ما إن دخلت إلى الطائرة حتى التقت بعين المضيفة التي ابتسمت لها بخفة: أخيرًا جيتي، تفضلي مقعدك.
أومأت نبراس وهي تحاول التقاط أنفاسها، سارت بين المقاعد تبحث عن رقمها، وما إن جلست وربطت الحزام حتى سمعت صوت القبطان يُعلن الاستعداد للإقلاع.
أسندت رأسها للمقعد، مغمضة العينين، وكأنها لا تُصدق أنها فعلاً على متن الطائرة.
همست لنفسها: لحقت... والله لحقت.
مرت الدقائق الأولى من الرحلة بهدوء، وكل ما حولها بدا بعيدًا... عيونها معلّقة في السقف، لكنها لم ترَ شيئًا.
كانت تتخيل تُوق في فستانها الأبيض، تبتسم بخجل، وتدور بعينيها تبحث عنها بين الحضور... وأنا ما أكون هناك؟ مستحيل.
مدّت يدها إلى حقيبتها الصغيرة، أخرجت المرآة، تأملت وجهها، رغم الإرهاق والسفر، ما زال في عينيها بريقُ عزيمة: بس أوصل... بجهّز نفسي على السريع، بخليهم ما يدرون إن رحلتي كانت حرب.
أغلقت المرآة بهدوء، وعيناها تهرب منها دمعة، دمعة امتنان... لأنها تمكّنت من اللحاق بقلبها قبل أن يُغلق الباب.
أغمضت نبراس عينيها للحظة، تحاول تهدئة نبضها المرتفع بعد كل ذاك الركض والتوتر.
أصوات الركاب، همسات المضيفات، صوت الطائرة وهي تتهيأ للإقلاع... كل شيء بدأ يبهت أمامها، وكأن قلبها فقط هو من يعلو صوته داخلها.
مرّت ساعة، ثم اثنتان...
كانت تنام بين الحين والآخر نومًا متقطّعًا، يصحبه قلق كلما فتحت عينيها، تتفقد الوقت، تحسب المسافة، تتخيّل سيناريوهات كثيرة... وش لو وصلت متأخرة؟ وش لو فوت الزفّة؟ وش لو شافت تُوق الكوشة وهي تدور بعينها وما لقتني؟
كانت الأفكار تطاردها كأنها ترفض تركها تستريح، فتحت هاتفها، لا إشارات... لا إنترنت... لا اتصالات، تنهدت وضمّت الهاتف إلى صدرها، ثم همست بصوت بالكاد يُسمع: يا رب، ما أبي شي... بس أبي أكون أول وجه تشوفه تُوق وهي لابسة فستانها
في منتصف الرحلة، وبعد أن هدأت الأجواء وعمّ السكون في المقصورة، فتحت نبراس عينيها ببطء، نظرت إلى الساعة، ما زال أمامها بضع ساعات، لكن قلبها لا يهدأ... أرادت أن تستثمر الوقت المتبقي بشيء واحد فقط أن تُهيئ نفسها... لتُوق.
نهضت من مقعدها، حملت حقيبتها الصغيرة وتوجهت نحو دورة المياه، وحين أغلقت الباب خلفها، فتحت الحقيبة وكأنها تفتح صندوق أسرارها، لم تخرج أدوات التجميل كما تفعل كل الفتيات... بل أخرجت طقوسها الخاصة، عنايتها، استعدادها الهادئ لما سيأتي.

غسلت وجهها بلطف بالماء الفاتر، ثم بدأت خطواتها بحرص، كأنها ترسم على وجهها وعدًا بالراحة
أولاً... استخدمت الغسول الخفيف برائحة الورد، مرّرت أصابعها على وجهها بحركات دائرية، تُدلك الجلد بلطف، تُزيل آثار التعب، وكأنها تُزيح عنها همّ الطريق.
بعدها، أمسكت بقناع ورقي، فتحته برفق وطبّقته على وجهها... عينها تُراقب انعكاسها في المرآة الصغيرة، ورغم ضيق المساحة، شعرت أن العالم كله منحصر في لحظة هدوء تجمعها بنفسها.
انتهت من القناع، وأزالت ما تبقى منه بحركات ناعمة، ثم بدأت بوضع التونر، بعده السيروم، ثم قطرات من زيت خفيف بنفحة زهرية، أخيرًا... طبقة رقيقة من المرطب، مسحت شفتيها بزبدة الشيا، ورفعت شعرها للأعلى بربطة بسيطة، ثم نظرت لنفسها، وابتسمت.
عادت إلى مقعدها، بشرتها مشدودة، ناعمة، تشبه الصباح الأول بعد ليلة مطر.
أسندت رأسها على الوسادة الجانبية، أغمضت عينيها براحة،
-
بعد مرور ما يُقارب ثماني ساعات من النوم، فتحت نبراس عينيها بنشاط غير مألوف، كأنّها استيقظت في صباحٍ هادئ لا يشبه صخب السفر أبدًا.
نامت كفايتها... بل وزيادة، وشعرت بجسدها خفيفًا، وروحها مُستعدة لما ينتظرها.
تحرّكت من مقعدها المغلق بهدوء، مدّت ذراعيها بكسل ناعم، ثم توجهت نحو دورة المياه، توضأت بطمأنينة، الماء البارد أعاد إليها اتزانها، أنعش بشرتها، وكأنها بدأت يومها فعليًا في هذا الفضاء البعيد عن الأرض.
خرجت وذهبت مباشرة نحو إحدى المضيفات، سألتها بابتسامة متلهفة: كم باقي ونوصل؟
أجابتها المضيفة بابتسامة مطمئنة: تقريبًا ثلاث ساعات ونصف ونكون وصلنا.
أومأت نبراس بامتنان، وعادت نحو مقعدها، جلست وفتحت حقيبتها الصغيرة، أخرجت سجادة الصلاة وثبّتها على المساحة أمامها، أدّت فرضها الذي فاتها بعينين مُغمضتين بخشوع، وقلبٍ لم يغفل لحظة عن الدعاء...
وحين انتهت، جلست بتأمل لحظاتٍ، ثم ضغطت على زر النداء، طلبت فطورًا خفيفًا،
لم تكن جائعة بقدر ما أرادت أن تُهيّئ نفسها ليوم طويل قادم، تناولت وجبتها بهدوء، ثم فتحت حقيبتها لتُراجع ترتيب أغراضها
المناديل، العطر، مثبت الشعر، أدوات التنظيف الصغيرة، كل شيء في مكانه.
كانت تتحضّر... ليس فقط للهبوط، بل للحظة اللقاء.
لحظة تُوق حين تراها، وحينها فقط... ستكون الرحلة قد اكتملت فعلًا.

لا أنتَ عزيز هالرمال ولا نوارِس هالبحر أعظم حروبك تُوق واقصر دروبك سّفر Where stories live. Discover now