فقط من الكتاب ضاع منها تاريخ نسخها ومالكها جعل من الصعب تقدير الزمان والمكان الذي نسخت به القصة.

أرجو أن يجد القراء العرب المتعة ، وناقدي اﻷدب نافذة على اﻷدب في المغرب العربي وعلاقته بالمشرق آنذاك ، ونافذة أوسع على تطور أسس أدب الرواية العربية من ذلك الزمان إلى اﻵن ، كما يلاحظ بدايات ما أخذ به شوقي وبعض شعراء جيله بتضمين اﻷبيات الشعرية جمل المحاورة ، وكتابة الشعر التمثيلي أو المسرحي ، بل ويظهر وبوضوح إمكانية استعمال القصة كتمثيلية مع بعض التحوير البسيط.

والظاهرة الغريبة في القصة شيوع الخمرة في ذلك (العالم اﻹسلامي) بحيث إن الجواري وسيدتهن والعجوز تمر بينهن الخمرة مرور الماء ، بل لم تعرض الخمرة على أحد بالقصة إلا وتناول الكأس أو الكؤوس ، وهذا يزيدني قناعة أن المؤلف كان من بغداد ، فالجاحظ في (كتاب التاج) لم يبرئ أحداً في المشرق العربي ، (حتى خلفاء اﻹسلام من أول خلفاء اﻷمويين حتى آخر خلفاء العباسيين) من شربها ، إلا عمر بن عبدالعزيز الذي انقطع عنها مدة الخلافة فقط ، حيث توفي بعد ذلك.

وأمر آخر أريد أن ألفت تظر القارئ الكريم إليه حيث أن كل ما ورد بالقصة من شعر تقريباً كان يتلى كأغنيات ، والشعر في ذلك الزمان يغنى اعتماداً على أوزانه المتعددة ، ولذلك قالوا عمن يقرأ الشعر إنه (ينشد الشعر) وكانت اﻷوزان (موسيقى الشعر) العمود الفقري ﻷي قصيدة ، وهذا اعتقاد شخصي في خصوصية الشعر بالعربية ، وبذلك فالموسيقى الداخلية للشعر والتي تعتمد بصورة رئيسية على جرس الحرف ، والموسيقى الخارجية التي هي الوزن ، عنصران جوهريان في البيت الشعري العربي (ﻹنشاده) ولغنائه ، وانعدام الموسيقى بالشعر العربي يفقده ركناً جوهرياً في أداء المعنى لخصوصية جرس الحرف في المعنى.

لقد حاولت جهدي أن أعيد وضع الكلمات في اﻷبيات والنصوص التي أخفاها أثر الزمن ، أو ما عجز عنه الدكتور نيكل فتركها دون أن يملأها بل وضعها ضمن هلالين ( ) ، وتغيير ما أعتقد أنه لم يكن موفقاً في تغييرها. وأثبتها ضمن معقوفين [ ] والله من وراء القصد.

_____________

* جميع الهوامش المذكورة في الكتاب من إعداد د. صباح جمال الدين.

** هو أبو الحسن علي بن رزيق الكاتب البغدادي ، رحل إلى اﻷندلس شاباً ، وقصد اﻷمير أبا الخير عبدالرحمن اﻷندلسي فلم يجزل له العطاء ليجربه ، فلما عرف عفافه ، أرسل إليه فوجدوه ميتاً بالخان الذي سكن به وتحت وسادته قصيدة لا تعذليه.

*** هو مشرف الدين أبو محمد مصلح الدين بن عبدالله (1189 - 1292) ميلادي ، الموافق (606 - 694) هجري ، شاعر فارسي اشتهر بغزلياته التي أسماها (الطيبات) وشعره الهزلي الذي أسماه (الخبيثات) عاصر الغزو المغولي ورثى بغداد بسقوطها بأيدهم أهم كتبه (بستان وكلستان).

بياض ورياضWhere stories live. Discover now