متابعة....
الفصل الثالث
حين تبدأ النفس بالالتئام
لم أعد أبحث عن إجابات،
ولا أُفتّش عن معنى لكل وجعٍ عبرني.
في مرحلةٍ ما من الشفاء،
تكتشف أن الأسئلة نفسها كانت مرضًا،
وأنّ ما يوجعك ليس الحدث،
بل محاولتك المستميتة لفهمه.
في الأيام الأولى،
كنت أراقب أفكاري كما يُراقب الطبيب مريضًا يتنفس بصعوبة.
أحيانًا كانت تنهشني،
وأحيانًا كنت أتركها تمرّ دون قتال.
ثم فهمت أن الشفاء لا يبدأ بالانتصار على النفس،
بل بالجلوس إلى جوارها بهدوء.
صرتُ أُحدّث نفسي كطفلٍ يخاف العتمة:
"اهدئي... كل شيءٍ الآن آمن."
كنت أتنفس ببطءٍ،
كأنّ الهواء دواءٌ لا بد أن يدخل بتأنٍّ إلى صدري.
تعلّمت أن لا أستعجل النور،
فالنور لا يقتحم الظلمة، بل يتسلّل إليها برفق.
لم يعد الصمت يؤذيني.
صار ملجأً ألوذ به،
كأنني أجلس في عيادةٍ داخليةٍ لا يدخلها أحد غيري.
هناك، كنت أرى ما تبقّى مني،
أُرمّم ما انكسر،
وأُعيد ترتيب الفوضى التي خلّفها التعب.
كل فكرةٍ موجعةٍ كنت أضعها أمامي،
أتأملها،
ثم أقول:
"لقد حدثت... ولن أغيّرها باللوم."
كنت أتعلم التقبّل — لا كضعفٍ، بل كحكمة.
التفكير المفرط كان عدوي القديم،
يأخذني من اللحظة إلى المجهول،
من السلام إلى العاصفة،
من الاحتمال إلى الخوف.
لكنني اليوم صرت أوقفه كما تُوقف الأمُّ طفلها عن الركض في الشارع.
أقول له برفقٍ: "كفى... لقد فكّرنا بما يكفي، دعنا نعيش الآن."
الشفاء ليس نسيانًا،
بل تصالحًا مع الذاكرة.
وليس صلابةً، بل طراوةٌ تعرف متى تبكي، ومتى تصمت، ومتى تضحك دون شعورٍ بالذنب.
أصبحتُ أُمارس طقوسي الصغيرة:
أكتب، أتنفس، أُعدّ قهوتي ببطءٍ،
أتأمل وجهي في الصباح دون أن أبحث عن معنى خلف كل تفصيلة.
الهدوء لم يعد فراغًا،
بل ترفًا.
أدركتُ أن النجاة ليست في الهروب من الألم،
بل في الجلوس معه دون أن أذوب فيه.
أن أتأمله كما يُتأمّل غيمٌ يمرّ،
لا أُمسكه، ولا أتبعه،
بل أتركه يعبر حتى يزول.
أكتب هذا وأنا أتنفّس بعمق،
أشعر لأول مرة أنني لا أحتاج أن أُثبت شيئًا لأحد.
أن الشفاء لا يُعلن، بل يُعاش.
أنه ليس طريقًا مستقيمًا، بل موجةٌ تصعد وتهبط،
لكنها مع كل عودةٍ،
تأخذ معها شيئًا من الألم.
وهكذا، ببطءٍ يشبه الصلاة،
بدأت أعود إلى نفسي.
لا إلى ما كنتُ عليه،
بل إلى ما كان يجب أن أكونه منذ البداية.
يتبع...
YOU ARE READING
«لا تشعر... كي لا تُطفئك النرجسية»
Short Storyليست رواية عن الألم، بل عن من تعلّم أن يعيد تشكيله. عن إنسانٍ، كان يومًا هشًّا بما يكفي لينكسر، ثم صار وعيه أثقل من كل ما حاول إسقاطه. فيها يتعلّم المرء أن النجاة لا تكون بالهرب، بل بالفهم، وأن التعلّق، والنرجسية، والخذلان ليست نهايات، بل بدايات وعي...
