بدأت في وضع الميكب بسرعةٍ متقنة، الكونسيلر أولًا لإخفاء آثار التعب، ثم لمسة من كريم الأساس الخفيف، ظلال عيون بألوان ترابية هادئة، ولمعة صغيرة في الزاوية، كحل خفيف يُحدد عينيها، ومسحة من الماسكارا، ثم أنهت بروج ناعم بلون وردي باهت، يشبه هدوءها الظاهري.
لكن قلبها؟ كان يشتعل.
كل دقيقة ترفع فيها عينيها إلى الشاشة، كل ثانية تنتظر فيها ذلك الردّ الذي لا يأتي...
اتصلت على هتان، كأنها تمسّكت بأمل أخير قبل أن يسحبها الوقت بعيدًا عن حضور الزفاف...
وما إن رنّ الخط حتى سُمع صوت هتان يجيب بسرعة، وكأنه كان ينتظر اتصالها: ألو؟
جاء صوتها لاهثًا، مستعجلًا، ممتزجًا بقلقٍ حاولت أن تُخفيه: وين بابا؟ ليش ما يرد؟ وصلت من نص ساعة وأنا أحاول فيه، حتى ماما ما ترد!
عمّ الصمت للحظة قصيرة قبل أن يرد بنبرة تحاول أن تكون هادئة، لكنها خانته بشيء من التوتر: كان رايح ياخذ عباية امي من المغسلة، يمكن ما سمع الجوال... بس لحظة، بدق عليه الحين وأشوف وينه.
اردفت بتوتر: هتان تكفى لا يطول! باقي أقل من ساعة على الوقت! تكفى، خلّه يجي بسرعة.
اردف وهو منشغل: أبد، دقيقة وأرد لك.
أغلق الخط وهي تحدق بالشاشة... أنفاسها قصيرة، وعيناها تتنقلان بين الناس في المطار والمكالمات التي لم يُرد عليها أحد.
كل ما كانت تحتاجه... فقط أن يجي.
بعد مرور خمس دقائق بالكاد، رنّ هاتفها مجددًا... ظهر اسم والدها على الشاشة، فتلقفته أناملها بسرعة وكأنها تعلّق عليه كل رجائها، وما إن فتحت الخط حتى جاء صوته على الطرف الآخر، متسارعًا بعض الشيء: يا بابا، ما أقدر آخذك الحين، مشغول مع أمك وأختك... برسّل أحد يجيك إن شاء الله.
صمتت للحظة، حاولت أن تخفي خيبة أملها، لكنها لم تُرد أن تُثقل عليه أكثر... فأردفت بنبرة هادئة رغم توترها: تمام... بس تكفى، لا يتأخر، ما بقى وقت.
اردف بإستعجال: لا تخافين، بيتحرك لك الحين.
أنهت الاتصال، وعادت تنظر حولها في صالة الوصول التي ازدادت ازدحامًا... لكن عقلها لم يكن هناك، كان في قلب قاعة لا تعرف كيف وصلت التجهيزات فيها... وفي صدرها نبض يركض أسرع من عقارب الساعة.
-
أما في إحدى الفلل الهادئة بالرياض، خرج ضاري بخطوات متأنّية من بوابة المنزل، وفي ذهنه فكرة إرسال السائق لاصطحاب نِبراس من المطار.
لكن ما إن وقعت عيناه على غيث واقفًا عند السيارة يُراجع شيئًا بهاتفه، حتى بدّل رأيه في لحظتها.
اقترب منه، وقبل أن يتحدث، رفع غيث رأسه بلباقة، فبادره ضاري قائلًا بنبرة ودّ: كيفك يا غيث؟ عساك بخير.
ابتسم غيث ابتسامة هادئة وهو يرد: بخير يا خال، الحمدلله.
مدّ ضاري يده يطبطب على كتف غيث، ثم سأله بنبرة شبه رسمية: فاضي ولا عندك أشغال؟
رد غيث وهو يحفظ هاتفه في جيبه: فاضي، آمِر يا خال.
ما إن قال ضاري بنبرة هادئة لكنها آمرة: أبيك تروح للمطار، نِبراس وصلت وناطرة أحد ياخذها. كنت بارسل السواق، بس دامك فاضي أفضل تروح أنت.
حتى اتسعت عينا غيث تلقائيًا، كأن الاسم وحده أيقظ خلاياه النائمة، جمّد الهواء حوله وأعاد كل التفاصيل القديمة دفعة واحدة... تلك التفاصيل التي ظنّ أنه دفنها في قلبه، لكنه نسي أنها لا تزال حيّة، تتنفّس باسم "نبراس".
تشنّجت أصابعه للحظة على الهاتف الذي كان يمسك بيدة، وكأنه يبحث عن رد، عن ملجأ، عن حيلة يهرب بها من هذا الموقف الذي باغته من دون إذن.
كان على وشك أن يفتح فمه، أن يعتذر، أن يقول أي شيء... لكن ضاري لم يُمهله، ربت على كتفه بلمسة سريعة ثم اختفى من أمامه كمن يعلم أنه لو انتظر لحظة أخرى قد يغير رأيه.
وقف غيث في مكانه مذهولًا، ينظر نحو الفراغ الذي خلفه ضاري، يشعر بثقل اسمه في صدره... يشعر بنبض قلبه يعود للطرق على بابٍ أغلقه منذ زمن.
تمتم في نفسه بضياع: نبراس...
هو لم يصدّق يومًا أنه استطاع نسيانها، كيف الآن يُطلب منه أن يواجهها وجهًا لوجه؟ كيف يُطلب منه أن يقف أمامها دون أن تنكشف حربه القديمة؟
دون أن ترتجف ملامحه؟ دون أن تفضحه عيناه؟
زفر بعُمق، ثم تحرّك بتثاقل نحو السيارة، فتح الباب وجلس خلف المقود... وكل ما فيه يُحاول أن يُقنع نفسه أن الأمر عادي، لكن كل ما فيه كان يصرخ.
"مُستحيل"
ثم سحب نظارته الشمسية ووضعها على عينيه كمن يستعد لمواجهة حرب قديمة... حربٍ يعرف تمامًا أن هدنتها ما كانت إلّا خدعة، وأن الطائرة التي تنتظره هناك، لا تحمل "نبراس" فقط... بل تحمل معه ماضيًا لم يُدفن.
أدار غيث محرك السيارة ببطء، وصوت المحرك بدا كأنّه يُشارك قلبه التردّد... ألقى نظرة على الطريق أمامه، لكن عينه لم ترَ شيئًا سوى ملامحها، صوتها، آخر لقاء جمعهما، وآخر كلمة لم تُقال.
كانت الرياض أمامه بكل زحامها، بشوارعها المألوفة، لكنّه شعر كأنه في متاهة... كيف سيقابلها؟
كيف ستنظُر له؟ هل ستتجاهل وجود الماضي؟ أم ستقرأه في عينيه كما تقرأ نفسها؟ هل غيّرتها الغربة؟ هل... ما زالت تُشبهه كما كانت؟
ESTÁS LEYENDO
لا أنتَ عزيز هالرمال ولا نوارِس هالبحر أعظم حروبك تُوق واقصر دروبك سّفر
Romanceتتشابك مصائر شخصيات مختلفة في حكايات يحيط بها الغموض والتشويق. تخرج من منزلها دون علم والدها ، بنية صادقة لا تشوبها شائبة ، لكنها تجد نفسها فجأة وسط دوامة من الأحداث الخطرة ، حيث تنقلب لحظات البراءة إلى مواجهة مع المجهول. اما الاخرى ، فقد نشأت في ك...
